لقد جاء عصر العلم، وجاءت معه إشكالياته، وغاب عن الإنسان، وعن العلماء [في معاملهم] وعن المسلمين، كل في عمله، أن هذا الكون أمانة في أيديهم وأن رسول الله محمدا، قد جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهل والإفساد في الأرض، إلى نور العلم ، والفهم الواعي لمعنى الإسلام، وكيف يحقق الإنسان السلام النفسي والاجتماعي والكوني في هذا الوجود .
لقد أنزل الله تعالى كتابه الخاتم، للناس كافة، ولكل العصور، يستطيع كل فرد أن ينهل من عطائه، حسب إمكاناته الثقافية والمعرفية، كـ"آية قرآنية" يشمل عطائها الكون كله.
لقد جاءت "الآية القرآنية" ليهتدي بنورها العلماء، وليقيموا دراساتهم وأبحاثهم فى إطار شريعتها، فالله سبحانه وحده الذي يعلم ما ينفع الإنسان وما يضره .
لذلك لا أجد عذرا لأحد يهجر هذا القرآن بداعي عدم فهم آياته، أو أن يحمّل مسئولية فهمها لعلماء مذهبه، دون أن يكون له دور في تدبر ومراجعة هذا الفهم حسب أدوات الفهم والتدبر التي حملها له القرآن نفسه .
لقد أمر الله تعالى الناس جميعا باتباع هذا القرآن، فلا يعقل أن يكون كل فرد مسئولا أمام الله تعالى عن اتباعه، ثم يفوض غيره في هذا الاتباع نيابة عنه !!
يقول الله تعالى في سورة الأعراف :
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
وهذا الأسلوب في التعامل مع القرآن، هو ما يجعل لآياته فاعلية بين الناس المعاصرين له دون أن تكون هذه الفاعلية حكرا على فئة دون الأخرى..، فعطاء القرآن للناس كافة، يأخذون منه بمقدار ما يستوعبون .
إن لكل إنسان في هذا الوجود حقه فى أن يتعرف إلى الله تعالى، وإلى فاعلية أسمائه الحسنى، وكيف يتعامل مع هذا الوجود، من خلال مصدر معرف حق، لا يأتيه الباطل، فالقرآن الكريم ليس كتابا أكاديميا يدرس في المؤسسات التعليمية..، وإنما هو كتاب هداية، يقوم على التفاعل الحي بين آيات الآفاق والأنفس .
فكيف يُحرم الناس الإفادة من هذا التفاعل، الذي لا يستطيع الوقوف عليه إلا الإنسان نفسه..، ببصيرته وفهمه وتدبره هو ؟!
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)الأنعام
إن العطاء القرآني ليس درسا يدرس في المدارس، وإنما هو معايشة، وممارسة، وبصيرة، وسلوك عملي قويم، يأخذ بأيدي الناس إلى صراط ربهم المستقيم.
إنه بدون نقل هذا العطاء من عالم الأفكار إلى عالم الواقع، المعاصر للناس، يظل القرآن نصا إلهيا، ينتظر من يقوم بتفعيله بين الناس !!
إن قوله تعالى " فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ" يبين أن كل إنسان مسئول عن تفعيل هذا القرآن في حياته والوقوف على بصائره . وكذلك فإن كل إنسان محاسب عن إعراضه وهجره لهذا القرآن ، فقال تعالى : " وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا" .
وهذا يعنى أن المسئولية وإن كانت تقع على كل إنسان، فإن الله تعالى جعل الإنسان، أمامها مختارا، فإما أن يبصرها ، فيصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويحق عليه قول الله تعالى :
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)طه
أو لا يبصرها، فيحق عليه قول الله تعالى :
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)طه
إن مشكلة المسلمين اليوم أنهم ورثوا الإسلام ثقافة ومعارف دينية، لا تخرج عن دائرة الحوار والجدل الفكري، عبر منابر الدعوة المختلفة !! إنهم لم يبصروا حقيقة الرسالة التي يحملونها، وكيف جاءت لتقيم، على أرض الواقع، الحق والعدل بين الناس. جاءت لتواجه الانحرافات الفكرية، وتضع لها العلاج .
إن مشكلة المسلمين، أن "الآية القرآنية" التي هي بين أيديهم اليوم، لم تنجح في توحيد كلمتهم، وإنهاء أزمة التخاصم و التكفير بينهم فلماذا ؟!
لأنهم لم يتربوا على مائدتها، ولم يقتلعوا الفرقة والمذهبية من جذورها، ولم يضعوا البرامج التي تجعلهم يفيدون من السنن الكونية التي تحرضهم على التطلع دوما نحو الخير .
إن مشكلة المسلمين، أنهم لم يقفوا على فاعلية "النور" الذي وصف الله به كتابه الخاتم، فقال تعالى
فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)التغابن
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)المائدة
فالكتاب هو هذا المصحف، الذي بين أيدينا اليوم..، إذا فما هو النور؟!
هذا ما سنبحث فيه فى المقالة القادمة إن شاء الله تعالى .