منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > عقيدة أهل السنة والجماعة
التسجيل مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-11-2014, 04:28 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي تراجم و سير عن مشايخ السلوك و الإرادة

سلوك الإمام الصادق



بسم الله الرحمن الرحيم. )أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون(. اللهم هذا الدعاء، وعليك الاستجابة، وهذا الجُهد، وعليك التُّكلان.
في هذا الفصل أورِدُ نماذج من الوصايا والتوجيهات السلوكية لبعض أئمة الطريق. أبدأُها بوصية للإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الشهيد الحسين بن الإمام أمير المومنين علي. رضي الله عن السيدة فاطمة البتول وعن آل البيت المطهرين تطهيرا بإرادة خاصة وعناية مخصوصة من رب العزة جل وعلا.
إن كان في المسلمين أولياءُ فعليٌّ والأئمة الأطهار من ذريته بعد أبي بكر وعمر، ورضي الله عن أمير المومنين عثمان ثالث الخلفاء الراشدين. وواجبُ كل تقي ولي من أمة المصطفى جد الشرفاء أن يحب آل البيت عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي". رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه وصححه السيوطي. ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ثَقَلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأ ضل. فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به. وأهلَ بيتي. أُذَكِّرُكم الله في أهل بيتي! أُذَكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي!" عزاه السيوطي في الجامع الصغير للإمام أحمد وعبد بن حميد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
ومن بعد وصية رسول الله رحمة العالمين وتذكيره الله إيانا في أهل بيته نلتفت فنجد الأمر القرآني بوحدة الأمة، فيتعين علينا أن نلتمس جسورا لِلَمِّ شَعَثِ المسلمين من شيعة وسنة. وليس من جسر أشرف ولا أطهر ولا أمتن من محبة آل البيت والوفاء لآل البيت، السلام على آل البيت ورحمة الله تعالى وبركاته.
ما يرجح ميزان العبد المتقرب إلى الله عز وجل الموالي لأوليائه المعادي لأعدائه إن لم يكمِّل سلوكه بالسعي الجاد في ترجيح وحدة الأمة على شتاتها وترجيح جمعها على فرقتها. أهل السنة والجماعة طوائف منهم من يُسيء الظن بكل ما سُمِّيَ شيعة ويُفيض كراهيته على الصوفية لِمَا عَرَفَ من حب الأولياء الشديد لآل البيت. وإنك لتقرأ المطوَّلات من الكتب في صلة التشيع بالتصوف وصلتهما بالباطنية. وما هو إلا خَرْصٌ ورَهْصٌ.
ولئن كان ينتسب إلى الشيعة روافضُ، قاتلهم الله، يكرهون أبا بكر وعمر، ويفشو في عوام الشيعة داء التطرف الرفضيِّ الوبيل فليس الذنب ذنب الأئمة من آل البيت، حاشاهم. ولئن كان في علوم الشيعة ورواياتهم تقلُّص فمرجع ذلك إلى الإرهاب الأموي والعباسي الذي لاحق الأئمة المطهرين فاندسَّ شيعتهم بانفعال يفسره الاضطهاد، ويفسر هو نفورَهم من علومنا معشر أهل السنة والجماعة، الواسعة الكاملة.
هذا الإمام جعفر الصادق رأس المذهب الفقهي الجعفري الذي يعتمده الشيعة الإمامية كان علما مشارا إليه في الأمة، روى عنه أبو حنيفة في مسنده كما روى عن أبيه الإمام الباقر وتتلمذ لعمه الإمام زيد بن علي رأس المذهب الزيدي. كما تتلمذ لعبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
ولَنِعْمَ الشاهد بين أهل السنة والشيعة الإمام الأكبر أبو حنيفة الذي والى آل البيت وساندهم في قوماتهم على بني أمية وبني العباس. ساند الإمام زيدا في قومته، وساند محمدا النفس الزكية وأخاه إبراهيم في قومتهما حتى قال وقد سئل عن الجهاد مع النفس الزكية: "خروجه يُضاهي خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر"[1].
وما يزال أئمة الصوفية يحفظون عهد النبي صلى الله عليه وسلم في آل البيت ويعظمون الأئمة منهم تعظيما. قال الرفاعي: "إذا وعظتم الناس فإياكم والتصريح، وخذوا بالتلويح، فإن هناكَ رائحة السنة وشمَّةَ النفحة النبوية. وبها والله يُصلح الله القلوب"[2].
قلت: نهى معاصريه عن التصريح بلواعج حب آل البيت وفجائع التنكيل بآل البيت تَحَسُّباً للاضطهاد المستمر الذي مارسه ملوك بني العباس على آل البيت. ومع ذلك صرح رضي الله عنه فقال : «الحسين عليه السلام طلبَتْ بشريَّتُه حقها الشرعي الذي لا نزاعَ فيه، فغارت الربوبية، فرفعت روحه إلى مقعد صدق(...) فكانت شهادة الإمام رِفْعَةً له، وكان ظفَرُ أعداء الله خزيا لهم".
ونجد عند الإمام أحمد السرهندي حملاتٍ شعواء على الروافض، وإشادَةً بمقام الخلفاء الراشدين قبل علي رضي الله عنهم أجمعين. ثم نجد عنده في آخر مكتوباته إخبارا فريدا من كشفه الخاص. يعطينا هذا الإخبار الكشفي جسرا إضافيا إلى جانب فَرْض حب آل البيت وفرض توحيد الأمة. وعلوم الكشف تسلَّم لصاحبها المعروف بالصدق ولا تكون شرعا لأحد.
فنستأنس بكشف الشيخ السرهندي حين كتب أن سلسلة السلوك الصوفي تبتدئ من أب الأشراف الإمام علي وتمتد عبر الأئمة من آل البيت إلى أن تنتهي إلى الشيخ عبد القادر الذي يَعتبره عُمْدَةَ الأولياء ويَعْسُوبهم، حتى إنه لا يعتبر نفسه إلا "نائباً مناب حضرة الشيخ قدس الله سره(...) كما قالوا: إن نور القمر مستفادٌ من نور الشمس"[3].
هذا الإمام العظيم عبد القادر أجمعت الأمة على توقيره، وشهد الكل بجلالة قدره: الصوفية والمحدثون الحنابلة، ابن تيمية ومن قبله وبعده، ثم هذا كشف محيي السنة أحمد السرهندي يربطه ربطا وثيقا بأئمة آل البيت. ومن آل البيت كان أئمة التربية مثل الشيخ عبد القادر والشيخ الرفاعي والشيخ أبو الحسن الشاذلي وكثير غيرهم. فالمرجو من الله جل شأنه أن ينفع الأمة بشمة نبوية ببركته على محمد وآل محمد حتى تتوحد الأمة على سنة محمد متجاوزة عصور الكدر والطائِفية. صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
جاء الإمام جعفر الصادق زائرا المدينة المنورة في بعض تحركات آل البيت المراقبة فتوسل إلى لقائه رجل يُسمَّى عنوان كان من حلقة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه. سأل الإمام زائره عن حاجته فقال: "سألت الله أن يُعَطِّفَ عليَّ قلبك ويرزُقَني من علمك". قال الإمام: "يا أبا عبد الله! ليس العلم بالتعلم، وإنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تعالى أن يهديه".
قلت: يقصد الإمام علومَ الأولياء التي آلتُها القلب، لا علوم الرواية والدراية التي لا بد فيها من تعليم وتعلم ودراسة.
قال الإمام: "فإن أردت العلم فاطلب في نفسك أولا حقيقة العبودية. واطلب العلم باستعماله. واستفهم الله يُفهمك". قال المسترشد: وما العبودية؟ قال الإمام: "ثلاثة أشياء: أن لا يَرَى العبدُ لنفسه فيما خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، لأن العبيدَ لا يكون لهم مِلْكٌ. يرَوْن المالَ مالَ الله، يضعونه حيث أمرهم الله. ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً".
قلت: المقصود أن العبدَ الموفق لا يختار مع القدر الغالب شيئا بعد أن يتخذ كل الوسائل الشرعية للمقاصد الشرعية.
قال الإمام: "ويجعل اشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه".
قال: "فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوَّله الله مِلكا هان عليه الإنفاق فيما أمره أن يُنفِق فيه. وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبِّره هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله ونهاه لا يتفرغ إلى المِراء والمباهاة مع الناس".
قال: "فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هانت عليه الدنيا وإبليسُ والخلقُ. لا يطلب الدنيا تكاثُرا وتفاخرا. ولايطلب ما عند الناس عزّاً وعُلُوا. ولا يدعُ أيامَه باطلا. فهذا أولُ درجة التُّقى".
قال المسترشد: يا أبا عبد الله، أوصني.
قال الإمام: "أوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى. أسأل الله أن يوفقك لاستعمالها".
قال: "ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحِلْم، وثلاثة منها في العلم. فاحفظها، وإياك والتهاون فيها".
قال عنوان: ففرَّغت قلبي له.
قال الإمام: "أما اللواتي في الرياضة:
1- فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة والبلهَ.
2- ولا تأكل إلا عند الجوع.
3- وإذا أكلت فكل حلالا، وسم الله، واذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطنه، فإن كان ولا بد فثُلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه".
قلت: الحديث "ما ملأ ابن آدم..." رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام بن معديكرب بسند حسن.
قال الإمام: "وأما اللواتي في الحلم:
1- فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرا. فقل له: إن قلت عشرا لم تسمع واحدة.
2- ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقا فيما تقول فأسأل الله تعالى أن يغفر لي. وإن كنت كاذبا فيما تقول، فأسأل الله تعالى أن يغفر لك.
3- ومن توعدَّك بالخَنَا فعده بالنصيحة والدعاء".
قال الإمام: "وأما اللواتي في العلم:
1- فاسأل العلماء عما جهلت، وإياك أن تسألهم تَعَنُّتاً وتجربة.
2- إياك أن تعمل برأيك شيئا. وخُذْ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا". قلت: نهاه أن يعمل برأيه فيما لم يرد فيه نص قطعي من الدين فيحتاج لاجتهاد العلماء.
3- واهرُب من الفتيا هروبك من الأسد. ولا تجعل رقبتك للناس جسرا ". ثم قال الإمام: "قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك. ولا تُفسد عليَّ وِرْدي. فإني امرؤٌ ضنِينٌ بنفسي. والسلام على من اتبع الهدى".
قال ناصح لإخوانه، يذكرهم بربهم وبالمصير إليه:
عـامِـلْ بـذاتـك مـولىً أنـت صَـنْـعَـتُـه وعـامـل النـاس، إن عـامـلـت، بالعَـرَضِ
واسـتــرزق اللـه واســألـه فـإن لـه لـطـفـا يَكُـفُّـكَ عـن راضٍ ومـعـتــرض
يـا جـامـع المـال لم يُخْـلِلْ بـمـكـسـبـه وقـد أخـل بـمـسـنــون ومُـفْــتَــرَض
تـنـام مُـتَّـخِـمـاً حـرصـا ومَـنْـهَـمَـة وجـار بـيـتـك مَـطْـوِيٌّ على مَـضَـض
لا تـأمـن المـوت واحـذره فـبـطـشـتـه لم تَـقْـوَ يـومـا عليهـا نفـس مُـنْـتَـهِـض
تقـول في المـرض: الذكـرى تُـذَكِّـرُنَـا كـم مـيِّـتٍ قـد رأيـنــاه بـلا مــرض!
تـنـجـو السفـينُ ومـوجُ البحـر مُـرْتَـكِـمٌ وربمـا غَــرِقَـتْ فـي مَـأمَـنِ الـفُــرَض
فانْـبِـذْ بِدُنْـيـاك في ديـن خُلِـقْـت لَـهُ واقبض عنان الهوى ما اسطَـعْـتَ وانقبض
فـي كـل شـيء إذا فــارقـتـه عِــوَضٌ ولـيـس للـه إن فـارقـت مـن عِــوَضِ

وقلت:
أمْطَرَتْ رحمــةً سمــاءُ البَشــائِـرْ لعُبيــدٍ بالصِّــدقِ والعَــزْم سـائــرْ
أظمَــأ النَّفــسَ بالنَّـهــار وبـاتَـتْ حولَه النَّـاس نُوَّمــا وَهْوَ ســاهِــرْ
حَضَنَـتْـه الأمــلاكُ حَـفَّـتْــهُ باللُّــط ـفِ وَفضَّتْ عنهُ حِجَابَ السَّتَـائرْ




[1] انظر كتاب "أبو حنيفة" للشيخ أبي زهرة ص 180 وما بعدها.
[2] البرهان المؤيد ص 109.
[3] المكتوبات ج 3 ص 185.







آخر تعديل عمرالحسني يوم 19-11-2014 في 04:30 PM.
رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:29 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

سلوك الإمام الغزالي بسم الله الرحمن الرحيم. )واستعينوا بالصبر والصلاة. وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون(. اللهم اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا بين يدي، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي ونورا من تحتي، ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لَحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي، اللهم أعظِم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا.
سبق الغزاليَّ في مضمار السلوك أجيالٌ من الزهاد والصوفية في البصرة والكوفة والعراق وجبال لبنان، وكتب في "علوم الآخرة" قبله أمثال الحارث المحاسبي والحكيم الترمذي وخصوصا أبو طالب المكي. وسبقه إلى طرح الدنيا والإقبال على الله عز وجل أمثالُ إبراهيم بن أدهم الذي كان من أبناء الملوك فتزهد وتصوف وسلك طريق القوم حتى أصبح من المشار إليهم بينهم.
لكن امتازَ أبو حامد بأنه أول فقيه شهير طرح شهرته ودنياه الواسعة ودخل في صف القوم حتى تعلم علمهم، وهو الفارس المغوار الشديد الصولة، ثم خرج على الناس بفقه السلوك مقَعَّدا مرتبا. فَكان لكتاباته، ولا يزال، الأثر البالغ في تعليم الأجيال من بعده. خاصة لكتابه "الإحياء" الذي قيل عنه: "من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء". واختلف بعض الناس في تقويم الإحياء، فأحرقه علماء المغرب بعد وصوله. ورد عليهم ابن السبكي بعد نحو قرن ونصف بعد أن رحب بعودة المغاربة إلى تبجيل كتب الغزالي فقال: "وأين نحن ومن فوقنا وفوقهم من فهم كلام الغزالي أو الوقوف على مرتبته في العلم والدين والتأله![1]. وقال: "لا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي ولا مقدار علم الغزالي، إذ لم يجئ بعده مثله. ثم إن المُدَانِيَ له إنما يعرف قدره بقدر ما عنده، لا بقدر الغزالي في نفسه"[2].
ثم برز لمحاربة فكر الغزالي على مستوى عال من المبارزة شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان جل ما أخذ عليه ورَدَّ مدسوسات دسها عليه الأعداء والحساد كما شكا الغزالي ذلك في إحدى رسائله فقال: "هاج حسد الحساد، ولم يجدوا أيَّ طعن مقبول غير أنهم لَبَّسوا الحق بالباطل وغيروا كلمات من كتاب "المنقذ من الضلال" وكتاب "مشكاة الأنوار"، وأدخلوا فيها كتاب كفر"[3].
كان الغزالي قبل خروجه في طلب شيخ يُسَلِّكه عالم خراسان والعراق. وكان له في بغدادَ صولة وجاه عظيمان. قال معاصره العارف به عبد الغافر الفارسي: "وعلت حِشْمَتُه (ثروته وأبهته ومكانته الاجتماعية) ودرجته في بغداد حتى كانت تغلب حشمته الأكابر والأمراء ودار الخلافة"[4]. ثم زهد في ذلك كله. قال: "وسلك طريق الزهد والمِثَالَة، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة للاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة. فخرج عما كان فيه".
هذه الهجرة من الدنيا ورئاستها في طلب الله عز وجل هي بداية طريق كل صادق، يَجْفُل مما هو فيه ويَعَافُه وتستولي عليه فكرة الطلب. نقرأ هذه الخطوة في سلوك الغزالي العملي قبل أن نقرأها في مكتوباته. سَمِّها يقظة وإرادة.
الخطوة الثانية الضرورية هي طلب الدليل على الله عز وجل الولي المرشد. وقد خطاها الغزالي بنفسه قبل أن يكتبها. قال عبد الغافر: "وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشَّمائل(...) والانقياد لكل من يتوسم فيه أو يشُمُّ منه رائحة المعرفة أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة".
تلا هذا الاختلاط بالصالحين، وقد تَزَيَّا بزِيِّهم الخشن بعد لباس "الحشمة" وجَهَازِها، البحْثُ عن رجل يَقتدي به ويُسَلِّكه، حتى لقي الشيخ الفارمدي. قال عبد الغافر: "فابتدأ بصحبة الفارمدي وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه". والفارمدي تلميذ من تلامذة الأستاذ القُشيري الشيخ الجليل.
إن امتثال حجة الإسلام لشيخ الطريقة وبحثه عنه قبل ذلك هو في حد ذاته أكبر درس عمليٍّ لطلاب السلوك. فالصحبة هي نقطة البداية وشرط الاستفتاح. هي المفتاح وكفى. وهذا ما يؤكده أبو حامد رحمه الله في كتاباته بعد أن عاشه وسجله تاريخُهُ الحافل.
يحدد حجة الإسلام للشيخ المصحوب وظيفتين، ويشترط في أهليته شرطا أساسيا. الشرط الأساسي هو أن يكون الشيخ قد تعلم بالصحبة من شيخ أخذ عن شيخ صحب من صحب... إلى أن ينتهي السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا شرط جوهري ينفيه ويتجاهله ويرفضه من لا يدري ولا يحِب أن يعترف بأنه لا يدري، ففاته نصف العلم، بل فاته العلم كله، والخير كله.
وهذا شرط يتبناه النصَّابون والدخلاء فينتسبون إلى سلسلة من سلاسل المشايخ تمريرا لبضاعتهم المزَوّرة. والمؤونة في هذا الانتساب يَسيرة، إذ ليس ثمة رواية تُنْتَقد ولا علم تجريح وتعديل وتاريخ كما هو الشأن في سند الحديث.
ثم إن من أهل النِّسْبَة الحقيقيين من يصحب عارفا وأصلا موصول السند، لكنه في نفسه يقصر عن مرتبة المشيخة التربوية. ولا يعرف كثير من الناس كيف يُمَيِّزُون بين الشيخ المربي الذي هو بغية الطالبين وكنز الأسرار وبين شيخ التبرك الذي جلس على السجادة بعد وفاة شيخه. وقد يكون هذا صاحب كشف وكرامات ويكون ذاك لا يظهر عليه شيء من ذلك، فينحاز الناس إلى المظهر وتروج الإجازات المكتوبة شيخا عن شيخ، والإذن الشفوي. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لم يترك الغزالي سلسلة من المشايخ ترثه مثلما ترك المشايخ عبد القادر والرفاعي والشاذلي وغيرهم رضي الله عنهم. وإنما مدرسته وطريقته كتبه. ومن أجلة العلماء، كانوا ولا يزالون، من يعتقد أن التصوف السني يتلخص وينحصر في ترقيق القلوب بقراءة الكتب الجليلة مثل الإحياء. وهذا ما يُعارض وصية الإمام الغزالي وعمله، حين بحث عن شيخ، وحين امتثل، وحين صحب، وحين تأكدت لديه ضرورة الصحبة فكتب يقول: "شرط الشيخ الذي يصلح أن يكون نائبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون عالما(...). وكان قد تابع لشخص بصيرٍ تتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم"[5].
قال: "متابعة شخص". لم يقل: "متابعة كتاب". بعد هذا الشرط الأساسي في الشيخ المصحوب، وهو أن يكون "شخصا" تابع شخصا في تسلسل موصول، نَعْرِض للوظيفتين اللتين حددهما حجة الإسلام لشيخ التربية تُجَاهَ مريده.
أولهما أن يُعَرِّفَه بنفسه ومعايبها. وهذا مقدمة ضرورية لتطبيب الأمراض القلبية. قال رحمه الله: "يجلس (المريد) بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطَّلِع على خفايا الآفات. ويُحَكِّمه في نفسه، ويتبع إشارته في مجاهدته. وهذا شأن المريد مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه. فَيُعَرِّفه شيخه وأستاذه عيوب نفسه، ويعرفه طريق علاجها. وهذا قد عزَّ في هذا الزمان وجوده"[6].
قلت: وهو في كل زمان عزيز، والكتب موجودة، والذاكرون المتبركون بالنسبة وفرة. والمفتاح يضعه الله عز وجل في يد من شاء. فقم من الليل وصل لربك وتضرع إليه: "يا رب من أصحب" كما أوصاك الناصح عبد القادر يأتِك رزقك.
الوظيفة الثانية للشيخ كما يراها حجة الإسلام رضي الله عنه هي وظيفة الدليل الخفير في عقبات الطريق ووُعورَتها، يحفظ السالك من صولة لصوص الطريق، ويُجِيزُه على أهوالها، كما يُطبِّب أمراضه النفسية، ويصفي رَيْنَهُ القلبِيَّ.
قال رحمه الله: "المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهدِيه إلى سواء السبيل. فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة. فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة. فمن سلك سُبَل البوادي المُهْلِكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها.(...) فمُعتصَم المريد بعد الشروط المذكورة شيخُه. فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية. ولا يخالفه في وِرْده ولا صَدَرِهِ ولا يُبْقِي في متابعته شيئا ولا يَذَر. وليعلم أن نفعه في خطإ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب. فإذا وجد مثل هذا المُعْتَصَم وجب على معتَصَمِه أن يَعْصِمَهُ ويحميَه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق"[7].
قال مستعصم بودادهم لا يسمع مقالة لائم عَذولٍ:
لا العَـذْل ينـفـعـه ولا استِـعْـبَـاره لَــذَّ الـغــرامُ لــه ولَــجَّ أُوَارُه
فـتجـنـبـوا تَـأنِـيـبَـه وتعـوّذوا مـن مثـل ما هُـتِـكَـتْ به أسـتـارُه
لـو كـان فـيـه للـغَـرامِ بَـِقـيَّــة أو لِلـتحـمُّــل ما بَـدت أســرارُه
فحضـوره غَيْبٌ على حكم الهَوَى فيما يُحِـبُّ وهكـذا اسـتـحـضـاره

وقال محب لهم، تابع مطاوع مشتاق:
قـطـعـت الأرض ذا سَيْرٍ حثيث كـلَـمْـعِ الـبـرق حبّـاً في التـلاقي
فـقـال ليَ العـذول، وقـد رآنـي سـبـوقـا بالمُـضَـمَّــرَةِ العِـتـاق
ركبـتَ على البراق؟ فقلت كل! اولكـني ركـبـت على اشـتـيـاقي

وقال ناصح باللجوء إلى طبهم، والوقوف ببابهم:
ما تقـبلـون لواعـظ نصحـا وهو الطبيب وأنتم الجرحى
يا راقـداً في ليـل غـفـلـتـه والشيْبُ قد أبدى له صُبحا
يا خاسـرا في بيـع صفقـتـه ضيعت رأس المـال والربحـا
إن أبعـدوك فَـقِـفْ ببـابهمُ مـتـضـرعا وسلهـم الصفْـحا

وقلت:
هَلْ مِن مَــلاذٍ عِـندكُــم لِمُطَــوَّحٍ هَجرَ الألِيفَ وهَامَ في التَّطـوَافِ؟
مِن خَلفِ أسْوار الغَوايَة جَـاءكم مِن كهـفِ غَفلتِـه، من الأحــلافِ
يَرجو يُصـافِحُ كَفَّ شمس هِـدايةٍ بَزغـتْ بأُفقِـكُـمُ علـى الأشـرافِ




[1] طبقات الشافعية ج 4 ص 129.
[2] المصدر السابق ص 106.
[3] رسائل حجة الإسلام ص 45.
[4] طبقات الشافعية ج 4 ص 107 وما بعدها.
[5] أيها الولد المحب ص 63.
[6] الإحياء ج 3 ص 55.
[7] المصدر السابق ص 65.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:31 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

سلوك الإمام عبد القادر





بسم الله الرحمن الرحيم. )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون(. سبحان الذي تعطَّف بالعز وقال به. سبحان الذي لَبِس المجد وتكرم به. سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له. سبحان ذي الفضل والنعم. سبحان ذي المجد والكرم. سبحان ذي الجلال والإكرام.
أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر. وإن من الناس مفاتيحَ للشر مغاليق للخير. فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه. وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه". الحديث ضعَّف سنده الحافظ الهيثمي، ومعناه صحيح لا سيما في موضوع الصحبة. وأئمة الحديث على أن الحديث الضعيف يستشهد به في فضائل الأعمال.
شاهِدُنا في الحديث أن الشيخ عبد القادر الذي لم يختلف عليه علماء الأمة من كل المذاهب والفنون والعصور وأجمع الكل على ولايته كان كغيره من أئمة الهدى مفتاحا للخير. وقد نقلنا كثيرا من كلامه الفريد في أسلوبه، وننقل هنا نبذة من بيانه لمبادئ السلوك يُعطي فيها الأهمية القصوى للصحبة، كما يعطيها الكمَّلُ الناصحون من الأولياء. وسبحان الله كيف أخذ المحدثون الحنابلة عن الإمام عبد القادر كل شيء إلا مسألة الصحبة التي لا يكادون يعيرونها اهتماما، ففاتهم الاستفتاح بالصحبة الشخصية، وفاتهم بفواتها البداية الصحيحة.
يتحدث الشيخ عبد القادر عن اليقظة القلبية التي هي الخطوة الأولى نحو الطريق، أي نحو الشيخ المربي، فيقول: "الذي يجب على المبتدئ في هذه الطريقة الاعتقاد الصحيح الذي هو الأساس. فيكون على عقيدة السلف الصالح، أهل السنة القديمة سنَّة النبيئين والمرسلين والصحابة والتابعين والأولياء والصديقين.
قال: "فعليه بالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما أمرا ونهيا، أصلا وفرعا. فيجعلهما جناحَيْه يطير بهما في الطريق الواصل إلى الله عز وجل. ثم الصدقُ، ثم الاجتهاد، حتى يجد الهداية إليه والدليل، وقائدا يقوده، ثم مؤنسا يؤنسه، ومُستَراحا (يقول الغزالي: معتصَما) يستريح إليه في حالة إعيائه ونَصبه وظُلْمته عند ثوران شهواته ولذاته، وهَنَاتِ نفسه، وهواه المُضل، وطبعه المجبول على التَثَبُّط والتوقُّف عن السير في الطريق"[1].
قلت: بعد صدق العقيدة، والطريقُ إلى الله لا يدخلها إلا من كمل صدقُه، وصدقِ الاتِّباع، وصدقِ الطاعة لله ورسوله، وصدقِ الاجتهاد وهو صدق الطلب، يتعين على السالك أن يجد "دليلا" يكون في نفس الوقت قائدا ومؤنسا وملجأ يثق به السائر ويستريح إلى هديه ونصيحته وتوجيهه ليحميه من غوائل نفسه وميولها، ويعالج هَناتِها، ويقوِّم اعوجاجها مع الهوى، ويجدِّد إرادة السالك إن فَتَرَتْ، ويرفعَ همَّته إن خَمدت. نجد عند الشيخ عبد القادر نفس الاهتمام بتعريف النفس وتطبيب القلب والخفارة من أهوال الطريق، وهي الوظائف التي قرأناها عند حجة الإسلام.
ثم يبين الإمام عبد القادر أهمية صدق الطلب والصبر الطويل في الطريق، وذلك مما يؤكد أهمية الصحبة والرفقة والخفارة. قال رحمه الله: "ثم يجب عليه أن يُخْلِص مع الله عز وجل عهدا بأن لا يرفع قدما في طريقه إليه ولا يضعها إلا بالله ما لم يصل إلى الله. فلا ينصرفُ عن قصده بمَلامَة مُلِيمٍ لأن الصادقَ لا يرجع، ولا بوجود كرامة، فلا يقفُ معها ويرضى بها عن الله عزوجل عوضا"[2].
قلت: هذا الإخلاصُ في السير يُحَرِّرُه بعض المشايخ بالعهد والبيعة يأخذانهما على المريد ويُقيِّدانه بهما. وبعض المشايخ لا يفعلون ذلك لئلا يُصبح العهد المأخوذ على ضعفاء الإرادة، يعاهدون اليوم وينْقُضون غدا، هُزُؤا ولَعِبا. ومسألة أخذ العهد تعطيها بعضُ المدارس الصوفية صِبغةً احتفالية لها طقوسها. تجد هذا غالبا عند شيوخ التبرك الذين لم يبق لديهم من السلوك إلا الذكريات والشكليات. أما المشايخ المربون فحالهم تنهض بالصاحب الصادق، قلوبهم مغناطيس جلاب جذاب.
على أن المشايخ مجمعون على ضرورة فطام المريد عن رفقة السوء، وهي عدوَّة الصحبة في الله الأولى. قال الإمام عبد القادر: "ولا يُخالط (المريد) المقصِّرين والبَطَّالين أبناء قيلَ وقال، أعداءَ التكاليف، المدعين للإسلام والإيمان"[3].
وقلت: ومن المقصرين والبطالين الذين ترجع صحبتهم بالتثبيط والإفشال المتكلمون بغير علم ولا تثبُّت في الولاية، المشككون في طريقها. وإنَّ سُمَّ التشكيك، يمتصه طالب الطريق قبل أن تتمكن قدماه على الجادة، أفتك من كل آفة تتربص بالمريد في بدايته.
لهذا لم يأْلُ المشايخ العظام نُصحاً بالثبات مع الشيخ المربي إن عثر عليه، وهو البُغيَة النادرة العزيزة. قال الإمام عبد القادر: "فالواجب عليه تركُ مخالفة شيخه في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن. فصاحبُ العصيان بظاهره تارك لأدبه، وصاحب الاعتراض بباطنه متعرض لعطبه.
قال: "بل يكون خصما على نفسه لشيخه أبدا. يكف نفسه ويزجُرُها عن مخالفته ظاهرا وباطنا، ويكثر قراءة قول الله عز وجل: ) رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًَ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( (سورة الحشر، الآية: 10).
وزيادة في التثبت والتريُّث يوصي الإمام المريدَ بالتحري قبل أن يتَّهم شيخه. قال: "وإذا ظهر له من الشيخ ما يُكرَه في الشرع، استخبر عن ذلك بضرب المثل والإشارة، ولا يصرح به لئلا يَنْفِرَ به عليه. وإن رأَى فيه عيباً ستره عليه، ويعود بالتهمة على نفسه، ويتأول للشيخ في الشرع. فإن لم يجدْ له عذرا في الشرع استغفر للشيخ ودعا له بالتوفيق والعلم والتيقظ والعصمة والحمية"[4].
قلت: إن صحبة الناقص الدخيل في الطريق المتطفِّلِ المحتَرف وَبَالٌ من أصلها. لكنَّ السَّالكَ لا يميز بين الكامل والناقص، وقد تبهَره من الناقص كرامة أو كشف فيتخذه قدوة، ويتجنب الكاملَ الصامت. لهذا يوصي المشايخ العظام بالصبر مع المصحوب المتبوع ولو ظهرت فيه عيوب، فلا يغتَّر المريد بناموس من يظهر الكمالَ تَصَنُّعا، ولا يتعلق بمثاليةٍ تصوِّر له الوليَّ على صورة ملك كريم. فإن "قبة البشرية" مضروبة على الولي الكامل كما هي مضروبة على غيره، ولا تنبغي العصمة إلا للنبيئين والمرسلين.
قال الإمام: "ولا يعتقدُ فيه العصمة. ولا يخبر أحدا به"[5].
وشرح رحمه الله كيف يترقَّى الأولياء من درجة لدرجة، ومن حال إلى حال، ومن ولاية إلى ولاية. فَرُبَّ عيب اطلع عليه المريد من شيْخه أمسِ لم يكن إلا عن غفلة أو حدَثٍ أو ترَخُّصٍ شرعي ترقّى عنها الشيخ اليوم.
ومن وصايا الإمام للمريد بالصبر على بشرية الشيخ وخشونته قوله: "وإذا غضب الشيخ وعبس في وجهه أو ظهر منه نوع إعراض عنه لم ينقطع عنه، بل يُفتِّش باطنَه وما جرى منه من سوء أدب في حق الشيخ، أو التفريط فيما يعود إلى أمر الله عز وجل من ترك امتثال الأمر وارتكاب النهي. فليستغفر ربه عز وجل، وليتُبْ إليه، وليعزمْ على ترك المعاودة إليه. ثم يعتذِرُ إلى الشيخ ويتذَلَّلُ له ويتملَّقُه ويتحبَّب إليه بترك المخالفة في المستقبل، ويداوم على الموافقة له، ويواظب عليها"[6].
وبعد هذا يأتي الإمام عبد القادر بكلام لا يستسيغه عقلُ من لا يفهم مقاصد القوم. ويرفضه، خاصةً من كان شبَحُ الكفر والشرك هاجسَ يقظته ومنامه، يتصورهما في كل من خالف رأيه.
قال رحمه الله: "فيجعله وسيلةً وواسطة بينه وبين ربه عز وجل، وطريقا وسببا يتوصل به إليه.كمن يريد الدخول على ملك ولا معرفة له به، فإنه لا بد أن يصادق حاجبا من حجابه، أو واحدا من حواشيه وخواصه، ليبصِّره بسياسة الملك ودَأبه وعادته، ويتعلم الأدب بين يديه والمخاطبة له، وما يصلُح له من الهدايا والطرائف مما ليس مثلُها في خزانته. ومما يُؤْثِرُ الاستكثار منه"[7].
قلت: هذا ضرب مثل، ولله المثل الأعلى، لأصحاب الحس الكثيف والعقل السخيف ليتعلموا أن المقصود ليس اتخاذ الشيخ صنما كما يعبد المشركون أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى في زعمهم الضال. لكن المقصود التأدُّب بأدب الشيخ مع الله عز وجل، والاقتداء به في آداب القلب كما نقتدي بالإمام في حركات الصلاة. وما قال أحد إن إمام الصلاة، وهو واسطة وضعها الشرع، صنمٌ حائل بيننا وبين القبلة. الشيخ قِبلة قلبية، ولا حاجة بنا إلى مثال حسيٍّ، ولا نجيد ضرب الأمثال كما يجيد الإمام رحمه الله.
قال: "فليات البيت من بابه. ولا يتَسَلَّقْ من ورائه من غير بابه، فيلامَ ويُهانَ، ولا يبلغَ الغرض من الملك ولا المقصود منه. ولكل داخل دهشةٌ لا بد من تذكُّر ومِنَّةٍ، ومن يأخذ بيده فيقعده موضع مِثْلِه، أو يشيرُ إليه بذلك لئلا تتطرق إليه المهانة، ولا يشار إليه بسوء الأدب والحماقة"[8].
قال مطيع لربه عز وجل، نذر عمْرَه للقرب منه:
إذا كنـت أعلم علمـا يقـينا بأن جميـع حياتي كسـاعَهْ
فـلِـمْ لا أكـون ضنيـنا بهـا وأجعلها في صلاح وطـاعه؟

وقال حكيم يعظ طويل اللسان قاصر الجنان:
يا خـاطـرا بالقـبـور منطـلـق لسـانه، قـف وقـوف مُـعْـتَـبـر
وسـلْ عن أحبـابك الذين ثَـوَوْا فيهـا تجاوبك ألـسـن الـعـبـر
ألم تـكـن تُـرْبـةٌ تُـبَـاشـرهـا نعـلاك مـعـدودة مـن البـشـر؟
بالأمـس كـنـا على مـنـاكـبهـا نـرفـل بـين المُـلاَءِ والحِـبَــر
واليـوم صـرنـا ببطـنهـا رممـا نـدرس بـين الصفـيح والعَـفَـر
أفٍّ لـدنـيـا مَـآلُ صـحـتـهـا وصفــوهـا للسَّـقـام والكــدر
أُخَـيَّ لا تـغـتَـرِرْ بزهـرتـهـا إن كمـونَ الحـيّات في الزهـر
فالخطب فوق الذي سمعت به وفـوقـه فـلـتـكـن عـلى حـذر
عند ورود الحمام ينكشـف الـ ـغِـطـاء، ليس العيان كالخـبر

وقلت:
يا عـابِـراً بِـديــار الـعُـمــر تَـقطَـعـهــا تَـعــدُو وتـلـهــجُ باللَّــذاتِ والصُّــورِ
هَـلاَّ اعتـبرتَ برحــلاَتٍ لمن سَبـقــوا أودَتْ بحشـدٍ غَفيــرٍ في هُـوى الحُفــرِ
هـلاَّ جعلتَ خطى الطَّاعـاتِ مَنْهجة إلى رِضى اللّه، يا مَغــرورُ، في السَّفــرِ




[1] الغنية ج 2 ص 163.
[2] الغنية ج 2 ص 163.
[3] المصدر السابق نفس الصفحة.
[4] الغنية ج 2 ص 164.
[5] المصدر السابق ص 163.
[6] الغنية ج 2 ص 163.
[7] المصدر السابق نفس الصفحة.
[8] المصدر السابق نفس الصفحة.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:32 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

سلوك الإمام الرفاعي





بسم الله الرحمن الرحيم. )أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين(. اللهم اجعلني شكورا، واجعلني صبورا، واجعلني في عيني صغيرا، وفي أعين الناس كبيرا.
قال الإمام أحمد بن جلال اللاري المصري في كتابه: "جلاء الصدإ": "كان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه يسكت حتى يقال: إنه لا يتكلم. فإذا تكلم بَلَّ بعذوبة كلامه الغليل، وداوى العليل. ترك نفسه وتواضع للناس، من غير حاجة. وكظم غيظَهُ من غير ضجر. وكان ليِّن العريكة، هيِّن المؤنة، سهلَ الخلق، كريم النفس، حسن المعاشرة، بسّاما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، متواضعا من غير ذلة، جوادا من غير إسراف. اجتمعت فيه مكارم الأخلاق.
"كان فقيها عالما مقرئا مجودا محدثا مفسرا. وله إجازات وروايات عاليات. إذا تكلم أجاد، وإذا سكت أفاد. يأمر بالمعروف لأهله، وينهى عن المنكر وفعله. كان كهف الحَرائِرِ، وملجأ المحتاجين، وكعبة القاصدين. أبا للأرامل والأيتام، يعطي من غير سؤال، ويمنح من غير إهمال. وإذا قال قولا أتبعه بصحة الفعل، وصدقِ القول، ولم يخالف قوله فعله قط"[1].
كان يغلب عليه خُلُق التواضع وهو العالم الجليل، الشيخ المحترم. وكان يعالج المرضى والعُرجان والعميان بنفسه. قال رحمه الله: "سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار. فقيل له: يا سيدي! فكيف يكون (هذا الطريق)؟ قال: تُعظِّم أمر الله وتُشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة سيدك رسول الله"[2].
كان الافتقار الذي اتخذه رضي الله عنه طريقا هو الافتقار إلى الله عز وجل. وقد انتسب إلى طريقته من بعده طائفة جعلوا افتقارهم أكل الحيات والنزول في النار والدخول إلى الفَرَّان وركوب السباع. وهذا تزييف. وطائفة أخرى من تلامذة طريقته لا يزالون على مذهبه القويم.
كان ذله وانكساره لله عز وجل لا لغيره، وكان تواضعه ذلَّة على المومنين ورحمة للخلق المستضعفين. أما كُبَراءُ الدنيا من الظلمة فكان لا يقيم لهم وزنا. قال صاحب الشذرات: "كان لا يقوم لأحد من أبناء الدنيا، ويقول: النظر في وجوههم يقسي القلب"[3].
وصف الإمام أحمد الرفاعي طريق السلوك ومثَّل لها فقال: "أيْ سادةُ! الطريق إلى الله كطريق الرجل إلى البلدة الأخرى. فيه الصعود والهبوط، والاعتدال والاعوجاج، والسهل والجبل. فيه الأرض القفراء التي خلت من الماء والسكان، والأرض النضِرة الخضِرة الكثيرة المياه والأشجار والسكان. والبلدة المقصودة وراء ذلك كله.
"فمن انقطع بلذَّة الصعود، أو بذِلَّة الهبوط، أو براحة الاعتدال، أو بتعب الاعوجاج، أو بيُسْر السهل، أو بعُسْر الجبل، أو بغُصَّة الفقر ولوعة العطش، أو بحلاوة النضارة والخُضْرة والمياه والأشجار والأنس بالسكان، بقي دون المقصود.
"ومن لم يشتغل بكل ذلك، حاملا شدة الطريق، معرضا عن لذائذه، وصل إلى المقصود.
"وكذلك سالك طريق الله، إِنْ صرفته صعوبة الأحوال عن محول الأحوال، وقلبته سكرة إقبال الخلق عن مقلب القلوب، فقد فاته الغرض، وبقي دون مقصوده، وانقطع بلا ريب. وإن ترك عقبات الطريق وراء ظهره فقد فاز فوزا عظيما"[4].
قلت: إن من لم يصحِّحْ الإرادة، ويحرِّرْ القصد، أو دخل الطريق دون خفير ودليل، ولم يستفتح بشخص، وتسلق من وراء الأسوار، يوشك أن تتخطَّفَهُ مهلكات القواطع من ظلمات ونور. وقد يقف عند أول بارقة تبرق له، أو خارقة تظهر، فيظن أنه وصل، وهو لما يضع قدمه على الطريق.
لذا ولغيره كان الصبر مع الأستاذ شرطا لا يتخَطاهُ إلا جاهل به أو متهورٌ متكبر يأتي البيوت من غير أبوابها، فحقيق به أن يطرد، أو يترك سائما في بعض غَيْضاتِ الطريق ووهادها، وأوديتها وقِفارها.
ويؤكد الشيخ أحمد الرفاعي الشرط الأساسيَّ في المربي المصحوب كما أكده الغزالي وكما يؤكده كل العارفين الواصلين. ألا وهو شرط تسلسل السند الواصل إلى حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: "صَحَّتْ أسانيد الأولياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تلقَّن منه أصحابه كلمة التوحيد جماعة وفُرادَى واتصلت بهم سلاسِلُ القوم"[5].
ويأتي الشيخ رضي الله عنه بحديث شداد بن أوس الذي يحكي كيف لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهُ كلمة التوحيد. وقد أوردناه في الفصل الثاني من هذا الكتاب من رواية الإمام أحمد في مسنده. كما يأتي بحديث تلقين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذكر للإمام علي. وهو حديث أجمع الصوفية على صحته، وأنكره بعض المحدثين وإن كان بعضهم يصححه.
ثم يقول رحمه الله: "وعلى هذا تسلسل أمر القوم وصح توحيدهم. وتجردوا عن الأغيار بالكلية، وأسقطوا وَهْمَ التأثير من الآثار، ورَدّوها بيد اعتقادهم الخالص إلى المُؤثِّر وقاموا على قدم الاستقامة، فكمُلت معرفتهم، وعَلَتْ طريقتهم.
"فعامِلوا الله عز وجل كما عاملوه تحصُل لكم المناسبة مع القوم، ويتِمَّ نظامُ أمركم وراءهم، فتكونَ أقدامُكم على أقدامهم"[6].
من تمام نصح هذا الرجل العظيم، الولي الفخيم، المطبوع على كريم الأخلاق، وعلى التواضع، السالك طريق "الذل والانكسار" أنه لم يترك أن دَلَّ أصحابه ومعاصريه على حقيقة تصدم التواضع، وتنافي الانكسار. تَصْدِمُهما وتنافيهما لو كانا تصنعا وناموسا. دل رحمه الله على نفسه، وأعلن أهليته للمشيخة كما كان يعلنها قبله معاصر له اسمه عبد القادر الجيلاني، وكما أعلنها بعدهما الإمام الشاذلي، وغيرهم رضي الله عنهم.
دلالة هؤلاء الجهابذة من الرجال على نفوسهم كانت تكون سفها وطيشاً وتضليلا للعباد لو لم تكن تلك النفوس قد ارتاضت على طاعة الله عز وجل بالصدق، وتنورت بنور المعرفة، وحظِيتْ في خفارة القلب بمجد القُرب. فهي بعد إن أشارت إلى ذاتها المكسوَّة بِخِلَع العبودية لله عز وجل فإنما تذكر نعمة المولى عليها. لا وزن عندها لرأي الخلق كذبوا أو صدقوا، جاءوا أو غاروا تحت الأرض.
بهذا الصدق الخالص يقول الإمام الرفاعي: "نِعَم الله تعالى تُذكَر. من قرّبْته من العزيز فهو قريب. ومن أبعدتُهُ عنه فهو بعيد. أيها البعيد عنا، الممقوت منا! ما كان هذا منك يا مسكين! لو كان لنا فيك مَقْصَدٌ يشهَدُ بحسن استعدادك، وخالص حبك لله عز وجل وأهلِه، اجتَذَبْنَاك إلينا، وحسبناك علينا، شِئْتَ أو لا. لكن الحقَّ يقال: حظُّك منعك، وعدم استعدادك قطعك.
"لو حَسَبْناك منا ما تباعدت عنا!
"خذ مني يا أخي علم القلب! خذ مني علم الذوق! خذ مني علم الشوق! أين أنت مني يا أخا الحجاب! كُشِف لي قلبك!"[7].
ويصلُ الإمام رضي الله عنه وصيته بالذكر بوصيته بالصحبة. والصحبة والذكر، مع الصدق والإخلاص من جانبي الصاحب والمصحوب، هما الركنان الأساسيان، والشرطان المتلازمان، في رفع الأقدام ووضعها في الخَطْو على الطريق.
قال قدس الله سره العزيز: "عليكم، أي سادة، بذكر الله. فإن الذكر مغناطيسُ الوصل وحبل القرب. من ذكر الله طاب بالله، ومن طاب بالله وصل إلى الله.
"ذكر الله يثبت في القلوب ببركة الصحبة. المرء على دين خليله (كما جاء في الحديث الصحيح).
"عليكم بنا! صحبتنا تَرياقٌ مُجَرَّبٌ! والبعد عنا سم قاتل!
"أيْ محجوبُ! تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بلا عمل! ما الفائدة من عمل بلا إخلاص!
"الإخلاص على حافة طريق الخطر! من ينهض بك إلى العمل! من يداويك من سم الرياء! من يدُلك على الطريق القويم بعد الإخلاص! "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". هكذا أنبأنا العليم الخبير.
"تظن أنك من أهل الذكر! لو كنت منهم ما كنت محجوبا عنهم. لو كنت من أهل الذكر ما حُرِمْت ثمرة الفكر. صدك حجابُك! قطعك عملك!"[8].
هذه الصفحة تلخِّصُ الشروط الثلاثة الأساسية في السلوك: الصحبة والذكر والصدق. في هذه الصفحة الرائعة تقرأ تلازمها وتسانُدَها وبناء بعضها على بعض، وانتقاض بعضها بانتقاض بعض. ولا تجد دَالاًّ على الله من أهل التربية إلا ونظام هذه الشروط عنده قارٌّ، وإن تنوعت الفروع والتطبيقات.
والصحبة هي الباب وهي المفتاح.
قال الإمام الرفاعي يوصي بالأدب مع الشيخ المربي: "ولا ترغب في الكرامات، فإن الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر النساء من الحيض. ولازم باب الله. ووجه قلبك لرسول الله. واجعل الاستمداد من بابه العالي بواسطة شيخك المرشد. وقم بخدمة شيخك بالإخلاص من غير طلب ولا أرَبٍ، واذهب معه بمسلك الأدب. واحفظ غَيْبَتَهُ، وتَقَيَّدْ بخدمته، وأكثر الخدمة في منزله، وأقلل الكلام في حضرته. وانظر إليه بنظر التعظيم والوقار، لا نظر التصغير والاحتقار"[9].
ثم يجمل الشيخ الرفاعي نصائحه للسالك فيقول: "وقم بنصيحة الإخوان، وألِّفْ بين قلوبهم. وأصلح بين الناس، واجمع الناس، مهما استطعت، على الله بطريقتك. ورغب الناس بالصدق للدُّخول في باب الفقراء، والسلوك بطريق القوم.
"وعمر قلبك بالذكر، وجمل قالبك بالفكر، ونور نِيَّتكَ بالإخلاص. واستعن بالله، واصبر على مصائب الله، وكن راضيا من الله. وقل على كل حال: الحمد لله.
"وأكثر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن تحركت نفسك بالشهوة أو الكِبْرِ فصم تطوعا لله. واعتصم بحبل الله. واجلس في بيتك، ولا تكثر الخروج للأسواق ومواضع الفُرَج. فمن ترك الفُرَجَ نال الفَرَجَ(...). واذكر الله في كل أمر، وأخلص له في السر والجهر"[10].
قال لاحق بركب ثلة الأولين من الأولياء الصالحين:
أُكَـلِّـفُ القلب أن يَـهْـوَى وألزمـه صـبـرا وذلك جمـعٌ بـين أضـداد
وأكـتـم الركـب أوطـارِي وأسـألـه حاجـات نفسي لقد أتعبتُ رُوَّادي
هل مُـدْلِـجٌ عنده من مُـبْكـر خَـبَـرٌ وكيـف يعلم حـال الرائـحِ الغَـادِي
فإِن رَوَيْتُ أحـاديث الذين مـضـوا فـعـن نسيم الصَّبا والبرق إسنـادي

وقال عبد لا يعظم غير ربه، ولا يسعى في سوى قربه:
أمِـنْ بَعْدِ بذل النفس فيما أرُومه أُثـابُ بِمُـرّ العيـش حين أُثـاب!
فليتـك تحلـو والحيـاة مـريـرة وليتـك تـرضى والأنـام غضـاب!
وليت الذي بيني وبينـك عـامِـر وبـيـني وبـين العـالمـين خـراب
إذا صح منك الوصل فالكل هَيِّـن وكـل الذي فـوق الـتـراب تـراب

وهي أبيات قيلت في مدح سيف الدولة الحمداني، تمثل بها الصوفي.
وقلت:
يَجتـثُّـك المـوتُ لا محــالَـهْ يا نَاعِمَ البــالِ في السَّـفـالَهْ
تَطوي حَديثاً للمَـوت لكنْ يَومُــك ياتيـكَ في عُجــالَهْ
فألْجِم الـنَّفس عنْ هَواهَـا وتـب إلى الله مِـن جَهـالَهْ




[1] مقدمة كتاب "حالة أهل الحقيقة مع الله".
[2] شذرات الذهب ج 4 ص 260.
[3] المصدر السابق ج 4 ص 261.
[4] البرهان المؤيد ص 92.
[5] المصدر السابق ص 53.
[6] المصدر السابق نفس الصفحة.
[7] البرهان المؤيد ص 42.
[8] المصدر السابق ص 43.
[9] البرهان المؤيد ص 96.
[10] المصدر السابق ص 96-97.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:34 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

سلوك الإمام الشاذلي



بسم الله الرحمن الرحيم. )وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها. إن ربي لغفور رحيم(. اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
تخَرَّجَ السيد أبو الحسن الشاذلي في علوم الشريعة ثم سلك الطريق حتى تأهل للمشيخة قبل أن يغادر وطنه المغرب إلى مصر. وكان ضرير البصر ثاقب البصيرة، أوتي من النورانية والحكمة ما جمع حوله الخاصة والعامة، كما يدل على ذلك المشهدان التاليان.
قال الشيخ الصوفي مكين الدين الأسمر:"حضرت بالمنصورة في خَيْمةٍ فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام والشيخ مجد الدين بن تقي الدين علي بن وهب القشيري المدرِّس والشيخ محيي الدين بن سُراقة والشيخ مجد الدين الأخميمي والشيخ أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنهم، ورسالةُ القشيري تقرأ عليهم. وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامِتٌ. إلى أن فرغ كلامهم. فقالوا: يا سيدي! نريد نسمع منك. فقال: أنتم ساداتُ الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم. فقالوا: لا بد أن نسمع منك!
قال: "فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة. فقام الشيخ عز الدين، وخرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه، وقال: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله!"[1].
هكذا كانت حَظْوة الشيخ الإمام عند الخاصة من أكابر العلماء. وكان لا يقبل أحدا من أهل العلم يتتلمذُ له حتى يعقد مجلس مناظرة يمتحن فيها تمكنه من علوم الشريعة.
أما دعوته للعامة فقد سلك فيها مسلكا زاد فيه على صنيع الإمامين الجليلين قبله، الجيلاني والرفاعي. هما كانا يكتفيان في مجالس وعظهما العام بالتحدث بنعمة الله عليهما ليوجها قلوب الخلق إليهما، وهو كان يدعو إلى طريقته في الشارع، معلنا عن مقامه بما يُشبه الفخرَ والدعوَى في نظر من لا يدري مكانة أولياء الله.
قال في الشذرات: "كان إذا ركب تمشى أكابر الفقراء وأهل الدنيا حولَه، وتُنشَر الأعلام على رأسه، وتُضرب الكوسات (الطبول) بين يديه، وينادي النقيب أمامه بأمره له: من أراد القطب الغوث فعليه بالشاذلي"[2].
يتَّسم سلوك الشاذلي بالتيسير، فسُمِّيَتْ طريقته طريقة الشكر، وسنرجع إليها بحول الله في الفصل المقبل. لكن الخصائص العامة للإرادة والصحبة ودوام الذكر والإخلاص والصبر هي هي عنده كما عند الذين درجوا قبله، رضي الله عنهم أجمعين.
فهو يوصي المريد المبتدئ بقطع العلاقات مع رفقة الغافلين فيقول: "اهرُب من خير الناس (في نظرك) أكثر مما تهرب من شرهم. فإن خيرهم يصيبك في قلبك، وشرهم يصيبك في بدنك. ولأَنْ تُصابَ في بدنك خير لك من أن تُصاب في قلبك. وَلَعَدُوٌّ تصل به إلى الله خير من حبيب يقطعك عن الله. ودَعْ إقبالهم عليك ليلا وإعراضهم عنك نهارا. ألاَ ترَاهم إذا أقبلوا فتنوا"[3].
ويوصي بصحبة الكمَّل فيقول: "قال لي شيخي (وهو الشريف المولى عبد السلام بن مشيش): لا تصحب إلا من تكون فيه أربع خصال: الجود من القلة! والصفح عن المظلمة، والصبر على البلية، والرضى بالقضية"[4].
ويفصل الشيخ تاجُ الدين بن عطاء الله تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي تلميذ أبي الحسن آدَابَ الصحبة في الطريقة الشاذلية فيقول: "الاقتداء لا يكون بوليٍّ مجهول العيْن في كون الله، بل الاقتداء إنما يكون بولي دلَّك الله عليه، وأطلعك على ما أوْدَعَه من الخصوصية لديه. فطوَى عنك شهودَ بشريته في وجودِ خصوصيَّتِه. وألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد.
"يُعرِّفك برعونات نفسك وكمائنها ودفائنها، ويدُلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار مما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله. ويوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك. فتُفيدك معرفةُ إساءة نفسك الهرَبَ منها، وعدم الركون إليها. ويفيدك العلمُ بإحسان الله إليك الإقبالَ عليه، والقيامَ بالشكر له، والدوامَ على مَمَرِّ الساعات بين يديه.
قال: "فإن قلت: فأين من هذا وصفُه؟ لقد دللتني على أغربَ من عنقَاءَ مُغْرِب!
"فاعلم أنه لا يُعْوِزُكَ وجدان الدَّالين، وإنما قد يعوزك وجدان الصدق في طلبهم. جِدْ صدقاً تَجِدْ مُرشدا. وتجدُ ذلك في آيتين من كتاب الله. قال الله سبحانه: )أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ( (سورة النمل، الآية: 64). وقال سبحانه: )فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ( (سورة محمد، الآية: 22).
"فلو اضطُرِرْتَ إلى من يُوصلك إلى الله اضطرار الظمآن للماء، والخائفِ للأمن، لوجدتَ ذلك أقرب إليك من وجود طلبك. ولو اضطُرِرْتَ إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدتْه لوجدت الحق منك قريبا، ولك مجيبا. ولوجدت الوصول غيرَ متعذِّرٍ عليك، ولتوجه الحق بتبيين ذلك إليك. فهذا الكلام في طريق الجواز والوقوع جميعا"[5].
قلت: الاضطرار إلى الله عز وجل عطاءٌ منه سبحانه نفيس. وهو اتِّقادُ الإرادة وتوجُّهُها بصدق في الطلب. فمن وجد في نفسه صدقَ الاضطرار ورغِبَ عن كل ما سوى الله عز وجل وأظلمت الدنيا في عينه ما دام لا يعرف الطريق إلى الله، فذاك قريب من نيْل الرغائب. صدق الاضطرار أخرج حجَّةَ الإسلام الغزاليَّ من "حِشمته" في بغداد. وبخَلْفِيَّةِ صدق الاضطرار أشار الشيخ عبد القادر على الباحث عن الولي المرشد أن يقوم من الليل ويسأل الله تعالى والناس نيام، وقلبُه هو من بين المرتاحين مُتعَبٌ مُوَلَّهٌ مُلْتاع، قائلا: يا رب من أصحب! من الدليل عليك!
ويا ما أصْدَقَها حكمة: جِدْ صدقاً تجدْ مرشدا. الاضطرار إلى الله عز وجل عطاء من عنده، ونداء من حضرته تعالى إلى العبد المحبوب. وبالمحبة المتعلقة بالجناب الأقدس، الفائضة منه على العبد في حقيقة الأمر، الراجعة إليه، تتمكن أسباب التواصل، وتتحرك حِبال التقريب حتى يصل الكتابُ أجله، فإذا بالعبد المتقرب قد تنوَّر.
قال الإمام أبو الحسن في المحبة، مستعملا مصطلحات القوم: "المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه. فترى النفس مائلةً لطاعته، والعقل متحصِّنا بمعرفته، والروحَ مأخذوة في حضرته، والسرَّ مغموراً في مشاهدته. والعبدُ يستزيد فيُزاد، ويفاتَحُ بما هو أعذبُ من لذيذ مناجاته. فَيُكْسَى حُلَلَ التقريب على بساط القُربَة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيِّباتِ العلوم. فمِن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائِسَ المجرمون.
"قال له القائل: قد علمتُ الحب، فما شرابُ الحب، وما كأس الحب، ومن الساقي، وما الذوق، وما الشراب، وما الري، وما السكر، وما الصحو؟
"قال رضي الله عنهُ: الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب. والكأس هو اللطف الموصِل ذلك إلى أفواه القلوب. الساقي هو المتولي الأكبر للمخصوصين من أوليائه والصالحين من عباده وهو الله العالم بالمقادير وبمصالح أحبائه. فمن كُشِفَ له عن ذلك الجمال، وحَظِيَ منه بشيء نَفَساً أو نَفَسَيْن، ثم أُرخِي الحجابُ فهو الذائق المشتاق. ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين فهو الشارب حقا. ومن توالى عليه الأمر، ودام له الشرب حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة فذاك هو الري.
"وربما غاب المحسوس والمعقول. فلا يدري ما يقال ولا ما يقول، فذاك هو السُّكر. وقد تدور عليهم الكؤوس، وتختلف لديهم الحالات، فَيُرَدُّون إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات، مع تزاحم المقدورات فذلك وقت صَحْوهم، واتساع نظرهم، ومزيد علمهم"[6].
وهذه وصية جامعة لأبي الحسن تُلخص السلوك. قال قدس الله سره: "إنك إذا أردت أن يكون لك نصيبٌ مما لأولياء الله تعالى فعليك رفض الناس جملةً إلا من يدلك على الله تعالى بإشارة صادقة، وأعمال ثابتة لا ينقضُها كتاب ولا سنة. وأعْرِضْ عن الدنيا بالكلية، ولا تكن ممن يُعرض عنها ليُعطى شيئا على ذلك. بل كن في ذلك عبداً لله، أمرك أن ترفض عدوه.
"فإن أتيت بهاتين الخصلتين: الإعراض عن الناس والزهد في الدنيا فأقِم مع الله بالمراقبة، وملازمة التوبة بالرعاية والاستغفار والإنابة، والخضوع للأحكام بالاستقامة.
"وتفسير هذه الوجوه الأربعة: أن تقوم عبداً لله فيما تأتي وما تذَر، وتراقب قلبك أن لا يَرَى قَلْبُك في المملكة شيئا لغيره.
"فإذا أتيت بهذا نادتك هواتفُ الحق من أنوار العزَّة: إنك قد عَمِيتَ عن طريق الرشد! من أين لك القيام مع الله تعالى بالمراقبة وأنت تسمع قوله عز وجل: )وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً( (سورة الأحزاب، الآية: 52)[7].
قلت: هذه مرحلة اعتماد السالك على جُهد نفسه، وهي لا تزال حيَّةً تسعى، تُسوِّلُ له أن الطاعات من كسبه المحض، وأن السلوك أخذ وعطاء. وكثيرا ما تجد السالك في هذه المرحلة يتعلق بنتائج الأذكار، ويهفو إلى لوائح الأسرار وبوارق الأنوار. ويترقَّب ظهور الكرامة وفتح الباب. وكل هذه التطلعات والتخرصات ظواهر لعَرَامَة النفس وشرَّتها. فإذا أراد الله بالسالك أن يُوقِفَه على أرض العبودية غير المشروطة التي عليها السير الحقيقي تدارَكَه بانكسار نفسه وتحطُّم عزائمها، فلا يبقى له اعتماد إلا على فضل ربه المحض. وهناك يبدأ السير القلبي.
قال أبو الحسن: "فهناك يدركُك من الحياء ما يحملك على التوبة مما ظننت أنه قريب. فالتزم التوبة بالرعاية لقلبك أن لا يشهد ذلك منك بحال فتعود إلى ما خرجت منه.
"فإن صحت هذه منك نادتك الهواتف أيْضا من قِبَل الحق تعالى: التوبة منه بدأت، والإنابة منه تتبعها، واشتغالك بما هو وصف لك حجاب عن مرادك!
"فهناك تظهر أوصافك (النفسية)، فتستعيذ بالله منها. وتأخذ في الاستغفار والإنابة. والاستغفار طلب السِّتر من أوصافك إلى أوصافه. فإن كنت بهذه الصفة، أعني الاستغفار والإنابة، ناداك عن قريب (بإلهام أو وحي منام أو قرينة حال أو غير ذلك): اخضع لأحكامي، ودَعْ عنك منازعتي، واستقم مع إرادتي برفض إرادتك. وإنما هي ربوبيَّة تولَّت عبوديّةً. وكن عبدا مملوكاً لا يقدر على شيء. فمتى رأيت منك قدرة وكلْتُك إليها. وأنا بكل شيء عليم.
"فإن صح لك هذا الباب ولزمته أشرفت من هنالك على أسرار لا تكاد تُسمَع من أحد من العالمين".
ومن وصايا الإمام الشاذلي، في معنى ما تقدم، قوله: "لن يصل الولي إلى الله ومعه شهوة من شهواته، أو تدْبيرٌ من تدبيراته، أو اختيار من اختياراته"[8].
قلت: وهذا هو شرط العبودية: أن تفوِّضَ له سبحانه،مع دوام التوسل والتضرع والطاعة والذكر والاستغفار والانكسار.
قال الشيخ ابن عطاء الله تلميذ تلميذ أبي الحسن:
بَكَـرَتْ تَـلُـوم على زمـان أجْـحَـفـا صَـدَفْـتُ عنهـا عَلَّهـا أن تَـصْـدِفـا
لا تُـكـثِـري عتـبـاً لـدهــرك إنـه ما إنْ يُطـالَـبُ بالوفـاء أو الصَّـفـا
ما ضـرَّنـي أن كـنْـتُ فيـه خـامـلا فالبـدُر بـدرٌ إن تـبَـدَّى أو خـفـى
اللـه يـعـلــم أنـنـي ذو هـمــة تـأبى الدنـأيـا عِـفَّــةً وتَـظَــرُّفَـا
لِـمَ لا أصـون عن الورى ديـبـاجتي وأُرِيـهـمُ عـزَّ المـلـوك وأشــرفـا!
أَأُريـهــمُ أنـي الفـقـيــر إلـيـهـم وجميـعُـهـم لا يستطـيـع تصـرفـا!
أم كـيف أسـأل رزقـه مـن خـلـقـه هذا لعَمْري –إن فعلت- هو الجَفَـا!
شكـوى الضعيـف إلى ضعيـف مثلـه عـجـز أقـام بحـاملـيـه على شـفـا
فـاسـتـرزق الله الـذي إحـســانـهُ عـمَّ الـبـريَّـة مِـنَّـةً وتَـعَـطُّـفَـا
والجـأ إلـيـه تجـدْه فيمـا تَـرْتَـجـي لا تَـعْـدُ عـن أبـوابـه مُـتَـحَــرِّفـا

وقلت:
بَـكَــرَ العَــاذِلُ يَثْنــي هِمَّـتي عَــن مُـبتَغــاهـا
رَامَ يُطفِي عَطـشَ النَّفــ ـسِ إلى وِردِ صَفـاها
وَدَّ لَـوْ مــائِـجُ رِجْــس في دُجَـى الغَيِّ رمَـاها




[1] لطائف المنن ص 136.
[2] ج 5 ص 279.
[3] لطائف المنن ص 215.
[4] المصدر السابق ص 296.
[5] المصدر السابق ص 132.
[6] لطائف المنن ص 110.
[7] شرح ابن عباد على الحكم العطائية ج 1 ص 21.
[8] لطائف المنن ص 294.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:36 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

سلوك الإمام السرهندي






بسم الله الرحمن الرحيم. )إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. إن ربي على صراط مستقيم(. اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا. وتبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم. واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابلين لها، وأتِمَّها علينا.
يستطيع من كان في جاهلية جهلاء فمن الله عليه بالإسلام والتوبة أن يَعتبر إسلامه وتوبته ميلادا جديدا. ثم لا يكون قوله: وُلدتُ ولادة ثانية إلا كلاما مجازيا. أما من ولدت روحانيته وأنشأه الله عز وجل النشأة الثانية التي يكون بها الولي وليا فحديثه عن الميلاد الجديد، وعن أبوة شيخه، وعن سلسلة آبائه الروحيين حقيقة أقوى في عالم المعنى من النسب الطبيعي والانتسال الجسمي. وحتى إن شب الولي عن الطوق واتصل حبله بقرب الله عز ووجل وبروح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينسى آباءه في الروح أبدا. وكيف ينسى الأحرار فضلَ من جعلهم الله رحمة ورحِما!
الإمام السرهندي مجدد الألف الثانية يتحدث بنعمة ربه عليه بما يشبه الدعوى، وليس عند مثله من الكاملين مكان لأية دعوى، إذْ صح لهم التعامل الصريح مع الله عز وجل، فما لرأي الخلق عندهم من وزن، صدّقوا أم كذبوا، رضُوا أم سخطوا.
قال رحمه الله: "أنا مريد الله ومراد الله أيضا. وسلسلة إرادتي متصلة بالله تعالى بلا توسط، ويدي نائبة عن مناب يد الله تعالى، وإرادتي متصلة بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بوسائط كثيرة"[1].
قلت: كونه ترقى في المعرفة والقرب لا يُنسيه أصلَه وفَصْلَه واستفتاحه في الطريق ونسبه فيها. فيقول: "فبيني وبينه في الطريقة النقشبَنْدية إحدى وعشرون واسطة، وفي الطريقة القادرية خمس وعشرون واسطة، وفي الطريقة الجشتية سبع وعشرون واسطة".
قلت: قد يأخذ السالك، بعد ميلاده وترقيه في حضن والده الروحي وبعد وفاة هذا الوالد أو تسريحه لابنه عَقِبَ فِطامه، عن شيخ آخر أو مشايخ آخرين لهم سلاسل وسندات أخرى بقصد التبرك والزيادة من الخير. ولا يقدح ذلك في نسبهم. فنسب السرهندي نقشبندي. ثم هو بعد أن بلغ مبلغ الرجال محمديٌّ رباني ككل كامل خرج من يد الوالدة والحاضنة فأبصر بعين قلبه أن المنة لله ورسوله من قبلُ ومن بعدُ. فيعمل بقول الله عز وجل: ) أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ( (سورة لقمان، الآية: 14).
يقول الإمام: "وإن كان شيخي في الطريقة النقشبندية عبد الباقي رضي الله تعالى عنه فإنَّ المتكفل بتربيتي هو الباقي جل جلاله وعَمَّ نوالُه. وإني تربيت بالفضل، وذهبت من طريق الاجتباء. وسلسلتي رحمانية، وأنا عبد الرحمان. فإنَّ ربي رحمان جل شأنه، وعَمَّ إحسانُه. ومُربِّيَّ أرحم الراحمين. وطريقتي طريقة سبحانيَّة، لأني ذهبت من طريق التنزيه، ولم أُرِدْ من الصفة والاسم غير الذات الأقدس تعالت وتقدست.
"وهذا السبحاني (يعني نفسه) ليس ذاك السبحاني (يعني أبا يزيد البسطامي الذي قال في سكره: سبحاني ما أعظم شأني!) الذي قال به البسطامي. فإنه لا مِساسَ له بهذا. فإنه ما تخلص من دائرة الأنفُس. وهذا (يعني سبحانيته هو) ما وراء الأنفس والآفاق. وهو (أي البسطامي) تشبيه كُسِيَ لباسَ التنزيه. وهذا تنزيهٌ لم يصِبْهُ غبار التشبيه. ذاك فائر من منبع السكر، وهذا منفجر من عين الصحو"[2].
ويُنْهي رحمه الله حديثه عن نفسه بشكر ربه عز وجل على اعتنائه به حيث لم يجعل لغيره مدخلا في تربيته. هذا كما يشكر اليافعُ خالقه سبحانه على ما سوّاه وأحسن صورته وبسط نعمته عليه. وليس في كلام اليافع جُحُود لفضل والديه، ولا في كلام المشايخ حجود ليد من حضنهم صبيانا، وكساهم وغذاهم ونظفهم أطفالا.
يقول الإمام السرهندي عن حقوق شيخ السلوك: "ينبغي أن يُعْلَم أن حقوق الشيخ فوق جميع أرباب الحقوق بلا نسبةٍ بين حقوق الشيخ وبين سائر الحقوق بعد إنعامات الحق سبحانه وإحسانات رسوله صلى الله عليه وسلم. بل الشيخُ الحقيقيُّ للكل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. والولادة الصورية وإن كانت من الوالدين فإن الولادة المعنوية مخصوصة بالشيخ.
"الولادة الصورية منشأٌ لحياة أيام معدودة، والولادة المعنوية مستلزمة لحياة أبدية.
قال: "والذي يَكْنِسُ نجاسة المريد المعنوية بقلبه وروحه، ويطهِّر كرِشَه هو الشيخ. وقد يُحس (الشيخ) في التوجيهات إلى بعض المريدين والمسترشدين لتطهير نجاساتهم الباطنية أن التلوثَ يَسْري أيضا لصاحب التوجه ويَجْعله مُكَدَّراً إلى مدة.
"والشيخ هو الذي يوصل بتوسله إلى الله عز وجل. وهذه سعادة فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية.
"والشيخ هو الذي بوسيلته تتزكى النفس الأمارة الخبيثة بالذَّات، وتَطْهُر، وتتخلَّص من "الأمَّارية"، وتنْقلب مطمئنة، وتخرُجُ من الكفر الجِبِلِّي، وتدخل إلى الإسلام الحقيقي.
"يطول إذا بيَّنْتُ تفصيل شرحه.
"للسالك أن يعتقد سعادته في قَبول شيخه له، وشقاوته في رده نعوذ بالله سبحانه من ذلك. وقد جعل الحق سبحانه رِضاه تحت حُجْبِ رِضَى المرشد"[3].
قلت: وهنا يصل الإمام إلى نقطة الأدب القلبي مع المرشد التي عليها الاعتمادُ، ويتخذها المريد السعيد دستور الصحبة معه، وهي نقطة خَطيرةٌ. إن انقياد الطالب لذي شهرة من أصحاب العمائم والسبحة والأتباع بطالة وعطالة إن لم يكن لَدَى الطالب هذا الاضطرارُ الظامِئُ إلى قرب ربه عز وجل، الذي يجعله الكريم الوهاب سبحانه مقدمة على طريق من يريد أن يقربه إليه، ثم يُهيِّئ له لقاء الصادقين الذين يُوصلونه بأمانة إلى ما سبق له من نيل الرغائب.
قال رحمه الله في توضيح هذه النقطة المحورية: "وما لم يجعل المريد نفسه فانيا في رضى المرشد لا ينال نصيبا من مرضاته سبحانه وتعالى"[4]. قف عند كلمة فانيا.
قال: "وآفة المريد في أذِيَّة شيخه. وكلُّ زلة يمكن تدارُكُها، إلا زلةُ أذية المرشد فإنه لا يمكن تداركها بشيء من الأشياء.وأذية المرشد أصل شقاوة المريد، وعِرْقُها، عياذا بالله من ذلك. والخلَلُ الطارئ في المعتقدات الإسلامية، والفتور الواقع في إتيان الأحكام الشرعية من نتائج تلك الأذية وثمراتِهَا.
"وماذا أقول عن الأحوال والمواجيد المتعلقة بالباطن؟ فإن بقيَ أثر من الأحوال مع وجود أذية الشيخ ينبغي أن يَعُدَّه من الاستدراج الذي يجر أخيرا إلى الخرابيَّة. ولا يُنْتِجُ شيئا غير الضرر. والسلام على من اتبع الهدى"[5].
قلت: إن الصحبة لكاملٍ من الأولياء المرشدين شرط مفروغ من أهميته الحيوية عند السادة الصوفية أهل المعرفة بما هي الطريق. وإن شئتَ قلت باختصار: الطريق هي الشيخ الواصل الموصل الحبل بالسند المتصل. فما يبقى إلا شرطُ الصدق عند الطالب، وشرط الصبر مع المرشد، وشرط الاستقامة على السنة، وشرط الاجتهاد حتى يأذن الله سبحانه لمن يشاء بما يشاء، مع دوام الذكر والدعاء.
أما المتفرج من خارج الميدان، الذي لم يشمَّ شمة من الاضطرار إلى الله، ولا له صبر ليتعقَّب وصايا أهل الله بالصحبة، فهو يرفُض مبدأ الصحبة قبل كل نقاش ويسخَر من السند الروحي، ويكذب بالولادة الروحية، ويرى كل هذا هُراءً ومُبالَغة وخَبْطا وغلُوّا في الدين. ويُوصي المشايخ أنفُسُهم المريدين بالوقوف عند حد في تعظيم المرشدين، لأن شرط "الفناء في الشيخ"، وهو مِحْوَرِيٌّ في المسألة، قد يؤدي إلى الغلو المذموم، ويؤدي الغلو إلى الزيغ، ويؤدي الزيغ إلى الكفر. نعوذ بالله.
لذا قال الإمام السرهندي: "ينبغي أن يُعلَم أن اعتقاد المريد أفضليَّة شيخه وأكمليَّتَه هو من تمام المحبة ونتائج المناسبة التي هي سبب الإفادة والاستفادة. ولكن ينبغي أن لا يُفضِّلَ شيخه على قوم قد تقررت أفضليتهم في الشرع. فإنه إفراطٌ في المحبة، وهو مذموم. وقد كانت خرابية الشيعة وضلالتُهم من جهة إِفراطهم في محبة أهل البيت. واعتقد النصارى عيسى عليه السلام إلها من إفراط محبتهم إياه، ووقعوا في الخسارة الأبدية.
"أما إذا فضَّل شيخه على من سواه (من المشايخ) فجائز. بل هو واجبٌ في الطريقة. وهذا التفضيل ليس باختيار المريد، بَلْ لو كان المريد مستعدا يظهر فيه هذا الاعتقاد بلا اختيار منه، فيكتسبُ كمالات الشيخ"[6].
وفي مكان آخر يتحدث الإمام عن الكرامات والخوارق، فيقرر أن ظهورها ليس شرطا في الأهلية للمشيخة، ويُبَيّنُ أن الخوارق الكونية لا شيء بالنسبة للكرامة الكبرى التي هي إحياء القلوب. قال رحمه الله: "وكيف لا يُحِس المريد خوارق الشيخ وقد أحيى القلب الميتَ، وأوصل إلى المكاشفةِ والمشاهدةِ. فإذا كان الإحياءُ الجسدي عظيمَ الشأن عند العوام، فعند الخواص الإحياء القلبيُّ والروحي برهانٌ رفيع البنيان"[7].
ويستشهد السرهندي بكلام أحد مشايخ سلسلته قال: "ولما كان الإحياء الجسدي معتبرا عند أكثر الناس أعرضَ عنه أهل الله، واشتغَلوا بالإحياء الروحي، وتوجهوا إلى إحياء القلب الميت. والحق أن الإحياء الجسدي بالنسبة إلى الإحياء القلبيِّ والروحي كالمطروح في الطرّيق وداخل في العبث بالنظر إليه. فإن هذا الإحياءَ الجسدِيَّ سببُ حياة أيام معدودة، وذاك الإحياءُ الروحيُّ وسيلة للحياة الدائمة.
"بل نقول: إن وجود أهل الله في الحقيقة كرامةٌ من الكرامات، ودعوتُهم الخلق إلى الحق جل سلطانه رحمة من رحمات الله تعالى، وإحياؤهم القلوبَ الميتة آيةٌ من الآيات العظمى. وهم أمان أهل الأرض، وغنائم الأيام. بهم يُمطرون، وبهم يرزقون. كلامهم دَواء ونظرهُم شِفاء. هم جلساء الله، وهم قوم لا يشقى جليسُهم، ولا يخيب أنيسُهم.
"والعلامة التي يَتمَيَّزُ بها مُحِقُّ هذه الطائفة من مُبْطِلهم هي أنه إذا كان شخصٌ له استقامة على الشريعة، ويحصل للقلب في مجلسه ميلٌ وتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى، وتحصل برودة عما سواه تعالى، فذلك الشخص شخص مُحق، ولأَنْ يُعَدَّ من الأولياء، على تفاوت الدرجات، مُسْتحِقّ"[8].
هذه نبذة من كلام الإمام أحمد السرهندي الذي يحتاج المسلمون إلى دراسة تاريخه ليعرفوا ما هم مدينون به لجهاده أمام الطاغية "أكبر" من بقاء الإسلام في الهند، ويحتاج الصوفية لدراسة مكتوباته التي حرر فيها قواعد السلوك تحريرا مجدِّدا حقا واستحقاقا رحمه الله.
قال مشتاق محب، برّح به البعد وشفه الجفاء:
من رأى البرقَ بنجد إذْ تَـراآى سُـلـبَ النـوم وأُهْـدِي البُـرحاء
فـاض فيهـا كـجـفـوني مـاؤُه والْتَـظَى وَهْناً كَأَنفـاسي الْتِظـاءَ
قام سُمَّـار الدُّجَى عـن سـاهِـرٍ تَخِـذَ الهـمَّ سمـيـراً والبكَـاء
أسـهــرته دمـعـة تـفـضَـحُـه وإذا مـا أحسـن الدمـعُ أسَـاءَ
يا خـلـيـلـيَّ ولم أشـعـرْ كمـا بالهَوَى حتى تَـبَـيَّـنْـتُ الإخاء
علِّلا قـلـبِـي بذكـرَى قـاتـلـي رُبَّ داء قـادَ للـنـفــس دواء

وقال صادق في معاملته، ناصح مُؤَد لأمانته:
وإِنَّ امْـرأً لم يَصْـفُ لله قـلـبُـه لفي وحشة من كل نظرة ناظـر
وإِنَّ امـرأً لم يَـرْتَحِـل ببضـاعةٍ إلى داره الأخـرَى فليس بتاجـر
وإن امـرأً يبتـاع دُنْـيَـا بدينـه لمُنْقَـلِـب منها بصَفْـقَـةِ خـاسـر

وقال موف بعهده، حافظ لوده:
أسُـكَّـانَ نُـعمـانِ الأرَاكِ تـيـقـنـوا بـأنـكـمُ فـي رَبْـع قـلـبـيَ سُـكـانُ
ودومـوا على حـفـظ الوداد فـإننـا بُلينـا بأقـوام إذا استُحْـفِظـوا خانـوا
سلوا الليل عني مذ تنـاءت ديـارهم هل اكتحلتْ لي فيه بالغَمْضِ أجفـان

وقلت:
سَحَبــوكَ في غَفَـلاتِهِم قَذَفُـوكَ في طُـوفـانِـهــا
هذي السَّـفينـة يا فَت ى قَدْ صُنِّعَتْ أرْكانُها
نادَى لنَصبِ شِراعـها وَرَحـيـلِـهــا رُبَّــانُــهـا




[1] المكتوبات ج 3 ص 110.
[2] المكتوبات ج 3 ص 110.
[3] المصدر السابق ج 2 ص 108 وما بعدها.
[4] المكتوبات ص 111.
[5] المصدر السابق ج 2 ص 111-112.
[6] المصدر السابق ج 2 ص 137.
[7] المصدر السابق ص 140.
[8] المكتوبات ج 2 ص 140.







رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
إشارات حول السلوك المنهاجي عند علماء مشايخ السلوك و الإرادة عمرالحسني عقيدة أهل السنة والجماعة 3 19-11-2014 04:26 PM
مساجد ايطاليا تناديكم فهل تلبوا النداء دنيا الصفاء الأخبار العالمية والعربية 2 09-12-2009 04:21 PM
مساجد وبيوت الله من لها اليوم أسد الإسلام رحيق الحوار العام 1 08-08-2009 03:19 PM
إدراك المفهوم يضبط السلوك. تراب رحيق الحوار العام 2 18-01-2009 01:33 AM
مساجد/اعداد مجد الغد مجد الغد السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 44 25-12-2008 10:35 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة