منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى
التسجيل مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-04-2009, 07:30 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

مؤذن الرسول
بلال بن رباح
إنه بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وكان بلال قد بدأ يسمع عن الرسول الذي جاء بدين جديد، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ويحث على المساواة بين البشر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وبدأ يصغي إلى أحاديث زعماء قريش وهم يتحدثون عن محمد. سمعهم وهم يتحدثون عن أمانته، ووفائه، وعن رجولته، ورجاحة عقله، سمعهم وهم يقولون: ما كان محمد يومًا كاذبًا، ولا ساحرًا، ولا مجنونًا، وأخيرًا سمعهم وهم يتحدثون عن أسباب عداوتهم لمحمد (.
فذهب بلال إلى رسول الله ( ليسلم لله رب العالمين، وينتشر خبر إسلام بلال في أنحاء مكة، ويعلم سيده أمية بن خلف فيغضب غضبًا شديدًا، وأخذ يعذب بلالا بنفسه؛ لقد كانوا يخرجون به إلى الصحراء في وقت الظهيرة، ذلك الوقت التي تصير فيه الصحراء كأنها قطعة من نار، ثم يطرحونه عاريًا على الرمال الملتهبة، ويأتون بالحجارة الكبيرة، ويضعونها فوق جسده، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، ويظل بلال صابرًا مصممًا على التمسك بدينه، فيقول له أمية بن خلف: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال: أحد.. أحد!!
لقد هانت على بلال نفسه بعدما ذاق طعم الإيمان، فلم يعد يهتم بما يحدث له في سبيل الله، ثم أمر زعماء قريش صبيانهم أن يطوفوا به في شعاب مكة وشوارعها ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتبع محمدًا، وبلال لا ينطق إلا كلمة واحدة، هي: أحد.. أحد، فيغتاظ أمية ويتفجر غمًّا وحزنًا، ويزداد عذابه لبلال.
وذات يوم، كان أمية بن خلف يضرب بلالاً بالسوط، فمرَّ عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال له: يا أمية ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متى ستظل تعذبه هكذا؟ فقال أمية لأبي بكر: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، وواصل أمية ضربه لبلال، وقد يئس منه، فطلب أبو بكر شراءه، وأعطى أمية ثلاث أواق من الذهب نظير أن يترك بلالا، فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها، وانطلق أبو بكر ببلال إلى رسول الله ( يبشره بتحريره.
وبعد هجرة النبي ( والمسلمين إلى المدينة واستقرارهم بها، وقع اختيار الرسول ( على بلال ليكون أول مؤذن للإسلام، ولم يقتصر دور بلال على الأذان فحسب، بل كان يشارك النبي ( في كل الغزوات، ففي غزوة بدر أول لقاء بين المسلمين وقريش دفعت قريش بفلذات أكبادها، ودارت حرب عنيفة قاسية انتصر فيها المسلمون
انتصارًا عظيمًا.
وفي أثناء المعركة لمح بلال أمية بن خلف، فيصيح قائلاً: رأس الكفر
أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، وكانت نهاية هذا الكافر على يد بلال، تلك اليد التي كثيرًا ما طوقها أمية بالسلاسل من قبل، وأوجع صاحبها ضربًا بالسوط.
وعاش بلال مع رسول الله ( يؤذن للصلاة، ويحيي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن رقِّ العبودية إلى الحرية، وكل يوم يزداد بلال قربًا من قلب رسول الله ( الذي كان يصفه بأنه رجل من أهل الجنة، ومع كل هذا، ظل بلال كما هو كريمًا متواضعًا لا يرى لنفسه ميزة على أصحابه.
وذات يوم ذهب بلال يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين، فقال لأبيهما: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما، وكان بلال -رضي الله عنه- عابدًا لله، ورعًا، كثير الصلاة، قال له النبي ( ذات يوم بعد صلاة الصبح: (حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فأني قد سمعت الليلة خشفة نعليك (صوت نعليك) بين يدي في الجنة)، فقال بلال:
ما عملت عملا أرجى من أني لم أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي. [البخاري].
وحزن بلال حزنًا شديدًا لوفاة النبي (، ولم يستطع أن يعيش في المدينة بعدها، فاستأذن من الخليفة أبي بكر في الخروج إلى الشام ليجاهد في سبيل الله، وذكر له حديث رسول الله (: (أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله) [الطبراني]. وذهب بلال إلى الشام، وظل يجاهد بها حتى
توفي -رضي الله عنه-.منقول







رد مع اقتباس
قديم 24-04-2009, 09:56 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي بلال بن رباح

تابــــع


بلال بن رباح
مكانته وفضله
روى مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته عندك في الإسلام منفعة فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة" قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي ان أصلي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال...
وروى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان عمر يقول: "أبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا يعني بلالًا"
وروى ابن عساكر... عن امرأة بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها فسلم فقال: " أثمَّ بلال" فقالت: لا. فقال: " لعلك غضبى على بلال " فقالت: إنه يجئني كثيرا فيقول: قال رسول الله. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حدثك عني فقد صدقك، بلال لا يكذب، لا تغضبي بلالا فلا يقبل منك عمل ما غضب عليك بلال".
روى مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه".
وكان بلال رضي الله عنه أول من أذن للصلاة وهو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير السودان ثلاثة لقمان وبلال ومهجع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم". المستدرك
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المرء بلال هو سيد المؤذنين ولا يتبعه إلا مؤذن والمؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" المستدرك
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: انطلقت أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعوده فحضرت الصلاة فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح قال: فأنكرنا ذلك عليه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" سنن أبي داود
لقد تربى بلال رضي الله عنه وتعلم في مدرسة النبوة، ورافق النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا مماكان له الأثر الكبير في شخصيته رضي الله عنه، ولقد اكتشف النبي صلى الله عليه وسلم موهبته ومهارته وصوته الندي فأمره أن يؤذن فكان أول مؤذن في الإسلام...

أهم ملامح شخصيته
الصبر والثبات والتحمّل في سبيل الله:
قال عبد الله بن مسعود: كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوا أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد...
ولأنه رضي الله أول من أسلم من العبيد، كان من أشد المسلمين تعذيبا في مكة، وممن يعذب في الله عز وجل فيصبر على العذاب وكان أبو جهل يبطحه على وجهه في الشمس ويضع الرحا عليه حتى تصهره الشمس ويقال: أكفر برب محمد فيقول: أحد أحد؛ فاجتاز به ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد؛ فقال: يا بلال أحد أحد والله لئن متّ على هذا لأتخذن قبرك حنانا أي بركة...
وكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى أبو داود بسنده عن عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما كان له شيء كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي وكان إذا أتاه الإنسان مسلما فرآه عاريا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار فلما أن رآني قال: يا حبشي قلت يا لباه فتجهمني وقال لي قولا غليظا وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر قال: قلت: قريب قال: إنما بينك وبينه أربع فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي وهو فاضحي فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر فقد جاءك الله بقضائك" ثم قال: "ألم تر الركائب المناخات الأربع" فقلت: بلى فقال: "إن لك رقابهن وما عليهن فإن عليهن كسوة وطعاما أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك" ففعلت فذكر الحديث ثم انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد فسلمت عليه فقال: "ما فعل ما قبلك" قلت: قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء قال: "أفضل شيء؟" قلت: نعم قال: "انظر أن تريحني منه فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه" فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك" قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث حتى إذا صلى العتمة يعني من الغد دعاني قال: "ما فعل الذي قبلك" قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه.
الرسول يزوّجُ بلالًا:
حدث زيد بن أسلم أن بني أبي البكير جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: زوج أختنا فلانا فقال لهم: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكح أختنا فلانا فقال: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح أختنا فلانا فقال: " أين أنتم عن بلال أين أنتم عن رجل من أهل الجنة! " قال: فأنكَحُوه.
مرافق للنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح:
عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال سمعتها تقول حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا.
قصة الأذان:
قال محمد بن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أي المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة بحين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجعل بوقا كبوق اليهود الذي يدعون به لصلواتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين إلى الصلاة فبينما هم على ذلك أرى عبد الله بن زيد بن عبد ربه أخو الحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس فقال وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة فقال ألا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله أشهد أن محمد رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ثم استأخر غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وترا إلا قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فلما خبرتها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقاها عليه فإنه أندى صوت منك فلما أذن بلال سمع عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد فذاك أثبت.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان؛ بلال وابن أم مكتوم الأعمى.
وعن ابن أبي مليكة... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن يوم الفتح على ظهر الكعبة فأذن على ظهرها والحارث بن هشام وصفوان بن أمية قاعدان فقال أحدهما للآخر أنظر إلى هذا الحبشي فقال الآخر إن يكرهه الله يغيّره.
وكان بلال رضي الله عنه مرافقًا في غالب أحواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام: هذا من أهل النار فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى النار فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحًا شديدًا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالًا فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
وروى البخاري بسنده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم لو عرست بنا يا رسول الله قال أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال: "يا بلال أين ما قلت" قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة" فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى.
وعن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله قال لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.
وروى مسلم بسنده أن بلالًا جاء بتمر برني - أ ي جيد - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين هذا فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله عند ذلك أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به.
عن أبي سعيد الخدري عن بلال رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال ألق الله فقيرا ولا تلقه غنيا قال قلت وكيف لي بذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رزقت فلا تخبأ وإذا سئلت فلا تمنع قال قلت وكيف لي بذلك يا رسول الله قال هو ذاك وإلا فالنار. المستدرك



بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أبي بكر وعمر بن الخطاب:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق فقال له يا خليفة رسول الله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله فقال أبو بكر فما تشاء يا بلال قال أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت فقال أبو بكر أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي فقد كبرت وضعفت واقترب أجلي فأقام بلال مع أبي بكر حتى توفي أبو بكر فلما توفي أبو بكر جاء بلال إلى عمر بن الخطاب فقال له كما قال لأبي بكر فرد عليه عمر كما رد عليه أبو بكر فأبى بلال عليه فقال عمر فإلى من ترى أن أجعل النداء فقال إلى سعد فإنه قد أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر سعدا فجعل الأذان إليه وإلى عقبه من بعده...
وعن سهل رضي الله عنه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء بلال أبا بكر رضي الله عنهما فقال حبس النبي صلى الله عليه وسلم فتؤم الناس قال نعم إن شئتم فأقام بلال الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فصلى فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس بالتصفيح قال سهل هل تدرون ما التصفيح هو التصفيق وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته فلما أكثروا التفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في الصف فأشار إليه مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقري وراءه وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
مع ابن عمر:
روى مسلم بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقها عليه ثم مكث فيها قال ابن عمر فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى.
مع عبد الرحمن بن عوف في بدر وأسيره أمية بن خلف:
روى البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة - الصاغية ما يخص المرء من أهل ومال ومتاع - فلما ذكرت الرحمن قال لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية فكاتبته عبد عمرو فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال أمية بن خلف لا نجوتُ إن نجا أمية فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلا ثقيلا فلما أدركونا قلت له ابرك فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب:
وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذب بلالًا ويوالي عليه العذاب والمكروه فكان من قدر الله تعالى أن قتله بلال يوم بدر على حسب ما أتى من ذلك في السير فقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبياتا:
هنيئًا زادك الرحمن خيرًا فقد أدركت ثأرَك يا بلال
مع أبي ذر:
روى البخاري بسنده عن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلًا - هو بلال رضي الله عنه - فعيّرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيّرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَالٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلَالًا فَقَالَ: صَلَّى فِيهِ فَقُلْتُ: فِي أَيٍّ قَالَ: بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى.
وروى ابن ماجة بسنده عن بلال بن رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداةَ جمعٍ يا بلال أسكت الناس أو أنصت الناس ثم قال إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل ادفعوا باسم الله.
وعن بلال رضي الله عنه قال: " أذنت في غداة باردة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير في المسجد أحدا فقال: " أين الناس " فقلت: حبسهم القر فقال: " اللهم أذهب عنهم البرد " قال: فلقد رأيتهم يتروحون في الصلاة".
أثره في الآخرين:
روى عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة أسامة بن زيد والبراء بن عازب، وطارق بن شهاب بن عبد شمس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وكعب بن عجرة، ووهب بن عبد الله، وممن روى عنه من التابعين الأسود بن يزيد بن قيس، وشهر بن حوشب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم...


بعض كلماته:
روى البخاري بسنده عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيـلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَـنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ."
وروى الحصين بن نمير أن بلالا خطب على أخيه خالد فقال: أنا بلال وهذا أخي كنا رقيقين فأعتقنا الله وكنا عائلين فأغنانا الله وكنا ضالين فهدانا الله فإن تنكحونا فالحمد لله وإن تردونا فلا إله إلا الله فأنكحوه وكانت المرأة عربية من كندة.
وكان رضي الله عنه يقول عن نفسه تواضعًا: "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
وعن هند امرأة بلال قالت كان بلال إذا أخذ مضجعه قال اللهم تجاوز عن سيئاتي واعذرني بعلاتي.
رؤيا الحبيب صلى الله عليه وسلم:
رأى بلالٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول: "ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورنا" فانتبه حزينًا فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر فعلا سطح المسجد فلما قال: " الله أكبر الله أكبر " ارتجت المدينة فلما قال: " أشهد أن لا إله إلا الله " زادت رجتها فلما قال: " أشهد أن محمدا رسول الله " خرج النساء من خدورهن فما رُئي يوم أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم.
وفاته:
لما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته: و احزاناه!
فقال: واطرباه! غدا ألقى الأحبة محمدًا و حزبَه






رد مع اقتباس
قديم 24-04-2009, 10:00 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي زيد بن ثابت

زيد بن ثابت

هو زيد بن ثابت بن الضحّاك الأنصاري من بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كان يتيمـاً يوم قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمدينـة (توفي والده يوم بُعاث ) و سنه لا يتجاوز إحدى عشرة سنة، وأسلـم مع أهلـه وباركه الرسول الكريم بالدعاء...
جهاده:
صحبه آباؤه معهم إلى غزوة بدر، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رده لصغر سنه وجسمه، وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-يرجون أن يضمهم للمجاهدين وأهلهم كانوا يرجون أكثر منهم، ونظر إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاكرا وكأنه يريد الاعتذار، ولكن ( رافع بن خديج ) وهو أحدهم تقدم إلى الرسول الكريم وهو يحمل حربة ويستعرض بها قائل: ( إني كما ترى، أجيد الرمي فأذن لي )...فأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- له، وتقدم ( سمرة بن جندب ) وقال بعض أهله للرسول:( إن سمرة يصرع رافعا )...فحياه الرسول وأذن له...
وبقي ستة من الأشبال منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، بذلوا جهدهم بالرجاء والدمع واستعراض العضلات، لكن أعمارهم صغيرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة، وهكذا بدأ زيد مع إخوانه دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق، سنة خمس من الهجرة.

قال زيد بن ثابت كانت وقعة بعاث وأنا بن ست سنين وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا بن إحدى عشرة سنة وأتي بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا غلام من الخزرج قد قرأ ست عشرة سورة فلم أجز في بدر ولا أحد وأجزت في الخندق
وكانت مع زيد -رضي الله عنه- راية بني النجار يوم تبوك، وكانت أولاً مع عُمارة بن حزم، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فدفعها لزيد بن ثابت فقال عُمارة:( يا رسول الله! بلغكَ عنّي شيءٌ؟)...قال الرسول:( ل، ولكن القرآن مقدَّم، وزيد أكثر أخذا منك للقرآن )...
علمه:
عن عامر قال كان فداء أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية فمن لم يكن عنده علم عشرة من المسلمين الكتابة فكان زيد بن ثابت ممن علم، لقد كان t مثقفًا متنوع المزاي، يتابع القرآن حفظ، ويكتب الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرته، أمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فتعلمها في وقت وجيز...يقول زيـد:( أُتيَ بيَ النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- مَقْدَمه المدينة، فقيل:( هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة )...فقرأت عليه فأعجبه ذلك، فقال:( تعلّمْ كتاب يهـود، فإنّي ما آمنهم على كتابي )...ففعلتُ، فما مضى لي نصف شهـر حتى حَذِقْتُـهُ، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأتُ له )... وعن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحسن السريانية قلت لا قال فتعلمها فإنه تأتينا كتب قال فتعلمتها في سبعة عشر يوما قال الأعمش كانت تأتيه كتب لا يشتهى ان يطلع عليها الا من يثق به، من هنا أطلق عليه لقب ( ترجمان الرسول صلى الله عليه وسلم )..
حفظه للقرآن:
منذ بدأت الدعوة وخلال إحدى وعشرين سنة تقريبا كان الوحي يتنزل، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو، وكان هناك ثلة مباركة تحفظ ما تستطيع، والبعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآيات مسطورة، وكان منهم علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين...وبعد أن تم النزول كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه على المسلمين مرتبا حسب سوره وآياته...
وقد قرأ زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت لأنه كتبها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرأها عليه، وشَهِدَ العرضة الأخيرة، وكان يُقرىء الناس بها حتى مات...

بداية جمع القرآن:
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- شغل المسلمون بحروب الردة، وفي معركة اليمامة كان عدد الشهداء من حفظة القرآن كبير، فما أن هدأت نار الفتنة حتى فزع عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبو بكر الصديق راغبا في أن يجمع القرآن قبل أن يدرك الموت والشهادة بقية القراء والحفاظ...واستخار الخليفة ربه، وشاور صحبه ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:( إنك شاب عاقل لانتهمك )...وأمره أن يبدأ جمع القرآن مستعينا بذوي الخبرة...

ونهض زيد -رضي الله عنه- بالمهمة وأبلى بلاء عظيما فيه، يقابل ويعارض ويتحرى حتى جمع القرآن مرتبا منسقا...وقال زيد في عظم المسئولية:( والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن )...كما قال:( فكنتُ أتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال )...وأنجز المهمة على أكمل وجه وجمع القرآن في أكثر من مصحف0

المرحلة الثانية في جمع القرآن:
في خلافة عثمان بن عفان كان الإسلام يستقبل كل يوم أناسًا جدد عليه، مما أصبح جليا ما يمكن أن يفضي إليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين، فقرر عثمان والصحابة وعلى رأسهم حذيفة بن اليمان ضرورة توحيد المصحف، فقال عثمان:( مَنْ أكتب الناس؟)...قالو:( كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت )...قال:( فأي الناس أعربُ؟)...قالو:( سعيد بن العاص )...وكان سعيد بن العاص أشبه لهجة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عثمان:( فليُملِ سعيد وليكتب زيدٌ )...

واستنجدوا بزيـد بن ثابت، فجمع زيد أصحابه وأعوانه وجاءوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر -رضي الله عنها- وباشروا مهمتهم الجليلة، وكانوا دوما يجعلون كلمة زيد هي الحجة والفيصل...رحمهم الله أجمعين...حتى قال عنه ابن عباس ت رضي الله عنهما : " لقد علم المحفظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم ".

فضله رضي الله عنه:
تألقت شخصية زيد وتبوأ في المجتمع مكانا عالي، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم...فقد ذهب زيد ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال له زيد:( تنح يا ابن عم رسول الله )...فأجابه ابن عباس:( ل، فهكذا نصنع بعلمائنا )... كما قال ( ثابت بن عبيد ) عن زيد بن ثابت:( ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد )...
في يوم السقيفـة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منا قال فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك فقام زيد بن ثابت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وإن الإمام يكون من المهاجرين ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار وثبت قائلكم ثم قال أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال هذا صاحبكم فبايعوه ثم انطلقو.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستخلفه إذا حجّ على المدينة، وزيد -رضي الله عنه-، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، وهو أحد أصحاب الفَتْوى الستة: عمر وعلي وابن مسعود وأبيّ وأبو موسى وزيد بن ثابت، فما كان عمر ولا عثمان يقدّمان على زيد أحداً في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة،
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأفرضهم - أي أعلمهم بالفرائض - زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وان لكل امة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وقد استعمله عمر على القضاء وفرض له رزقاً...

قال ابن سيرين:( غلب زيد بن ثابت الناس بخصلتين، بالقرآن والفرائض )...

وفاته:
توفي -رضي الله عنه- سنة ( 45 هـ ) في عهد معاوية...
ولما مات رثاه حسان بقوله:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت
و عن يحيى بن سعيد قال: لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات اليوم حبر هذه الأمة، ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلف






رد مع اقتباس
قديم 25-04-2009, 08:15 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

الربيع بن الخثيم


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين ، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا ، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الرابع من حياة التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم ، وتابعيّ اليوم هو الربيع بن خثَيم .
قال هلال لضيفه منذر الثوري : ألا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ ، لعلَّنا نؤمن ساعة ؟ نقف عند هذا القول قليلاً .
كلّ شيءٍ له منابعُهُ ، وكلّ شيءٍ له معدنهُ ، فإن أردْت العلم فعليك بِدُور العلم ، وإن أردت التجارة فعليك بالأسواق ، وإن أردت السِّياحة فعليك بالمتنزَّهات ، فالذي يريد العلم الشَّرعي ، أو يريد القرب من الله عز وجل فلا بدّ أن يجلس مع أهل العلم ، ولا بدّ أن يرتاد المساجد ، ألم يقل أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأخيه : اجْلس بنا نؤمن ساعة ؟! بلى فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ يُرَغِّبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلَام *
(رواه أحمد)
أيها الإخوة ، عند أهل الأذواق ما من ساعة أمْتعُ على وجه الإطلاق من مُذاكرة العلم ، أو من طلب العلم ، أو من تعليم العلم ، إذا كان هناك معلِّم ومُتَعلِّم فهذا تعليم ، إذا هناك متعلِّم ومعلِّم فهذا تعلّم ، وإذا كان هناك مؤمنون بِمُستوى واحدة نقول : مذاكرة العِلم ، لكنَّ الذي أريد أن أقوله لكم : لا يوجد مَن ليس له جَلسات ، الإنسان له عمل ، وله وقت فراغ ، وإن كان وقت الفراغ يقِلّ مع عِظَم التَّبِعات ، وقِلَّة الموارد ، ولا أريد أن أخرج عن مضمون الدرس ، فالذي ليس عنده وقت فراغ لا يَحيا ، وإذا أُلغِيَ وقت فراغ الإنسان فقد أُلْغِيَت حياته ، لأنّ الإنسان يحيا بِمَبادئه ، ويحْيا باتِّجاهاته ، ويحيى بِتَأْدِيَة رسالتهِ ، فإذا ألغَيْنا في الإنسان وقْت الفراغ فقد ألغيْنا الوقت الذي يُمضيهِ كما يحبّ ، فالوقت الذي تكسب به المال ربما لا تحِبّه ، وهذا عمل رتيب ، وعمل ربما لا يكون ممْتِعًا ، ولكنَّ الوقت الذي تسْعدُ به هو الوقت الذي تنفقهُ فيما تُحبّ ، فالمؤمن - ولا أُبالغ - أثْمنُ شيءٍ في حياتهِ هو وقت الفراغ ، لأنَّه في هذا الوقت يطلب فيه العلم ، وفي وقت الفراغ يلتقي مع أهل العلم ، ويدعو إلى الله ، ويُحَقِّق رسالته ، ويؤكِّد ذاته ، ويصِلُ إلى ربِّه ، وقد يكسبُ جنَّة الآخرة ، المشكلة الآن أنَّ الإنسان يبحث عن عملٍ إضافي ، وأنا معكم في هذا ، ولكن هذا العمل الإضافي إذا امْتصَّ كلّ وقت فراغك ، وتمكَّنْت أن تُضاعف دَخْلكَ ، وتُنْفق هذا الدخل الزائد على ما زاد عن حاجتك فوالله لأنت الخاسر ، أنا أقول كلامًا ، وأعني ما أقول : حينما يُلغى وقت الفراغ في حياة الإنسان فقد أُلغِيَ وُجودهُ الإنساني ، وبقيَ وُجودهُ الحيواني ، كائنٌ يتحرَّك ويكسب المال ، ويأكل ويستريح ، ويستيقظ ، ويعمل ويكسب المال ، ثم يستريح إلى أن يأتيَهُ الأجَل ، ولكن لا بدّ من وقتِ فراغٍ تحضرُ فيه مجالس العلم ، أو تُعلِّم ، أو تلتقي مع من تُحبّ ، أو تدعو إلى الله ، أو تُطالع .
أيها الإخوة الكرام ، المقصود من هذا الكلام أنَّه إذا كان لك دخْلٌ يكفيك ، أو يكفيك مع بعض المشقَّة ، وبإمكانك أن تُمضي وقتًا طويلاً في معرفة الله ، والعمل الصالح ، فإيَّاك أن تتورَّط في إلغاء وقت فراغك ، لأنَّ هناك أُناسًا كثيرين يقولون : واللهِ لا يوجد وقت ! فنحن ندخل إلى بيوتنا بعد نوم أولادنا ، ونخرج من بيوتنا قبل اسْتيقاظ أولادنا !! وهو يظنّ أنَّه يُحْسنُ صُنعًا، وهو في الحقيقة ألغى وُجودهُ الإنساني ، ودقِّقُوا في هذا الكلمة : الذي يُلغي وقت فراغه يُلغي وُجوده الإنساني ، لا ترضى بِعَملٍ يشتريك به صاحبُ العمل من شروق الشمس إلى نصف الليل ! لو أعطاك مائة ألف بالشَّهر فأنت الخاسر الأكبر ، ولا تقبل عملاً يُلغي وقْت فراغك ، إنَّ الآخرة تحتاج إلى وقتٍ ، وبالمناسبة أجْمل ما قرأتُ عن الصلاة ، وأنّ الصلاة فيها من كلّ أنواع العبادات ، الصلاة فيها من الحجّ التَّوَجُّهُ إلى القبلة ، وفيها من الصِّيام ترْكُ الطَّعام والشَّراب ، وترْكُ الكلام فيما هو بعيد عن الصلاة ، وفي الصلاة معنى الزكاة ، لأنَّ أصْل كسْب المال هو الوقت ، وأنت تقْتطعُ منه لِتُصَلِّي ، وفي الصَّلاة معنى التَّشهّد ، صيام ، وزكاة ، وحج، وتشهّد ، الأركان الأرْبَعُة للإسلام تدخل في الصَّلاة ، ولذلك هي الفرْض المتكَرِّر الذي لا يُلغى بِحَال .
قال له : أنا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ لعلَّنا نؤمن ؟ قال منذر : بلى ، فوالله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم ، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه .
نسأل الله أن يجمعنا مع أهل الحق ، فالإنسان المؤمن الصادق المُتَّصِل والصافي والمخلص، اللِّقاء معه جميل ، وجنَّة الله في الأرض أن تلتقي مع أهل الإيمان ، هؤلاء كما قيل عنهم كالكبريت الأحمر ؛ نادر ، قال له : فوالله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم ، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه ، ولكن هل اسْتأذنْت لنا عليه ؟ فقد قيل لي : إنَّهُ منذ أُصيب بالفالج لزِمَ بيتهُ ، وانْصرفَ إلى ربّه ، وعزفَ عن لقاء الناس !
تصوّر إنسانًا أُصيب بالفالج ، فهو بعيدٌ عن الله تعالى ، وقد ينتحر ، وقد ينهار ، وتصوَّر إنسانًا مؤمنًا أُصيب بالفالج ، وهو قريب من الله ، لقد صار هذا المرض خَلْوَةً له ، وهذا ما قاله أحد العارفين : ما يصْنعُ أعدائي بي ؟ جنَّتي في صدري ، إن أبْعَدوني فإبعادي سِياحة ، وإن قتلوني فقتْلي شهادة ، وإن حبسُوني فحَبْسي خلوة ، أجْمَلُ ما في حياة المؤمن أنَّ سعادتهُ تنْبعُ من داخلهِ ، ولا يأخذها من الخارج ، ولكنَّ عامَّة الناس سعادتهُ من بيتهِ ، فإذا حُرِمَ بيتهُ اخْتلَّ توازنهُ، وسعادتهُ من مرْكبته ، وسعادتهُ من زوجته ، ومن أولاده ، ومن مكانتهِ ، فإذا حُرمَ هذه الشروط انْهارَ نفْسِيًّا ، والمؤمن سعادتهُ من داخلهِ ، أيْنمَا ذهبْت به يسْتغني عن أيِّ شرْط مادِّيٍ لِسعادته .
قال هلال : إنّه لكذلك منذ عرفَتْهُ الكوفة ، لم يُغيِّر منه المرض شيئًا ، الذَّهَب ذهَب ، فأنا هذه الحقيقة أعرفها ، ولكنَّني ما شعرْتُ بها ، مرَّةً قرأْتُ مقالة : عثَرُوا على باخرة غرقَتْ في عام 1910 ، وكانت تحْمل كمِّيَة كبيرة جدًّا من الذَّهَب من أمريكا إلى بريطانيا ، أو العكس ، غرقَت في عرْض المحيط الأطلسي ، والآن هناك شركات تبْحث في التاريخ القديم عن غرَق هذه البواخر العِملاقة التي تحمل من الثَّرَوات ما لا سبيل إلى وصْفه ، وكوَّنوا فريق بحث عن طريق غوَّاصات مُسطَّحة ووصَلوا إلى قاع المحيط ، وعَثَروا على هذه السفينة ، ورأيْتُ في المجلَّة صُوَرًا لِسَبائِكِ الذَّهَب اللاَّمِعَة التي اسْتُخْرِجَت من المحيط ، طبْعًا الفكرة واضحةٌ سابقًا ، ولكن أنا عِشْتُ هذه الحقيقة فالذَّهَب ذهَب ، وكانت تلك السبائك بِمَنظرها ، وكأنَّها صُبَّتْ قبل ساعة ، بقِيَت في أعمـاق المحيط منذ 1910، واسْتُخْرِجَتْ قبـل سنة ، أيْ بقيَتْ ثمانين عامًا في المياه المالحة والعوامل الطبيعية ، فالذَّهَب يبقى ذهَبًا ، ولن يتغيَّر اللَّمَعان والبريق والصَّفار ، فلذلك المؤمن ذهب أربعة وعشرين ، وهناك ثمانية عشر ، وهناك ستَّة عشر ، وهناك من هو مَطليٌّ بالذَّهَب ، أما المؤمن الصادق فلن يتغيَّر .
قال له : لا بأس ، ولكِنَّك تعلم أنَّ لِهَؤلاء الأشياخ أمْزِجَةً رقيقة ، فهَلْ ترى أن نُبادِر الشَّيْخ فنسْألهُ عمَّا نريد ؟ أم نلْتزمُ الصَّمْت فنَسْمعُ منه ما يريد ؟ والحقيقة كلّ شخْصٍ يُعاني هذه المشكلة، إذا زارَ أخًا يُحبُّه ويثقُ به ، يا ترى يسأل أم يسْمع ؟ والله كلاهما خير ، فإذا أنْصَتَ فأنا متأكِّد أنَّك إذا ذهبْت إلى رجلٍ تثق بِدِينه وإخلاصِهِ وعلمه ، فإذا صمَتَّ فالله تعالى إكرامًا لإخلاصك لطلب العلم ، وإكرامًا لإخلاصهِ في تعليم العِلْم يُلْهِمُه ما أنت بِحاجةٍ إليه ، وإذا سألْتهُ فلا مانع ، فَمِفتاح العلم السؤال ، كلاهما جائز ، فإما أن تسأل ، وإما أن تستمع .
فقال هلال : لكنَّ هذا الشيخ لو جلسْتَ معه عامًا بأكملهِ فإنَّه لا يُكلِّمك إذا لم تكلِّمْه ، حضرني حديث وردَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ *
[رواه أحمد]

هناك مؤمن يميل إلى الصَّمت ، ومؤمن يميل إلى الكلام ، وهناك من يميل إلى اللِّقاء مع الناس ، منْفتح ، ومؤمن يميل إلى الخَلْوَة ، كلّهم على العَين والرأس ، وهناك مؤمن يعتني بِمَظهره كثيرًا ، ومؤمن أقلّ اعْتِناءً بِمَظهره من الآخر ، فهذه طِباع تختلف من مؤمن لآخر ، وهناك من هو هادئ الطَّبع ، وآخر حادّ الطَّبْع ، وهناك إنسان كالحمامة ، وآخر كالصَّخرة ، أو بالتعبير الإسلامي هناك إنسان عُمَري ، وإنسان بَكْري ، كسَيِّدنا الصدّيق ، هذه الطِّباع كلّها مقبولة، يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلا خيانة والكذب ، فإذا فعلهما فليس مؤمنًا ، لماذا الربيع بن خثيم لا يُكلِّمُكَ إلا إذا كلَّمْتهُ ، ولا يُبادِرُك إلا أن تسْألهُ ، فهو قد جعل كلامه ذِكْرًا ، وصَمْتهُ فِكْرًا ، ومن أدقّ الأحاديث الشريفة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ربِّي بِتِسْع ؛ خشيَة الله في السرّ والعلانِيَّة ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصِلَ من قطعني ، وأن أعْفُوَ عمَّن ظلمني ، وأن أُعْطِيَ مَن حرمني ، وأن يكون صمتي فكْرًا ، ونطقي ذِكْرًا ونظري عبرةً " .
واللهِ مرَّةً مصباح كهربائي علَّمني درسًا لا أنساه ، هذا المصباح يُشْحن بالكهرباء ، لمَّا أنسى شحنه ، وأضطرّ لاستعماله أجد الضوء خافتًا ، ومرَّةً نسيتهُ في الشَّحن يومين دون أن أنتبه، فلمَّا استعملتهُ كان كالشَّمس وهكذا المؤمـن ، كلَّمـا اعتنى بِشَحْنِهِ كلَّما تألَّق ، وكلّما أهْمل شَحْنهُ عن طريق الذِّكر والعبادة وتلاوة القرآن كلَّما خَفَتَ ضوءُه ، فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : أُمرتُ أن يكون صمتي فِكْرًا ، ونطقي ذِكْرًا ، ونظَري عِبْرةً .
قال : فلْنَمْضِ إذًا على بركة الله تعالى ، ثمَّ مضيَا إلى الشيخ ، فلمَّا صارا عنده سلَّمَا ، وقالا : كيف أصْبحَ الشيخ ؟ الآن هيِّئوا أنفسكم إلى كلام ربما لا تقبلونه ، ولكنَّ التواضع هكذا ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ - وهو أحدُ التابعين - : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ *
(رواه البخاري)
والإنسان كلّما ارْتقى يتَّهِمُ نفسهُ ، قال الإمام الشافعي :
***
أُحبّ الصالحين ولسْتُ منهم لعلِّي أن أنال بهم شفاعـة
وكرهُ من بضاعتهُ المعاصي ولو كنَّا سواءً في البضاعة
***
واللهِ هو منهم ، ونحن لسْنا منهم ، هو من الصالحين ، وبضاعته الطاعات ، ولولا كان كذلك لما أكرمه الله بهذه المنزلة .
قال : كيف أصبح الشيخ ؟ قال : أصبح ضَعيفًا مذْنبًا ، يأكل رزقهُ ، وينتظر أجله ، فقال هلال : لقد نزل بالكوفة طبيبٌ حاذق ، أفتأذنُ بأَن أدْعُوَهُ إليك ؟ فقال : يا هلال ، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حق ، تداوَوْا عباد الله ، وكل إنسان يدع الدواء يقع في المعصِيَة ، بل إنَّ الحكم الفقهي إذا غلبَ على يقينك أنَّ هناك مرضًا يحتاج إلى دواء ، وهذا المرض يؤثِّر تأثيرًا بليغًا على جسمك ، فعدَمُ أخْذ الدواء معْصِيَة ، والمبادرة إلى المعالجة فرْضٌ ، وأبلغُ من واجب ، لأنّ هذا الجسم له قوانين ، أنت حينما تُنفِّذ تعليمات الطبيب المؤمن الحاذق الورِع ، فأنت تنفِّذُ تعليمات الصانع ، لأنَّ الطبيب عرف قواعد هذا الجسْم ، قال : يا هلال ، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حقّ ، ولكنِّي تأمَّلتُ عادًا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونًا بين ذلك كثيرًا ، ورأيت حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم في متاعها ، وقد كانوا أشدَّ منَّا بأْسًا ، وأعظمَ قدرةً ، وقد كان فيهم أطبَّاء ومرضى ، فلا بقِيَ المُداوي ولا المُدَاوَى ، ثمَّ تنهَّدَ تنْهيدةً عميقةً ، وقال : ولو كان هذا هو الداء لتداوَيْنا منه ، فاسْتأذن منذر ، وقال : فما الداء إذًا يا سيّدي الشيخ ؟ قال : الداء الذنوب ، قال منذر : وما الدواء ؟ قال : الاستغفار ، قال منذر : وكيف يكون الشفاء ؟ قال : بأن تتوب ، ثمّ لا تعود ‍! فالداء هي الذنوب والدواء الاستغفار والشفاء ألاَّ تعود ، وهذا كلامٌ واضح كالشمس .

أيها الإخوة ، في الأثر الموقوف عن علي بن أبي طالب قال : "عليكم بخمس ؛ لو رحلتم فيهن المطي لأنضيتموهن قبل أن تدركوا مثلهن ؛ لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافنّ إلا ذنبه ، ولا يستحيى من لا يعلم أن يتعلم ، ولا يستحيى عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم ، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان "
(كنز العمال)
فلا تخف إذا ذنبك .
وهذه الفقرة من القصّة ذكَّرتني بكتاب قرأته ، واسمه (قصص العرب) ، وهو من أمْتع الكتب ، قصصٌ واقعيـّة من أربعة أجزاء ، فلمَّا أنْهَيتُ قراءة هذا الكتاب شعرْت أنَّ كلَّ مَن في الكتاب على وجه الإطلاق كبارًا وصِغارًا ، أقوياء وضعفاء ، أصِحَّاء ومرضى ، أذكياء وحمْقى، ظلاَّمًا ومظلومين ، وحكَّامًا ومحكومين ؛ كلُّهم الآن تحت أطباق الثَّرى ، وهذه موعظة ، فهذا المجلس بعد مائة عام ليس منَّا واحد إطلاقًا على وجه الأرض ، كلّنا موزَّعون في الثُّرى التي حول دمشق ، هذا في باب الصغير ، وذاك في قاسيون ، وذاك توُفِّيَ ، وقد مضى عليه خمسون سنة ، رحمه الله ، وكان يفعل كذا وكذا ، وما دامت الحياة ظلاًّ فيوشكُ أن ينقضي ، إذًا لا بدّ من عملٍ صالح ، والدنيا ساعة فاجْعلْها طاعة .
قال : ثمَّ حدَّق فينا ، وقال : السرائر السرائر !! عليكم بالسرائر التي تخفى على الناس ، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ ؛ واضحة ، كلّ واحد له سرّ ، وله قلب ، فقد نتشابه ، كلّنا في مسجدٍ واحد ، وكلّنا يصلِّي ، وكلّنا يدفعُ زكاة ماله ، وكلّنا يحجّ ، ولكنّ هذه السرائر تتفاوُتُ فيما بينها ، فالإخلاصَ الإخلاصَ ، وعليكم بالسرائر التي تخفى على الناس ، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ ، أي ظاهرة ، الْتَمِسوا دواءهنّ ، فقال منذر : وما دواؤهنّ ؟ الشيخ والتوبة النصوح ، ثمَّ بكى حتى بلَّلَتْ دُموعه لِحْيتهُ ، وهذا هو الإخلاص ، وفي الحديث : ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط *
(الجامع الصغير عن أنس)
وعن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : أوصني ، قال : أخلص دينك يكفك القليل من العمل *
(الجامع الصغير للسيوطي)
درهمٌ أُنفِقَ في إخلاص خير من ألف مائة درهم أُنفقتْ في رياء ، والإخلاص محصِّلة العلم، وبرأيِ الاقتصاديِّين سِعر العُملة هو محصِّلة القومي ، الاقتصاد بأكملهِ ، الميزان التجاري ، القدرة على الإنتاج والقدرة على الاستهلاك ، والاستيراد والتصدير ، كلّ هذه العوامل الضَّخمة في اقتصاد الأمَّة مُؤدَّاها سِعْر العملة ، مُحصِّلة كلّ إيمانك هو الإخلاص ، فكلمَّا ارْتقى إيمانك ارتقى إخلاصك ، الأدقّ من ذلك كلّما ارتقى توحيدك ارتقى إخلاصك ، فالإخلاص مرتبط بالتوحيد ، فالأكثر توحيدًا هو الأكثر إخلاصًا ، والأقلّ توحيدًا هو الأقلّ إخلاصًا .
ثمّ قال له منذر : أَتبكي وأنت أنت ؟ قال : هيهات لِمَ لا أبكي ، وقد أدْركتُ قومًا نحن في جنبهم لُصوص ! فإذا شعر الواحد منَّا أنَّه متميِّز على المجتمع لا تميّز كِبْر ولكن تميّز طاعة ، فهو يرى معظم الناس يمتّعون أبصارهم في النساء ، وهو يغضّ بصره ، ومعظم الناس يأكلون مالاً حرامًا ، وهو ورعٌ جدًّا ، فلا يقبض القرش إلا إذا كان حلالاً ، وبيته إسلامي ، وزوجته محجَّبة ، صادق وأمين ، فالواحد في هذا الزمان مع الفسق والفجور وشُيوع الفِتَن والشهوات والملذّات ، فالذي يستقيم في هذه الحالة يشعر بِعِزَّة الاستقامة ، ولكن نحن وُجِدنا في ظرْف عمَّ فيه الفسق ، والمستقيم برز وتفوَّق ، ولكنَّنا لو وجدنا في مجتمع آخر كمُجتمع التابعين لكنَّا مع المقصِّرين جدًّا ، إن لم نقل مع المنافقين ، تمامًا لو جئت بِطَالبٍ وسط ، وتضعهُ في شعبة ضعيفة يصبح المتفوّقَ الأوَّلَ ، هذه يعرفها وتلك يعرفها... ولكنَّك لو وضعته مع المتفوِّقين يصبح آخِرَ واحد ، فنحن لعلَّ الله سبحانه وتعالى رحِمَنا إذْ جعلنا في آخر الزمان ، لو كنَّا مع الرعيل الأوّل من أصحاب رسول الله لما كان لنا ذِكْرٌ إطلاقًا .
قال له : لقد أدركْت قومًا نحن في جَنبِهم لُصوص ، يريد الصحابة رضوان الله عليهم ، امرأة رأَتْ أباها مقتولا في أحد ، وبعد قليل رأتْ أخاها مقتولا ، ثم رأت زوجها مقتولا ، ثم ابنها ‍‍‍!! وتقول : ما فعلَ رسول الله ؟ إلى أن بحثتْ عنه ، واطْمأنَّت على سلامته ، فقالت يا رسول : كلّ مصيبة بعدك جلَل !! نحن في هذا الزمان لا يوجد عندنا نساء بهذا المستوى ، فإذا كان هناك ثلاثة جرْحى ، وثلاثة آخرون على وشَكِ الموت ، والجريح يتمنَّى قطْرة ماء بِمِليون ليرة ، هذا الجريح يطلب الماء ، فيأتي الساقي ليَسْقيَهُ ، فيكون أخوه الذي إلى جنبه يئنّ ، فقال : أعْطِ أخي ‍! فلمَّا قُدِّم الماء لأخيه أنَّ الثالث ، فقال الثاني أعطِ الماء لأخي ، فلما ذهب ليُعطِيَه وجده فارق الحياة ، وذهب إلى الثاني فوجدهُ فارق الحياة ، وكذا الثالث !!!! هل عندنا مثل هذا النوع ؟! نحن بالحج في المطار مائتا مقعد لمائتي راكب ، لو تقف بعد مائتي متر ، ويدخل كلّهم الطائرة لوجدت مكانك ، لكنَّك تجدهم يتقاتلون من أجل الأمكنة ، شيء عجيب !! هناك فرق نوعي ، أنا مرَّةً في الحجَّة الثانيَة التي أكرمني الله بها بقيتُ بِمَكَّة عشرة أيام بعد انتهاء الحجّ ، وآخر يوم تمنَّيْت أن أُقبِّل الحجر الأسود ، وجئتُ في وقت لا تحتمل فيه الحرارة ، فقد بلغتْ ستًّا وخمسين درجة !! ومعي مظلّة ، ووجدْتُ خمسين شخْصًا يزمعون تقبيل الحجر ، واللهِ لو وقفوا بانتظام لقبَّلوه جميعًا في عَشْر دقائق ، رأيتُ الضَّرب والشدّ والدَّفْع ، هؤلاء المسلمون الذي سيفْتحون العالم ؟!! أين النظام ؟ أمَا قال له : أدْركتُ قومًا نحن بِجَنبهم لُصوص ! فانظرْ إلى تدافع الناس على المركبة ، وهم حجاج ، وطائرة ، ولكلٍّ مكانه ، لكنْ لا بدّ أن نتدافع ، ونشاتم ويشدّ بعضنا ثياب بعض لشيءٍ لا قيمة له إطلاقًا .
قال : وإذْ نحن كذلك دخل علينا ابن الشيخ فحَيَّانا وقال : يا أبتِ إنَّ أمِّي قد صنَعَت لك خبيصًا وجوَّدَتهُ ، نوعٌ من الحلْوَة ، وإنَّه ليَجْبر قلبها أن تأكل منه ، فهل آتيك به ؟ فقال : هاتِهِ ، فلمَّا خرج لِيُحضرهُ طرق سائلٌ فقال : أدْخلوه ، ولمَّا صار بِصَحن الدار : نظرتُ إليه ، فإذا هو رجل كهْلٌ مُمَزَّق الثِّياب ، قد سال لُعابهُ على ذقنه ، وبدا من ملامح وجهه أنَّه معتوه ، فما كِدْتُ أرفعُ بصري عنه حتى أقبل ابن الشيخ ومعه الخبيص ، فأشار إليه أبوه أن ضَعها بين يدي السائل، مَعتوه ، لُعابهُ على لحيته ، مُمَزَّق الثياب ، وهذا الطعام صنَعَتْهُ الزَّوجة ليأكل زوجها منه، فوضَعَه بين يديه ، فأقبل عليها الرجل ، وجعل يلتهم ما فيها الْتِهامًا ، ولعابهُ يسيل فوقها ، فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصَّحفة كلّها ، فقال له ابنه : رحمك الله يا أبي ، لقد تكلَّفَت أُمِّي ، وصنعت لك هذا الخبيص ، فأطْعمْتَهُ هذا الرجل الذي لا يدري ما أكل ، اسمعوا الجواب ، قال له : يا بنيّ ، إذا كان هو لا يدري ما أكل فإنّ الله يدري ماذا أكل ؟ وهذه ذكَّرتني بِرَسول جاء من معركة نهاوند إلى سيّدنا عمر ، قال له : حدّثني عما جرى في هذه المعركة ، فقال : فلان قُتِل ، وفلان قتل ، قال له تابع : فقال هناك أناسٌ لا تعرفهم بأسمائهم ، بل تعرفهم بوُجوههم؟ فبكى عمر ، وقال : ما ضرَّهم إذْ أنّي لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ، إنسان كريم جواد أعطى امرأة فقيرةً عطاءً كبيرًا ، قال له مَن كان جنبَه : لقد كان يرضيها القليل ، وهي لا تعرفك ، فأجاب وقال : إنْ كان يرضيها القليل ، فأنا لا أرضى إلا بالكثير ، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي ، لذلك أيها الإخوة اصْنَع المعروف مع أهله ، ومع غير أهله ، فإن أصبْت أهلَهُ فقد أصبْت أهله ، وإن لم تصِب أهله فأنت أهله ، هذا هو الإخلاص ، فالمخلص لا يعنيه إطلاقًا ردُّ الفعل ، قدّر الفعل ، أو لم يقدّره ، أساء أو ، لم يسئْ ، فأنت تعاملت مع الله ، وما عرف من أتى له بالهديّة ، كلّ هذا غير مهمّ ، وما عرف من دفع المبلغ ، المهم أنّ الله علِم مَن دفع ، وهذا هو الإخلاص ، وكلَّما نما توحيدك نما إخلاصك ، لذا غير المخلص يقع في مطبّ مزْعج ، يستجدي المديح ، لأنّ إخلاصه ضعيف ، حتى يُعَوِّض عن الجهد الذي بذَلَه ، فإذا أقام وليمة قال: ربّما لم يعْجبكم الأكل ! فيقولون : لا ، والله ، لقد قال هذا من أجل أن يسْمع المديح ، فاسْتجداء المديح دليل ضعف الإخلاص ، وكلّما نما توحيدك نما إخلاصك .
قال له : يا بنيّ ، إذا كان لا يدري ماذا يأكل فإنَّ الله يدري ماذا يأكل ، ثمَّ تلا قوله تعالى :
[ سورة آل عمران ]
سمعتُ قصَّة أُسرة سامحها الله ، عندهم خادمة في البيت ، وعندهم وليمة ، والطعام مِمَّا يسيل له اللُّعاب ، مِن أعلى درجة ، فربَّة البيت عندها عدّة صحون قديمة في الثلاجة ، وألْزَمَت هذه الخادمة أن تأكل هذه الأطعمة التي مضى عليها أيّام ، وحرمتها أن تأكل لُقْمة من الطعام الجديد ! قال تعالى :
[ سورة آل عمران ]
وفيما هو كذلك إذْ دخل عليه رجل من ذوي قُرْبة ، وقال : يا أبا يزيد قُتِلَ الحُسَيْن بن عليّ كرّم الله وجهه ، وابن فاطمة عليها وعليه السلام ، فقال الربيع : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثمّ تلا قوله تعالى :
[ سورة الزمر ]
ولكنَّ الرجل لم يشْفه كلامه ، فقال له : ما تقول في قتله ؟ قال : أقول إلى الله إِيّابهم ، وعلى الله حسابهم ! أنا أُرِيحُكُم من أشياء كثيرة ، تقييمُ الأشخاص ليس من شأن البشر ، ولكنه من شأن خالق البشر ، ولا يعلم الحقائق إلا الله ، والماضي كلّه تغطِّيه آية :
[ سورة البقرة ]
الْغِ التاريخ بآية واحدة ، والْغِ عِبء تقييم الأشخاص بكلمة واحدة ، وأنا قبل يومين كنت في تعْزِيَة ، والمُتَوَفَّى أعرفهُ ، وهو إنسانٌ صالح ، ولا أزكِّي على الله أحدًا ، ولكن قيل عنه كلامٌ قطعي ؛ إنَّه من أهل الجنَّة ! هذا كلام قطعي ، فذكرْتُ قَول النبي عليه الصلاة والسلام أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا *
[رواه البخاري]
لذا نحن نقول : ونرجو الله أن يكرمهُ ، ونرجو الله أن يُدخلهُ فسيح جنانه ، فإذا قلت : نرجو، فلا إشكال عليك إطلاقًا ، أما إذا قلتَ : هو من أهل الجنَّة فهذا تألٍّ على الله تعالى ، ولا يدخل الجنَّة فيما نعلم على وجْه اليقين إلا العشرة المبشَّرين بالجنَّة ، وما سواهم نرجو لهم دخول الجنة، لأنَّ تقييم الأشخاص ليس من شأن البشر ، بل هو من شأن خالق البشر ، قال تعالى:
[ سورة الغاشية ]
قال : ثمَّ إنِّي رأيتُ وقتَ الظهر قد اقترب ، فقلتُ للشيخ : أوْصِني ، قال : لا يَغُرَّنَك يا هلال كثرةُ ثناء الناس عليك ، فإنَّ الناس لا يعلمون منك إلا ظاهرك ، واعْلم أنَّك صائرٌ إلى عملك ، وأنَّ كلّ عملٍ لا يُبْتغى به وجْهُ الله يضْمحِلّ ، فقال المنذر : وأوْصني أنا أيضًا جُزيت خيرًا ؟ قال: يا منذر اتَّق الله فيما علمْت ، وما اسْتأثر عليك بعلمه فَكِلْهُ إلى عالمه ، لا تقل فيما لا تعلم ، يا منذر ، لا يقل أحدكم : اللهمّ إني أتوب إليك ، ثمّ لا يتوب ، ثمّ تكون كِذْبة ، ولكن قلْ: اللهمّ تُب عليّ ، فيكون دُعاءً ، اللهمّ تُبْ عليّ ؛ هذا دعاء ، أمّا : إنِّي تبْتُ إليك ، وما فعلت، فهذا كذب ، فاجْعل التوبة دعاءً ولا تجعلها خبرًا ، واعْلم يا منذر أنَّه لا خَير في كلامٍ إلا في تهليل الله ، أي التوحيد ، وتحميد الله ، أي الحمْد ، وتسبيح الله ، أيْ التنزيه ، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرّ ، وأمرِكَ بالمعروف ، ونَهْيِكَ عن المنكر وقراءة القرآن ، فقال المنذر : قد جالسْناك فما سمعناك تتمثَّل بالشِّعر ، وقد رأينا بعض أصحابك يتمثَّلون به ؟ فقال : ما من شيءٍ تقوله هناك إلا كتِبَ ، وقُرِئ عليك هناك يوم القيامة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال شطر بيت فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ :
*** أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ***
وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ
[متفق عليه]

أما الشطر الثاني من البيت فغلط ، قال فيه لبيد :
*** وَكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ ***
فنعيم أهل الجنَّة لا يزول ، لذلك لم يذكُره النبي صلى الله عليه وسلم ، أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ :
*** أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ***
ولا يكْمل الكلام ، أما الواحد منَّا فتجِدُه يروي مائة كلمة كلها غلط ، ونحن مُحاسبون بما نقول .
قال : فأنا أكرهُ أن أجد في كتابي بيت شِعْر يُقرأُ عليَّ يوم يقوم الحساب ، ثمّ الْتفتَ إلينا جميعًا ، وقال : أكْثروا من ذِكْر الموت ، فهو غائبكم المُرتقب ، وإنّ الغائب إذا طالتْ غَيبَتُه أوْشكَتْ أوْبَتُه! ثمَّ اسْتعْبَر أيْ بكى ، وقـال : ماذا نصْنعُ غدًا إذا دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا ، وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا ، وجيء يومئذٍ بِجَهَنَّم ؟ قال هلال : وما كاد الربيع أن ينتهي من كلامه حتى أُذِّن للظُّهر ، فأقْبل إلى ابنه ، وقال : هيَّا نُجِبْ داعيَ الله ؟ فقال ابنهُ : أعينوني على حَمْلهِ إلى المسجد جُزيتُم خيرًا ؟ فرفعناهُ ووضعَ يمناهُ على كتف ابنه ، ويُسْراه على كتفي ، وجعل يتهادى بيننا ، فقال المنذر : يا أبا يزيد لقد رخَّص الله لك ، فلو صلَّيْت في بيتك ! فقال : إنَّه كما تقول : ولكنَّني سمعتُ المنادي ينادي حيّ على الفلاح ، فمَن سَمِع منكم المنادي ينادي إلى الفلاح فلْيُجِبْهُ ولو حَبْوًا ، قال عليه الصلاة والسلام : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا *
(رواه ابن ماجة وأحمد)
أي زحفًا ، من شدَّة الخير الذي في صلاة الفجر .
الربيع بن خثيم عَلَمٌ من أعلام التابعين ، وأحدُ الثمانيَة الذين انتهى إليهم الزهد في عصره ، عربيّ الأصل ، مُضَرِيّ الأرومة ، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جدَّيْه ، ونشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله ، وفطم نفسه منذ حداثته على تقواه ، وكانت أُمّه تنام في الليل ، ثمَّ تصْحو فَتجِدُ ابنها اليافع ما زال صافًّا في محرابه ، سابحًا في مناجاته ، مُستغرقًا في صلاته ، فتقول له : يا ربيع ألا تنام ؟ فيقول : كيف يستطيعُ النوم من جنَّ عليه الليلُ ، وهو يخشى البيات؟! مَن لم تكن له بدايةٌ محْرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة ، فتتحدَّر الدموع على خدَّي الشيخة العجوز ، وتدعو له بالخير ، ولمَّا شبّ الربيع ونما ، شبَّ معه ورعُه ، ونمَت بِنُمُوِّه خشيتُهُ من الله تعالى ، ولقد أرَّق أمَّهُ كثرةُ تضرّعه ، وشدَّةُ نحيبه في عتمات الليل ، والناسُ نيام ، حتى ظنَّت به الظنون ، وكانت تقول له : يا بنيّ ما الذي أصابك ؟ لعلَّك أتَيْتَ جُرْمًا ، لعلَّك قتلْت نفسًا، دقِّقوا ! فذنب المؤمن كأنَّه جبلٌ جاثِم على صدره ، وذنب المنافق كأنَّه ذبابة لا يعبأ ، فقال: يا أُمَاهُ لقد قتلت نفسًا !! فقالت في لهْفة : ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسْعَون إلى أهله حتى نجعل أهله يعفون عنك ، واللِه لو علم أهلُ القتيل ما تعانين من البكاء ، وما تُكابدين من السَّهر لرحِموِك، فقال : لا تكلِّمي أحدًا ، فإنَّما قتلتُ نفسي !! لقد قتلتها بالذنوب !!
ولقد تتَلْمذَ الربيع بن خثيم على عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأقرب الصحابة هدْيًا وسمْتًا من النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد تعلَّق الربيع بأُستاذه تعلّق الوليد بأُمِّه ، وأحبّ الأستاذُ تلميذَه حُبَّ الأب لوحيده .
قال أحدهم : بتُّ عند الربيع ليلةً ، فلمَّا أيْقن أنِّي دخلتُ في النوم قام يُصلِّي فقرأ قوله جلّ وعزَّ :
[ سورة الجاثية ]
فمكثَ ليلته يُصلِّي بها ، يبدؤها ويعيدها ، حتى طلع عليه الفجر ، وعَيناه تسُحَّان بالدُّموع سحًّا ، وقال بعض أصحابه : خرجنا يومًا لصُحبة عبد الله بن مسعود ، ومعنا الربيعُ بن خثيم ، فلمَّا صرنا على شاطئ الفرات مررْنا بأتون كبير قد صُعِّرَت نارهُ ، فتطايَر شررها ، وتصاعدَت ألسنةُ لهيبها ، وسُمِعَ زفيرها ، وقد ألقي في الأتون الحجارة لتَحْترِق حتى تصبحَ كلْسا ، فلمَّا رأى الربيعُ النارَ توقَّف في مكانه وعَرتْهُ رِعدةٌ شديدةٌ ، وتلا قوله تعالى :
[ سورة الفرقان ]
ثمّ سقط مغشِيًّا عليه ، فربطْنا معه حتى أفاق من خشْيتِهِ ، ومِلْنَا به إلى بيته .
الشيء الذي لفتُ النظر في حياة الربيع أنَّه يذكر الموت كلّ يوم اسْتعدادًا له ، والمؤمن العاقل لا تغيب عنه هذه الساعة التي لا بدَّ منها ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ كلّ يوم يقول : ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ *
[رواه الترمذي]

أيْ سمَحَ لي أن أعيشَ يومًا جديدًا.
فلمَّا احْتضرَ جعَلَت ابنتهُ تبكي ، فقال لها : ما يُبْكيكِ يا بنيّتي ، وقد أقبلَ على أبيكِ الخيرُ ؟! ثمَّ أسْلم روحهُ إلى بارئها .
يولد الطفلُ وكلّ من حوله يضحك ، إلا هو فيبكي ، وحينما يموت الإنسان كلّ من حوله يبكي ، فإذا كان بطلاً عندها فلْيَضْحكْ ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ قَالَتْ فَاطِمَةُ وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *
[رواه ابن ماجه]

وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت عمار بن ياسر بصفين في اليوم الذي مات فيه وهو ينادي : إني لقيتُ الجبار ، وتزوجتُ الحور العين ، اليوم نلقى الأحبة ؛ محمداً وحِزبه ، عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ آخر زادك من الدنيا ضباحٌ من لَبَن *
[رواه الطبراني في الأوسط]

لقد أعطانا ربُّنا ميزانًا دقيقًا ، قال تعالى :
[ سورة الجمعة ]
إذا لاح للإنسان شبح الموت ، وارْتعدَت فرائسُه ، فهذه علامة خطيرة ، أما إذا لاح له شبح الموت ، وقال : مرحبًا بلِقاء الله ، فهذه علامة على أنَّه محِبّ لله ، ومستقيم على أمره ، وهذا مقياس المؤمن ، والحمد لله رب العالمين .






رد مع اقتباس
قديم 25-04-2009, 10:37 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام


هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.

غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..

يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.

ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟

بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.

انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

ولكن أي واحد كان..؟

ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..

لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.



وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.

ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..



ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...

هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.



ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!


**


كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..

ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.

فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..

أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!

ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.

وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..



ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..

ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...



ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.

وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..

ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..

وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..



ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.

ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..



خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..

ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..

وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:

" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!



لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!

ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..

وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..

وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...

أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!

وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...


**


وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..

كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..

وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..



لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".

لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..



هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..

ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..



ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!

ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..



أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!

وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..

وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!

وفي مثل هدوء البحر وقوته..

وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:

"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".

الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!



كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..

ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!

ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:

"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".

فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..

وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!


**


لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..

وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..

وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..

حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

يد تحمل الراية في تقديس..

ويد تضرب بالسيف في عنفزان..

ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..



لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!

يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:

[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].

وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!

وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!

وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..

كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..

ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:

(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)

هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..


**


وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!

أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!


**


وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..

يقوا خبّاب بن الأرت:

[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..

وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..

وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..

أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!

وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:

"ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".

ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

"أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..


**


السلام عليك يا مصعب..

السلام عليكم يا معشر الشهداء..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته







رد مع اقتباس
قديم 25-04-2009, 10:43 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

جزاك الله خير الدنيا والاخرة
حقا متميزة اخت لؤلؤ







رد مع اقتباس
قديم 26-04-2009, 05:50 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

[quote=محمد صيام;16377]جزاك الله خير الدنيا والاخرة
حقا متميزة اخت لؤلؤ[/quote

شكرا اخى محمد و بارك الله فيك







رد مع اقتباس
قديم 26-04-2009, 05:51 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

عكرمة بن أبي جهلّ!!!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه " مرحباً بالراكب المهاجر " حديث شريف عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشيّ المخزومي وكنيته أبو عثمان ، أسلم بعد الفتح ، فقد كان هارباً الى اليمن وعند عودته قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرحباً بالراكب المهاجر )000وقد حسُنَ إسلامه ، وشارك في حروب الردة000
الهروب تحولت إلي عكرمة رئاسة بني مخزوم بعد مقتل أبيه ( أبو جهل ) في غزوة بدر ، وكان من رؤوس الكفر والغلاة فيه ، فرزقه الله الإسلام000 فقد عهد رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم ، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عكرمة بن أبي جهل ، فركب عكرمة البحر ، فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة لمن في السفينة أخلصوا ، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا )000فقال عكرمة لئن لم يُنجّني في البحر إلا الإخلاص ما يُنجّيني في البرّ غيره ، اللهم إنّ لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أني آتي محمداً حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنّه عفواً كريماً )000 الأمان وأسلمت زوجته ( أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ) يوم الفتح ، فقالت يا رسول الله ، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن ، وخاف أن تقتله فآمنهُ )000فقال رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- هو آمن )000فخرجت في طلبه ، فأدركته باليمن ، فجعلت تلمح إليه وتقول يا ابن عم ، جئتُك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك )000فوقف لها حتى أدركته فقالت إني قد استأمنتُ لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- )000قال أنتِ فعلتِ ؟)000قالت نعم ، أنا كلمتُهُ فأمّنَك )000فرجع معها000 الإسلام قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً ، فلا تسبّوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحي ، ولا تبلغ الميت )000 فلمّا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمناً على دمه قال له مرحباً بالراكب المهاجر أو المسافر )000فوقف بين يديه ومعه زوجته متنقبة فقال يا محمد ، إنّ هذه أخبرتني أنك أمّنتني ؟!)000فقال رسول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- صدقتْ ، فأنت آمن )000قال عكرمة فإلام تدعو ؟)000قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل )000حتى عدّ خصال الإسلام000فقال عكرمة واللـه ما دعوت إلا إلى الحـق ، وأمر حسن جميل ، قد كنت واللـه فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنتَ أصدقنا حديثاً ، وأبرّنا أمانة )000ثم قال عكرمة فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )000 فسُرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم قال يا رسول الله ، علّمني خير شيءٍ أقوله )000 قال تقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله )000ثم قال ثم ماذا ؟)000 قال تقول : اللهم إني أشهدك أنّي مهاجر مجاهد )000فقال عكرمة ذلك000 ثم قال النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- ما أنتَ سائلي شيئاً أعطيه أحداً من الناس إلا أعطيتك )000فقال أمّا إني لا أسألك مالاً ، إني أكثر قريش مالاً ، ولكن أسألك أن تستغفر لي )000وقال كل نفقة أنفقتُها لأصدّ بها عن سبيل اللـه ، فوالله لئن طالت بي حياة لأضعفنّ ذلك كله )000فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم اغفر له كلّ عداوةٍ عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك ، واغفر له ما نال مني ومن عرضٍ في وجهي أو أنا غائب عنه )000فقال عكرمة رضيتُ يا رسول الله )000 وكان إسلام عكرمة سنة ثمان من الهجرة ، فأسلم وكان محمود البلاء في الإسلام ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال لا والذي نجّاني يوم بدر )000 المنام وقيل أن رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- قد رأى في منامه أنه دخل الجنة ، فرأى فيها عذقاً مذللاً فأعجبه فقيل لمن هذا ؟)000فقيل لأبي جهل )000فشقّ ذلك عليه وقال ما لأبي جهل والجنة ؟ والله لا يدخلها أبداً )000فلمّا رأى عكرمة أتاه مسلماً تأوّل ذلك العذق عكرمة بن أبي جهل000 الأحياء والأموات وقدم عكرمة المدينة ، فجعل كلّما مر بمجلس من مجالس الأنصار قالوا هذا ابن أبي جهل )000فيسبّون أبا جهل ، فشكا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال الرسول الكريم لا تُؤذوا الأحياء بسبب الأموات )000وكان عكرمة يضع المصحف على وجهه ويقول كلامُ ربي )000 جهاده استعمله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على عُمان حين ارتدوا ، فقاتلهم وأظفره الله بهم ، ولما ندب أبو بكر النّاس لغزو الروم ، وقدم الناس فعسكروا بالجُرْفِ -موضع من المدينة نحو الشام- خرج أبو بكر يطوف في معسكرهم ، ويقوي الضعيف منهم ، فبصر بخباءٍ عظيم ، حوله المرابط ، ثمانية أفراس ورماح وعـدّة ظاهرة ، فانتهى إلى الخبـاء ، فإذا خباءُ عكرمة فسلّم عليـه ، وجزاه أبو بكر خيـراً ، وعرض عليه المعونة ، فقال له عكرمة أنا غني عنها ، معي ألفا دينار ، فاصرِفْ معونتك إلى غيري )000فدعا له أبو بكر بخير000 الشام والشهادة استشهد عكرمة بن أبي جهل في عام 13 هـ في خلافة أبو بكر الصديق يوم ( مرج الصُّفَّر )000وقيل في اليرموك سنة ( 15 هـ ) في خلافة عمر ، ولم يُعقِب000 فلمّا كان يوم اليرموك نزل فترجّل فقاتل قتالاً شديداً ، ولمّا ترجل قال له خالد بن الوليد لا تفعل ، فإنّ قتلك على المسلمين شديد )000فقال خلّ عني يا خالد ، فإنه قد كان لك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سابقة ، وإني وأبي كنّا مع أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)000فمشى حتى قُتِل ، فوجدوا به بضعةً وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية000 وقيل أنه قال يوم اليرموك قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن ، وأفر منكم اليوم ؟!)000ثم نادى مَنْ يُبايع على الموت ؟)000فبايعه الحارث بن هشام في أربع مائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا حتى أثبتوا جميعاً جراحةً وقُتِلوا إلا من نبأ


م ن







رد مع اقتباس
قديم 26-04-2009, 10:01 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

الحسن البصري


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس السابع من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم ، والتابعيّ في هذا الدرس هو سيدنا الحسن البصري ، وهو علَم من أعلام التابعين ، وفي قصَّته موعظة بليغة جدًّا .
أيها الإخوة الكرام ؛ يقول اللهُ عزوجل :
[سورة يوسف]
ويقول تعالى في موضع آخر :
[سورة هود]
أي إنَّ القصة لها دور في التربية والتعليم يفوق حدَّ التَّصوُّر ، لماذا ؟ لأن القصة حقيقة مع البرهان عليها ، فأنت حينما تتلقَّى الحقائق بشكل مجرَّد قد تقنعك ، ولكنها لا تهزُّك ، وثَمَّة فرقٌ بين إحداث القناعة ، وبين إحداث الموقف ، القصةُ تنطوي على حقيقة ، لكنها مجسَّدة في شخص مِن جلدتك وعلى شاكلتك ، يشعر بما تشعر ، و يتألَّم بما تتألَّم ، ويتحمَّل الضغوط نفسها ، وتغريه الشهوات نفسها ، ويقف هذا الموقف الكامل ، هذا من شأنه أن يحدث فيك موقفا ، وشتَّان بين القناعة وبين الموقف ، القناعة تستقرُّ في الدماغ ، ولكن الموقف يتغلغل إلى كيان الإنسان ، كم من طبيب مقتنع أشدَّ القناعة أنّ الدخان حرام ، أو أنّ الدخان مُؤْذٍ وضار ، ومع ذلك يدخِّن ، ولكن حينما يقف أمام غرفة العمليات ، ويرى بأمِّ عينه إنسانا شابًّا سويًّا قويًّا متينا ، في أوجِّ نجاحه وعطاءه ، مُصاب بسرطان في الرئة ، هذا المنظر يحدث في الطبيب موقفا ، فيدَع بسببه الدخان ، أما المقالات فتحدث له قناعة فحسب ، والقناعة شيء ، والموقف شيء آخر ، فإذا قنعت فربَّما كان تصرُّفُك بعيدا عن قناعتك ، لكنك إذا تأثَّرت هذا التأثُّر يحدث موقفا ، وهذا التأثر يتغلغل في كيانك كله حتى يسهم في إحداث موقف ، لذلك نحن نتمنى المواقف لا القناعات، والقناعات متوافرة ، فما من مسلم إلا وهو قناعة أن دينه حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، لكن لماذا المعصية ؟ ولماذا الانحراف ؟ ولماذا التقصير ؟ لأن القناعات متوفرة ، لكن التأثير ضعيف ، لذلك أردتُ أن يكون هذا الدرسُ درس قصة إسلامية حتى تروا إنسانا يشترك معك في كل شيء ، وتشترك معه في كل شيء ، ومع ذلك كان في أعلى علِّيِّين .
أيها الإخوة ؛ البشير هو الذي يبشِّر ، جاء البشيرُ يبشِّر زوج النبي أمِّ سلمة رضي الله عنها بأن مولاتها خيرة قد وضعت حملها ، وولدت غلاما ، فغمرت الفرحةُ فؤادَ أم المؤمنين رضوان الله عليها ، وطفحَت البشرى على محيَّاها النبيل الوقور ، جارية عند أم سلمة اسمُها خيرة ، أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة و السلام ، ولها خصائص وميزات تنفرد بها ، وبادرت فأرسلت رسولا ليحمل إليها الوالدة ومولودها ، لتقضيَ فترة النفاس في بيتها ، في بيت أم سلمة ، فسيدنا الحسن البصري هو هذا الغلام ، أين نشأ ؟ في بيت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة و السلام ، فقد كانت خيرة أثيرة عند أم سلمة حبيبةً إلى قلبها ، ولسنا في معرض الدخول في موضوع العبيد والجواري ، فقد ولَّى الزمنُ الذي كان فيه العبيد و الجواري ، ولكن من أجل أن تعلَموا أن زيد بن ثابت حينما وصل إليه أهله ، وكان عند النبي وخيَّره النبيُّ بين أن يذهب مع أهله وبين أن يبقى عنده ، فاختار النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، ولكم أن تفهموا من هذه القصة كلَّ شيء ، لماذا اختار زيدُ بن ثابت أن يبقى عند النبي ؟ لشدَّة الرحمة والعطف الذي وجدهما في بيت النبي، و على كلٍّ فهذه الجارية المولاة لأم سلمة لا تقلُّ عن ابنتها حبًّا وعطفا ورحمة ، فلما ولدت غلاما دعت الأمَّ ومولودها لتقبع في بيت أم سلمة ، وكان بها لهفة وتشوَّقٌ لرؤية وليدها البكر .
أيها الإخوة ؛ النظام الإسلامي أو المنهج الربَّاني يجعل حياة المؤمن كلَّها سعادة ، فحينما يتزوَّج يسعد بزوجته ، وبعد حين يسعد بأولاده ، وبعد حين آخر يسعد بأولاد أولاده ، وكلُّ طور من أطوار المؤمن فيه نوع من السعادة ينفرد بها هذا الطَّورُ ، لكن حياة الانحراف ما دامت هذه الفتاة شابَّةً نضرة لها من يطلبها ، فإذا سلكت طريقَ الحرام ، وزوى جمالُها ، وكبرت سنُّها أُلقيت في الطريق كما تُلقى الفأرة الميَّتة ، وازِن الآن بين فتاة تزوَّجت ، وأنجبت ، وأصبحت أمًّا، ثم أصبحت جدَّةً ، وازنْ بين مكانتها الرفيعة ، الجدة لها مكانة كبرى في أيِّ أسرة ، وازنْ بين مكانتها كامرأة ذات خبرة وعلم ومكانة ، وبين امرأة ملقاةٍ في قارعة الطريق ، لأنها سلكت في أيام شبابها طريق الحرام ، فلما زوى جمالُها أُلقيت في الطريق ، ولذلك أنا أعرف أنّ ما مِن امرأةٍ منحرفةٍ ترى فتاةً تحمل وليدها إلا وتذوب كما تذوب الشَّمعةُ ، تمنِّيًا أن يكون مثلها ، فتطبيقُ منهج الله عزوجل يمنح الإنسانَ سعادة ما بعادها سعادة ، والعوام يقولون كلمة : "ما فيه أغلى من الولد إلا ولد الولد " ، الشباب يسمعون هذه الكلمة ، ولكن لا يستوعبونها ، أما إذا أنجبتَ أولادا ، وأنجب أولادك أولادا تعرف قيمة هذه الكلمة ، وحياة الإنسان كل سن له متعة ينفرد به ، و ما هو إلا قليل حتى جاءت خيرةُ تحمل طفلها على يديها ، فلما وقعت عينا أمِّ سلمة على الطفل امتلأت نفسُها أُنْسًا به وارتياحا له ، ثم إنك إذا تأمَّلت حكمة الله عزوجل ، فما حكمة الله أن هذا الطفل الصغير محبَّبٌ إلى القلوب يتميَّز بصفات نفسية نادرة ، الصفاء ، الذاتية ، العفوية ، وبالتعبير الشائع " السُّوَيعاتية " ، هذا الطفل لو أحزنته و لو أبكيته فبعد ثانية ينسى ويضحك ، ليس عنده حقد ، ولو أن كل طفل حقد على أمه وأبيه إذا أدَّبوه فالقضية كبيرة جدا ، ذاتية على صفاء ، على لطف ، على فطرة سليمة ، فالأولادُ يملؤون البيت بهجة وسرورا ، فإذا الإنسان رزقه اللهُ الأولادَ فهذه نعمة ، فلا يضجر ، لأنّ هناك من يضجر ، هذه نعمة كبرى خصَّك الله بها ، أنت عليك أن تعتنيَ بهؤلاء الأولاد كي يكونوا استمرارًا لك .
كان هذا الوليدُ الصغيرُ قسيمًا وسيمًا - أي جميلا حسن الوجه - بهيَّ الطلعة ، تامَّ الخِلقة ، يملأ عينَ الناظر إليه ، ويأسر فؤادَ رائيه ، ثم التفت إلى وملاتها ، و قالت :" أسمَّيتِ غلامك يا خيرة ؟ قالت : كلا يا أمَّاه ، لقد تركتُ ذلك لك لتختاري له من الأسماء ما تشائين ، فقالت نسمِّيه على بركة الله الحسن ، ثم رفعت يديها ، ودعت له بصالح الدعاء " ، والنبي علَّمنا أنّ على الإنسان أنْ يسمِّيَ قبل أن يقارب أهله ، فإذا جاءه مولودٌ يأتي هذا المولودٌ بعيدا عن نزغات الشيطان ، وهذا من السنة ، فمن والده ؟ الفرحة بهذا المولود لم تقتصر على بيت أم سلمة أم المؤمنين ، وإنما شاركها بيتٌ آخر من بيوت المدينة ، هو بيتُ الصحابي الجليل زيدِ بنِ ثابتٍ كاتبِ وحيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن يسارًا والدَ الصبي كان مولًى له أيضا ، فالوالد مولى لسيدنا زيد بن ثابت ، والوالدة كانت مولاة لسيدتنا أم سلمة زوج النبي عليها رضوان الله ، وكان من آثر الناس عنده ، وأحبِّهم إليه ، بصراحة أقول لإخواننا الذين عندهم محلاَّت تجارية : هذا الموظَّف ، أو بالتعبير القديم " الصانع" هذا أحد أولادك ، هكذا الإيمان ، أي باللطف والإحسان والمودَّة والعطف والمحبَّة ، هكذا الإسلام ، ليس هناك تفرقة ، أنا أقول لكم كلمة اعتبروها شطحةً : واللهِ إنْ لم تعاملْ مَن عندك كما تعامل ابنَك فلن ترقى عند الله ، فالقضية دقيقة جدا ، والإيمان مرتبة عالية فالإسلام كمال ، والإسلام عدالة ورحمة ، وخلُق ، و عطاء ، وليس أخذا ، يقولون كلمة بالتعبير الحديث " استراتيجية " أنا أقول : استراتيجية المؤمن مبنية على العطاء ، واستراتيجية الكافر على الأخذ ، حتى إنه قيل : انظُر ما الذي يسعدك ، أن تعطي أو أنْ تأخذ ، فإن كان الذي يسعدك أن تعطي فأنت من أهل الآخرة ، وإن كان الذي يسعدك أنْ تأخذ فأنت من أهل الدنيا ، هذه علامة .
درجَ الحسنُ بن يسار الذي عُرف فيما بعد بالحسن البصري في بيت من بيوت رسول اله صلى الله عليه و سلم ، ورُبِّيَ في حجر زوجةٍ من زوجات النبي ، هي هند بنت سٌهيل ، المعروفة بأم سلمة ، وأمُّ سلمة إنْ كنتَ لا تعلم أيها الأخ الكريم كانت من أكمل نساء العرب عقلا ، وأوفرهن فضلا ، وأشدهن حزما ، حزم على عقل ، على فضل ، وكانت من أوسع زوجات رسول الله صلى الله عليه سلم علما وأكثرهن رواية عنه ، إذْ روت عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم ثلاثمائة وسبعة و ثمانين حديثا ، كانت راويةً لحديث عن رسول الله ، ولا يوجد أروع من العلم مع الخُلق ، فالذي يرفعك إلى أعلى عليِّين أن تكون أخلاقيا بقدر ما أنت عالم ، وأنت عالم بقدر ما أنت أخلاقي ، هذان الخطَّان إذا ارتقيتَ فيهما فأنت في أعلى عليِّين ، و كانت إلى ذلك كلِّه من النساء القليلات النادرات اللواتي يكتبن في الجاهلية ؛ وإنما امتدَّت إلى أبعدَ من ذلك ، فكثيرا ما كانت خيرة أمُّ الحسن تخرج من البيت لقضاء بعض حاجات أم المؤمنين ، فكان الطفلُ الرضيع يبكي من جوعه ، ويشتدُّ بكاؤه ، فتأخذه أمُّ سلمة إلى حجرها ، وتلقمه ثديها لتصبِّره ، وتعلِّله عن غياب أمه ، إذًا هذا التابعيُّ الجليل رضع من زوجة رسول الله ، فكأن النبيَّ أبوه من الرضاعة ، وكانت لشدَّة حبِّها إياه يدرُّ ثديُها لبنا سائغا في فمه فيرضعه الصبيُّ ، ويسكت عليه ، وبذلك غدت أمُّ سلمة أمًّا للحسن من جهتين ؛ فهي أمُّه بوصفه أحد المؤمنين ، لأنها أمُّ المؤمنين ، وهي أمُّه من الرضاعة أيضا ، ولقد أتاحت الصِّلاتُ الواشجة بين أمهات المؤمنين وقرب بيوت بعضهن ببعض بالغلام السعيد أن يتردَّد على هذه البيوت كلها ، وبالمناسبة و هذا من فضل الله علينا ، لقد شاء حكمةُ اللهِ عزوجل أن تولد في بلد إسلامي ، فيه مساجد ، وفيه مجالس علم ، وفيه أهل ، وفيه بقيّةُ حياء ، وبقية أخلاق ، وبقية انضباط ، نقول : بقية ، ولو أن الإنسان وُلد في " شيكاغو" الأمريكية مثلا ، أو في "نيس" الفرنسية ، ففي هذه المدن الفاسقة الفاجرة عصابات للخمور والزنا و اللواط ، واللهِ هذه نعمة كبرى ، أن الله عزوجل سمح لك أن تكون في بلد سلامي ، وسمح لك أن يسمعك الحقَّ ، هذه بشارة أيها الإخوة ، قال تعالى :
[سورة الأنفال]
أحيانا لا يعرف الإنسانُ قيمة هذه المجالس إلا إذا سافر ، فيشعر بوحشة و ضيق ، فلا يعرف قيمة هذه المجالس إلا مَن ابتعد عن بلاد المسلمين ، ومَن أقام في بلاد المشركين من دون ضرورة فقد برئت منه ذمَّة الله .
تردَّد الحسنُ البصري على بيوت رسول الله ، وتخلَّق بأخلاق ربَّاتها جميعا ، و اهتدى بهديهم ، وقد كان كما يحدِّث عن نفسه يملأ هذه البيوت بحركته الدائبة ، و يُترعها بلعبه النشيط، حتى إنه كان ينال سقوف بيوت أمهات المؤمنين بيديه ، وهو يقفز فيها قفزا ، فالذي عنده ابنٌ عفريت - بالتعبير الشائع - لا يتألَّم كثيرا ، ورد في بعض الأحاديث : كثرة العُرام في الصغر دليل حصافة العقل في الكبر" ، كان طفلا شيطانا ، و بتعبير العوام " جني شاقق الأرض " ، هذا قد يكون في مستقبله الكبير إنسانا عظيما ، حيويته شديدة جدا ، وطاقته مخزونة ، أحيانا هناك إنسان بليد سكوني " سلاتيك" ، وليس ديناميكيًا ، فكثرة العرام في الصغر دليل حصافة العقل في الكبر .
ظلَّ الحسن يتقلَّب في هذه الأجواء العبِقة بطيوب النبوة ، المتألَّقة بسناها ، نحن ما أتيح لنا أن نلتقيَ بنبيٍّ ، لكن أنا أتصوَّر أن الإنسان لو التقى بنبيٍّ فهذا شيء كبير وعظيم ، وكان أحدُ الصحابة اسمه ربيعة يخدم النبيَّ ، فلما يأتي وقتُ نوم النبيِّ يقول له : انصرف ، انتهى ، أين ينام هذا الصحابي ؟ على طرف باب بيت النبي ، من شدة تعلُّقه به ، فكمالُ الإنسان إذا كان في أَوَّجِّه لا يُصدَّق ، أنا أتصوَّر أن الصحابة الكرام أحبُّوا النبيَّ حبًّا فات حدَّ الخيال ، هل هناك امرأة تتحمَّل نبأَ موت زوجها ، ثم موت أخيها ، ثم موت أبيها ، زوج ، وأخ ، وابن ، وأب ، وراء بعضهم ؟ فعن سعد بن أبي وقاص قال : مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فلما نعوا لها، قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ؛ قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ؟ قال : فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ! تريد صغيرة *
[سيرة ابن هشام]
لا قيمة لها ، هكذا أحبَّ الصحابةُ رسولَ الله .
إخواننا الكرام الإسلام كلُّه حبٌّ ، فإذا كان القلبُ لا يخفق بالحبِّ فهو مثل وردة بلاستيك ، كبيرة وحمراء ، ولكنَّ النفس لا تهفو إليها ، أما الوردة الطبيعية فشيء جميل جدًّا ، فلا إيمان لمن لا محبَّة له ، وإذا لمْ تحب الله عزوجل فلن تدمع هذه العينُ أبدا ؟ تقرأ القرآن وكأنه كتاب عادي ، وتصلِّي وكأنك في حركات رياضية ، أين الحبُّ ، وأين المناجاة ؟ و أين أنت من قوله تعالى :
[سورة الأنفال]
[سورة السجدة]
أين هذه ؟ أين :
[سورة الذاريات]
أين هذه ؟
هذا التابعي الجليل تتلمذ على أيدي كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن عثمانَ بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وغيرهم ، لكنه أُولِع أكثر ما أولع بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والإنسان الذي لا قدوة له ما هذا الإنسان ؟ إنسان ليس له منهلٌ علمي ؟ إنسان ليس له مسجد يؤمُّه ، ليس له إخوان يستأنس بهم ، يعيش تائها شاردا ، على هامش الحياة .
إخواننا الكرام ***ة رحمة ، والفرقة عذاب ، ولزوم ***ة من فرائض الدين ، فعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ أَيْنَ مَسْكَنُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : فِي قَرْيَةٍ دُونَ حِمْصَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ فَلَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَوَاتُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ *
[رواه أحمد]

قال تعالى :
[سورة التوبة]
وقال تعالى :
[سورة الكهف]
راعه من هذا الصحابي الجليل صلابتُه في دينه - سيدنا علي - وإحسانه لعبادته ، وزهادته في زينة الدنيا ، وغلبه بيانُه المشرِق ، وحكمته البالغة ، وأقواله الجامعة ، وعظاته التي تهزُّ القلوبَ ، وتخلَّق في أخلاقه بالتقى والعبادة ، ونسج على منواله في البيان والفصاحة ، ولما بلغ الحسنُ أربعة عشر ربيعا من عمره ، ودخل في مداخل الرجال ، انتقل مع أبويه إلى البصرة ، واستقرَّ فيها مع أسرته ، ومِن هنا نُسِب الحسنُ إلى البصرة ، وعُرِف بين الناس بالحسن البصري، والبصرة كانت يومئذ قلعةً من أكبر قلاع العلم في عالَم المسلمين ، وكان مسجدُها العظيم يموج بمَن ارتحل إليها من كبار الصحابة ، وجلَّة التابعين ، وكانت حلقاتُ العلم على اختلاف ألوانها تعمر باحات المسجد ومُصَلاَّه ، والآن مع تخلُّف المسلمين صار المسجد للصلوات فقط ، وأحيانا تجد مسجدا طويلا عريضا ، يُصَلَّى الظهر فيه بنصف صف ، وفي الصبح بثمانية أشخاص ، ويكون ضمن أبنية ، وكل بناية اثنا عشر طابقا ، و كل طابق أربع شقق ، فلو أَمَّتْ بناية واحدة هذا المسجد لملأته عن آخرِه ، قال تعالى:
[سورة مريم]
إنّ الأبلغ من ذلك أنّ المسجد كان له دور خطير ، فكان المسجد موطِنًا للقضاء ، وموطنًا للعلم ، الآن أنا أتمنى أن يعود للمسجد دوره الخطير ، يخرِّج علماءَ ، و يخرِّج دعاةً ، ويخرِّج حفَّاظ القرآن الكريم ، وأنْ تُحلَّ المشكلات فيه ، ويكون له رسالة واسعة جدًّا .
لزم الحسنُ البصري المسجد ، وانقطع إلى حلقة عبد الله بن عباس حبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عنه التفسير ، والحديث ، والقراءات ، كما أخذ عنه وعن غيره الفقهَ واللغةَ والأدب وغيرها ، حتى غدا عالما جامعا فقيها ثقةً ، فأقبل الناسُ عليه ينهلون من علمه الغزير .
أيضا إخواننا الكرام ، تعلَّموا قبل أن ترأسوا ، فإن ترأستم فلن تعلَّموا ، سمعتُ عن أحد العلماء الذين عاشوا في القرن الرابع عشر جلس يدرِّس العلم ، فأخطأ خطيئة واحدة ، أو غلطة واحدة ، فاعتكف سبع سنين في بيته ، غلطة واحدة ، تعلموا قبل أن ترأسوا ، لأنكم إن ترأستم فلن تعلَّموا ، واحد روى حديثا ضعيفا ، بأدب قال له : يا سيدي هذا حديث ضعيف ، قال : ما دمتُ قد قلتُه فهو صحيح ، ما هذا الكبر ؟ ما دمت قد قلته فهو صحيح ، وانتهى الأمرُ ، إنكم إن ترأستم فلن تعلَّموا ، تكبر نفسك كثيرا ، فإذا أراد الواحدُ أن يكون داعيةً إلى الله عزوجل فلْيَطلب العلم بشكل كثيف جدا ، حتى إذا أُتيح له أن يعلِّم يكون قد نضج ، ولا يوجد شيء يُزري بالإنسان كالجهل ، فالتفَّ الناسُ حول الحسن البصري يسيخون إلى مواعظه التي تستلين القلوبَ، وتستدرُّ الدموعَ ، ويَعُونَ حكمته التي تخلب الألباب ، ويتأسَّون بسيرته التي كانت أطيبَ مِن نَشر المسك ، وقد انتشر أمرُ الحسن البصري في البلاد ، وفشا ذكرُه بين العباد .

دقَّق أيها الأخ الكريم في قوله تعالى :

[سورة الشرح]
لا يوجد إنسان يطلب العلم بإخلاص إلا رفعه الله عزوجل ، أحيانا تجد أسماءً متألِّقة ، أسماء علماء متألِّقين جدا ، هذا كان دولاتيًّا ، وهذا كان لحَّامًا ، وهذا كان نجَّارا ، لا يخطر ببالك أن يُذكر العالِم مليون مرة أنه كان نجَّارا ، وصار أكبر بكثير من أن يكون نجَّارا ، صار عالما ، لأنّ رتبة العلم أعلى الرتب ، ولما يطلب الإنسانُ العلمَ بإخلاص يرفع اللهُ شأنَه ، قال تعالى :
[سورة الشرح]
إنّ كلَّ آية يختصُّ بها النبيُّ عليه الصلاة والسلام فللمؤمن منها نصيب ، انتشر أمرُ الحسن في البلاد ، وفشل ذكرُه بين العباد ، فجعل الخلفاءُ والأمراءُ يتساءلون عنه ، ويساقطون أخبارَه .
[سورة الشرح]
حدَّث خالد بن صفوان فقال : لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة فقال لي : أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة ، فإني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير ؛ أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم ، قال : أنا جارُه في بيته ، وجليسه في مجلسه ، و أعلم أهل البصرة به ، قال : هاتِ ما عندك - هل هناك ثروة أعظم من أن يكون لك أخبار طيِّبة بين الناس ، وسمعة عطرة ، هل هناك ما هو أعظم من أن يثنيَ عليك الناسُ في غيبتك ، أمّا في حضرتكف المديح لا قيمة له ، لأن هناك من يخافك ، وهناك من يطمع في عطائك ، فيكيل لك المديح جُزافا ، لكن البطولة أَنْ يمدحك الناسُ في غيبتك ، هذا هو المدح الحقيقي ، وأنت غائب ، مرة سمعتُ عن رجلٍ استلم وظيفة ، طبعا شديد وقوي ، بحضرته يحترمونه أشدَّ الاحترام ، فإذا غاب " أبو بريز " مثلا ، البطولة ما يُقال في غيبتك ، لا ما يقال في حضرتك ، في غيبتك ، أما في حضرتك فنفاق في نفاق ، قد يقول قائل كلاما ليس مقتنعا به ، وقد يقول قائل كلاما مبنيًّا على خوف ، أو على طمع ، قال : هاتِ ما عندك - الآن اسمعوا الوصفَ - قلتُ : إنه امرؤٌ - و اللهِ هذه الكلمات تُكتب بماء الذهب - قلتُ إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته - لا توجد ازدواجية ، موقف معلَن ، وموقف حقيقي ، شيء يقال ، وشيء لا يقال ، شيء نفعله في العلن ، ونفعل عكسه في السرِّ ، هذه الازدواجية المقيتة ، وهذا النفاق الحسنُ البصري بريء منه - قال له : إنه امرؤ سريرته كعلانيته - واحدة - و قوله كفعله ، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له ، ولقد رأيتُه مستغنيا عن الناس ، زاهدا بما في أيديهم ، ورأيت الناس محتاجين إليه ، طالبين ما عنده " فقال مسلمةُ : حسبُك يا خالد كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا " ، احفظوها سريرته كعلانيته ، قولُه كفعله ، إذا أمر بمعروف كان أعملَ الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أتْركَ الناس له ، يستغني عن دنيا الناس ، ويحتاج الناس علمَه ، سأله واحد : بِمَ نِلتَ هذا المقام ؟ قال : باستغنائي عن دنيا الناس ، وحاجتهم إلى علمي "، فكيف إذا كان العكسُ ؟ الناسُ مستغنون عن علمه ، وهو محتاج إليهم ، واللهِ هذا شأنُ بعضِ مَن لم يُوفَّق في دعوته إلى الله عزوجل ، الناسُ مستغنون عن علمه ، وهو في أشدِّ الحاجة إلى أموالهم ، وإلى قوتهم .
ولما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ ، وطغى في ولايته وتجبَّر ، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه ، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه ، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام ، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه ، وهو يتميَّز من الغيظ ، وقال لجلاَّسه : تبًّا لكم ، سُحقا ، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ، و يقول فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يردُّه ، أو ينكر عليه ، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع - إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع ، والنطع قطعة قماش كبيرة ، أو قطعة جلد ، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه ، لا يلوِّث الدمُ الأثاث ، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر ، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه ، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده ، وأمرهم أن يأتوا به ، ويقطعوا رأسه ، وانتهى الأمرُ ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ ، ووجفت عليه القلوبُ ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه ، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلالُ المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقارُ الداعية إلى الله ، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة ، وقال له : ها هنا يا أبا سعيد ، تعالَ اجلس هنا ، فما زال يوسع له و يقول : ها هنا ، والناس لا يصدَّقون ما يرون ، طبعا طُلب ليقتل ، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز ، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه ، فكيف يستقبله الحجَّاج ، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد ، حتى أجلسَه على فراشه ، ووضَعَه جنبه ، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين ، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت ، وبيان ساحر ، وعلم واسع ، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد ، ثم دعا بغالية - نوع من أنواع الطيب - وطيَّب له بها لحيته ، وودَّعه ، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج ، وقال له : يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك ، دعاك ليقتلك ، والذي حدث أنه أكرمك ، وإني رأيتك عندما أقبلت ، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك ، فماذا قلت ؟ فقال الحسن : لقد قلت : يا وليَ نعمتي ، وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم ، قال تعالى :
[سورة النمل]
لقد علَّمنا اللهُ في القرآن شيئًا أصعب من قطع الرأس ؛ أنْ يكون الإنسان في بطن حوت ، وفي الليل ، وفي البحر ، قال تعالى :
[سورة الأنبياء]
إخواننا الكرام ؛ مَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء ، ومَن لم يهب اللهَ أهابه اللهُ مِن كل شيء ، حتى يصبح خائفًا من ظله .
مِن هذه المواقف البطولية أنه بعد أن انتقل الخليفةُ الزاهد عمر بن عبد العزيز إلى جوار ربِّه، وآلت الخلافةُ إلى يزيد بن عبد الملك ، ولَّى على العراق عمر بن هبيرة الفزاري ، ثم زاده بسطةً في السلطان ،فأضاف إليه خراسان أيضا ، وسار يزيد سيرةً غير سيرة سلفه العظيم ، يزيد لم يكن على سيرة عمر بن عبد العزيز ، فكان يرسل إلى عمر بن هبيرة بكتاب تلوَ الكتاب يأمره بإنفاذ ما فيه ، ولو كان مجافيا للحقِّ ، أحيانا يزيد يرسل كتبا وأوامرَ وتوجيهات لواليه على البصرة و خراسان ، هذه الأوامر مجافيةٌ للحق ، أي فيها ظلم ، فدعا عمرُ بن هبيرة كلاًّ من الحسن البصري وعامر بن شرحبيل ، المعروف بالشعبي ، وقال لهما : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه اللهُ على عباده ، وأوجب طاعته على الناس ، وقد ولَّاني ما ترون من أمر العراق ، ثم زادني فولاَّني فارسا ، وهو يرسل إليَّ أحيانا كتبا يأمرني فيها بإنفاذ ما لا أطمئن إلى عدالته ، فهل تجدان لي في متابعتي إياه ، وإنفاذ أمره مخرجا في الدين ؟ أي هل هناك فتوى ؟ فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة ، ومسايرة لل- يا ابن هبيرة خفِ اللهَ في يزيد ، ولا تخف يزيدَ في الله ، واعلم أنّ الله جلَّ وعزَّ يمنعك من يزيَد ، وأنّ يزيدَ لا يمنعك من الله ، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملكُ غليظ شديد ، لا يعصي اللهَ ما أمره ، فيزيلُك عن سريرك ، وينقلك من سَعة قصرك إلى ضيق قبرك ، حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنما تجد عملك الذي خالفتَ فيه ربَّ يزيد ، يا ابن هبيرة إنك إن تكُنْ مع الله تعالى في طاعته يكفِك ضائقةَ يزيد في الدنيا والآخرة ، وإنْ تكُن مع يزيد في معصية الله تعالى فإنّ الله يكِلُك إلى يزيد ، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والي ، والحسن ساكت ، فالتفت عمرُ بن هبيرة إلى الحسن ، وقال : وما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : يا ابن هبيرة - واللهِ هذا كلام يُكتب بماء الذهب اسمعوا " فبكى ابن هبيرة حتى بلَّت دموعُه لحيته ، ومال عن الشعبي - تركه - إلى الحسن ، وبالغ في إعظامه و إكرامه ، فلما خرجا من عنده - الشعبي والحسن - توجَّها إلى المسجد ، فاجتمع الناسُ عليهما ، وجعلوا يسألونهما عن خبرَيْهِما مع أمير العراقين - مثل الآن العراق وإيران ، والي العراق وإيران ، هذا ملِك - فالتفت الشعبي إليهم وقال : - كذلك الشعبي منصِف - أيها الناسُ من استطاع منكم أن يؤثر اللهَ عزوجل على خلقه في كل مقام فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسنُ لعمر بن هبيرة قولا أجهله - الذي تحدَّث به أعرفه أنا - و لكنني أردتُ فيما قلت وجهَ ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجهَ الله ، أنا سايرتُ ، ولكني أردتُ فيما قلته وجهَ ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجهَ الله ، فأقصاني اللهُ من ابن هبيرة و أدناه منه و حبَّبه إليه " ، فمَن أرضى الناسَ بسخط الله سخِط عنه اللهُ ، وأسخطَ عنه الناسَ ، ومَن أرضى اللهَ بسخط الناس رضيَ عنه اللهُ ، وأرضى عنه الناسَ .
ومن أقوال الحسن :"إن مثل الدنيا والآخرة كمثل المشرق والمغرب ، متى ازدَدْتَ من أحدهما قربا ازدَدْتَ من الآخرة بعدا " ، وقال له أحدُهم : صِف لي هذه الدارَ - دار الدنيا - قال : ماذا أصف لك من دارٍ أولها عناء ، وآخرها فناء ، وفي حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، مَن استغنى فيها فُتِن ، ومَن افتقر فيها حزن " ، وسأله آخر أيضا : ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ قال : لقد أهزلنا ديننا ، وسمَّنا دنيانا ، وأخلقنا أخلاقنا ، وجدَّدنا فرشَنا وثيابنا ، يتَّكئُ أحدنا على شماله ، ويأكل من مالٍ غير ماله ، طعامه غصبٌ ، و خدمته سُخرة ، يدعو بحلوٍ بعد حامض ، وبحارٍّ بعد بارد ، وبرطبٍ بعد يابس ، حتى إذا أخذته القِظَّةُ تجشَّأ من البشم ، ثم قال : يا غلام هات هضوما - أي " كازوزا " - يهضم الطعام ، يا أُحَيْمق واللهِ لن تهضم إلا دينك ، أين جارُك المحتاج ؟ أين يتيمُ قومك الجائع ؟ أين مسكينُك الذي ينظر إليك ؟ أين ما وصَّاك به اللهُ عزوجل؟ ليتك تعلم أنك عددٌ ، وأنه كلما غابت عنك شمسٌ نقص شيءٌ من عددك ، ومضى بعضُه معك ".
في ليلة الجمعة من غُرَّة رجب سنة (110هـ ) لبَّى الحسنُ البصري نداءَ ربِّه ، فلما أصبح الناسُ ، وشاع الخبرُ فيهم ارتجَّت البصرةُ بموته رجًّا ، فغُسِّل وكُفِّن و صُلِّيَ عليه بعد الجمعة ، في الجامع الذي قضى في رحابِه حياتَه عالما ومعلِّما و داعيا إلى الله ، ثم تبِع الناسُ جميعا جنازته ، فلم تُقَمْ صلاةُ العصر في ذلك اليوم بجامع البصرة ، لأنه لم يبق فيها أحدٌ يقيم الصلاة ، ولا إنسان ، وقد قيل : ولا يعلم الناسُ أن الصلاة عُطِّلت في جامع البصرة منذ أن بُنِيَ إلى ذلك اليوم ، يوم انتقال الحسن البصري إلى جوارِ ربِّه .
هذا أحد التابعين ، فإذا سمعتم الحسنَ البصري فهذا هو الحسن البصري ، طبعا هذه بعضُ قصصه ، وله قصص أخرى






رد مع اقتباس
قديم 27-04-2009, 01:09 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام


ان أمره لعجيب..!!

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

ألا فلنأت على قصته من البداية..

ولكن أية بداية..؟؟

انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..



لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:

" والله لقد استقام المنسم....

وان الرجل لرسول..

فحتى متى..؟؟

أذهب والله، فأسلم"..

ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،

قلنا: وبك..

قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..

وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..

قلت: يا رسول الله على ذلك..

فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...



أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..

وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!



أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟؟

لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..

لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..

وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..

ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

هذه البقيّة هي:

" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".

فمن كان هذا البطل..؟



لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..

وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..

ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:

" خذ اللواء يا أبا سليمان"...

ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..

أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!

هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:

" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..

وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".

ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟

قالوا: نعم..

واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..

في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..

ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..

وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!



هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!

وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..



وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..

ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..

وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..

ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..



وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!

كيف تمّت المعجزة..؟

أي تفسير لهذا الذي حدث؟



لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:

(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!



ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!

ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..



ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.



وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!

وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..



عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..



لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..

ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..

ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!



عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..



وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:

" الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟

اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:

لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."

وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..



ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..



فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.

وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..

وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..

ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..



والتقى الجيشان:

وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!



وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!

وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..

ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..

رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:

" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".

وامتازوا جميعا..

مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..

وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..

وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!



لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..

وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..

وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..



وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..

وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!

هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.

لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

" بسم الله الرحمن الرحيم

من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..

يلام على من اتبع الهدى

أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم

من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا

اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!



وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.

في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.

أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..

وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:

" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.

ترى هل سمع الروم في الشام..؟

وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟

أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!



كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..

وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..

بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:

" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..

وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.

وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!

وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..

وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:

" ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...

هذا يوم من أيام الله..

ما أروعها من بداية..!!

لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!



ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغممن أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..

اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..

لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!



ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:

" خالد لها".!!

وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".

فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!

عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!

كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

كا انسحاب تنبأ به فعلوه..

وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..

وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

" من يولّي هاربا فاقتلنه"..

وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..

فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!

وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:

" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!

ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

" الله أكبر"

" هبّي رياح الجنة"..

كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

ودار قتال ليس لضراوته نظير..

وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

فيجيب أبو عبيدة:

" نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

وهذا عكرمة بن أبي جهل..

أجل ابن أبي جهل..

ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،

فيستشهدون..!!

وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره. فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

أجل..

لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:

" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

ولكن أي عجب؟؟

أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟

وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟



وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

أليس ذلك، كذلك..؟

اذن، هبي رياح النصر...

هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...

لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.

وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

قال خالد: لا..

قال الرجل:

فبم سميّت يبف الله"؟

قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..

فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".

قال القائد الرومي: والام تدعون..؟

قال خالد:

الى توحيد الله، والى الاسلام.

قال:

هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟

قال خالد: نعم وأفضل..

قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

قال خالد:

لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:

علمني الاسلام يا خالد"".!!!

وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!



وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..

ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.

استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..



وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..



وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...



فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..

ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

أبو بكر وعمر..

اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..

وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..



لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..

ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:

" ان في سيف خالد رهقا"

أي خفة وحدّة وتسرّع..

فأجابه الصدّيق قائلا:

" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".

لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..

وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..

فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..



ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:

" يا رسول الله..

استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..



وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:

" اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:

" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".

ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..

ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:

" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك

اني رأيت الله قد أهانك"..!!

ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..

والا.." كفرانك لا سبحانك..

اني رأيت الله قد أهانك"..!!



على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..

أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

وأنه ليقول:

" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..

من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...



هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...

أميرا يحملشظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:

" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..

ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!

كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..

أتجرون الى من أوصى..؟

الى عمر بن الخطاب ذاته..!!

أتدرون ما تركته..؟

فرسه وسلاحه..!!

ثم ماذا؟؟

لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

ذلك أنه لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

" ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".



وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال

أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال



وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

" صدقت..

والله ان كان لكذلك".

وثوى البطل في مرقده..

ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..

لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..



واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

ايه يا بطل كل نصر..

ويا فجر كل ليلة..

لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

" عند الصباح يحمد القوم السرى"..



حتى ذهبت عنك مثلا..

وهأنتذا، قد أتممت مسراك..

فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!

ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

" رحم الله أبا سليمان

ما عند الله خير مما كان فيه

ولقد عاش حميدا

ومات سعيدا







رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز المساوى السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 5 02-12-2010 01:00 PM
شجرة الصلاة للاطفال اسراء رحيق الحوار العام 0 09-09-2010 08:55 PM
شجرة البندق , نبات سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 4 19-07-2010 08:20 PM
شجرة عيد الميلاد سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 1 27-03-2010 01:19 AM
صخرة يوم القيامة admin منتدى الأفلام الوثائقية 4 19-04-2009 04:57 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة