العدالة العمياء

العدالة العمياء

صباح علي الشاهر

في الأول من تموز عام 2002 تفطنت الدول الغربية وتحديداً بريطانيا التي كانت يوماً ما دولة عظمى، وفرنسا التي ما زالت جرائمها في الجزائر والهند الصينية طرية وشاخصة في الذاكرة، وألمانيا المتسببة بحربين عالميتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين لا من المقاتلين بل من الناس الأبرياء، وإيطاليا موسليني، واسبانيا فرانكو التي تتشارك مع زميلتيها هولندا وبلجيكا بمجازر إبادة بشرية في أفريقيا، وعلى إمتداد الطريق البحري إلى الهند ، وما بعد الهند ، والدول الأخرى التابعة. تفطن هؤلاء إلى ضرورة الإهتمام بإنشاء محكمة جنايات دولية تكون مهمتها محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، ومنحت هذه المحكمة التي عين لها فيما بعد عام 2003 السيد لويس مورينو أوكامبو كأول مدع عام ولمدة عشر سنوات، صلاحيات واسعة من ضمنها إعتقال رؤساء دول ما زالوا في مناصبهم، ويتمتعون بالحصانة التي هي جزءاً من سيادة الدول. وقد قُُدم هذا الرجل كرجل قانون من الطراز الأول، وكناشط ضد الفساد، لكن أحداً لم يُشر إلى وظيفته كمستشار في البنك الدولى سيء الصيت، وهي وظيفة لا تُمنح عادة إلا لمن يكون قد قدم خدمات جلّى لهذا البنك ولسياساته، كما لم يتطرق من رشحه وكذا من إنتخبه لهذا المنصب السام لبعض صفحات حياته المُعتمة منها إتهامه بتهمة التحرش الجنسي بصحفية من جنوب أفريقيا كانت تحاول أخذ مقابلة صحفية معه، كما لم يُشيروا إلى عدم موضوعيته وثأريته عندما قام بطرد مساعده السويدي من وظيفته لأنه ساعد بتقديم شكوى ضده، علماً أن القضاء أقر أن أوكامبو تصرف بدافع الثأر، وأن فصل مساعده لم يكن قانونياً لذا حكم للمساعد المفصول بمبلغ كبير من المال كتعويض . مثل هذه التهم وغيرها كانت كفيلة بعدم منح هذا الرجل هذا المنصب البالغ الأهمية ، لكن الـ 105 دولة، وهي تلك الدول التي إنضمت لهذه المحكمة، وأغلبها بإستثناء الدول الأوربية دول تابعة وفاسدة ومُستبدة، تحاول إبعاد تهمة الفساد عنها وعن رؤسائها إستجابت للإملاءات واختارت أوكامبو، المستشار القانوني للبنك الدولي كأول مدع عام لأول محكمة جنائية دولية.
كان العالم الرأسمالي قد أعلن إنتصاره الساحق قبل ذلك بعدة سنوات، ثم راح يتابع أعداءه الذين لم يقروا بالتغيير الذي حصل في العالم ممن تزعموا الدول المارقة .
المفارقة إن هذه المحكمة التي أريد منها الإقتصاص من أعداء ما سُمي بالعالم الحر لم تحظي بموافقة زعيمة العالم الحر ( أمريكا ) حيث إمتنعت أكبر دولة مارقة في العالم عن التوقيع على قانون هذه المحكمة، وتبعتها، وربما تقدمتها الدويلة المسخ إسرائيل، التي يحفل سجلها الأسود بأكثر الجرائم بشاعة بحق الشعب الفلسطيني طيلة أكثر من ستين عاماً . كما رفضت التوقيع على قانون هذه المحكمة كل من الصين والهند وروسيا ، وكل لإسبابه الخاصة .
إن المغزى الحقيقي من إنشاء هذه المحكمة ليس معاقبة المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، ولا الجرائم ضد الإنسانية وإلا لكان في صدارة المجرمين قادة الكيان الصهيوني ، وبلا إستثناء، وحكام أمريكا الذين تسببوا بأكثر جرائم الإبادة دموية، والذين إقترفوا جرائم تستعصي على الوصف ضد الإنسانية، وتسببوا بدمار لا مثيل له .
الغرض من إنشاء هذه المحكمة شيء آخر، لا تربطه بحرية الشعوب وحقوق الإنسان أية رابطة ، إللهم إلا العنوان ، أما في الجوهر فالمقصود هو جعل الأمم تُحكم إفرادا وزعماء ، رؤساء وملوك ، وقادة بقوانين يضعها الغرب، كبديل عن القوانين الوطنية التي تنظم حياة الشعوب داخل حدود أوطانها، وهم بهذا يقضون على آخر ملامح السيادة ، ويدجنون من إستعصى على التدجين والترويض من قادة الدول .
العالم اليوم هو غيره في عام 2002، وهذه الدول التي حسبت يومذاك أنها أصبحت المتحكم كلياً بالعالم، عادت اليوم إلى حجومها الحقيقية ، إذ ليس بمكنة أي نظام في هذا الزمن ، ومهما إمتلك من قدرات أن يفرض ظله الثقيل على العالم كله ، وليس بمقدوره أن يجعل من قانونه قانوناُ لكل العالم .
أمر إعتقال البشير تأخر سبع سنوات ، سبع عجاف تكشّف فيها المستور والمخفي ، وبان فيها الغرب وزعيمته أمريكا على حقيقتهم . بكل خوائهم ولا جدراتهم ، لقد تعروا تماماً ، ولم تعد ثمة ورقة توت تسترهم .
أما وأنكم أصبحتم وكما قال عنكم الزعيم الصيني الراحل ماو ( نموراً من ورق ) فإن عليكم ، وكما قال زعيم االسودان البشير اليوم، وهو يشير إلى قرار محكمتكم غير الموّقرة ( بلوه واشربوا ميته ) .
السودان ليس وحدة . عمر البشير ليس وحده. ومحكمتكم ستموت قبل أن تحقق حلم الذين خططوا لها . لن تقدروا على تدجين أمم وشعوب هذا الكوكب .

[align=center]
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً
ولكم أجمل تحية
[/align]