الآية الكبرى

الآية الكبرى

مَنْ يُغلق عينيه دون النور يُضير عينيه ولا يُضير النور . ومن يُغلق عقله وضميره دون الحق ، يُضير عقله وضميره ولا يُضير الحق ، فالنور منفعة الرائى لا المصباح ، والحق منفعة وإحسان إلى المُهتدِى به لا إلى الهادى إليه إن تكن الأديان صحيحة ، فبأى حجة وبأى مقياس يمكن الطعن فى صدق رسالة محمد ؟ ما من نبى حمل إلينا توكيلا مُوَثقا ًبأنه ينطق بلسان الوحى .

وإنما كانت آيته صدق ما آتانا به .. وأما المعجزات فلا حجية لها إلا من شهد شهود العيان .. وبيننا وبين ذلك أجيال وأجيال ؛ فتبقى بعد هذه الآيات المغايرة الآية الكبرى التى لا يثبت بغيرها صدق ، ولايغنى عن غيابها ألف دليل مغاير ، مهما بلغت درجته من الإعجاز . وهذه الآية الكبرى من حيث هى . فإن الحقيقة آية نفسها ، تحمل برهانها فى مضمونها ، فيطمئن إليها العقل ويبدو ما يباينها هزيلا واضح البُطلان . إن موقف الناس من الوحى واحد أيًّا كانت الرسالة الموحى بها والرسول المُخبر عنها : لم يطلب من رسول قبل محمد برهانا عيانياعلى وحيه كى يُطالب به محمد صلى الله عليه وسلم , فمن اعترف بوحى من السماء إلى رسول من البشر ، لزمته الحجة ألا ينكر نزول الوحى من حيث المبدأ . فوجه الإمتناع هنا غيرقائم بمبرر نزيه . ولايتبقى بعد سقوط الإعتراض على الوحى من حيث المبدأ، إلا النظر فى مضمون ذلك الوحى ؛ فإذا كان هذا المضمون حاويًا آية صِدْقه فى ذاته ، وليس فيه ما ينقض طمأنينة العقل أو يريبها ، فلا مفر من الإقرار بصِدْقه ومن هنا وجب النظرالنزيه فى رسالة محمد، والبحث فى مضمونها ؛ لنلتمس فيها آيات الصدق التى يصدق الناس بمثلها من سبقه من المرسلين ، ولنرى هل فيها ما يدعو للرَّيْب ويبرر دمغها بالزيف أو الدجل أو البُطلان .ذلك هو الحد القوام الذى لا جدال فيه على إنصاف ، ولاينبغى أن يحيد عنه من له فى النزاهة مطمع . عرف الناس السفينة ذات المجداف ، وعرفوا السفينة ذات الشراع ؛ ثم عرفوا السفينة التى تسير بالبخار. وكلها سفن ولكن الخلاف بينها واضح فيما تؤديه للناس من خدمات . كذلك العقائد والأديان . كلها عقائد غيبية تحدد صلة الإنسان برب هذاالكون ولكنها تتباين بوجه من الوجوه .. وهذا تعليل توالى الديانات والرسالات السماوية مع أطوار البشر ومستويات إدراكهم ووعيهم العمرانى . لزم إذن أن يكون لكل ديانة طابعها المميز الخاص بها ، وأن يكون هذا الطابع المميز هو "سبب وجودها " أو موضوع وجودها . فهل للإسلام هذا السبب؟ وهذا الموضوع ؟ وبعبارة أخرى أن الوظيفة تخلق العضو ، والحاجة تخلق السلعة ؛ فإن تحدد بعدالأديان السماوية السابقة للإسلام موضوع معين لعقيدة سماوية تحددها إحتياجات التطور البشرى ؛ لثبت أن ظهورديانة جديدة لم يكن تعسُّفا ُأو فضولا أو اصطناعا لجأ إليه مغامر أفاق ..ثم يلزم النظر فى الإسلام وهل جاء مؤديا لتلك المهمة - أو الرسالة - فإن صح ذلك كانت عقيدة صحيحة جاءت فى ميقاتها الطبيعى لتقوم بدورها أو وظيفتها المهيأة لها بأطوار العمران البشرى .إن كل من آمن بالأديان ورسالتها وبالعقائد ووظائفها ، لاحيلة له فى اتخاذ هذا المقياس الموضوعى الذى يعدل فى النظر إلى العقائد بعامة ، وألا يكون محض وارث لعقيدته مُتعَصِّب لها عصبية عمياء ، وما على المنكر إلا أن يبين لنا مقياسا آخر نعرف به وظائف العقائد ويُفسِّر لنا تواترها وتعاقبها على مرور الأجيال قبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم .إن قال بالوحى هناك ؛ فما هو دليلك على صدق وحى مَنْ قبل محمد ، بحيث يفتقر وحى محمد إلى ذلك الدليل؟ لم ير أحد ملك الوحى هابطا ًعلى مَنْ قبل محمد ، حتى نُطالب بظهور جبريل علبه السلام وهو يهبط بالوحى عليه !! وإن قال أن الديانات تعاقبت بغير عِلة لهذا التعاقب من مضمون الرسالة ومؤدَّاها ، فقد نفى الحِكمة من التعاقب ، بل نفى الحِكمة من الدين عامة ؛ فإن الشرائع التى تتكرر بغير تعديل قولٌ مُعاد ، فى غير حاجة إلى إعادة . فإذا تذكرنا أن البشر يتطورون ويتقدمون فى وعيهم العمرانى ، كانت الإعادة المكررة تقصيرا ًفلا يبقى إلا أن الشرائع السماوية تلاحق البشر فى تطوزهم ، كما أن، غذاء الإنسان يُلاحق المرء فى تدرُّجه من الرضاع إلى الطفولة إلى اليفاع والكهولة . وهذا يردنا إلى تمايز الرسلات الدينية ،وتفرد كل منها بخصوصية هى موضوع وجودها

ولا أملك نفسى من الإعجاب أن أورد هنا ما قاله الإمام محمد عبده فى مفتح كتابه " الإسلام والنصرانية " (فالإسلام فى هذه الدعوة لايعتمد على شئ سوى الدليل العقلى والفكر الإنسانى الذى يجرى على نظامه الفطرى ؛ فلا يُدهشك بخارق العادة ، ولا يغشى بصرك بأطوار غير مُعتادة، ولايُخرس لسانك بقارعة سماوية ، ولا يقطع حركة فِكرك بصيحة إلهية . وقد اتفق المسلمون على أن الإعتقاد بالله مُقدَّم على الإعتقاد بالنبوَّات، وأنه لايُمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، فلا يصح أن يُؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة ، فإنه لايعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صَدَّقت قبل ذلك بوجود الله ،وبأنه يجوز أن ينزل كتابا أو يرسل رسولا ) . إن الحقيقة باقية والبشر زائلون . الرسالة إذن هى الباقية وما هى متوقفة فى شئ على بقاء هذا الرسول : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...." إنها لحقيقة ، ولكن لتوكيد بشرية هذا الرسول صلى الله عليه وسلم . ماذا بقى لمزاعم لزاعم ؟ إيمان امتحنه البلاء طويلا قبل أن يُفاء عليه بالنصر وما كان النصرمتوقعا أو شبه متوقع لذلك الداعى إلى الله فى عاصمة الأوثان والأزلام .

أى قالة بعد هذا تنهض على قدمين لتطاول هذا المجد الشاهق ، أو تدافع عن هذا الصدق الصادق ؟ لاخِيرة فى الأمر : ما نطق هذاالرسول عن الهوى ... لاخيرة فى الأمر: ماضل هذا الرسول وما غوى ... لاخيرة فى الأمر: وما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول الصادق الأمين . فسلام عليه بما هدى من سبيل. وما قوَّم من نهج ، وما بيَّن من محجة ... وسلام على الصادقين .