منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى
التسجيل مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-04-2009, 01:46 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي سيرة الصحابة والتابعيين

[align=center] بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الاخوة الاحباب هيا بنا نجمع سيرة التابعون وتابعي التابعون حتي تكون لنا نبراس ونقتدي بهم ونتعلم منهم وان يكون ملتقانا هنا مع التابعين .


فمن منكم ينقل لنا قصة وسيرة احد التابعين وتابعي التابعين









آخر تعديل طالب عفو ربي يوم 01-07-2009 في 10:43 PM.
رد مع اقتباس
قديم 10-04-2009, 01:52 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي إيَّاس بن معاوية المزني

إيَّاس بن معاوية المزني




أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ *
[رواه البخاري]
والتابعيُّ اليوم هو إياسُ بن معاوية المزني .
وردَ اسمُ إياس في بيت شعر للشاعر أبي تمَّام حينما مدح أحمد بن المعتصم ، و البيت مشهور جدًّا ، قال :
***
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
***
كان إياس بن معاوية مِن أذكى العرب ، وكان مِن أشدِّهم حِلمًا الأحنفُ ، ومِن أكثرهم سخاءً حاتمُ ، و من أشدِّهم شجاعة عمرو :
***
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
***
وقبل أن نمضيَ في الحديث عن هذا التابعيِّ الجليل ، لا بدَّ أن نقف وقفةً عند الذكاء ، والحقيقة أنّ الذكاءُ قيمة كبيرة جدا ، إلا أنه وحده ربَّما كان مدمِّرا لصاحبه ، لأنّ الذكاء يشبه اندفاعا شديدا ، فإذا لم يوجد سياجٌ من القيم ، ولا توجد مبادئ ، و لا توجد استنارة بنور الله عزوجل فهذا الذكاء يكون شؤما على صاحبه ، ألم تسمعوا في الأدعية الشريفة : اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم .
أيها الإخوة ؛ قليل من التوفيق خيرٌ من كثير من الذكاء :
***
ولو كانت الأرزاقُ تجري مع الحِجا هلكْنَ إذًا من جهلهن البهــائمُ
***
الذكاء قيمة عالية جدا ، و لكن الذكاء وحده لا يكفي ، لا بدَّ من الهدى ، ولا بدَّ من أنْ يستنير الإنسانُ بنور الله ، لا أملك إلا هذا المثلَ الدقيق جدًّا ؛ هذه العينُ لو أن أحدا فحص عينيه عند طبيب العيون ، فكانتا في أعلى درجات الحساسية ، والرؤية : 12/10 ، ولم يكن هناك مصباح يتوسَّط بينك وبين المرئي ، فالعينُ لا قيمة لها ، و كذلك العقل ، إن لم يكن هناك هدًى يتوسّط بين العقل وبين الأشياء فالعقلُ لا يرى ، قال تعالى :
[سورة المدثر]
العقل وحده قد يطغى ، وأكبر دليل العالَمُ الغربي ، هذا العالَم يكاد يكون عقلا فقط ، وهذا العقل توصَّل إلى تدمير الحياة الاجتماعية ، وتدمير البنية الأساسية ، و هي الأسرة ، فالإنسان عقل وقلب ، وعقيدة ومصالح ، فحينما تطغى المصلحةُ على العقيدة ، ربما كان تدميرُ الإنسان في تدبيره ، أما في عالَم الحيوان فأذكى الحيوانات على الإطلاق أكثرُها حقارةً ، فالقوارض من أذكى الحيوانات ، وإذا كان الإنسان ذا عقل راجح فهذا من نِعَم الله الكبرى ، لكن عقلَه الراجح من دون طاعة لله عزوجل هذا شؤم على صاحبه ، وبالعكس ، فالعقلُ من دون هدى أداةٌ انهيار وتدمير ، وهل الحربُ الحديثة كما يقول العلماءُ إلا حربٌ بين عقلين ، وعلى كلًّ نعمةُ العقل كبيرةٌ ، وربُّنا عزوجل يقول :
[سورة الفتح]
ومن تمام النعمة أن يكون العقلُ والإيمانُ متكاملين ، أن يكون العقلُ والخلقُ متكاملين ، وسيدنا عمرُ بن عبد العزيز بات ليلةً قلقا مسهَّدا ، لم يُغمَض له جفنٌ ، لماذا ؟ قال :"كان يشغله في تلك الليلة من ليالي دمشق أمْرُ اختيارِ قاضي البصرة ، و الحقيقة أن الإنسان إذا أوتيَ مقاليدَ الأمور فأخطرُ أعماله أن يختار مساعديه ، هذه أخطر أعماله ، وسيدنا عمر يقول : " أريد أميرا، إن كان أميرا بدا وكأنَّه واحد من أصحابه ، و إن كان واحدا من أصحابه بدا و كأنه أميرٌ" ، أي من شدَّة غيرته على مصالح الأمة لو كان يكن أميرا بدا وكأنه ليس بأمير ، ومن شدَّة تواضعه لو كان أميرا بدا وكأنه واحد منهم ، يريد هذا الخليفةُ الراشد والخامس كما يقولون أن يختار قاضيًا للبصرة ، يقيم بين الناس موازين العدل ، و يحكم فيهم بما أنزل الله ، و لا تأخذه في الحق رهبةٌ و لا رغبة ، وقع اختيارُه على رجلين كفرسيْ رِهان ، فقهًا في الدين ، وصلابةً في الحق، وورعًا في السلوك ، ووضاءةً في الفكر ، وثقوبًا في النظر ، وكلمَّا وجد لأحدهما مزيَّةً ترجِّحه على صاحبه ألفى في الآخر مزية يقابل بها تلك المزية ، فلما أصبح دعا واليَ العراق عديَّ بن أرطأة ، وكان يومئذٍ عنده في دمشق ، وقال له : يا عديُّ اجمع بين إياسٍ بن معاوية المزني والقاسم بن ربيعة الحارثي ، وكلمِّهما في أمر قضاء البصرة ، وولِّ أحدهما عليه، فقال : سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين ، وكما قلتُ قبل قليل : أخطرُ أعمال من أوتيَ مقاليد الأمور أن يختار مساعديه ، من الأكفاء ، الأكفاء جمعُ كفء ، أحيانا يتفاصح بعضُ الأشخاص يقول : من الأكفياء،الأكفياء جمع كفيف ، والكفيف من فَقَدَ بصرَه ، والكفء جمعه أكفاء ، والكفيف جمعه أكفَّاء ، والأكفاء جمع كفء ، جمعَ عديُّ بن أرطأة بين إياس والقاسم ، وقال : "إن أميرَ المؤمنين أطال اللهُ بقاءه أمرني أن أُولِّيَ أحدكما قضاءَ البصرة ، فماذا تريَانِ ؟ قال كلٌّ منهما عن صاحبه: إنه أولى منه بهذا المنصب " تصوَّر تبدُّلَ القيم ، العرب كانوا في تألُّقهم يقولون : المنيةُ ولا الدنيَّة، و العربُ في تخلُّفهم قد يكون لسانُ حالهم : الدنيةُ ولا المنية ، لذلك أحد الشعراء دخل السجن لأنه قال بيتًا عُدَّ أهجى بيتٍ قالته العربُ ، قال الحطيئة :
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها و اقعُدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسِي
وقد يكون هذا أمنيةَ كل إنسان ، وعلى كلٍّ كان كلٌّ منهما يثني على صاحبه و يقول : إنه أولى بهذا المنصب منه ، وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء اللهُ أن يذكر ، فقال عديُّ :" لن تخرجا من مجلسِي هذا حتى تحسما هذا الأمرَ ، فلا بد من أُولِّيَ أحدَكما ، فقال له إياسُ : أيها الأمير سَل عني وعن القاسم فَقِيهَي العـراق الحسنَ البصري ومحمد بن سيرين ، فهما أقدرُ الناس على التمييز بيننا " ، كان القاسمُ يزورهما ويزورانه ، و إياسٌ لا تربطه بهما رابطةٌ ، أي هناك علاقة بين القاسم و بين هذين التابعيين ، فلذلك قال له : اسأل عنا هذين التابعين ، فهما يزكِّيان ، فَعَلِمَ القاسمُ أن إياسًا أراد أن يورِّطه في هذا المنصب ، قال : أيها الأمير لا تسل أحدا عني ولا عنه ، أيها الأمير فواللهِ الذي لا إله إلا هو - أقسم - فوالله الذي لا إله إلا هو إنَّ إياسًا أفقه مني في دين الله ، وأعلم بالقضاء ، فلا تسأل ، أنا أقسم لك ، فإن كنتُ كاذبا في قسمي فما يحلُّ لك أن تولِّيني القضاءَ ، وأنا أقترف الكذبَ ، وإن كنتُ صادقا في قسمي فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول " ، هذا كلام ليس له جواب ، أنا أقسم بالله أن إياسا أفضلُ مني ، وإن كنتُ كاذبا لا ينبغي أن تولِّيني القضاءَ لأني اقترفتُ جريمة الكذب ، وإن كنتُ صادقا لا يجوز لك أن توليني بعد أن ثبت لديك أنه أفضلُ مني ، فالتفت إياسٌ إلى الأمير ،وقال : أيها الأمير - اسمعوا الجوابَ الثالث - قال : إنك جئتَ برجل و دعوتَه إلى القضاء فأوقفتَه على شفير جهنم - ولقد صحَّ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ *
[رواه الترمذي]

وقد جعل أحدُهم تعديلا للحديث فقال : قاضيان إلى النار و قاضٍ إلى جهنم ، لا يوجد أحد ، قال : " أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوتَه إلى القضاء و أوقفتَه على شفير جهنم ، فنجَّا نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر اللهَ منها ، و ينجو بنفسه مما يخاف ، فقال له عديُّ : إنما يفهم مثلَ فهمك هذا لجديرٌ بالقضاء ، حريٌّ به ، ثم ولاَّه قضاءَ البصرة " انظُروا إلى هذا التعفُّف عن ذاك المنصب .
سألوا واحدا كاذبا : تحلفُ اليمين ، فقال : جاء الفرَجُ ، أحلف طبعا ، فالإنسان أحيانًا يلاحظ تغيُّرا شديدا في القيم بين الماضي والحاضر.
هذا الذي اختاره الخليفةُ الزاهد عمر بن عبد العزيز قاضيًا للبصرة من هو ؟ هذا الإنسانُ ضُرِب لذكائه المثل ، فكان ذكيًا فطِنا ذا بديهة حاضرة .
وُلِد إياسُ بن معاوية بن قُرِّةَ المزني سنة (46) للهجرة في منطقة اليمامة في نجد ، وانتقل مع أسرته إلى البصرة ، وبها نشأ وتعلَّم ، وتردَّد على دمشق في يفاعته ، و أخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجِلَّة التابعين ، ولقد ظهرت على الغلام المزني علائِمُ النجابة ، وأماراتُ الذكاء منذ نعومة أظفاره ، فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من إخواننا الكرام بطفل ذكيٍّ جدا فلا بدَّ أن يهيِّئه تهيئةً تتناسب مع قدراته ، ومن يدريك أن هذا الطفل يكون أحدَ أعلام الأمة؟ و " الديك الفصيح من البيضة يصيح" ، هكذا قالت العوام ، وهذا كلام دقيق ، والطفلُ الفطِن يظهر عليه ذلك منذ نعومة أظفاره ، فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من إخواننا الكرام بغلام عنده قدرات عالية جدًّا فينبغي أن يعتنيَ به كثيرا ، فلعلَّ اللهَ سبحانه وتعالى ينفع المسلمين به ، والحقيقة في البلاد الأخرى - أنا لا أقول : متقدِّمة ، ولكن بالمقياس المادي متقدِّمة - هناك مدارس خاصة للمتفوِّقين، لأن هؤلاء أعلام الأمة ، وكلُّ بلد لها ترتيب ، نحن نعطي الأذكياء كلِّيةَ الطِّب ، هذا اتِّجاهنا ، أي 230 درجة فما فوق للطب ، ثم صيدلة ، وأقل ننزل إلى الهندسة، إلى آخره ، وبعضُ البلاد أعلى العلامات لكلية الحقوق ، لماذا ؟ لأن خرِّيجي هذه الكلية في الأعمِّ الأغلب محافظون ووزراء و سفراء ، بيدهم مقاليد الأمور ، فينبغي أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من القدرات ، و لو أُتيح لبلد ما أن يجعل النخبةَ العالية جدًّا دعاةً إلى الله عزوجل ، لأن هذا الداعي يبني النفوسَ، فالمفروض من هؤلاء الذين يصعدون المنابرَ ، والذين يتصدَّون لخدمة الخلق وتوجيههم ، ولبناء نفوسهم ، المفروض أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من الفطانة والذكاء ، والحقيقة أن الذكاء قدرة عالية جدًّا ، والدليل أن صفة من صفات الأنبياء المشتركة هي الفطانة ، ولو تعاملتَ مع أيِّ نبيٍّ فضلا عن أخلاقه وقيمه ، والوحيِ الذي يأتيه ، وعن مستواه الرفيع ، وعن خلقه ، فضلا عن كل ذلك فهو في درجة من الذكاء تفوق حدِّ الخيال، هذه قدرات أودعها اللهُ فيهم ، لتعينهم على أداء رسالتهم ، فلا ينبغي لكلية من كليات الجامعة أن تستأثر بالعباقرة ، هكذا الأكمل.
ظهرت على هذا الغلام علائمُ النجابة وأمارات الذكاء منذ نعومة أظفاره ، و جعل الناسُ يتناقلون أخبارَه ونوادرَه ، وهو مازال صبيًّا صغيرا ، رُوِي عنه أنه كان يتعلَّم الحساب في كتَّاب لرجل من أهل الذِّمة ، فاجتمع عند المعلِّم أصحابٌ له ، و جعلوا يتكلَّمون في أمور الدين ، وهو ينصت إليهم من حيـث لا يدرون ، فقال المعلِّم لأصحابـه :" ألا تعجبون للمسلمين فهم يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوَّطون ، فالتفت إياسٌ إليه ، وقال : أتأذن لي يا معلِّم بالكلام فيما تخوضون فيه ؟ قال : نعم تكلَّم ، قال الفتى : أكلُّ ما يُؤكل في الدنيا يخرج غائطا ؟ فقال المعلِّم: لا ، قال : فأين يذهب الذي لا يخرج ؟ قال المعلِّم : يذهب في غذاء الجسم قال الفتى : فما وجهُ الاستنكار منكم إذا كان يذهب بعضُ ما نأكله في الدنيا غذاءً أن يذهب كلُّه في الجنة في الغذاء"، طبعا قسمٌ من الغذاء يسهم في بناء الخلايا ، وقسم يخرج ، وقسم يبقى ، كما قال النبيُّ الكريم : "إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأخرج عني أذاه *
(أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة)
تقدَّم الغلامُ سنةً بعد سنة ، وتقدَّمت مع هذه السنين أخبارُ ذكائه أينما حلَّ ، فدخل دمشق وهو لا يزال غلاما ، فاختلف مع شيخ من أهل الشام في حقٍّ من الحقوق ، ولما يئس من إقناعه بالحجَّة ، دعاه إلى القضاء ، فلما صار بين يدي القاضي احتدَّ إياسٌ ، ورفع صوته على خصمه، فقال له القاضي : اخفِض صوتك يا غلام ، فإن خصمك شيخ كبير السن والقدر ، فقال إياس : ولكن الحقَّ أكبر منه ، فغضب القاضي ، وقال : اسكُت ، فقال الفتى : ومَن ينطق بحجتي إذا سكتُّ ، فازداد القاضي غضبا ، وقال : ما أراك تقول منذ دخلت مجلس القضاء إلا باطلا ، فقال إياس :لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قال له : أحقٌّ هذا أم باطل ؟ فهدأ القاضي و قال : حقٌّ و ربِّ الكعبة " ، أحيانا الإنسان على صغر سنه يُؤتى الحجة البالغة في وقتها ، ولا تُقدَّر بثمن .
وأكبَّ هذا الفتى على العلم ، ونهل منه ما شاء اللهُ أن ينهل ، حتى بلغ منه مبلغا جعل الشيوخَ ، يخضعون له ، ويأتمُّون به ، ويتتلمذون على يديه على الرغم من صغر سنه ، والعالم شيخ ولو كان حدَثًا ، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخا ، وذات مرة زار عبدُ الملك بن مروان البصرة قبل أنْ يَليَ الخلفة ، فرأى إياسا وكان يومئذٍ فتًى يافعا ، لم ينبت شاربُه بعد ، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر ، وهو يتقدَّمهم ، فقال عبد الملك : أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى ، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم ، فقدَّموا هذا الغلام ، ثم التفت إلى إياس ، وقال : يا غلام كم سنُّك ؟ - أي ازدراءً له - فقال : أيها الأمير سني أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر ، فقال له عبد الملك : تقدَّم يا فتى تقدَّم - أي علمُك قدَّمك - بارك الله فيك ".
وذات سنة أيضًا خرج الناسُ يلتمسون هلالَ رمضان ، وعلى رأسهم الصحابيُّ الجليل أنسُ بن مالك الأنصاري ، وكان يومئذٍ شيخا كبيرا ، قد قارب المائة ، فنظر الناسُ في السماء ، فلم يروا شيئا ، لكن أنسَ بن مالك جعل يحدِّق في السماء ، و يقول : لقد رأيتُ الهلالَ ، ها هو ذاك ، وجعل يشير إليه بيده ، فلم يرَه أحدٌ ، عند ذلك نظر إياسٌ إلى أنس رضي الله عنه ، فإذا شعرةٌ طويلة في حاجبه قد انثنت حتى غدتْ قُبالة عينه ، وكأنها الهلال ، فاستأذنه في أدب ، ومدَّ يده إلى الشعرة فمسحها و ، سوَّاها ، ثم قال له :أترى الهلال الآن يا صاحب رسول الله ؟ فجعل أنسُ ينظر و يقول : كلا ما أراه ، أين ذهب ؟ كلا لا أراه" ، هذا الصحابيّ متقدِّم في السن ، وإياس كان فطِنًا وأديبًا مؤَدَّبًا ، سحب هذه الشعرة فغاب الهلال ، أحد الشعراء وصف جسمه النحيل بأنه كهلال الشك .
الحقيقة هناك كتاب عنوانه (الأذكياء) ، و هناك كتاب أيضا لغير الأذكياء ، مرة ثانية أيها الإخوة ؛ ما من نعمة أجلُّ من أن يهبك الله قدرةً عقلية تعيش بعقلك بين الناس .
وشاعت أخبارُ ذكاء إياس ، وذاعت وصار الناسُ يأتونه من كل حدب وصوب ، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات في العلم والدين .
رُوِي أن دهقانا أتى مجلسه فقال :يا أبا وائلة ، ما تقول في المسكِر ؟ - الخمر - قال : حرام ، قال:ما وجهُ حرمته ؟ أقنعني ، وهو لا يزيد عن كونه ثمرا وماءً غُلِيا على النار فصار خمرًا ، وكل ذلك مباح لا شيءَ فيه ، فلماذا هو حرام ؟ فقال إياسُ : أفرغتَ من قولك يا دهقانُ، أم بقيَ لديك ما تقوله ؟ قال : بل فرغتُ ، قال : لو أخذتُ كفًّا من ماء ، وضربتُك به أكان يوجعك ؟ قال :لا ، قال :لو أخذتُ كفًّا من تراب وضربتُك به أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال :لو أخذتُ كفًّا من تِبنْ فضربتك به أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال :لو أخذت الترابَ ، ثم طرحتُ عليه تبنا ، وصببتُ فوقه الماءَ ، ثم مزجتهما مزجا ، ثم جعلتُ الكتلة في الشمس حتى يبست ، ثم ضربتك به ، أكان يوجعك ؟ قال :وقد تقتلني به ، قال : هكذا شأنُ الخمر ، فهو حينما جُمِعَت أجزاؤه خُمِّر فأصبح حراما ، كما أن الماء و التراب و التبن لو ضربتك به لا تُؤذى ، أما إذا جمعتُ هذه العناصر الثلاثة ، ويبَّستها في الشمس فأصبحت كتلةً قاسية ، ورميتُك به قال: قد تقتلني ، قال : هكذا الخمر .
والحقيقة كان هذا القاضي على جانب عالٍ جدا من الذكاء ، وظهرت له مواقفُ تدلُّ على فرط ذكائه ، وإن علماء النفس قالوا : هناك منحنى ، هذا المنحنى يمثِّل نِسب الذكاء بين البشر ، تسعون بالمائة ذكاؤهم متوسِّط ، و خمسة بالمائة عباقرة ، و خمسة بالمائة أغبياء ، لكن الخطَّ العريض دائما هو الخطُّ المتوسِّط ، لذلك في علم النفس علامة مائة في الذكاء تمثِّل الخطَّ العريض، أما مائة وأربعون فهؤلاء عباقرة.
لما ولِيَ القضاءَ جاءه رجلان يتقاضيان عنده ، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالا ، فلما طلبه منه جحده ، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها ، وقال : إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها ، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين ، لا يوجد بيِّنة ، فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع ، وقال له : في أيِّ مكان أودعته المالَ ؟ أي أعطيته، قال : في مكان كذا ، قال : وماذا يوجد في ذلك المكان ؟ قال : شجرة كبيرة جلسنا تحتها ، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها ، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ ، فقال له إياسٌ : انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك ، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به، فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة ، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء ، اذهب أيها الرجل إلى الشجرة فلعلك نسيت المالَ هناك ، هذا بريء ، قال : ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت ، فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه : اجلس إلى أن يجيء صاحبُك ، فجلس ، ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضين ، وطفق يقضي بينهم ، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ ، حتى إذا رآه قد سكن - ارتاحت نفسُه وكأنه صار بريئا ، واطمأن ، التفت إليه وسأله على عجل : أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال ؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه ؟ قال له : لا إنه بعيد من هنا ، فقال له إياس : يا عدوَّ الله تجحد المالَ ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه ، تركه ينسى، و تركه يطمئن ، وسأله فجأة ، صاحبك وصل إلى الشجرة في تقديرك ؟ إلى المكان الذي أخذت فيه المالَ، هل وصل إليه صاحبُك ، لا المكان بعيد ، لا يزال في الطريق ، واللهِ إنك لخائن ، فبُهِت الرجل ، وأقرَّ بخيانته ، فحبسه حتى جاء صاحبُه ، وأمره بردِّ وديعته إليه .
ومن ذلك ما رُوي من أن رجلين اختصما إليه في قطيفتين - ثوبين - مما يوضع على الرأس ، ويُسدَل على الكتفين ، مثل القلنسوة ، أو"غطرة " بالتعبير الآخر ، إحداهما خضراء جديدة ثمينة ، وأخرى حمراء بالية ، قال المدَّعي : نزلتُ إلى الحوض لأغتسل ، ووضعتُ قطيفتي الخضراء مع ثيابي على حافة الحوض ، و جاء خصمي فوضع قطيفته الحمراء إلى جانب قطيفتي ، ونزل إلى الحوض ، و خرج قبلي ، فلبس ثيابه ، وأخذ قطيفتي ، فألقاها على رأسه وكتفيه ، ومضى بها ، فخرجتُ على إثره وتبعتُه وطالبته بقطيفتي ، فزعم أنها له ، فقال إياسٌ للرجل المدَّعى عليه : وما تقول أنت ؟ قال : هي قطيفتي ، وهي في يدي ، فقال إياس للرجل المدَعي : ألك بيِّنة ؟ قال : كلا ، فقال لحاجبه : أحضر لي مشطًا ، فأُحضر له ، فمشط شعرَ رأس الرجلين، فخرج من رأس أحدهما زغب أحمر من نُثار صوف القطيفة ، و خرج من رأس الثاني زغبٌ أخضر من نثار صوف القطيفـة ، فقضى بالقطيفة الحمراء لصاحب الزغب الأحمر ، و بالقطيفة الخضراء لصاحب الزغب الأخضر ، أخذ المشط وسرَّح الشعر حتى حصل على بعض الزغب الملوَّن ، وعرف مَن هو صاحب الحق .
من أخبار فطنته أيضا أنه كان في الكوفة رجل يظهر للناس الصلاحَ ، ويبدي لهم الورعَ والتقى ، حتى كثُر الثناءُ عليه ، واتَّخذه بعضُ الناس أمينا لهم يأتمنونه على مالهم إذا سافروا ، ويجعلونه وصيًّا على أولادهم إذا أحسُّوا بدنوِّ الأجل ، وقد دخل رجلٌ مرة المسجد ، وتفرَّس في المصلين ، إلى أن اهتدى إلى رجلٍ كثيرِ الخشوع ، متألَّقِ الوجه ، فأعجبه ، فبعد أن أتمَّ صلاته قال له : إني أردتُ أن أعطيك بعض المال كأمانة عندك ، وأنا ذاهب إلى الحج ، وقد توسَّمتُ فيك الصلاح ، فقال له هذا المصلِّي : وأنا أيضا صائم ، قال له : واللهِ أعجبتْني صلاتُك ، ولكن لم يعجبني صيامك ، فهناك أناس يتَّخذون الدينَ طريقا لكسب المال ، أتاه رجلٌ واستودعه مالا ، و لما احتاج الرجلُ إلى المال طالبه فأنكره ، فمضى إلى إياس ، وشكى له الرجل ، فقال للمشتكي: أعَلِمَ صاحبَك أنك تريد أن تأتيني ؟ قال : كلا ، فقال : انصرِف ، وعُد إليَّ غدا ، ثم أرسل إياس إلى الرجل المؤتمن ، وقال له : لقد اجتمع لديَّ مالٌ كثير للأيتام ، لا كافل لهم ، وقد رأيتُ أن أودعه لديك ، وأن أجعلك وصيًّا عليهم ، فهل منزلك حصين ، ووقتك متَّسِع ؟ قال : نعم أيها القاضي ، هذا الذي جعل نفسه صالحا ، قال : تعالَ إليَّ بعد غٍد ، وأعِدْ موضعًا للمال ، وفي اليوم التالي جاء الرجل المشتكي ، فقال له إياس : انطلِق إلى صاحبك ، واطلب منه المال ، فإن أنكره فقل له : أشكوك إلى القاضي ، فأتاه الرجل ، فطلب منه المال ، فامتنع عن إعطائه ، و جحده ، فقال له : إذًا أشكوك إلى القاضي ، فلما سمع ذلك منه دفع المال إليه فورا ، و طيَّب خاطره ، فرجع الرجل إلى إياس ، وقال : لقد أعطاني صاحبي حقي ، و جزاك الله خيرا ، ثم جاء المؤتمَن بعد غدٍ إلى إياس في موعده ، ومعه الحمالون ، فزجره وأشهره ، قال له : بئس الرجل أنت يا عدوَّ الله ، لقد اتخذْتَ الدِّين مطية للدنيا ، أي جعل نفسه صالحا ، فلما عرض عليه القاضي أموالَ الأيتام الكثيرة ، و جاء الخصمُ يطالبه بالمال ، فأعطاه المال لكيلا يفضحه عند القاضي ، والقاضي جعلها فخًّا له .
والحقيقة إذا أراد القاضي أن ينصف الناس بإخلاص شديد ، فإنّ اللهَ عزوجل يلهمه ، وهذا مأخوذ من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا*
[رواه البخاري]

فإنْ صدق الإنسان في خدمة الخلق هداه ذلك إلى الطريق الصحيح ، و الحقيقة أن القضاء شيء صعب ، إذا لم توجد التقوى ، فقد تلتبس الأمورُ على القاضي ، لكن القاضي يحتاج إلى فراسة ، و يحتاج إلى فطنة ، و يحتاج إلى إلهام من الله عزوجل ، ولكنَّ إياسا على الرغم من شدَّة ذكائه وفطنته فهناك من أقام عليه الحُجَّةَ ، و فوق كل ذي علم عليم
حدَّث عن نفسه فقال : ما غلبني أحدٌ قط سوى رجل واحد ، وذلك أني كنتُ في مجلس القضاء في البصرة ، فدخل عليَِّ رجل ، فشهد عندي أن البستان الفلاني هو ملكٌ لفلان ، وحدَّده لي ، طبعا الشاهد دليل قويٌّ في القضاء ، فجاء الشاهد ، و قال : البستان الفلاني لفلان ، فقلتُ لهذا الشاهد : وكم عددُ شجرات البستان ؟ فأطرق قليلا ، ثم رفع رأسه ، وقال : منذ كم يحكم سيدُنا القاضي في هذا المجلس ؟ كم سنة لك يا سيدي في هذا المجلس ؟ قال له : منذ كذا سنة ، من ثمان سنوات فرضًا ، قال له : كم عددُ خشب سقف هذه الغرفة ؟ ثمان سنوات ، ولا يخطر لإنسان أن يعُدَّ كَمْ خشبة هي ، هو شهد أن هذا البستان لفلان ، قال له : كم شجرة فيه ؟ قال له : أنت كم سنة لك في هذا المجلس ، فكم عدد خشبات السقف في هذا المجلس ؟ قال : فلم أعرف وقلتُ : الحق معك ، ثم أجزتُ شهادته ، كذلك الإنسان كلما تفوَّق في شيء فإنّ اللهَ عزوجل يحجِّمه بأن يأتيه شخصٌ يبدو أنه أكثر منه تفوُّقا .
أنا في الحقيقة لا أريد أن أجعل كما قلتُ في بداية الدرس أن الذكاء وحده هو كلُّ شيء ، لكن ما أجمل أن يكون عقلُ الإنسان متَّقِدًا ، وقلبُه صافيا نقيًّا ، ما الذي يحصل في الحياة ؟ تجد أحيانا إنسانا يتَّقد ذكاءً ، لكنه على خُبث ، ذكاء شيطاني ، و انحراف ، وتفلُّت من أوامر الدين ، وأكل لأموال الناس بالباطل ، وتجد شخصا آخر يعجبُك تفوُّقه ، ولكن لا يعجبك عقلُه ، فالمنحرف قد يكون فطنًا جدًّا ، والمستقيم قد يكون محدودا جدا ، وهذا شيء مؤلِم جدا ، لكن إذا اجتمع العقلُ الراجح مع القلب الطاهر فهذا من أغرب ومن أندرِ النماذج البشرية .
بلغ إياسُ بن معاوية السادسة والسبعين من عمره ، ورأى نفسَه وأباه في المنام راكبين على فرسين ، فجريا معًا ، فلم يسبق أباه ، ولم يسبقه أبوه ، وكان والدُه قد مات عن ستٍّ وسبعين سنة.
أنا سمعتُ كثيرا عن أناس صالحين أكرمهم الله عزوجل بأن عرَّفهم بدنوِّ أجلهم ، وهي قصص كثيرة جدا ، ولعلَّ هذا من إكرام الله للإنسان ، فقبل أن يموت بشكل أو بآخر ، منام أو شعور أو حدس أو إدراك يشعر أن أجله قد دنا ، يا تُرى النبيُّ عليه الصلاة و السلام هل نعاه اللهُ بالقرآن الكريم ؟ ما الآية ؟ قال تعالى :
[سورة النصر]
أي انتهت مهمَّتك ، والعظماء الحياة لا تعنيهم ، حياتهم جليلة وعظيمة ، فإذا أدَّوا رسالتهم فقد انتهت حياتهم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أدَّى رسالته ، ألا تقل له أنت إذا وقفتَ أمام قبره : أشهد أنك بلَّغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، و كشفت الغُمة ، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد ، واللهُ عزوجل أقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
[سورة الحجر]
إنّه لشيء عظيم أنْ يعيش الإنسان الحقَّ ، وفي سبيل الحق ، ومن أجل نشر الحق ، وأن يبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس من أجل الحق ، والإنسان حجمُه عند الله بحجم عمله الصالح ، وأعظم مرتبة تنالها عند الله أن تكون جنديًّا من جنود الحق ،و لا أنسى هذا الحديث الشريف : يا بِشر ، لا صدقة و لا جهاد ، فبم تلقى الله إذًا ؟ ، والإنسان لا بدّ له من عمل يذهب به إلى الله عزوجل ، والدنيا فانية ، قال تعالى :
[سورة آل عمران]
قال علي كرم اللّه وجهه لكميل بن زياد : يا كميل القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، احفظ ما أقول لك ، الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، المال تنقصه النفقة ، ومحبة العلم دين يدان بها ، مكسب العالم الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعـد موته ، وضيعـة المـال تزول بزواله ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ، ههنا - وأشار لصدره - علماً لو أصبت له حمله *
(كنز العمال)
وفي ذات ليلة ، أوى إياسٌ إلى فراشه ، وقال لأهله : أتدرون أيَّةُ ليلة هذه ؟ قالوا : كلا ، قال : في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه ، كلُّ واحد منا له عمر محدود ، الله أعلم به ، فقد كنا من حوالي شهر في دعوة خارج دمشق ، والداعي بيته صغير لا يتَّسع للضيوف ، له زميل عنده مزرعة جميلة ، أخذنا إلى هذه المزرعة ، هذا كان موظَّفا كبيرا في الزراعة ، استقال وأخذ هذه المزرعة ، وأنشأ فيها جنات معروشات ، ودواجن ، شيء جميل ، واللهِ كأنه الآن أمامي ، يتمتَّع بصحة ، وهنا الهواء نقيٌّ ، و أنا أعمل رياضة كل يوم ، وهنا صفاء ، وراحة نفسية ، شعرنا أننا نعيش في جنة ، وهو غير متقدِّم في السن ، واللهِ البارحة بلغني أنه قد مات ، هذه الدنيا ، يبني الإنسانُ دنياه لبِنةً لبنةً ، أخـذ بيتا صغيرا فكبَّره ، وزيَّنه ، وأفرشه ، و اشترى بيتا لابنه ، واشترى محلا ، وتمكَّن أن يأخذ بيتا في المصيف ، اشترى سيارة ، وهو يبني يأتيه ملَكُ الموت، لقد ترَك كلَّ شيء وراءه في الدنيا ، والمغادرة صعبة أيها الإخوة ، هذه الساعة واللهِ الذي لا إله إلا هو ما رأيتُ إنسانا عاقلا إلا جعل هذه الساعة نصبَ عينيه ، قال تعالى :
[سورة الحجر]
القرش الواحد نُحاَسب عليه ، اسمع الآية الكريمة ، قال تعالى :
[سورة الزلزلة]
كنَّسْ الغرفة في الشتاء ، والشمس داخلة إليها ، تجد زغبات عالقة في الهواء ، هذه هي الذرة ، لشدَّة انعدام وزنها ، وهي لا وزن لها ، فتعلق في الهواء ، قال تعالى :
[سورة الزلزلة]
<font face="Simplified Arabic"> أحدُ أثرياء البلاد توفاه الله ، وأولادُه خافوا أن يقضي الليلة الأولى في القبر وحده بشكل مخيف ، عرضوا على إنسان فقير جدا معدم أن ينام معه ليلة في القبر ، ويعطونه مبلغا ضخما ، هي قصة رمزية طبعا ، جاء منكر ونكير ، ووجدا اثنين في القبر ، غريبة ، واحد حرَّك رجله من خوفه ، قالا : هذا حيٌّ ، و ليس بميت ، تعالوا نبدأ به ، أجلسُوه ، وقد لبِسَ كيسَ خيشٍ ، وربطه بحبل ، من أين أتيت بهذا الحبل






رد مع اقتباس
قديم 11-04-2009, 02:55 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


مسلمة وافتخر غير متواجد حالياً


افتراضي







رد مع اقتباس
قديم 11-04-2009, 04:43 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي شريك بن عبد الله

شريك بن عبد الله

القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة)
فما أعظمها من مسئولية!!
في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة،
ولمَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد،
ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك،
وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون
: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟
فقال شريك
: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له:
إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء،
وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له
: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه،
وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام
".
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك،
وقل له
-بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟
فقال صاحب الشرطة
: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد.
فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس،
فقال صاحب الشرطة
: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس.
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث،
ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه
: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا.
فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك.
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ.






رد مع اقتباس
قديم 12-04-2009, 12:49 AM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي سلمان الفارسي

سلمان الفارسي
الباحث عن الحقيقة
من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..
ومن بلاد فارس، عانق الاسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الايمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..
وانها لاحدى روائع الاسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في اعجاز باهر، كل نبوغها ويحرّ: كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فاذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسامون..
واذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الاسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والارادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!
ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الاسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.
كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!
وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(
اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الاسلام خطرا عليها.
انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسي وألأقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!

خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلاعن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فاذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
"
الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتي ظاهرة عليها"..
ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت لظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:
"
الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء، وان أمتيظاهرة عليها".
ثم ضري ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون في ايمان عظيم:
هذا ما وعدنا الله ورسوله.
وصدق الله ورسوله..!!
كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما الى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مداءن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!

وها هو ذا، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية، ثم الى الاسلام..
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!
كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ الى النبأ الباهر الذي يرويه..

[
كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها "جي"..
وكان أبي دهقان أرضه.
وكنت من أحب عباد الله اليه..
وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو..
وكان لأبي ضيعة، أرسلني اليها يوما، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمهتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت الى ضيعة أبي، ولا رجعت اليه حتى بعث في أثري...
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام..
وقلت لأبي حين عدت اليه: اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..
فحازرني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..
وأرسلت الى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم اذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم اليها لأرحل الى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم الى الشام..
وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي وأتعلم..
وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، اذ كان يجمع الصدقات من الانس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه.
ثم مات..
وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..
وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه الا رجلا بالموصل..
فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، سألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت اليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
ثم حضرته الوفاة، فقلت له: الى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا.. يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.
وان له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة، اذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم الى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني، وباعوني الى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.
وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو الا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
واني لفي رأس نخلة يوما، وصاحبي جالس تحتها اذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة اهنم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..
فوالله ما أن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟
أقبل على عملك..
فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: انكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به..
ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا..
فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!
ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: اني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله..
وأكل معهم..
قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية..!!
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتلن مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فاذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي..
فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..
ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك"، فكاتبته، وأمر الرسولأصحابه كي يعونوني. وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها. هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.

بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة..
فأي انسان شامخ كان هذا الانسان..؟
أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة، وفرضته ارادته الغلابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟
أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعا مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، ينتقل من أرض الى أرض.. ومن بلد الى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس، والمذاهب والحياة.. ويظل في اصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمون يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!

ماذا نتوقع أن يكون اسلام رجل هذه همته، وهذا صدقه؟
لقد كان اسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده، وفطنته، وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب.
أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.
وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم، وكان نافلة..
فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له..؟ّ
فأجابه سلمان قائلا:
ان لعينك عليك حقا، وان لأهلك عليك حقا، صم وافطر، وصل ونم..
فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
"
لقد أشبع سلمان علما ".
وكان الرسول عليه السلام يرى فطنته وعلمه كثيرا، كما كان يطري خلقه ودينه..
ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..
وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".
وانه بهذا الشرف لجدير..
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:
[
ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟
أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف].
ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.
ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، اذ جمع أصحابه وقال لهم:
"
هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا.
وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.
وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الاسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل الى المدينة فيئا وجزية، فتورّع الانس في صورة أعطيت منتظمة، ومرتبات ثابتة.
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟

افتحوا ابصاركم جيدا..
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
انه سلمان..
انظروه جيدا..
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبته..
انه هو، في جلال مشيبه، وبساطة اهابه.
لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول:
"
أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!

ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
ثم ماذا يا شرف الانسانية في كل عصورها وواطنها..؟؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر واخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول:
"
ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
ما باله يهرب من الامارة والمنصب، الا أن تكون امارة على سريّة ذاهبة الى الجهاد.. والا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها اكراها، ويمضي اليها باكيا وجلا..؟
ثم ما باله حين يلي على الامارة المفروضة عليه فرضا يأبى أنيأخذ عطاءها الحلال..؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن:
"
كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها.."
"
وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه..".
ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وه الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة..؟
لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان:
"
والله ما أبكي جزعا من الموت، ولاحرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا، فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود"!!
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة، فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد الينا بعهد نأخذه عنك، فقال:
"
يا سعد:
اذكر عند الله همّتك اذا هممت..
وعند حكمتك اذا حكمت..
وعند يدك اذا قسمت.."
هذا هو اذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها، ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه والى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ أحدهم منها الا مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل، مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله الا جفنة يأكل فيها، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟
وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الامارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس الا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله، حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه، وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.
واذ هما على الطريق بلغا جماعة من الانس، فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..
وعلى الأمير السلام..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها الأمير..!!
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي، فسقط في يده، وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه، واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
"
لا، حتى أبلغك منزلك"..!!

سئل يوما: ما الذي يبغض الامارة الى نفسك.؟
فأجاب: " حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها"..
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته، فاذا هو يعجن، فيسأله:
أين الخادم..؟
فيجيبه قائلا:
"
لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."
وحين نقول بيته فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا، سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا، يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. انها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، اذا وقفت فيها أصابت رأسك، واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!
فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".
لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن اليه سلمان لحظة، أو تتعلق به نفسه اثارة، الا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص، ولقد ائتمن عليه زوجته، وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه، ناداها:
"
هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!
فجاءت بها، واذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته:
"
انضجيه حولي.. فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها:" اجفئي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت اليه، فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق اليه، اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد، وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.







رد مع اقتباس
قديم 13-04-2009, 12:35 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي عطاء بن أبي رباح

هذا التابعِيّ الجليل كان مُعاصِرًا لِلخليفة الأمَوِيّ سُلَيمان بن عبد الملك ، الذي يقول عنه المؤرِّخون : إنّهُ خليفة المسلمين ، وأعْظمُ مُلوك الأرض . سُليمان بن عبد الملِك يُؤدِّي فريضة الحجّ ، وهو في بيت الله الحرام حاسِرَ الرأس ، حافِيَ القدَمَيْن ، ليس عليه إلا إزارُهُ ، ورداء ، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين ، ومن خلْفِهِ ولداهُ ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً ، وكأكْمام الورْد نظارةً وطيبًا ، وما إن انتهى خليفة المسلمين ، وأعظمُ مُلوك الأرض من الطَّواف حول البيت العتيق ، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ ، وقال أيْن صاحبكم ؟ الآن الملِكُ يسْأل أحدَ خاصَّتِهِ ؛ أيْن صاحبكم ؟ فقال : إنَّهُ هناك قائمٌ يُصَلِّي ، نحن الآن في البيت العتيق ، في بيت الله الحرام والخليفة يسأل أحد المقرَّبين إليه ؛ أين صاحبكم ؟ وأشار إلى ناحيةٍ غربيَّة من المسجد الحرام ، فاتَّجَهَ الخليفة ، ومن ورائهِ ولداهُ إلى حيثُ أُشير إليه، وهمَّ رِجال الحاشِيَة -كما هي الحال دائمًا - أنْ يتْبعوا الخليفةَ لِيَفْتحوا له الطريق ، ويدْفَعُوا عنه أذى الزِّحام ، فثنّاهم ، وقال : هذا مقامٌ يسْتوي فيه الملوك والسُّوقَةُ ‍! يسْتوي فيه الحاكمُ والمحكوم ، والقويّ والضعيف ، والفقير والغنيّ ، والآن الإنسان إذا ذهَبَ إلى الحجّ ؛ وكان من أغنى أغنياء الأرض ، وجلسَ في أفْخَر فندقٍ هناك ، فلا يستطيعُ إلا أن يطوفَ مع عامَّة المسلمين ، ولا يستطيع إلا أن يسْعى في المسْعى ، وإلا أن يقف في عرفات ، ويسير إلى مزدلفة، شأْنُ الحجّ وخصائصُهُ تقتضي أن يكون الحُجَّاج سَواسِيَةً مهما علا بعضهم على بعض .
ويقول هذا الخليفة : ولا يفْضُل فيه أحدٌ على أحد إلا بالقَبُول والتَّقوى ، ورُبّ أشْعَثَ أغبر قَبِلَ على الله فتقبَّلَهُ بِمَا لمْ يتقبَّل به المُلوك ، ورُبَّ أشْعثَ أغبر قدم على الله في بيته الحرام ، فقَبِلَهُ اللهُ بما لمْ يتقبّل به الملوك .
ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل ، فوجدَهُ لا يزال في صلاته ، غارقًا في ركوعِهِ وسُجودهِ ، والناس جُلوسٌ وراءهُ ، وعن يمينه وشمالهِ ، فجلسَ الخليفة حيث انتهى به المجلس ، وجلس معه ولداهُ ، وطفِقَ الفتيان القرشِيَّان يتأمَّلان ذلك الرجل الذي قصَدَهُ أمير المؤمنين ، وجلسَ مع عامَّة الناس ينتظرُ فراغهُ من صلاتهِ ‍! مَن هو هذا الرَّجل ؟! قال : فإذا به شَيْخٌ حبَشِيّ، أسْوَدُ البشَرَة ، مُفَلْفَلُ الشَّعْر ، أفْطَسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد !! مَن هذا الرجل الذي سأل عنه الخليفة ؟ وتوجَّهَ إليه مع ولِيَّيْ العَهْد ؟ رآهُ يُصَلِّي ، فجلَسَ ينتظرُ مع عامَّة الناس ، ولمَّا انتهى الرجل من صلاتهِ مال بِشِقِّه على الجِهَةِ التي فيها الخليفة، فحيَّاهُ سليمان بن عبد الملِك ، فرَدَّ التَّحِيَّة بِمِثلها ، وهنا أقْبَلَ عليه الخليفة ، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ ؛ مَنْسَكًا منْسكًا ، وهو يفيضُ بالإجابة عن كلّ مسْألة ، ويُفصِّلُ القَوْل فيها تفْصيلاً ، لا يدَعُ سبيلاً لِمُسْتزيد، ويُسْنِدُ كلَّ قَوْلٍ يقولهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ولمّا انتهى الخليفة من مُساءلَتِهِ جزَّاهُ خَيْرًا ؛ أيْ قال له : جزاكَ الله خَيْرًا ، وقال لِوَلدَيْه : قومَا ‍فَقامَا ، وقام الثلاثة نحوَ المسْعى ، وفيما هم في طريقهم إلى المسْعى بين الصَّفا والمروَة سمِعَ الفتَيان من يقول : يا معْشَرَ المسْلمين لا يُفْتِي الناسَ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح ، فإن لمْ يوجَد فَعَبْدُ الله بن أبي نجِيح ، فالْتَفَتَ أحدُ الغلامَيْن إلى أبيهِ ، وقال : كيف يأْمُر عامِلُ أمير المؤمنين الناس بِأَن لا يسْتفْتُوا أحدًا إلا عطاء بن أبي رباح وصاحِبِهِ ، ثمَّ جئنَا نحن نسْتفتي هذا الرجل الذي لم يأْبَه للخليفة ، ولمْ يُوَفِّهِ حقَّهُ من التَّعظيم ؟‍!! الآن اسْتمعوا ما قاله سليمان : فقال سليمان لِوَلدِهِ : هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح ؛ هو نفسهُ ! صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام ووارِث عبد الله بن عبَّاس ، يعني خليفة عبد الله بن عبَّاس ، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم ، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم ، ثمَّ أرْدَفَ يقول : يا بنيّ ، تَعَلّم العِلْم ، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع ، سأُذكِّرُكم بِعَطاء بن رباح ؛ شيْخٌ حبشي ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود ‍!! قال له : يا بنيّ هل رأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه ؟ المُتَكَلِّم خليفة المسلمين، الذي يَحْكمُ ثلث الدنيا ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه ؟ يا بنيّ تَعَلّم العِلْم ، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع ، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك ، ولذلك حينما قِيل : رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب ، ليس في هذا مُبالغة إطلاقًا ، فرُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب ، تعلَّموا العِلم ، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم ، أيْ تَفَوَّقْتُم ، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم ، أيْ أصبحْتُم سادةً ، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم ‍، أيْ عِشْتُم ‍بالعلم .
مَن هذا التابعيّ الجليل ؛ عطاء بن رباح ؟ قال : كان عَبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهل مكّة ، وهذه حِكمة ، فقد تكون أنت في أدْنى سلّم المجتمع ، في الطبقة الدنيا ، فقيرًا ، لا يعرفك أحد ، الأب مُتَوَفَّى ، والأم فقيرة ، جاهلة ، وأنت في هذا البيت ، فإذا تعلَّمْتَ العِلْم ، وصَلْتَ إلى العَلْياء، كان عطاء بن رباح عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهْل مكَّة ، غير أنَّ الله عزّ وجل أكْرمَ الغُلام الحبشيّ بِأَنْ وضَعَ قدَمَيْه مُنْذ نُعومة أظفارهِ في طريق العِلْم ، وَواللهِ الذي لا إله إلا هو لا أغْبِطُ أحدًا إلا شابًّا صغيرًا نشأ في طاعة الله ‍! شيءٌ ثمينٌ جدًّا أن تكون في مقْتَبَل العُمر ، تتلقَّى العلْم ، وتُغذِّي عقْلَكَ بالعلم ، وتُغذِّي قلْبكَ بالحبّ ، وتتَّبِعُ منْهجَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فإذا كنتَ شابًّا ، وهذه هي حالُك ، فكيف إذا صِرْتَ شيْخًا ؟ من لمْ تكُن لهُ بِدايةٌ مُحْرقَةٌ ، لمْ تكن لهُ نِهايةٌ مُشْرقة ، والأمر بين أيديكم ، الإله هو الإله ، ربّ محمَّدٍ وأصحاب محمّد هو ربُّنا ، وإلههُم إلهُنا ، فالحقائق واحدة ، والظروف واحدة ، والمعطيات واحدة ، والفرَصُ واحدة ، وبإمكانك أن تكون بطَلاً في أيّ عَصْر ، لا تَكُن خامِلاً ، ولا تكن غير طموحٍ في أمْر الآخرة ، كُنْ طَموحًا بالآخرة ، حبَشِيّ مملوك لامرأة من قريش ، يقفُ أمامهُ خليفة المسلمين ، ويقول له : يا بنيّ ، هل رأيتَ ذلَّنَا بيْن يدَيْك ؟ عبْدٌ حبشي ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفَلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود ‍! قال له هل : رأيتَ ذلَّنَا بين يديك ؟ هذا هو العلم .
هذا العَبْدُ الأسْود الممْلوك لامرأة من قريش ، قسَّمَ وقْتَهُ ثلاثة أقْسام ، وهذا يهمُّنا كثيرًا ، وأنا أتمنَّى عليكم أنْ تُنظِّموا أوقاتكم ؛ وقْتٌ للعمل مِن أجل أن تأكل ، ووقْتٌ من أجل أن تعبدَ الله عز وجل ، ووقْتٌ من أجل أن تطلبَ العِلم ، ولا تسْمَح لِجانِبٍ من حياتِكَ أن يطْغى على جانبٍ آخر ، وإلا ندمتَ أشَدّ النَّدَم ، ولا تسْمح لِعَمَلِكَ أن يأخذ جلَّ وقْتك ؛ إذًا أنت لا تعيش ، ولم تعرف حقيقة الحياة ، ولا تسْمح لِعَمَلِك أن يحْتَوِيَ كلّ وقْتك ، ولا تسْمح لِعِبادتِكَ أن تُنْسيكَ عملكَ الذي ترْتَزِقُ منه ، وازِنْ بين عبادتك ، وبين عملكَ ، وبين طلبِ العلم ، فيجب أن نُنَظِّمَ أوْقاتنا ، عبْدٌ حبشيّ ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفَلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود ‍، ممْلوك لامرأة من قريش نظَّمَ وقْتَهُ ، جعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، ويؤدِّي لها حُقوقها عليه أكْمَلَ ما تؤدَّى الحقوق ، وجَعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِرَبِّه ، يفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ ، أصْفى ما تكون العبادة ، وأخلصَها لله عز وجل ، وجعلَ قِسْمًا ثالثًا لِطَلب العلم ، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ حيًّا من أصْحاب رسول الله ، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة الصافيَة ، فأخذ عن كبار الصحابة كأبي هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم رِضْوان الله تعالى عنهم ، حتى امتلأَ صدره علمًا وفقْهًا وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
مرَّةً ثانيَة ؛ نظِّموا أوْقاتكم ، وقتٌ للعمل ، لا تُلْقوا هُموم العمل إلى البيت ، ووقْتٌ لِعِبادة الله، لا تُشَوِّش هذه العبادة بِهُموم البيت ، ولا بِهُموم العمل ، ووقْتٌ لِطَلب العلم ، وكأنَّك طالبٌ صغير، اِنْسَ كلّ شيءٍ ، اُدْخل إلى بيت الله ، واطْلب العلم ، نظِّم وقْتَكَ ، عَبْدٌ وقفَ أمامهُ ملِكٌ ذليلاً ، ولمَّا رأتْ السيّدة المكيّة أنّ غلامها قد باعَ نفسهُ لله ، ووقفَ حياتهُ على طلب العلم ، تخلَّتْ عن حقِّها فيه ، وأعْتَقَتْ رقبَتَهُ تقَرُّبًا لله عز وجل ، وهذه الحقيقة أيّها الإخوة ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لا تتخلّف أبدًا ، ما معنى هذه الحقيقة ؟ إنَّهُ من طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ ، وهذه الحقيقة جعلَتْ من أبي حنيفة أبَا حنيفة العالم الكبير ! أنا لا أقول لكم : إنَّك إذا طلبْتَ العِلْم تجِدُ المال تحت الوِسادة !! ولكنَّ الله عز وجل يُيَسِّر لك عملاً وقْتُهُ معقول ، ودخْلهُ معقول ، ويسْمحُ لك هذا العمل أن تطلب العلم ، ويستحيل أن تطلب العلم ، ويجعلك الله تحت عملٍ يمتصّ كلّ وقتك ! فمن طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ

[ رواه البخاري ]
وقال أيضا : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ *
[ رواه الدارمي ]
لمَّا يقوم الإنسان وهو بين أهله ويرتدي ثيابهُ ، ويتَّجِهُ إلى بيت الله لِيَطلب العلم ، لا يدري وهو بهذه الحركة أنّه يتحرّك نحو الجنَّة ، وقد سهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنَّة .
حينما أعْتَقَتْهُ سيّدتَهُ اتّخذ عطاءٌ من بيت الله الحرام مُقامًا له ، فجعلَهُ دارهُ التي يأْوي إليها ، ومدرستَهُ التي يتعلَّمُ فيها ، ومُصلاّهُ الذي يتقرَّب إلى الله تعالى فيه ، حتى قال بعض المؤرِّخين : كان المسجد الحرام فِراشَ عطاءِ بن أبي رباح نحْوًا من عشرين عامًا ! أنتَ انظُر أيَّ مكانٍ ترتاح فيه ؟ المؤمن في المسجد كالسَّمَك في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص!! أين ترتاح ؟ المؤمن يرتاح في المسجد ، بيتُ الله تعالى ، العلم القُرْب من الله ، التَّزكِيَة .
وقد بلغَ هذا التابعيّ الجليل منْزلةً من العِلْم فاقَتْ كلَّ تَقْدير ، وسمَا إلى منزلةٍ لمْ يَنَلْها إلا نفرٌ قليل ، فقد رُوِيَ أنَّ عبْد الله بن عمر رضي الله عنهما أمَّ مكَّة معْتَمِرًا ، فأَقْبَلَ الناس عليه يسألونهُ ويسْتفْتونَهُ ، هذا منْ ؟ عبد الله بن عمر ؛ هذا صحابيّ ، وهو ابن عمر بن الخطاب ، فقال : إنِّي لأعْجبُ لكم يا أهْل مكَّةَ ، أتَجْتمِعون عليّ لِتَسْألوني عن أسئلةٍ كثيرة ، وفيكم عطاء بن أبي رباح، صحابيّ يرى أنَّ عطاء بن أبي رباح أشدُّ علْمًا منه .
وصَلَ هذا التابعيّ الجليل إلى ما وصَلَ إليه مِن عُلُوّ في مقامه ، ومن رُتبةٍ عاليَةٍ في علْمِه، بِخَصْلَتَيْن اثْنَتَيْن ؛ الأولى أنَّهُ أحْكَمَ سلْطانهُ على نفْسِهِ ، فلَمْ يدَعْ لها سبيلاً في أنْ ترْتَعَ فيما لا نفْعَ له ، وأنا أعْتقدُ أنَّ إخواننا الكرام ، ورُوَّاد هذا المسجد ، وطُلاَّب العلم الشريف ، يسْتحيلُ أن يُفكِّر الواحد بِعَمَلٍ فيه معْصِيَة ، وهذا حُسْن ظنِّي بكم ، ولكن بَقِيَ كيف تتفاوَتون الآن ؟ في ألاَّ يدعَ أحدُكم وقْتًا يمْضي بلا فائدة ، فَنَحْن نتفاوَت في الاستفادة من كلّ دقيقةٍ من حياتنا ، أحيانًا سهْرة لا طائِلَ منها ، وجلْسة غير مُجْدِيَة ، حديث فارغ ، وموضوع سخيف ، إنَّ الله يُحِبّ مَعالِيَ الأُمور، ويكْرهُ سَفْسافَها ودَنِيَّها ، طبْعًا جميعُ المؤمنين في الأعمّ الأغلب لا يعْصون الله عز وجل ، بلغُوا مرْتبةً أعلى من أنْ يعْصُوا ربَّهم ، تجاوَزُوا هذه المرحلة ، فكيف يتفاوتون الآن؟ وكيف يتمايَزون؟ وكيف يتسابقون ؟ في اسْتغلال أوقات الفراغ ؛ طلبُ علْمٍ ، وقراءة القرآن ، ودعوةٌ إلى الله تعالى ، أمْرٌ بالمعروف ، نهْيٌ عن المنكر ، إصْلاحُ ذات البيْن .
الخصْلة الثانِيَة ؛ أنَّهُ أحْكمَ سُلطانهُ على وقْتِهِ ، فلمْ يهْدرهُ في فضول الكلام والعمل ، أحْكمَ سلطانه على نفسِهِ ، فلمْ يسْمح لها أن تركعَ في المُباح ، وأحكمَ سُلطانهُ على وقتِهِ ، فلمْ يسْمح لِنَفْسِهِ أن يُمضِيَ وقتًا في ما لا طائِلَ منه .
حدّثَ محمَّدُ بنُ سُوقَة جماعةً من زُوَّارِهِ ، قال : ألا سْمِعُكم حديثًا لعلَّهُ ينفعكم كما نفعَني ؟ فقالوا : بلى ‍، قال : نصَحَني عطاء بن أبي رباح ذاتَ يومٍ ، وقال : يا ابْنَ أخي ، إنَّ الذين من قبلنا كانوا يكرهون فُضول الكلام ، قلْتُ : وما فُضول الكلام عندهم ؟ قال : كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ، وأن يُفْهم ، قال تعالى :
[ سورة المؤمنون ]
قال المفسِّرون : كلّ ما سِوى الله تعالى لَغْوٌ ، فأنت إن جَلسْتَ جلسةً فانْتَبِه ، لأنّ المؤمن الصادق لا يتكلَّم كلمةً إلا إذا كان لها معنى عميق ، يفسِّر آية ، يشْرح حديثًا ، يبيِّنُ حكمًا شرعِيًّا، يبيِّنُ عظمة الله تعالى في الخلْق ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، لا يوجد عندهُ كلام فارغ، الكلام اللَّغو ، والموضوعات السَّخيفة ، والمبتذلة والمسْتهلكة ، واسْتِماعٌ إلى قصَّة لا طائل منها ، وغيبة ، مسْتحيل ، وهذا من صفات المؤمن الصادق ، يضْبطُ لِسانَهُ في أعلى درجات الضَّبْط ، قال : كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ، وأن يُفْهم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يُرْوى أو يُدْرى ، أو أمْرًا بِمَعْروف ، أو نهْيًا عن منكرٍ ، أو علْمًا يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى ، أو أن تتكلَّم بِحاجتِكَ ومعيشتِكَ التي لا بدّ منها ، تبْحث عن زوجة ؛ هذا عمل مشروع ، تبحثُ عن عملٍ ، تؤمِّنُ طعامَ أولادك ، تُزَوِّجُ أولادك ، هذه حاجة أساسيَّة ومشْروعة ، ولك فيها حاجة ، وفيها امْتِثال لِقَول الله عز وجل :
[ سورة المائدة ]
هذا محمَّد بنُ سُوقَة الذي نصَحَ جماعةً قد زاروهُ ، وقال لهم : نصحني عطاء بن أبي رباح وقال كذا وكذا ، ثمَّ حدَّق إلى وجهي ، وقال : أَتُنْكِرون قوله تعالى :
[ سورة الانفطار ]
الإنسان أحيانًا يَغْفل أنَّ له ملكان يكْتُبان عنه كلّ شيءٍ .
[سورة الانفطار]
أَتُنْكرون قوله تعالى :
[ سورة ق ]
ثمَّ قال : أما يسْتحي أحدُنا - هذا الكلام كلامُ عطاء بن أبي رباح - لو نُشِرَتْ عليه صحيفَتُهُ التي أمْلاها صَدْر نهارِهِ ، ووجدَ أكْثرَ ما فيها ليس من أمْرِ دينه ، ولا مِن أمْر دُنياه ، أما يسْتحي ؟! من هؤلاء الذين انتفَعُوا بِعَطاء بن أبي رباح ؟ قال : انْتَفَعَ به أهل العِلم المتخَصِّصون ، وأربابُ الصِّناعة المحترفون ، وأقوامٌ كثيرون غير هؤلاء .
حدَّث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسهِ فقال : - طبْعًا هذه قصَّة قد تسْتغرِبونها ، وأنا أسْتغْربُها معكم ، إلا أنَّها ليْسَت مستحيلة الوُقوع ، لأنَّ الإنسان أحيانًا قد يُتقنُ المعلومات النَّظريَّة، ولكن في حيِّز التطبيق قد يضْطرب - أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة ، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، أي حلاَّق ، والإنسان إذا حجَّ أوَّل مرَّة تجدُه قد قرأ كُتُبًا كثيرة ، واسْتمعَ إلى دروس علْم كثيرة في مناسك الحجّ ، يضطرب وينْسى أن يُهَرْوِل ، ينْسى أن يضطبِع ، يبدأُ من اليسار ، وقد يقعُ في أخطاءٍ كثيرة ، وهذه لا تقدحُ في مكانتِهِ ، لأنَّ النَّظري شيء ، والعملي شيءٌ آخر ، قال أبو حنيفة بن النعمان : أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة ، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، وذلك أنَّني أردْتُ أن أحْلِقَ لأَخْرجَ من الإحرام ، فأتَيْتُ حلاَّقًا ، وقلتُ : بِكَم تحْلق لي رأسي ، فقال الحجَّامُ : هداكَ الله ، النُّسُك لا يُشارطُ عليه ، اِجْلس ثمَّ ادْفع ما تريد ، وكانت هذه مخالفة ، لأنّ النُّسُك لا يُشارط عليه ، ولا يُساوَم ، قال : فَخَجِلْتُ وجلسْتُ ، غير أنَّنِي جلسْتُ منحرفًا عن القِبْلة ، فأَوْمَأ إليّ بِأنْ اسْتقبِلِ القِبْلة ، ففعلْتُ وازْدَدْتُ خجلاً على خجلي ، ثمّ أعْطيتُهُ رأسي من جانبي الأيْسَر لِيَحْلقهُ ، فقال : أدِرْ شِقَّك الأيْمن ، فأَدَرْتُهُ ، وجعَلَ يحْلِقُ رأسي ، وأنا ساكتٌ أنظر إليه ، وأعْجبُ منه ، فقال لي : ما لي أراك ساكتًا ؟! كَبِّرْ ، فجَعَلْتُ أُكبِّر حتى قُمْتُ لأَذْهب ، فقال : أين تريد ؟ فقلتُ : أريد أن أمضي إلى رحلي ، فقال : صلِّ ركْعتين ثمَّ امْضِ إلى حيثُ تشاء .
هذه قصَّة مرْوِيَّة عن أبي حنيفة النّعمان ، فيمْكن أن يتلقَّى المسلم العِلْم عن الحجّ بِشَكلٍ دقيق جدًّا ، ثم يذهب ليحجَّ ، فيقعُ في أخطاءٍ كثيرة جدًّا ، لذلك فإنّ المُمارس كما يقولون سبَقَ الفارس، المعلومات النَّظريَّة شيء ، والعمل شيء آخر .
هناك قِصَص أغْربُ من ذلك ، فقد يظنّ المسلم أحيانًا أنَّهُ بلغَ القِمَّة ، فربُّنا عز وجل بِأُسلوبٍ لطيفٍ يؤدِّبُهُ ، ويُنْسيهِ شيئًا بديهِيًّا ، فمرَّة أحد كبار علماء المسلمين ، ولا أذْكرُ اسْمهُ ، أخطأ خطيئةً في مناسِكِ الحجّ ، فقال له : ألَم تقرأْ قَوْل الإمام فلان ؟ وكان الإمام نفسه الذي غلط‍‍! فالإنسان لمَّا يقول أنا ، فمهما علا شأْنُهُ ، هل هناك مَن هوَ أعلى شأنًا من الصَّحابة رضي الله عنهم ؟ صحابةُ رسول الله ، وهم قِمَمٌ في الكمال قالوا كلمة ، ولعلَّهم قالوها في قلوبهم : لن نُغْلَبَ اليوم مِن قِلَّة ، فقال تعالى :
[ سورة التوبة ]
لذلك إذا قال الإنسان : أنا ، ولو كان أحد أكبر علماء المسلمين فقد وقعَ في خطأ فاحشٍ في اخْتِصاصِهِ .
قال : فصلَّيْتُ ركْعتين ، وقلتُ في نفسي : ما ينبغي أن يقعَ مثلُ هذا مِن حجَّام ، ما هذا الحجَّام؟ خمسة أخطاءٍ صحَّحَها لأبي حنيفة ! شيخُ الفقهاء !! قال : لا يقعُ هذا مِن حجَّامٍ إلا إذا كان ذا علْمٍ، فقلْتُ له : مِن أيْنَ لك ما أمرْتني به من المناسك ؟ دقَّة بالغة ، فقال : لله أنت ، لقد رأيْت عطاء بن أبي رباح يفعلُهُ ، فأخذْتُ عنه ، ووجَّهْتُ الناس إليه ، فكان الحجّام تلميذَ عطاء بن أبي رباح .
الحقيقة أنَّ شيئًا في الإسلام عجيبًا ، الحياة تقتضي العمل ، فهذا يعمل في الطعام ؛ خضري، أو سمَّان مثلاً ، وهذا بنَّاء ، وذاك قصَّاب ، إلخ .. لكنَّ رَوعة الإسلام أنَّ أصْحاب الحِرَف إن كان لهم مجْلسُ علْمٍ فهم علماء ، تجد كلامًا دقيقًا ، وحكمًا صحيحًا ، وإدراكًا ، وهذا شيءٌ يُلفِتُ النَّظر ، وهو إنسانٌ عادي له عمل ، ولكن لأنَّ لهُ مجلسَ علْمٍ يتلقَّى العِلْم أسْبوعيًّا أصبح هذا على طريق العلماء ، تجدُ إنسانًا له عمل ، وهو في نظر الناس عادي ، لكن حينما يتكلّم يتكلّم بالحكمة، ويقف الموقف المناسب ، ويتصرَّف بحِكمة بالغة ، وهذه هي آثار مجالس العلم .
أقْبلَت الدنيا على عطاء بن أبي رباح ، فأعْرض عنها أشدّ الإعراض ، وأباها أشدّ الإباء ، وعاش عمرهُ كلَّه يلبسُ قميصًا لا يزيدُ ثمنهُ عن خمسة دراهم ، ولقد دعاهُ الخلفاء إلى مصاحبتهم، فلم يَجِب دعوتهم لِخَشْيَتِهِ على دينِهِ من دُنياهم ، لكنَّهُ مع ذلك كان يَثِبُ عليهم إذا وجدَ في ذلك فائدةً للمسلمين ، أو خيرًا للإسلام ، فإذا اتَّصَل عالمٌ بإنسان له قيمة ، وشأنهُ لِصَالِحِ المسلمين ، فهذا عملٌ صالح ، واللهُ تعالى يتولَّى السرائر ، فعطاء بن أبي رباح أقْبلَت عليه الدنيا أشدّ إقْبال ، لكنَّه أعرض عنها ، ودعاه خلفاء كثيرون إلى مصاحبتهم ، فرفَضَ دعوتهم ، وخَشِيَ على دينِهِ من دُنياهم ، كما قال أبو حنيفة لما عاتبَهُ المنصور ، وقد اجتمع به في أحد دور وُجهاء بغداد ، قال له : يا أبا حنيفة لو تغشَّيتنا ، فقال أبو حنيفة : ولِمَ أتغشَّاكم ، وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه ، وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء ؟ قال له : يا أبا حعفر إنَّك إن قرَّبتني فتَنْتني ، وإنّك إن أبْعدتني أزْريْتني ، وأنا أُمثّل الإسلام !
قال عثمان بنُ عطاء الخرساني : انْطلقْتُ مع أبي نريدُ هِشام بن عبد الملك ، فلمَّا غدونا قريبًا من دمشق ، إذا نحن بِشَيخٍ على حِمار أسْوَد ، عليه قميص صفيق ، وجبَّة ، وقلنْسُوة لاصقة بِرَأسه ، وركابه من خشب ، فضَحِكْتُ منه ، وقلتُ لأبي : مَن هذا ؟! قال : اُسْكُتْ ! هذا سيّد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح ، فلمَّا قرُبَ مِنَّا نزلَ أبي عن بغْلتِهِ ، ونزلَ هو عن حِمارِهِ، فاعْتنقَا ، وتساءلاَ ، ثمَّ عادا فَرَكِبَا ، وانْطلقَا حتَّى وقفَا على باب قصْر هِشام بن عبد الملك ، فلمَّا اسْتقرَّ بهما الجلوس حتى أُذِنَ لهما ، فلمَّا خرج أبي قلتُ له : حدِّثْني بما كان منكما؟ فقال : - الآن عطاء بن أبي رباح سيّد فقهاء الحجاز ، والإنسان المتقشّف ، وصاحب الثِّياب الرخيصة يركب الدابة الرخيصة ، فالبغل غير الحصان ! - بادرَ فأذِنَ له ، وواللهِ ما دخلْت إلا بِسَبَبِهِ ، فلمَّا رآهُ هشام رحَّبَ به ، وقال : مرْحبًا مرْحبًا ، ها هُنا ها هُنا ، أي تعال إلى جنبي ، ولا زال يقول له ها هُنا هَا هُنا حتَّى أجْلسَهُ معهُ على سريرهِ ! وإلى جانبِهِ تمامًا ، ومسَّتْ ركْبتَهُ ركْبته ، وكان في المجْلس أشراف الناس ، وكانوا يتحدَّثون فسَكَتُوا ، ثمّ أقْبلَ عليه هشام فقال : ما حاجتُكَ يا أبا محمَّد ؟ اُطْلُبْ ؟! بعد قليل أذْكر لكم بعض المواقف التي لا ترْضي الله تعالى ، يمكن أن تلتقي مع إنسان بيَدِه الأمر ، وتطلبُ منه حاجةً شَخْصِيَّة ، قال له : يا أبا محمد ما حاجتك ؟ قال: يا أمير المؤمنين ، أهل الحرمين ، أهل الله ، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلّم تُقسِّم عليهم أرزاقهم، وأُعْطِياتهم ، قال : نعم ، يا غلام ؛ اُكْتُب لأهل مكَّة والمدينة بِعَطاياهِم وأرزاقِهِم إلى سنة ، ثمّ قال : هل من حاجة غيرها يا أبا محمد ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل الحجاز ، وأهل مجْدٍ أصْلُ العَرَب ، وقادة الإسلام ترُدّ فيهم فُضول صدقاتهم ، أيْ إذا جنَيت الصدقات منهم، الفضول أَبْقِها في بلادهم ، فقال : نعم ، يا غلام اُكْتُبْ بِأنْ تُردَّ فيهم فُضول صدقاتهم ، قال : هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمّد ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل الثُّغور يقفون في وُجوه عدُوّكم ، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ ، تُجْري عليهم أرزاقًا تدرّها عليهم ، هم بِحاجة إلى مساعدة ، وهم إنْ هلَكوا ضاعت الثّغور ، قال : نعم ، يا غلام اُكْتب بِحَمْل أرزاقهم إليهم ، هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمد ؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين أهل ذِمَّتكم لا يُكلَّفون ما لا يُطيقون ، فإنَّما تَجْبون منهم مَعونةٌ لكم على عدوّكم ، أيْ لا تُكلِّفوا أهل الذمَّة ما لا يُطيقون ، قال: يا غلام ، اُكتبْ لأهْل الذمَّة ألاَّ يُكلَّفوا ما لا يطيقون ، قال : هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمّد ؟ قال : نعم ، اتَّقِ الله في نفْسِكَ يا أمير المؤمنين ، واعْلَم أنَّكَ خُلِقْت وحْدك ، وسوف تموت وحْدك ، وتُحْشرُ وحدك ، وتُحاسَبُ وحْدك ، ولا واللهِ ما معك أحدٌ مِمَّن ترى أمامك ، حينما تموت ، وحينما تُحشَر، وحينما تُحاسب ، فأكَبَّ هِشامٌ ينْكت في الأرض وهو يبْكي ! فقام عطاءٌ فَقُمْتُ معه ، فلمَّا صِرْنا عند الباب إذا رجُلٌ قدْ تَبِعَهُ بِكِيسٍ لا أدري ما فيه ، وقال له : إنَّ أمير المؤمنين بعَثَ لك بِهذا ، فقال : هيْهات ، وما أسألكم عليه من أجْرٍ إنْ أجريَ إلا على ربّ العالمين ! فوالله إنَّهُ دخل على الخليفة ، وخرج من عنده ، ولم يشْرب قطْرةَ ماءٍ ، يمْكن أن تدخل على الخليفة ، اُدْخل على الملك ، فإذا كانت لك مكانةٌ عندهُ ، واطْلُب منه تَلْبِيَة حاجات المسلمين من دون طلب حاجات شخْصِيَّة .
عُمِّرَ عطاء بن أبي رباح حتى بلغَ مائة عامٍ ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[ رواه الترمذي ]

لا يوجد أجْمل من عمْرٍ طويل في طاعة الله ، ولا يوجد أصْعب من عمْرٍ طويل في معصِيَة الله، قال تعالى :

[ سورة النحل ]
إخواننا الشباب ، أنتم بِطَاعتكم لله ، وفي سِنّ شبابكم ، يُدَّخَر لكم ، وأنتم لا تشعرون ، شَيْخوخة من أرْوع فترات العُمْر ، لأنَّهُ مَن حفِظَ نفسهُ صغيرًا حفظها الله له كبيرًا ، ومن تعلَّمَ القرآن في شبابه متَّعَهُ الله حتى يموت ، أنا أقول لكم وهذه بِشَارة من رسول الله : إنّ الشابّ إذا أقْبَلَ على طلب العلْم ، وامْتلأتْ جوانحه بِحُبّ الله ورسوله ، وضبطَ جوارحهُ ، وسلوكه بالكتاب والسنة ، فهذا الشابّ له خريف عُمُرٍ يتمنَّاهُ الإنسان تَمَنِّيًا ، وقد لا يصِلُهُ ، وكنت قد حدَّثكم أنَّ رجلاً بدأ بِتَعليم أولاد المسلمين في الثامنة عشرة من عُمُره ، وامْتدَّ به العمر حتى الثامنة والتِّسْعين ، وكان إذا رأى شابًّا في الطريق يقول له : يا بنيّ أنت كنت تلميذي قبل أعوام ، وكان أبوك تلميذي ، وكان جدّك تلميذي ‍‍!! وكان منتصِبَ القامة ، وحادّ البصر ، مرهفَ السَّمع أسنانُهُ في فمِهِ ، وذاكرتُهُ قَوِيَّة ، فكان إذا قيل لهُ : يا سيِّدي ما هذا ؟ يقول : يا بنيّ ، حفظناها في الصِّغر ، فحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ، من عاش تقِيًّا عاش قوِيًّا .
عاش عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام ، ملأها بالعلم والعمل ، وأتْرعها بالبرّ والتقوى، وزكَّاها بالزُّهْد بما في أيدي الناس ، والرغبة بما عند الله ، وللهِ درُّ القائل حين قال :
***
لا تسْألنَّ بُنَيّ آدم حاجــةً وسَل الذي أبوابهُ لا تُغلــقُ
الله يغضبُ إن تركْت سؤالهُ وبنيّ آدم حينما يُسأل يغضبُ
***
الحسن البصري سُئلَ بما نِلْتَ هذا المقام ؟ قال : باسْتغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علْمي ، فلا يليق بالعالم إلا أن يستغني عن دنيا الناس ، وأن يحتاج الناس إلى علْمِهِ ، أما إذا زهِد الناس في علمِهِ ، واحتاج هو إلى دنياهم فالوَيْل له ، وسقط حينئذٍ من أعْيُن الناس ، فإذا أتاه اليقين وجدهُ الموتُ خفيف الحِمْل من أثقال الدنيا ، وكثيرَ الزاد من عمل الآخرة ، ومعه فوق ذلك سبعون حجَّةً ، ووقفَ خلالها سبعين مرَّة على عرفة .
هذا تابعي من التابعين ، عَبْدٌ أسْود ، وحبشي ، ورأسهُ مفلفل ، وأنفه أفطس وقف أمامه أمير المؤمنين ذليلاً ، قال له : يا بنيّ ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه ؟! تعلَّموا العلمَ ، فإنْ كنتم سادةً فُقْتُم ، وإن كنتم وسطًا سُدْتم ، وإن كنتم سوقةً عِشْتم ، ورتبة العلم أعلى الرتب ، والعلم لا يُعْطيك بعضَهُ إلا إذا أعْطيتهُ كلَّكَ ، فإذا أعْطيتهُ بعْضكَ لم يعْطِكَ شيئًا ، وأنا أُقدِّم لكم مِقْياسًا دقيقًا، ابْحث عن صديق من سنِّك لم يطلب العلم ، واجْلِس معه نصف ساعة واسْتَمِع إلى كلامه تجده سخيفًا ، ومزْحَهُ رخيصًا ، ونظراته غير منضبطة ، ولسانه غير مهذَّب ، وتعليمات سخيفة، وآراءه غير صحيحة ، فبين مَن يطلب العلم وينضبطُ عملهُ بالعلم ، وبين من يتفلتُ من العلم وادٍ سحيق ، ومسافة كبيرة ، فالثاني كالدابة الهائمة على وجهها .
عطاء بن أبي رباح نظَّمَ وقْتهُ حينما كان عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من قريش ، فكان ثلث وقتهِ لخِدْمةِ سيِّدته ، والثلُث الثاني لأداء عباداته ، والثلث الثالث لطلب العلم ، ولا تظن أنَّك في سَاعة بالأسبوع تتعلّم منها سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي سَاعةٍ أخرى تتعلَّم فيها السنَّة الشريفة ، وفي سَاعة ثالثة تتعلَّم كتاب الله ‍، إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم .







رد مع اقتباس
قديم 13-04-2009, 03:58 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
صاحب الموقع
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


admin غير متواجد حالياً


افتراضي

ما شاء الله موضوع مميز اخى الحبيب







التوقيع

الظاهر بيبرس

رد مع اقتباس
قديم 13-04-2009, 04:28 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


مسلمة وافتخر غير متواجد حالياً


افتراضي

جزاك الله خيرا الموضوع رائع







رد مع اقتباس
قديم 14-04-2009, 08:25 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي سعد بن أبي وقاص

سعد بن أبي وقاص
الأسد في براثنه

أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم، والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه لبقود جيوش المسلمين، في معركة فاصلة ضد الفرس.
وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..
ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود، وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه..
وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف، معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والاسلام يعيش أيامه الفاصلة، عمل غير سديد..
وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب، فانتقل مع بعض أهل المدينة الى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف، وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة، وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..
ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي، وعاد يسأل أصحابه:
فمن ترون أن نبعث الى العراق..؟؟
وصمتوا قليلا يفكرون..
ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!
قال عمر: فمن هو..؟
قال عبد الرحمن: "الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."
وأيّد المسلمون هذا الاختيار، وأرسل أمير المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه امارة العراق، وقيادة الجيش..
فمن هو الأسد في براثنه..؟
من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:
"
هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله"..!!
انه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف، عم السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لقد عانق الاسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان اسلامه مبكرا، وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
" ..
ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الاسلام"..!!
يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا الى الاسلام..
ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول الله مبايعا..
وانّ كتب التارييخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه..
ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه باقناع أبي بكر ايّاهم، وهم عثمان ابن عفان، والزبير ابن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.
ومع هذا لا يمنع سبقه بالاسلام سرا..
وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..
بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، الا بشيئين عظيمين..
أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا..
وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
"
ارم سعد فداك أبي وأمي"..
أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين، ويلهج يشكر الله عليهما فيقول:
"
والله اني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".
ويقول علي ابن أبي طالب:
"
ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي"..
كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..
اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. واذا دعا الله دعاء أجابه..!!
وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له هذه الدعوة المأثورة..
"
اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته".
وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد الا مفوّضا الى الله أمره.
من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:
"
رأى سعد رجلا يسب عليا، وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينته، فقال له: اذن أدعو عليك، فقال ارجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!
فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم، فاجعله آية وعبرة..
فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس، كأنها تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..
ان هذه الظاهرة، تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق اخلاصه.
وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال، فهو يرفض في اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..
ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه الله الكثير، الحلال، الطيب..
وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاهيها، قدرته في انفاقه في سبيل الله..
في حجة الوداع، كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصابه المرض، وذهب الرسول يعوده، فساله سعد قائلا:
"
يا رسول الله، اني ذو مال ولا يرثني الا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
قال النبي: لا.
قلت: فبنصفه؟
قال النبي: لا.
قلت: فبثلثه..؟
قال النبي: نعم، والثلث كثير.. انك ان تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..
ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..
وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.
وكان اذا استمع للرسول يعظهم، ويخطبهم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..
وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..
ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره الى الأفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:
"
يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة"..
وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..
وبعد حين قريب، طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى الله من عمل وعبادة، جعله أهل لهذه المثوبة، وهذه البشرى.. فقال له سعد:
"
لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".
هذا هو الأسد في براثنه، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..
وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..
كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الاسلام والمسلمين..
انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل الله النصر أعطاه اياه..
زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..
وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..
وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وأخرى، لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور، تلك هي صلابة الايمان..
ان عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..
لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلاك..
كل ذلك وسعد لا يبالي، ولا يبيع ايمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون هذا الشيء حياةأمه..
وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..
وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..
بيد أن ايمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر، وعلى كل لاذ، فاقترب بوجهه من وجه أمه، وصاح بها لتسمعه:
"
تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..
فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!
وعدلت أمه عن عزمهت\ا.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد، ويؤيده فيقول:
(
وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)..
أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟
اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ، وأدهى دهاتها..
أجل الى هؤلاء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان، وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة..!!
والتقى الجمعان.
ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..
وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية، فانها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:
"
يا سعد بن وهيب..
لا يغرّنّك من الله، أن قيل: خال رسول الله وصاحبه، فان الله ليس بينه وبين أحد نسب الا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سوء.. الله ربهم، وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه، فالزمه، فانه الأمر."
ثم يقول له:
"
اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟
وأين يكون عدوّكم منكم..
واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!
ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.

وينزل سعد القادسية، ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا، كما لم يتجمعوا من قبل، ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..
ويكتب سعد الى عمر، فيكتب اليه أمير المؤمنين:
"
لا يكربنّك ما تسمع منهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله، وتوكل عليه، وابعث اليه رجالا من أهل لنظر والرأي والجلد، يدعونه الى الله.. واكتب اليّ في كل يوم.."
ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:
"
ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".
ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..
ان سعد الفارس الذكي المقدام، خال رسول الله، والسابق الى الاسلام، بطل المعارك والغزوات، والذي لا ينبو له سيف، ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى، ويقف وكأنه جندي عادي.. لا غرور القوة، ولا صلف الزعامة، يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد، فيرسل له كل يوم كتابا، ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب، المشورة والرأي...
ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده، ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب، أن يحرم نفسه، ولا أن يحرم جيشه، من بركة الشورى وجدواها، لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..

وينفذ سعد وصية عمر، فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى الله والى الاسلام..
ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس، وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:
"
ان الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الحكام الى عدل الاسلام..
فمن قبل ذلك منا، قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله.."
ويسأل رستم: وما وعد الله الذي وعدكم اياه..؟؟
فيجيبه الصحابي:
"
الجنة لشهدائنا، والظفر لأحيائنا".
ويعود لبوفد الى قائد المسلمين سعد، ليخبروه أنها الحرب..
وتمتلىء عينا سعد بالدموع..
لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا، أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!
فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم، أولوأنها استأخرت حتى يبل ويشفى، اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن، لا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز، والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة، ولا يعجز أبدا..
عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا، مستهلا خطابه بالآية الكريمة:
(
بسم الله الرحمن الرحيم..
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين، ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو، وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..
وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..
دمامله تنبح وتنزف، ولكنه عنها في شغل، فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!
وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل، يجعل من كل جندي فردا، جيشا بأسره..
وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح.ز وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!
وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم، وطاردهم كالجيش المسلم عتى نهاوند.. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه، غنيمة وفيئا..!!
وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..
وكانت موقعة المدائن، بعد موقعة القادسية بقرابة عامين، جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين، حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها، متأهبة لموقف أخير وفاصل..
وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..
هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!
ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر، ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!
وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..
وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العطو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين..
الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابنعمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو..
وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..
ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..
نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..
وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة، ويقول:
"
ان الاسلام جديد..
ذلّلت والله لهم البحار، كما ذلّل لهم البرّ..
والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا، كما دخلوه أفواحا"..!!
ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا، خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا، بل لم تضع منهم شكيمة فرس..
ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه، فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء، فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله، ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!
وتصف لنا احدى الروايات التاريخية، روعة المشهد وهم يعبرون دجلة، فتقول:
[
أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس وراءه، لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين، ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة، وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كأنهم يتحدون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!
ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق، راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة، وأرسى قواعد الاسلام في البلاد العريضة الواسعة..
وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد، فزعموا زعمهم الضاحك، قالوا:" ان سعدا لا يحسن يصلي"..!!
ويضحك سعد من ملء فاه، ويقول:
"
والله اني لأصلي بهم صلاة رسول الله.. أطيل في الركعتين الأوليين، وأقصر في الأخريين"..
ويستدعيه عمر الى المدينة، فلا يغضب، بل يلبي نداءه من فوره..
وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة، فيجيب سعد ضاحكا:
"
اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟
ويؤثر البقاء في المدينة..
وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه، اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ستة رجال، ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.
بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة، أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..
فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:
"
ان وليها سعد فذاك..
وان وليه غيره فليستعن بسعد".
ويمتد العمر بسعج.. وتجيء الفتنة الكبرى، فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..
وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه، ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويقول له:
يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر.
فيجيبه سعد:
"
أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، واذا ضربت به الكافر قطع"..!!
ويدرك ابن أخيه غرضه، ويتركه في عزلته وسلامه..
وحين انتهى الأمر لمعاوية، واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
مالك لم تقاتل معنا..؟؟
فأجابه:
"
اني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ .. أخ..
واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."
فقل زعاوية: ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:
(
وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فان بغت احداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله).
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
أجابه سعد قائلا:
"
ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله: أنت مني بمنزلة هرون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".
وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة، وقد جاوز سعد الثمانين، كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله.
ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:
[
كان رأس أبي في حجري، وهو يقضي، فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟
ان الله لا يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]..!!
ان صلابة ايمانه لا يوهنها حتى رهبة المةت وزلزاله.
ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان..ز واذن ففيم الخوف..؟
[
ان الله لا يعذبتي أبدا، واني من أهل الجنة].
بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها، ثم أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق، ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:
[
لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!
اجل، ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا، صادقا شجاعا!!
وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة، ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى الله، ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.










رد مع اقتباس
قديم 17-04-2009, 01:38 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي عامر بن عبد الله التميميّ

عامر بن عبد الله التميميّ


أيها الإخوة الكرام ، إنّ الإنسان في هذا الزمان الذي أنبأ به النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ *
[ رواه الترمذي ]

وهذا الحديث معروف عندكم ، وهناك أحاديث كثيرة تُذكِّرُ بِهُبوط الإنسان في آخر الزمان ، يصبح المعروف منكرًا ، والمنكر معروفًا ، يصبحُ المطر قيظًا ، والولد غَيْظًا ، ويفيضُ اللئام فَيْضًا ، ويغيظ الكرام غَيْظًا ، أحاديث لا مجال لِذِكْرها ، ولكنَّها تبيِّنُ أنّ حالة الإنسانيَّة في آخر الزمان في هُبوطٍ أخير ، هناك سُقوط ، وانْهِيارُ قِيَم ، وانْهِيارُ مبادئ ، وانْهيار مُثُل ، واستعار الشَّهوات والفِتَن ، فالإنسان في زحْمة هذه الحياة ، وفي زحْمة هذه الفتن ، حينما يسْتمعُ إلى قصَّة صحابيّ أو تابعيّ ، يرى النُّبْل ، والصِّدق ، ويرى الإخلاص ، والأمانة ، والاندفاع إلى الله عز وجل ، وكأنَّني أُشبِّه الإنسان برجلٍ يمشي في صحراء ؛ الحرّ شديد ، ورِمَال ، ثمّ يرى عن بُعْدٍ واحةً من أشجار نخيل وغدير ماءٍ ! فنحن إذا دخلنا بيت الله ، واسْتمعنا إلى قصّة صحابي أو تابعي ، وعِشْنا ساعةً في هذه القِيَم الرفيعة ، والمُثُل الفائقة ، هذا مِمَّا يَدْعو أن تُنزَّل علينا الرحمة، للقَوْل الذي تعرفونه جميعًا ، "عند ذِكْرِ الصالحين تتنزَّل الرَّحَمَات " ، والإنسان حينما يرى هؤلاء الأبطال ، وهؤلاء الصحابة الكرام ، وهؤلاء التابعين ، يرى بطولاتهم ، ووُضوح الرؤية عندهم ، ويرى انْطلاقًا إلى جنَّة لا يفْنى نعيمها ، هذا يكون لنا دافعًا وباحِثًا ، ومُشَجِّعًا ، إنّهم قُدْوةٌ لنا ، والشيء الخطير أيُّها الإخوة أنَّه كما يُقال : قلْ لي مَنْ قُدْوتُكَ أقُلْ لكَ مَن أنت ، أهل الدنيا قدوتهم مِن جِنْسِهم وعلى شاكلتهم ، فالتاجر قدْوتهُ تاجرٌ أكبر منه ، والصِّناعيّ قدوَتُهُ صِنَاعِيّ أكبر منه ، والمثقَّفُ ثقافةً عِلمانِيَّة قدْوتُهُ علمانيٌّ أكثر ثقافة منه ، والقويّ قُدْوتُهُ قويّ أكبر منه ، ولكنَّ المؤمن قدوتهُ رسول الله وصحابتُهُ الكرام ، الذين سَبَقُوهُ في مجال الإيمان ، لذا فهذه الدروس أيّها الإخوة نعيشُ بها جميعًا ساعةً ، وكأنَّنا في واحةٍ عقِبَ مسيرة في صحراء حارَّة ، لأنَّ الذي يحْصَل أنَّك في الأيَّام كلِّها تسْتمِعُ إلى قِصَصٍ مُؤدَّاها سقوط الإنسان ، ومادِيَّة الإنسان ، وشحّ الإنسان ، ولُؤْمُ الإنسان ، وقَسْوةُ الإنسان ، ونفاقُهُ ، وجهْلُه ، وحياةٌ فيها جهْل وسُقوط وحِقْد ولؤْم ، وفيها أنانيّة وعُدوانٌ وبَغْي ، وفيها تجاوُز ، فإذا انتقلنا إلى هؤلاء الأبطال الذين عاشُوا حياتهم سُعَداء وكانوا مُلوكًا ، مُلوك الدار الآخرة ، وكانوا أبطالاً ، وكانوا أعلامًا ، عشنا حينئذٍ ساعة روعة و شوق .
فعامِرُ بن عبد الله التميميّ كان مِن التابعِين الأجِلاَّء ، وقبل أنْ أدْخل في تفاصيل حياتِهِ ، لفَتَ نظري في هذا التابعيّ الجليل توازنُه في حياته ، فهو في عبادته كأرقى العابدين ، ولكن إذا انتقلْتَ إلى عملهِ في النهار كان أرقى المجاهدين ، وإذا انتقلْت إلى صبْرِهِ كان أشدّ الصابرين ، والحقيقة كما كنت أقول لكم دائمًا : نحن مع التَّفوّق لا مع التَّطرّف ! نحن مع أنْ يَنْمُوَ الإنسان في جوانِبِهِ الثلاثة ، أن ينْمُوَ عَقلهُ ، وأن ينْمُوَ قلبهُ ، وأن ينضبِطَ سُلوكهُ ، ويرقى عملهُ بِشَكْل متوازٍ.
يُقال : كانت البصْرَةُ على حداثتِها من أغنى بلاد المسلمين ، ومن أوْفرها ثرْوةً ، بما كان يتدفَّق عليها من غنائِمِ الحرب ، ولكنَّ الفتى التميميّ عامر بن عبد الله لمْ يكن له أرَبٌ في ذلك كلّه، لقد كان زاهدًا بِمَا في أيدي الناس راغبًا بما عند الله .
أيها الإخوة ، هذه جملة خطيرة جدًّا ، فالمؤمن يزْهدُ بِمَا في أيدي الناس ، ويرْغبُ بما عند الله ، فإذا زهدْتَ بما في أيدي الناس أحبَّكَ الناس ، وإذا رغبتَ بما عند الله أحبَّك الله ، والعكس غير صحيح ، أيْ إذا أحببت ما عند الناس ، وطمعْت في مالهم أبْغضَكَ الناس ، وإذا زهدْتَ بما عند الله أبْغضك الله تعالى .
رجل البصْرة الأوَّل ؛ الصحابيّ الجليل أبو موسى الأشعري كان والِيَ المدينة الزاهرة ، وهو قائد الجيوش فيها ، وإمامُ أهلها ، ومعلِّمُهم ، ومرشدهم إلى الله عز وجل ، لزِمَ عامر بن عبد الله التميميّ أبا موسى الأشعري في سِلْمه وحربِهِ ، نقول : إنهم تابعون ، ومعنى " تابعون" أنَّ هؤلاء اقْتدَوا بالصحابة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، حيث بقيَ عددٌ غيرُ قليل من أصحاب رسول الله رِضْوان الله تعالى عليهم ، فهؤلاء التابعون لَزِموا صحابة رسول الله ، فهذا التابعيّ عامر بن عبد الله التميميّ لَزِمَ أبا موسى الأشعري في سلمه وحربهِ ، وفي حِلِّهِ وترْحالِهِ ، فأخذ عنه كتاب الله طريًّا كما نزل على فؤاد محمَّد صلى الله عليه وسلّم ، لأنّ القرآن يجب أن تتلَقَّاهُ قِراءةً ، وأنْ تتلقَّاهُ فهْمًا ، وأنْ تقْتَدِيَ بِمَن يُطَبِّقُهُ ، وتحضرني كلمة أُعْجَبُ بها ، هي في كتاب العُكْبُري ، يقول عن كتاب الله العزيز : " تؤخذُ ألفاظهُ من حُفَّاظِهِ ، وتؤخذُ معانيهِ مِمَّن يُعانيه"، يجب أن تلْتقي بإنسانٍ يُعاني هذه المعاني ، ويعيشُها ، وشتَّان بين من يتكلَّم عن معاني القرآن ، وهو لا يُعانيها ، وبين من يتكلَّم عن معاني القرآن ، وهو يُعانيها ، وفي الحقيقة عندنا في الأدب مِقياس مِن أرقى المقاييس في رُقِيِّ النصّ الأدبي ، يُسَمِّيه الأدباء والنُّقاد (الصِّدْق الفني) ، ومعْنى الصِّدق الفنيّ أن يصْدر الأديب عن تجربةٍ حيَّة يعيشها ، وعن عاطفةٍ صادقةٍ ، فالإنسان إذا حدّثنا عن حقيقة عاشها أبكانا ، أما إذا حدَّثنا عن مشكلةٍ خياليَّةٍ لم يُبْكِنا إطلاقًا ، فإذا أردْت أن تتأثَّر بأدبٍ ما فابْحَث عن أديبٍ صادقٍ فيما يقول ، صِدْقُهُ فنيّ ، فأنت لو اسْتمعْتَ مِن فقيرٍ يصفُ حالة الفقْر ، ربّما راق له قلبك ، أما لو اسْتَمَعْت إلى غَنِيٍّ مُتْرفٍ يصفُ لك حالة الفقْر ، ربَّما نفرْتَ من كلامه ، لأنَّه لا يعرفُ الشَّوْق إلا من يُكابِدُه ، ولا الصَّبابة إلا من يُعانيها .
فأخذ هذا التابعيّ الجليل عن أبي موسى الأشعري كتاب الله رطبًا طرِيًّا كما نزل على فؤاد محمد صلى الله عليه و سلم ، وروى عنه الحديث صحيحًا مَوْصولاً بالنبي الكريم الله صلى الله عليه وسلّم ، وتفقَّهَ على يدَيْه في دين الله عز وجل ، فلمَّا اكْتَمَلَ له ما أراد من العِلْم جعَلَ حياتهُ أقْسامًا ثلاثة ، ذكرتُ أشياءَ دقيقة ، أنت بِحاجةٍ إلى درس تفسير كتاب الله ، وهل مِن كتابٍ على وجه يمكن أن يكون أهَمّ في حياتك من كتاب الله ؟ هو منْهجك ، وأنت بِحَاجةٍ ماسَّةٍ إلى درْسٍ في الحديث الشريف وشرحه ؛ لأنّ الله عز وجل يقول :
[ سورة الحشر ]
فمعرفةُ الذي أتانا به النبي أو آتانا إيَّاهُ النبي فرْضُ عَيْنٍ على مسلم ، هذا البند الثاني.
أنت كَزَوْج ، أو موظَّف ، أو طبيب ، أو تاجر ، أو محامي ، أنت في أمسّ الحاجة إلى أن تعرف الأحكام الفقْهيَّة المتعلِّقة بِحِرْفتكَ وحياتك ، فأنت كَزَوْج عليك معرفة حقوق الزوج والزوجة ، وطريق معاملة الأهل كما كان يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي التجارة ، حقوق البيع والشِّراء وشروطهما ، والدَّيْن والحوالة ، والوكالة ، وأنت بِأمسّ الحاجة إلى درسٍ في السيرة ، لأنَّ السيرة إسلامٌ عملي ، وحقيقة مع البرهان عليها ، فلمَّا اكْتملَ لهذا التابعيّ الجليل العلْم جعَلَ حياتَهُ أقسامًا ثلاثة ؛ وهذا ينقلنا إلى تنظيم الحياة .
أيها الإخوة الكرام ، أُناسٌ كثيرون جدًّا يكونون ضَحِيَّة الدنيا ، لا تنظيم في حَياتِهِ ، يأتي بهُموم عملهِ إلى البيت ، فَيَشْقى في بيتِهِ ، وينقل هموم بيتِهِ إلى عملهِ ، فيَشْقى في عمله ، فإذا دَخَلَ إلى بيت الله كانت كلّ مشكلات التجارة في ذهنه في أثناء الصلاة ، لقد صلّّى أحدهم صلَّى وراء الإمام فقال له : أنت صلَّيْت ركعتين فقط في صلاة المغرب ، فقال الإمام : هذا غير معقول! فقال المُصَلِّي : لا ، لأنَّ لي ثلاثة محلاَّت تِجاريَّة ، في كلّ ركعة أَحُلّ مشاكل محلّ ، وبقي المحلّ الثالث ما حللْتُ مشاكله !! يأتي هؤلاء بِهُموم العمل إلى المسجد ، وبهموم البيت إلى العمل ، وبهموم العمل إلى البيت ، ويكون في النهاية ضَحِيَّة عدم تنظيم حياته ، لذا أيها الإخوة نظِّموا أوقاتكم ، وإنّ لله عملاً بالليل لا يقبلهُ بالنهار ، وعملاً بالنهار لا يقبلهُ بالليل ، وقْتٌ لأهلك، ووقْتٌ لأولادك ، ووقْتٌ لعَمَلِك ، وقت لِعِبادتك ، ووقْتٌ لطلب العلم ، فتَنظيم الأوقات هو الذي يجعلكَ تكْسبُ الدنيا ، واللهُ عز وجل قال :
[ سورة الانشقاق ]
قرأتُ مرَّةً مقالة في مَجلَّة مفادها أنَّ في حياة الإنسان ثلاثة أشياء ؛ الوقت والصحّة والمال، ومن أجل أن تزهدوا في هذه الدنيا ، ففي مرحلة الشباب الصحَّة متوفِّرة ، وليس عندهُ مشكلة ، قلب ، دساَّمات ، ضَغط ، كولسترول ، شحوم ثلاثيَّة ، أسيد أوريك ، تجده يطحن الحجارة ، وفي أوَّل مرحلة الشباب الوقت وافر والصَّحة وافرة ، ولكن لا يوجد المال ، وفي المرحلة الثانية الصَّحة موفورة ، والمال موفور ، ولكن ليس لديه الوقت لِيَتَنَعَّم بالمال ، من لِقاء إلى لِقاء ، واجْتِماعات ، دوام ، وعمل مضنٍ ، وهموم ، ولو ذهَب إلى نزْهة لوجدتَهُ ساهيًا ! ففي المرحلة الثانية المال موجود والصَّحة موجودة ، ولكن ليس لديه الوقت ، وفي المرحلة الثالثة المال موجود، تقاعَدَ سلَّم أولادهُ زمام الأمور ، والوقت موجود ولكن لا توجد الصحَّة ، في جِسْمِهِ خمسون علَّة ، وهذه هي الحياة ؛ تغرُّ ، وتَضُرّ ، وتمُرّ ، ولكن حياة المؤمن ليست هكذا ، المؤمن عرف هدفهُ من بداية الحياة ، وشكَّل حياتهُ تشْكيلاً إسلاميًّا ، وجعل هدفهُ واضِحًا ، وجنَّدَ طاقاته ونشاطاته ومالهِ ووقتهُ في سبيل هذا الهدف ، لاحِظ إنْ أتَيْتَ بِعَدسة ، ووقفتَ تحت أشعَّة الشَّمس وجعلتَ مِحْرقها تحت ورقة ، فستحترق هذه الورقة ! فالذي حدث أنَّ هذه الأشعّة اجْتمَعت في نقطة فأحْرَقَتْ ، والإنسان إذا تجمَّعَتْ طاقاتهُ في شيءٍ واحد يُحَقِّق المستحيل ، أما أهل الدنيا فهم مبعْثَرون مُشَتَّتون ، أما المؤمن فهو مجموع ، عضلاته وخِبْراته وعلمه ومالهِ وذكاؤه ، وثقافته ، ومطالعته ، وطلاقة لِسانه ؛ يفعل بها المستحيل ، وكلّ ذلك في سبيل الله .
هذا التابعي الجليل قال : شطر في حلقات الذِّكْر يقرأُ فيه الناس القرآن الكريم في مسجد البصرة ، وشطْر في خَلَوات العبادة ينتصبُ فيه قائمًا بين يدي الله عز وجل حتى تَكِلَّ قدَماه ، وشطْرٌ في ساحات الجهاد يسَلّ فيها سيْفًا غازِيًا في سبيل الله ، فهو في الجهاد تارةً ، وفي العبادة تارةً أخرى ، وفي طلب العلم وتعليمه تارةً ثالثة ، ولمْ يتْرك في حياته موضِعًا لشيءٍ غير ذلك ، حتى دُعِيَ بِعَابِدِ البصْرة ، وزاهدها الأوَّل .
أحدُ أبناء البصْرة قال : سافرْتُ في قافلةٍ فيها عامر بن عبد الله التميميّ ، فلمَّا أقْبَلَ علينا الليل نزلْنا بِغَيْضةٍ فجَمَعَ عامرُ متاعَهُ ، وجمعَ فرسَهُ بِشَجَرةٍ ، وطوَّلَ له زِمامهُ ، وجمعَ له مِن حشائش الأرض ما يُشْبعُهُ ، وضرحهُ أمامه ، ثمّ دخل الغَيْضة وأوْغَلَ فيها ، فقلْتُ في نفسي : والله لأتْبعنَّه ، ولأنْظرنَّ ما يصْنعُ في أعماق الغَيْضة في هذه الليلة ، فمضى حتى انتهى إلى رابيةٍ ملْتفَّة الشجر ، مسْتورة عن الأعيُن فاسْتقبل القبلة ، وانتصبَ قائمًا يصلِّي ، فما رأيْتُ أحْسنَ من صلاته ، ولا أكمل ولا أخْشع ، ولما صلى ما شاء أن يصلِّي طفقَ يدْعو ربّه ويُناجيه، فكان ممَّا قال : إلهي قد خلقتني بِأمرك ، وأقمْتني في بلادك بِمَشيئتك ، ثمّ قلت ليَ : اسْتَمْسِك ، فكيف أسْتمسِكُ إن لم تمسِكْني بِلُطفك يا قويّ يا متين ‍.
أيها الإخوة الكرام ، الإنسان لا بدّ أن تكون له مناجاة مع الله تعالى ، وساعة يخْلو بها بِرَبِّه ؛ في سجوده ، وفي صلاته ، وفي ذكره ، هذه شحنة ، أنا مرَّةً مِصباحٌ كهربائي علَّمني درسًا لا أنساهُ ، مصباحٌ يُشْعل بالكهرباء ، كنتُ إذا نسيتُ أن أشْحنهُ ، وأردْتُ أن أسْتعملهُ فجأةً أضْغطُ الزرّ ، فإذا الضوء باهت ضئيل ، أما إذا شحنتُهُ ، وأردتُ أن أستعملهُ أرى له ضوءًا كَضَوء الشمس ، فكذلك المؤمن كلما شحنْتهُ تألَّق ، والشَّحنُ يكون عن طريق العبادة ؛ فالصلاة شَحن ، والذِّكر شحن ، والاستغفار شحن ، والدعاء شَحن ، وتلاوة القرآن شحن ، فبِقَدْر ما تشْحنُ نفْسكَ تتألَّق ، فهكذا كان هذا التابعيّ الجليل .
كان يقول : إلهي إنَّك تعلم أنَّه لو كانت ليَ هذه الدنيا بما فيها ، ثمَّ طُلِبَتْ مِنِّي مرْضاةً لك ، لوَهَبْتُها لِطَالِبِها ، فهَبْ ليَ نفسي يا أرحم الراحمين ، إلهي إنِّي أحْببْتُكَ حُبًّا سهَّلَ عليّ كلّ مصيبة، ورضَّاني بكل قضاء ، فلا أُبالي مع حُبِّي لك ما أصبحت عليه ، وما أمْسيْتُ فيه .
قال الرجل البصري : ثمَّ إنَّهُ غلبني النعاس فأسْلمْتُ جَفْني إلى النوم ، وما زلْتُ أنام وأسْتيقظ وعامر منتَصِبٌ في موقفه ، ماضٍ في صلاته ومناجاته حتى تنفَّس الصبح ‍! هل يعقل ألاّ ينام الإنسان ؟ نعم معقول ، أحيانًا يسهر شخصان إلى أذان الفجر ، لانْبساطهما ، فهل سرورك بالله عز وجل كَسُرورِكَ بِصَديقك من أهل الدنيا ، تسهر معه حتى الفجر ؟ قال : يا موسى أَتُحِبّ أن أكون جليسك ، فَصُعِقَ ! قال : كيف ذلك يا رب ؟ وكيف أكون جليسك ؟ قال : "يا موسى أما علمتَ أنَّه من ذكرني فقد جالسَني ، أما علمْت أنِّي جليسُ مَن ذكرني ، وحيثما الْتَمَسَني عبدي وجدني "، فلمَّا بدا له الفجر ، فأدَّى المكتوبة ، ثمَّ أقْبلَ يدعو ، ويقول : اللهمّ ها قد أصْبح الصبح ، وطفقَ الناس يغدون ويروحون ، يبتغون من فضلك ، وإنّ لِكُلٍّ منهم حاجة ، وإنّ حاجة عامر عندك أن تغفر له ، اللهمّ فاقْضِ حاجتي وحاجاتهم ، يا أكرم الأكرمين .
ثمّ قال عامر : اللهمّ إنِّي سألتُكَ ثلاثًا ؛ فأعْطَيتني اثْنَتَين ، ومنَعْتني واحدة ، اللهمّ فأعْطِنِيها حتى أعْبدَكَ كما أحبّ وأريد ، ثمّ نهَضَ من مجلسه ، ووقعَ بصَرهُ عليّ ، فَعِلَم بمكاني منه في تلك الليلة ، فجَزِعَ لذلك أشدّ الجزع ، وقال لي في أسًى : أراك كنت ترقبني تلك الليلة يا أخا البصرة؟ قلتُ : نعم ، فقال : اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله .
أحيانا يصلّي الواحد منَّا قيام الليل فيقيم الدنيا ويقعدها ، ويقول : البارحة صلّينا قيام الليل !! هو يعبد الله ، ولا يحِبّ أن يُعْرف بذلك ، لأنَّ أفضل الزهد هو إخفاؤهُ ، لذا قال له : اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله ! فقلتُ : واللهِ لَتُحَدِّثني بِهذه الثلاث التي سألت بها ربّك ، أو لأخْبِرَنّ الناس بِما رأيْتُه منك ؟ هو معه سلاح ، فإما أن تحدِّثني بها ، أو لأخبِرَنَّ الناس بما كان من شأنك ، فقال : وَيْحَكَ لا تفعَل ! فقال : قلتُ : هو ما أقولهُ لك ، فلمَّا رأى إصْراري قال : أحدِّثك على أن تعطِيني عهْد الله وميثاقهُ ، ألاّ تُخْبر بهذا أحدًا ! فقلتُ : لكَ عليّ عهْدُ الله وميثاقهُ ألاّ أُفْشِيَ لك سرًّا ما دُمْتُ حيًّا ، فقال : لمْ يكن شيءٌ أخْوفَ على ديني من النِّساء .
واللهِ يا أيها الإخوة هل معظم المسلمين يسرق ؟ غير معقول ، يشرب الخمر ؟ غير معقول، يقتل ؟ غير معقول ، لكنَّ النِّساء كما قال عليه الصلاة والسلام حبائل الشيطان ، إنَّ إبليس طلاَّع رصَّاد ، وما هو من فخوخه بِأوْثَقَ منه بِصَيْدِهِ من النِّساء ، فاتَّقوا الله ، واتَّقوا النِّساء ، فَمَأخذُ الشباب الوحيد هو النساء ، لذلك كلّما بالغْتَ في غَضّ البصر ، وابتعدْتَ عن اللِّقاءات المختلطة، والطرقات الفاسدة ، وعن الأماكن تواجد النساء كلَّما سلِمَ دينكُ ، قال : لمْ يكن شيءٌ أخْوفَ على ديني من النِّساء ، فسألْتُ ربِّي أن ينزع من قلبي حبّهنّ ، حتى صِرْتُ لا أبالي امرأةً رأيْتُ أم جِدارًا !!! وقد يقول أحدكم غضّ البصر صَعب ، وأنا أقول لكم : واللهِ الذي لا إله إلا هو وكما قال عليه الصلاة والسلام : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا *
[رواه أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ]
أنت تصلّي في النهار خمس صلـوات ، فما قولك أنَّه كلّما وقعَتْ عيْنك على امرأة أجْنبيَّة ، وغضضْتَ بصرك لا تخاف أحدًا ، ولا ترجو أحدًا إلا الله ارْتَقَيْت عند الله ، مرَّةً قلتُ لكم : أحيانًا تتوافق القوانين مع الشرائع ، فإذا ترك أحدٌ سرقة المال ، يا تُرى ترك السرقة خوفًا من الله أم خوفًا من العقاب القانوني ؟ الله تعالى أعلم ، ولِحِكمة أرادها الله عز وجل أنَّ بعض أوامر الدِّين ينفرد بها من بين كلّ الشرائع ، فغضّ البصر مثلاً ، لا توجد جهة في الأرض يمكن أن تُحاسبك على نظرك إلى النِّساء ، وهذه العبادة عبادة الإخلاص ، لأنَّه لا توجد جهة تُحاسِب ، وإذا أرادتْ لا تستطيع ، فقد تكون في غرفة نوْمك ، والنافذة مفْتوحة ، والبناء الآخر قريب ، فُتِحَت نافذة ، وأطلَّت امرأة من النافذة ، من يستطيع أن يُحاسبك على نظرك إلى هذه المرأة ؟ لذلك قال تعالى :
[ سورة غافر ]
إذا كنت طبيبًا ، وشَكَتْ لك موضِع ألمٍ من جسمها ، فلك الحقّ أن تنظر إلى هذا الموضع كي تعالجهُ ، ولكن من الذي يكشف أنَّك نظرْت إلى موضعٍ لسْت بحَاجة إليه ؟ نظرة شهوةٍ ، الله هو الذي يعلم ، قال تعالى :
[ سورة غافر ]
لذلك أنا أُردِّد هذا القول كثيرًا : من لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بشيءٍ من عمله .
قال : فقلتُ هذه واحدة فما الثانية ؟ قال : سألتُ ربّي ألاّ أخاف أحدًا غيره ، واللهِ توجد بالأرض ملايين الجهات المخيفة ، وما أكثر المخاوِف ، فإذا ركبْتَ مركبةً فهناك مخاوف ، مجيء سائقٍ غافل ، وإذا دخلت إلى مكان فهناك من يُعَرقل عملك ، ويُعَقِّد عليه القضايا ، فالإنسان تحت أخطار لا يعلمها إلا الله ، قال : سألتُ ربّي ألاّ أخاف أحدًا غيره ، فاسْتجاب لي ، حتى إنِّي واللِه لا أرغب شيئًا في الأرض ولا في السماء سواه ، قال : يا موسى خفْني وخَفْ نفسكَ ، أنا أقول لكم هذه الحقيقة : واللهِ - وهي دقيقة جدًّا - مهما رأيْت جهة قوِيَّة شَرِسةً عُدْوانِيَّة ، فلا تخَفْ منها ، خَفْ من ذنْبٍ تقترفهُ ، فيَسْمحَ الله لهذه الجهة القويَّة أن تصل إليك ، قال تعالى :
[ سورة الأنعام ]
وقال تعالى :
[ سورة الأنعام ]
تصوَّر إنسانًا واقفًا أمام سبعة وُحوش مخيفة ، وكلّها تريد أكْلهُ ، بِلُقْمة واحدة ، ولكنّ هذه الوحوش مربوطة بِيَد جهةٍ واحدة ، ومربوطة بِأزِمَّة مُحكمةٍ ، وهذه الجهة بصيرة سميعة عليمة حكيمة رحيمة وعادلة ، فأنت علاقتك مَع منْ ؟ مع الوُحوش أم مع الجهة التي تُمسِكُ أزِمَّتها ؟ هذه الجهة لو أَرْخَتْ بعض الأزِمَّة لوصَلَتْ الوحوش إليك ، فإذا منَعَتْها عنك انتهى الأمر ، وهذا معنى قول الله تعالى :
[ سورة هود ]
هذا معنى قول بعض العارفين :
***
أَطِعْ أمْرنا نرْفع لأجلك حجْبَنا فإنَّا مَنَحْنا بالرضا من أحبَّنا
ولُذْ بِحِمانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــا لِنَحميك ممَّا فيه أشرار خلقنا
***
قلْتُ : فما الثالثة ؟ فقال : سألْتُ ربِّي أن يُذْهِبَ عَنِّي النَّوم حتى أعْبدَهُ بالليل والنهار كما أريد ، فمَنَعَنيها ، فلمَّا سمِعتُ منه ذلك قلتُ له : رِفْقًا بِنَفْسِك فإنَّك تقضي ليلكَ قائمًا ، وتقطعُ نهاركَ صائمًا ، وإنَّ الجنَّة تُدْركُ بأقلَّ ما تصْنع ، وإنَّ النار تُتَّقى بأقلَّ مِمَّا تُعاني ‍! فقال : إنَّي لأخشى أن أنْدَمَ حيث لا ينفعُ النَّدَم ، والله لأجْتهِدَنَّ في العبادة ما وجدتُ للاجتهاد سبيلاً ، فإنْ نجَوْتُ فَبِرَحْمة الله ، وإن دخلْتُ النار فَبِتَقْصيري .
أيها الإخوة ، هل تعلمون من هو العاقل ؟ هل عندكم تعريفٌ جامعٌ مانِعٌ للعاقل ؟ العاقل هو الذي لا يعملُ عملاً يندمُ عليه ، فأنت الآن تعيش ، ولكن يا ترى لو حان الآن وقتُ مُغادرة الدنيا، ألا تنْدم لِمَ لمْ تُصَلِّ أكثر ، ولِمَ لمْ تتعلَّم أكثر ، ولِمَ لمْ تُنْفِقُ أكثر ، ولذلك فالعاقل هو من يعْملُ عملاً لا ينْدمُ عليه أبدًا ، هذا ما قالهُ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والله : "لو علِمْتُ غدًا أجلي ما قدرْتُ أن أزيد في عملي " .
غير أنَّ عامر بن عبد الله لمْ يكن راهبًا من رهبان الليل فحَسْب ، بل كان فارسًا من فرسان النهار أيضًا ، فما أذَّنَ مؤذِّنُ الجهاد في سبيل الله إلا وكان في طليعة من يُجيب النِّداء ، وكان إذا نهَض لِغَزوة من الغزوات مع المجاهدين وقفَ يتوسَّمُ الناس لِيَختار رِفاقهُ ، واسْمعوا هذه القصَّة: إذا وقعَ على رِفْقةٍ تُوافقُهُ قال لهم - فقبل أن يجاهد يختار رفاقهُ في الجهاد ألا يقولون الرفيق قبل الطريق - : يا هؤلاء ، إنِّي أريد أن أصْحبكم على أن تُعطوني من أنفسكم ثلاث خِلال ، فيقولون ما هنّ ؟ فيقول : أولهنّ أن أكون لكم خادمًا ، فلا يُنازعني أحدٌ منكم في الخدمة أبدًا ، سيِّدُ القوم ، والثانيَة أن أكون لكم مؤذِّنًا فلا يُنازِعَني أحدٌ منكم للنِّداء للصَّلاة ، والثالثة أن أُنفقَ عليكم بِقَدر طاقتي ، لذلك يُعرَف الإنسانُ في السَّفَر ، فإذا قالوا : نعم ، انْضمَّ إليهم ، وإذا نازعه أحدٌ منهم في شيء من ذلك رَحَلَ عنهم إلى غيرهم .
ونزلَ سعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد القادسيّة في إيوان كِسْرى ، وأمرَ عمْرو بن مُقَرٍّ أن يجمعَ الغنائم ، ويُحصيَها ، لِيُرْسِلَ خُمسها إلى بيت مال المسلمين ، ويقسمُ باقيها على المجاهدين ، فاجْتمعَ بين يديه من الأموال والأعلاق والنفائس ما يفوق الوصْف ، ويعزّ على الحصر ، فهنا سِلال كبيرة مختَّمَةٌ بالرصاص ، مملوءة بآنِيَة الذهب والفضَّة ، كان يأكل بها ملوك فارس ، وهناك صناديق من نفيس الخشب كُدِّسَتْ فيها ثيابُ كِسْرى وأوْشحَتُهُ ودُروعُهُ المُحَلاَّة بالجوهر والدرر ، وصناديق مملوءة بِنَفائس الحليّ وروائع المقْتَنَيات ، وتلك أغمادٌ فيها سُيوف ملوك الفرس مَلِكًا بعد ملِك ، وسيوف الملوك والقُوَّاد الذين خضعوا للفرس خلال التاريخ، وفيما كان العمَّال يُحْصون هذه الغنائم على مرأى من المسلمين وعلى مَسْمع أقْبلَ على القوم رجلٌ أشعثُ أغْبر ، ومعه حُقّ كبير الحجم - الحُقُّ هو الوعاء الكبير - ، ثقيل الوزن حملهُ بِيَدَيه كِلْتَيهما ، فتأمَّلوهُ فإذا هو حُقٌّ لم تقع عيونهم على مثله قطّ ، ولا وجدوا فيما جمعوه شيئًا يعدِلُهُ أو يُقاربهُ ، فنظروا في داخله فإذا هو قد مُلئ بِرُوائه الدرّ والجوهر ، فقالوا للرجل : أين أصبْتَ هذا الكنز الثمين ؟ فقال : غنِمْتُهُ في معركة كذا ، في مكان كذا ، فقالوا : وهل أخذت منه شيئًا ؟ فقال: هداكم الله ، والله إنّ هذا الحُقّ وجميع ما مَلَكَتْهُ ملوك فارس لا يعدل قلامة ظفر !! ولولا حَقُّ بيت مال المسلمين فيه ما رفعْتهُ من أرضهِ ، ولا أتَيْتكم به ، فقالوا : من أنت أكرمكَ الله ؟ فقال : واللهِ لا أخبركم لِتَحمدوني ، وما أُخبرُ غيركم لِيُقَرِّضوني ، ولكنَّني أحمدُ الله تعالى وأرجو ثوابهُ ، ثمّ تركهم ومضى ‍! الآن قطعة الماس ثمنها مئتا ألف ليرة ، فإذا كانت كمّية كبيرة من الماس والذهب والفضّة ، ومُقْتَنَيات كبيرة ، جاء بها وتركها وانْسحَب ، هل أخذتَ منها شيئًا ؟ قال : لا ، والله ، كلّ هذا الحُقّ ، وكلّ كنوز فارس لا تعدل عندي قلامة ظفرٍ واحدة .
ثمّ تركهم ومضى ، فأمروا رجلاً منهم أن يتَّبعهُ ، وأن يأتيهم بِخَبرهِ ، فما زال الرجل يمضي وراءهُ ، وهو لا يعلمُ به ، حتى بلغ أصحابهُ ، فلمَّا سألهم عنه قالوا : ألا تعرفهُ ؟ إنَّهُ زاهِدُ البصْرة ، عامر بن عبد الله التميميّ .
الآن نُنْهي هذه القصَّة بِحادِثٍ مُنَغِّصٍ جرى لهذا التابعيّ الجليل ، فهذا التابعيّ الجليل رأى رجلا من أعوان صاحب شُرطة البصرة قد أمسكَ بِخُنَّاق رجل من أهل الذِّمة ، وجعل يجُرُّهُ جرًّا، والذِمِّيّ يستغيث الناس ، ويقول : أجيروني أجاركم الله ! أجيروا ذِمَّة نبيّكم يا معشر المسلمين ، فأقْبلَ عامر عليه ، وقال : هل أدَّيْتَ جِزْيتَكَ ؟ فقال : نعم أدَّيتها ، فالْتفتَ إلى الرجل الممْسِك بِخُنَّاقه ، وقال : ماذا تريد منه ؟ فقال : أريدهُ أن يذهب معي يكْسحَ حديقة صاحب الشرطة ، يكْسح يعني ينظِّف ، فقال للذِمِّي : أَتَطيبُ نفسك لهذا ؟ فقال الذميّ : كلاَّ ، فذلك يرُدّ قُواي ، ويشغلني عن كسب قوت عيالي ، فالْتفت عامر إلى الرجل وقال : دَعْهُ ، قال : والله لا أدعهُ ، فما كان من عامر إلا أن ألقى رداءهُ على الذميّ ، وقال : والله لا تغفر ذِمَّة محمَّد وأنا حيّ ، ثمّ تجمَّعَ الناس ، وأعانوا عامرًا على الرجل ، وخلَّصوا الذِمِّي من القوَّة ، فما كان من أصحاب أعوان الشّرطة إلا أن اتَّهموا عامرًا بِنَبْذ الطاعة ، ولفَّقوا له تهمةً أنَّه لا يطيعُ أمير المؤمنين ، ورمَوْهُ بالخروج عن أهل السنة والجماعة ، وقالوا : إنَّه امرؤُ لا يتزوَّج النساء ، ولا يأكل لحم الحيوانات، ولا ألبانها ، ويتعالى على غشيان مجالس الولاة ، ورفعوا أمرهُ إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، فأمر الخليفة والِيَهُ على البصرة أن يدعو عامر بن عبد الله إلى مجلسِهِ ، وأن يسألهُ عمّا نُسب إليه لِيَرفعَ له خبرهُ ، فاسْتدعى والي البصرة عامرًا ، وقال : إنَّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءهُ أمرني أن أسألك عن أمور نُسِبَت إليك ، فقال : سَل عمَّا أمر به أمير المؤمنين ، قال : مالكَ تعْزفُ عن سنَّة رسول الله ، وتأبى أن تتزوَّج ؟ فقال : ما تركتُ الزواج عُزوفًا عن سنّة النبي عليه الصلاة والسلام ، فأنا أشْهد أنَّه لا رهْبانيَّة في الإسلام ، وإنَّما أنا امرؤً رأى أنَّ له نفْسًا واحدة ، فجَعَلها لله عز وجل ، وخشِيَ أن تغلبهُ الزوجة عليها ، قال : ما لك لا تأكل اللَّحْم ؟ فقال : آكلهُ إن وجدْتُهُ واشْتهيْتُهُ ، أما إن لم أشْتَهِهِ ، أو لم أجدْهُ فإنِّي لا آكله ، قال : ما لك لا تأكل الجبن ؟ قال : إنَّ بِمَنطقةٍ فيها مجوسٌ يصنعون الجبن ، وهم قومٌ لا يفرِّقون بين الميتة والمذبوحة ، إنِّي أخشى أن تكون المنفحة التي صُنِع منها الجبن من شاةٍ غير مذكَّاة ، فما شهد شاهدان من المسلمين على أنَّه جبْن صُنِعَ بمنفحة شاة مذبوحة أكلته ، قال : ما يمْنعك أن تأتي الولاة ، وتشهد مجالسهم ؟ قال : إنَّ في أبوابكم كثيرًا من طلاَّب الحاجات فادْعوهم إليكم ، واقْضوا حوائجهم لديكم ، واتْركوا مَن لا حاجة له عندكم ، رُفعَت الأقوال إلى أمير المؤمنين فلم يجد فيها شيئًا أو خروجًا عن السنة والجماعة .
هذا التابعي الجليل حينما خرج من البصرة ، رفع يديْه ، وقال : اللَّهمّ مَن وَشى بي ، وكذب عليّ، وكان سببًا في خروجي ، والتفريق بيني وبين صحبي ؛ اللَّهمّ إنِّي صفحْتُ عنه فاصْفحْ عنه، وهَبْ له العافيَة في دينه ودنياه ، وتغمَّدْني وإيَّاه وسائر المسلمين بِرَحمتك وعفوِكَ وإحسانك يا أرحم الراحمين ، ثمَّ وجَّه مَطِيَّتهُ نحو دِيار الشام ، ومضى في سبيله ، واسْتقرَّ في بيت المقدس، ومرِضَ مرَضَ الموت ، فدخَلَ عليه أصحابهُ فوجدوهُ يبكي ، فقالوا له : ما يُبكيك وقد كنتَ وكنت؟ فقال : والله ما أبكي حِرْصًا على الدنيا ، ولا جزعًا من الموت ، وإنَّما أبكي لِطُول السَّفر، وقلَّة الزاد ، ولقد أمْسيْت بين صعود وهبوط ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فلا أدري إلى أيِّهِما أصير ، ثمَّ لفظَ أنفاسَهُ ، ولسانهُ رطْبٌ من ذِكْر الله ، هناك في أولى القبلتين ، وثالث الحرمين ، ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام ، تُوُفِّيَ عامر بن عبد الله التميميّ ، وقبرهُ الآن في بيت المقدس .
هذا تابعيّ جليل وقف هذا الموقف ، واللهُ تعالى امْتحنهُ ، ونجَّاه ، وكان بطلاً في النهار ، وراهبًا في الليل ، وزاهدًا وورِعًا ، قال تعالى :
[ سورة الصافات ]
وقال تعالى :
[ سورة المطففين ]






رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز المساوى السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 5 02-12-2010 01:00 PM
شجرة الصلاة للاطفال اسراء رحيق الحوار العام 0 09-09-2010 08:55 PM
شجرة البندق , نبات سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 4 19-07-2010 08:20 PM
شجرة عيد الميلاد سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 1 27-03-2010 01:19 AM
صخرة يوم القيامة admin منتدى الأفلام الوثائقية 4 19-04-2009 04:57 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة