( 26 - 27 )
" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "
يقول تعالى :
" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما "
أي مثل كان
" بعوضة فما فوقها "
لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق والله لا يستحيي من الحق وكأن في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة واعترض على الله في ذلك فليس في ذلك محل اعتراض بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر ولهذا قال :
" فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "
فيتفهمونها ويتفكرون فيها
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم وإلا علموا أنها حق وما اشتملت عليه حق وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة
" وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا "
فيعترضون ويتحيرون فيزدادون كفرا إلى كفرهم كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ولهذا قال :
" يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا "
فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية
قال تعالى :
" وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون "
فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ولقوم منحه [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم فسبحان من فاوت بين عباده وانفرد بالهداية والإضلال
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال :
" وما يضل به إلا الفاسقين "
أي : الخارجين عن طاعة الله ؛ المعاندين لرسل الله ؛ الذين صار الفسق وصفهم فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة
والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان كالمذكور في هذه الآية ونحوها ونوع غير مخرج عن الإيمان كما في قوله تعالى :
" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا "
[ الآية ]
ثم وصف الفاسقين فقال :
" الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه "
وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه ؛ والذي بينهم وبين عباده ؛ الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات فلا يبالون بتلك المواثيق بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق
" ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل "
وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ؛ وقاموا بها أتم القيام وأما الفاسقون فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة والعمل بالمعاصي وهو : الإفساد في الأرض
" فأولئك "
أي : من هذه صفته
" هم الخاسرون "
في الدنيا والآخرة فحصر الخسارة فيهم لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ليس لهم نوع من الربح ؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان فمن لا إيمان له لا عمل له وهذا الخسار هو خسار الكفر وأما الخسار الذي قد يكون كفرا وقد يكون معصية وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى :
" إن الإنسان لفي خسر "
فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وحقيقته فوات الخير الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه
( 28 ) ثم قال تعالى :
" كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "
هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار أي : كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم ؛ وأنعم عليكم بأصناف النعم ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ويجازيكم في القبور ثم يحييكم بعد البعث والنشور ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبره وتحت أوامره الدينية ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي أفيليق بكم أن تكفروا به وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه وترجوا ثوابه
( 29 )
" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا "
أي : خلق لكم برا بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار
وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة لأنها سيقت في معرض الامتنان يخرج بذلك الخبائث فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ومعرفة المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا
وقوله :
" ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "
" استوى "
: ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى :
" ولما بلغ أشده واستوى "
وتارة تكون بمعنى علا وارتفع وذلك إذا عديت ب على كما في قوله تعالى :
" ثم استوى على العرش "
" لتستووا على ظهوره "
وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عديت ب إلى كما في هذه الآية أي : لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات
" فسواهن سبع سماوات "
فخلقها وأحكمها وأتقنها
" وهو بكل شيء عليم "
" يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها "
و
" يعلم ما تسرون وما تعلنون "
يعلم السر وأخفى
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى :
" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "
لأن خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته
تابع.......