منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > عقيدة أهل السنة والجماعة
التسجيل مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-11-2014, 04:22 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي إشارات حول السلوك المنهاجي عند علماء مشايخ السلوك و الإرادة

الاقتصاد في لغة القرآن معناها الاستقامة على الطريق بين طرفي الإفراط والتفريط، ويتضمن معنى الاعتدال والتوسط. وأستعمل الكلمة بهذا المعنى وبالمعنى اللغوي الذي يفيد السير في الطريق بمواظبة وبدون انقطاع، ويفيد الصمود إلى الهدف المنشود، كما تقول العرب: أقصد السهم إِذا أصابَ وقتل مكانه. وتتمم خصلة "الاقتصاد" خصلة "التؤدة" وتكملها لكيلا يغلب التأني والتريّث على السير المتواصل.
السلوك إلى الله عز وجل، والسير إليه، عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به. كان معنى القصد إلى قرب الله عز وجل بالتعبد، ومعنى طلب الحظوة عنده والزلفى لديه بالأعمال الصالحة علما مستقرا عندهم. قال شيخ الاسلام ابن تيمية : "كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة"[1].
معناه أن السلوك كان من البديهيات ومما يعلم من الدين بالضرورة. معناه أنهم كانوا يتمثلون حق التمثل أن الدين إسلام وإيمان وإحسان، وأن الناس تتفاضل، وأن الأمر درجات يندب القرآن وتندب السنة إلى المسابقة إليها في مثل قوله تعالى: )سَارِعُواْ( (سورة آل عمران، الآية: 133) وقوله تبارك اسمه: )سَابِقُوا( (سورة الحديد، الآية: 21) وقوله عز من قائل: )فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ( (سورة البقرة، الآية: 148).
قال ابن تيمية رحمه الله: "فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة(...). والصحابة أنفسهم(...) لم يتنازعوا في العقائد ولا في الطريق إلى الله تعالى التي يصير بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين"[2].
ثم بعد الصحابة دخلت البِدَع في العقائد من جراء نهوض أسئلة فُضولية فلسفية، وتكلم الناس فيما كان من حقه أن يُتَلَقَّى بالقَبُول الفطري، وأظلم طريق السلوك وتَعتَّم علمه الذي كان مسلَّما به عند الصحابة. وتعطل العمل السلوكي إلا عند طائفة سماهم التاريخ صوفية.
كان كل الصحابة يبتغون إلى ربهم الوسيلة ويستهدونه ويتأسون برسوله صلى الله عليه وسلم الماثل بين ظَهْرانَيهم. فيما بعد، وفي عتَمة البدع وظُلَلِ الفتنة التي مرت على الأمة مرورَ قطع الليل المظلم، احتاج السالك إلى نظر خاص، واسترشاد خاص، وصحبة خاصة. قال ابن تيمية : "الكلام في أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص"[3].
اختصَّ بعض المومنين في النظر العملي التطبيقي إلى السلوك، حملهم حب الله عز وجل والثقة بوعده والتسليم له والتفويضُ على التشمير إليه، والتقرب. هؤلاء حدثونا عن تجربتهم وعن تَحْصيلهم للمقصود، وعن الوصول والمعرفة والكمال وسائر ما تعرضنا لتفصيله في هذا الكتاب.
وتخصص مومنون آخرون من علماء الحديث والفقه في النظر العلمي إلى الدين، فكان فيما أبدوا فيه رأيهم السلوكُ والسيرُ إلى الله عز وجل. من كان منهم ذا حظ من السلوك وعلى "قدر مشترك" مع الصوفية السالكين قارن المنصوص من علم السلوك بالمحَصَّل عليه من الذوق والوجد والمعرفة، فجاء كلامهُ الذوقي الوجدي المعرفي (أقصد معرفة الله تبارك وتعالى لا المعرفة العقلية للكون) شرحا مستنيرا لما ورد به الكتاب ووردت به السنة. مثال لهذا الصنف من العلماء، على مقاديرهم ومرتبة علمهم يوم أدوا شهادتهم، شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من العلماء المشاركين.
وسبحان الله كيف اكتفى علماء آخرون من السلوك بالاطلاع على نصوصه، و"خدمتها" بالشرح اللفظي والتأويل وتقييد الآراء والتعليق على أقوال الناس فيها. هذا إن لم يكادوا يشكُّون في صحتها كما كاد الحافظ الذهبي يشك في حديث البخاري: "من عادى لي وليا".
هذا الحديث العظيم أمتن تبليغ نبوي في موضوع السلوك والولاية والقرب من الله تبارك وتعالى، وأوضحُه وأكملُه وأجلاه. وقد فزع العلماء الناظرون بنية العلم مما طرب له ووثِقَ به وصدقه وعمل عليه الناظرون إلى "الخطة العملية"، المشمِّرون على جادة الطريق.
فزِع أولئك وطرب هؤلاء وصدقوا بقول الله عز وجل عن العبد المتقرب: "فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله". أخبر السالكون العمليون بما أصابهم من وعد الله الكريم الوهاب، وحام الفزعون حول النص يُشبِعونه تقليبا وتدوينا وتأويلا.
نقل الحافظ ابن حجر عن الطوفي أنه قال: "هذا الحديث أصْل في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه. إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام، والمركب منهما وهي الإحسان (توجد) فيهما كما تضمنهُ حديث جبريل. والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها"[4].
كلام الطوفي يتضمن اعتراف الفقهاء والمحدثين بكون الحديث العظيم أصلا في السلوك. اعتراف مجمل.
أما في التفصيل فأقوال العلماء النُّظَّار في العلم والنصوص تضاربت وتقابلت ولم تتفق إلا على أمر واحد. هو أن لا يكون في الحديث "مُتَمَسَّك للاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة"، كما عبر الحافظ ابن حجر.
وقد روى الحافظ مقالات النظار[5]. في معنى "كنت سمعه". فمنهم من قال: إنه ورد على سبيل التمثيل، ومنهم من قال: كنت سمعه أي أنَّ كليته مشغولة بي فلا يُصغِي بسمعه إلا إلى ما يرضيني. ومقالة ثالثة: أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره. ورابعة: كنت له في النُّصرة كسمعه وبصره ورجله. وخامسة: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه. وسادسة: معنى سمعه مسموعه، فلا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي وسابعة: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء ونُجْح الطلب. وذلك أن مساعي الانسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وينقل ابن حجر رحمه الله في آخر عرضه مقالة الصوفية وكأنها مجرد نظرية تُحَطُّ إلى جانب ما سبق من نظريات. قال: "وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو، وأنه الغاية التي لا شيء وراءها. وهو أن يكون قائما بإقامة الله له، محبا بمحبته، ناظرا بنظره له من غير أن تبقى له بقية تُناطُ باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بأمر أو توصف بوصف"[6].
قال شارحا مترجما لكلامهم حسب إدراكه، موافقا مسلما غير معارض: "ومعنى هذا الكلام أنه يشهد إقامة الله له حتى قام، ومحبته له حتى أحبه، ونظره إلى عبده حتى أقبل ناظرا إليه بقلبه".
ثم يلتفت إلى الزنادقة فينقل مقالتهم، وهي شبيهة بشطحات أهل السكر، وهي مقالة الحلولية والاتحادية الزائغين. ويُنكر هذه المقالة الشنيعة، وقد رجع من عرضه بنتائج حكاية العلم وتقريره وبفضيلة النهي عن المنكر.
سبحان الله! ما يحبسني عن الهيمان على وجهي في البراري أطلب ما طلب الرجال! كيف تحلو الحياة، بل كيف تُحتَمَلُ لحظة، وأنا لا أعرف ما اسمي في الملكوت! كيف أُسَوِّفُ رحيلي إلى ربي، وتوبتي الكلية ورجعتي إليه وهو سبحانه يتحبب إلي وينادي ويعد ويبشر!
قال الإمام عبد القادر قدس الله روحه: "اهجُرْ طبعك وهواك وشيطانك ولا تركن إليهم. إذا ثبت هذا فاجعل بينك وبين أقران السوء عداوة. ولا تصادقهم حتى يوافقوك في حالك. التوبة قلب دولة"[7].
أقول نعم! التوبة الكلية التي تتمثل في هجر كل ما ذكر والطيران بجناحي الإنابة والشوق إلى المولى الكريم انقلاب عميق. لكن من يقدر عليه إلا همة مرفوعة سبقت لها عند الله الحسنى!
ويقول الشيخ الإمام في شروط السلوك بعد التوبة: "إذا تركت نفسك مع الدنيا، وقلبك مع الأخرى، وسرك مع المولى، حينئذ صارت خلوتك أنسا بالله. وأما مع وجودها ووجود غيرها من الأنفس فلا يكون لك خلوة.(...)"[8].
لا يقصد الشيخ هنا الخلوة المعروفة، وهي حبس المريد نفسه في حجرة خاصة ليتفرغ للذكر، إنما يقصد التخليَ المعنويَّ الذي يرتفع به نظرُ النفس عن اللذات، ونظر القلب عن الدنيا جملة، ونظر السر عن الدنيا والآخرة. حينئذ يقف بالهمة واقف العناية على "باب الملك".
قال الإمام: "لا كلام حتى ترى الباب! فحينئذ ترى الغلمان (يقصد الاولياء المشايخ)(...) كن مع الصادقين حتى تعامَل بما عوملوا به. اصدق في أقوالك وأفعالك في جميع أحوالك. الصدق هو التوحيد والإخلاص والتوكل على الله عز وجل(...)
"قرب الحق عز وجل لا يحتمل الزَّحْمَة. من كل ألف ألف منكم إلى انقطاع النفَسِ واحد يعقل ما أقول ويعمل به. وباقيكم يدخلون في غماره، ويتبركون بحضورهم معه. إني أرجو لكم الخير في الدنيا والآخرة. الدنيا سجن المومن. فإذا نَسي سجنه جاءه الفرج. المومنون في سجن، والعارفون في سكر، فهم غائبون عن السجن"[9].
قال عبد محب لمولاه، غريب عنه ما سواه، غريب هو في الناس:
غـريب الوصف ذو علم غريب عليل القلب من حُبِّ الحبيـب
إذا ما الليـل أظلـم قـام يبكـي ويشكـو ما يُكِـنُّ مـن الوجيـب
يـُقَـطّـِـعُ ليـلـه ذكـرا وفكـرا وينطـق فيه بالعجب العجيـب
بـه مـن حـب سـيـده غــرامٌ يجِـلُّ عـن التطـبُّـبِ والطبيـب
ومـن يـكُ هكـذا عـبـداً محـبـا يطيـب تـرابـه من غـير طيـب

وقال سالك إلى ربه، يتحدث بنعم قربه:
تـفــرد فـي الدنيـا لـطـاعـة ربـه فـأورثـه علـم الـكـتـاب بـلا رَيْـب
وآثَــرَ حـبَّ اللـه فانكـشـفـت لـه عجـائبُ أسـرارٍ ثـوابـاً على الحُـب
فمن كان في دعـوى المحبـة صادقـا تجلت له الأنوار من غير ما حُجْـب
فـيـرتـع في روض المـعـارف دائـمـا ولـذتها أشهى مـن الأكـل والشـرب
تخـاطبه الأحـوال مـن كل جـانـب فـيفـهم عنها بالضـمـيـر وبالقـلـب
يكـاشَـفُ بالأسـرار مـن ملـكـوتهـا فيأتي عليه الفَـيْـضُ من عالم الغيب

وقلت:
أُعَــاني غُــربَـتَـيْنِ في البَــرايــا فلي ضِعفُ الجَـزاء على مُصـابي
فغُــربة ذاكــرٍ بالبَــدْع يُــرمَــى وغُــربـةُ مسلــمٍ بــين الـذِّئــاب
فَطُــوبى ثمَّ طُــوبى ليس يحصَـى حَصــادُ الصَّــابرين مـن الثَّــواب




[1] الفتاوي ج 19 ص 273.
[2] المصدر السابق ص 274.
[3] المصدر السابق ج 22 ص 334.
[4] فتح الباري ج 11 ص 345.
[5] المصدر السابق ص 344.
[6] فتح الباري ج 11 ص 344.
[7] الفتح الرباني ص 206.
[8] المصدر السابق ص 205.
[9] الفتح الرباني ص 205.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:23 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

الحجب المانعة عن القصد





بسم الله الرحمن الرحيم. )ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا(. اللهم ما قصُر عنه رأيي، ولم تبلغه نيتي، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحداً من خلقك أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك، فإني أرغب إليك فيه، وأسألك برحمتك يا رب العالمين.
قال الشيخ عبد القادر: "باب قرب الحق لا يقبل الزحمة". نداء الله عز وجل المتلو شهادة والمُلْقى غيبا في الثلث الأخير من الليل لا يجد من العباد الاستجابة. فأكثرُ العباد لا يريدون الله، إنما يريدون ما عند الله. يا حسرة على العباد. حَجَبَ العباد عن ربهم، وعن الإسراع إليه والسير والسلوك والمشي والتقرب والوصول ما كسبت أيديهم. حَجَبَ القلوبَ ما ران عليها وعلاها من أوساخ الذنوب والمعاصي والنفاق وسوء الظن بالله وبعباده والكسل عن الطاعات.
حَجَبَهم قرناء السوء واستخفافُهم بالصالحين وحسدُهم وقياسهم للآخرين على أنفسهم عن صحبة الأخيار وهي الشرط الأول في السلوك. حجبهم الغفلة والعادة والطبع والهوى والأنانية وتأويل كلمة الحق عن ذكر الله وعبادته على قدم السنة، والذكر هو الشرط الثاني في السلوك. وحجبهم كذبهم وتكذيبهم بالحسنى ونفاقهم عن صدق التوبة، وصدق النية، وصدق اليقظة، وصدق الاعتقاد، وصدق الطلب مع الصادقين، والصدق هو الشرط الثالث.
ومن تركيب هذه الموانع والحجب وضرب بعضها في بعض تنتُج الأعداد الهائلة، حتى يُقال: إن بين بعض العباد وربهم سبعين ألف حجاب من ظلمة ونور. وما وضع هذه الحُجُبَ غيرهم، ولا كسب سيئاتِها سواهم.
قال الله تبارك وتعالى يخبرنا عن حال المجرمين: )كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ( (سورة المطففين، الآية: 14). الرَّيْنُ: الصدأ.
وقد شرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتكون هذا الصدأ ويعلو القلوب فتنحجب عن ربها عز وجل، فقال فيما رواه مسلم عن حذيفة: "تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عَوْداً عَوْداً. فأي قلب أُشْرِبَهَا نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء. وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتةٌ بيضاء. حتى تصير على قلبين: أبيضَ مثلَ الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبادّاً كالكُوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشْرِبَ من هواه". الحديث.
تعرض الفتن كالحصير عودا عودا: قال ابن الأثير: تحيط بالقلوب كالمحصور المحبوس. عَوْدا عَوْدا: أي مرة بعد مرة. قال: أشربها. دخلت فيه وقبلها وسكنت فيه. مُرْبَادّاً: الذي في لونه رُبدة وهي بين السواد والغُبْرة. كالكوز مُجَخِّياً: كالإناء المائل عن الاستقامة والاعتدال.
هكذا يعلمنا الله ويعلمنا رسوله أثر مكاسبنا على قلوبنا. ما من عمل حسن إلا يزداد به القلب بياضا ونورا. وما من خطيئة وفتنة يُشْرَبُها القلب ولا يتوب فاعلها ويستغفر إلا نَكَتَتْ في قلبه سوادا. ويتراكم السواد طَبَقا عن طبق حتى يؤلِّفَ صدأ يرين على القلب فيحجبه عن ربه عز وجل دنيا وأخرى.
السلوك سير قلبي، والمشايخ المسلِّكون أطباء في تصفية القلوب. ليس طِبُّهم من قبيل وصف الدواء من بعيد، بل هم أنفسهم دواء، صُحْبتهم ومجالستهم ومحبتهم ومخاللَتهم تَعَرُّضٌ مباشر للإشعاع القلبي الشافي بإذن الله الذي يودعه الله عز وجل في قلوب أوليائه.
لكن كيف يعتَرِف عليلُ القلب، وداؤه مستورٌ عن الأبصار، أنه مريض! داء العُجْب يمنعه عن الاعتراف. أم كيف يقصد رجلا مثلَه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق يقول له: داوني! الكبرياءُ وسوءُ الظن يمنعان من ذلك. حُجُبٌ بعضُها فوق بعض وظلمات. ويموتُ مريض القلب بدائه، لم يعرفه، أو عرفه ولم يرض بعرضه على أصحاب البصائر. وتسمعه يقول: هذا كتاب الله وهذه سنة نبيه. وما عنده علم بالمصيبة الجُلَّى التي أصابت قلبه وسره فمَنعته من ملامسة نور الكتاب ونور السنة. ألا وهي مصيبة الرين والحجاب.
قال الإمام الرفاعي رحمه الله: "أيْ بُنيّ! اعلم أن أعظم مصائب السر حجابُه عن الله تعالى. فكل من حلت به هذه المصيبةُ فقد تلاشت سائر مصائبه في جنبها. فإن المحجوب سكران، والسكران لا يجد حالة سكره وجعَ المصيبة. فإذا أفاق وجد الألم.
"ومصيبة المحجوب لا تنجبر أبدا إلا بتجريد السر عن كل ما دون الله تعالى. ولا وعيد في القرآن أصعب من قوله تعالى : ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم( (سورة المطففين، الآية: 14).
"فكم من طاعة حَجَبت صاحبها عن المطاع (سبحانه)، وكم من نعمة قطعت صاحبها عن المُنعم. ورُبَّ نائمٍ رُزق الانتباه بعد رقدته، ومنتبهٍ نام بعد طول الانتباه. ورب فاجر رُزق الولاية، وبلغ منازل الأبرار، وزاهد سقط عن ولايته وسلك مسالك الفجار. وكم من عامل حجبته رؤية أعماله عن رؤية امتنان ربه حتى عميَتْ بصيرته فصار مبعدا وهو يحسب أنه واصل.
"ولا مصيبة أشد على العارف من الحجاب ولو طرفة عين. وأعظم عقوبة على العبد البُعد من الله والحجابُ"[1].
قال رحمه الله:«واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضلالة عن نور الهدى. وأهل المعصية محجوبون بظلمة الغفلة عن نور التقوى. وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية الطاعة (أي الاعتزاز بعملهم من دون الله واهب المنن والاستكبار به والاستغناء) عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى.
"فإذا رفع الله عنهم هذه الحجب نظروا بأعين النور إلى النور. فعند ذلك يحجبون عن غيره به.
"فكل من نظر إلى حركاته وأفعاله في طاعة الله صار محجوبا عن وليها (سبحانه) مفلسا. ومن نظر إلى وليها صار محجوبا به عن رؤيتها. لأنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإتمامها صار مستغرقا في امتنانه. وربما يُحْجَب برؤية العبادة عن وجدان حلاوتها. وربما يُحْجَبُ برؤية وِجدان الحلاوة عن صحة الإرادة. وربما يُحْجَبُ برؤية المنة عن رؤية المنان سبحانه"[2].
قلت: نَعَمْ! المحجوب سكران: سكرة العقل بعلمه ومخزون مكتسباته، وسكرة النفس بأنانيتها واستكبارها، وسكرة الماجن بلذاته، والرئيس برئاسته، والمالك بمِلْكِهِ، والمعافَى بصحة بدنه، والمريض بمرضه، والفقير المُعْوِز بعَوَزه، حتى تحيط بالدنيا وهوسها عدّاً، عكسا وطردا. الدنيا دار فتنة، وما من فتنة عينية جزئية أُشْرِبَها القلبُ حتى استقرت فيه إلا أظلمت ركنا منه وتكاثف عليه الريْنُ فما بالك بمن أُشْرب حبَّ الدنيا كلها، وهي الفتنة مُجَسَّدة! لذا كان حب الدنيا رأسَ كل خطيئة، وكانت حجابا عن الآخرة، وكانت هي والآخرة، لمن وقف عندهما بسره، حجابا عن الله عز وجل.
والموفَّق من لا يقف مع شيء من دون الله، خصوصا مع طاعته يَعتَدُّ بها ويباهي. الموفق من يخرق الحجاب الأكبر، وهو الزمان، وهو العمر، وهو حظه من الدنيا، ويطويه فيطلِّقُ الدنيا من قلبه، ثم يطلق الآخرة من سره، ويقطع المراحل كأنه في الدنيا غريب أو عابر سبيل. يقطع المراحل وهمُّه الله لا غيره.
قال شيخ الإسلام ابن القيم: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه. ومدة سفره هي عمره الذي كتب له. فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه. ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره. فكلُّ يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة مرحلة حتى ينتهي السفر.
"فالكيِّس الفطن (الموفق) هو الذي يجعَل كل مرحلة نُصْبَ عينيه، فيهتم بقطعها سالما غانما. فإذا قطعها جعل الأخرى نُصْبَ عيْنيه. ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه، ويَمْتَدَّ أمله، ويحضر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل. بل يعدّ عمْرَه تلك المرحلة الواحدة. فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته.
"فإذا تيقن قِصَرَها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزوُّدِ. فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك. فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها. فيحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، انقشع ظَلاَمُ الدنيا، فحينئذ يحمد سُرَاهُ، وينجاب عنه كَراهُ. فما أحسن ما يستقبِلُ يومه وقد لاح صباحُه، واستبان فلاحه"[3].
قال الشيخ عبد القادر: "ويحك يا جاهل! بدل ما تشغل نفسك بالاعتراض، اشغلها بالسُّؤال من الحق عز وجل. شاغِلْها به حتى تذهب أوقات البلايا وتنطفئ نيران الآفات(...)
"إذا تحيرت قل : يا دليلَ المتحيرين دُلني. إذا ابْتُليتَ وعجزت عن الصبر قل: إلهي أعِنِّي وصبِّرني واكشف عني. وأما إذا وصلت، وأُدْخِل قلبُك وقُرِّبَ منه، فلا سؤال ولا لسان! بل سكون ومشاهدة. تصير ضيفاً. والضيف لا يَتَشَهَّى، بل يُحْسِنُ الأدبَ، ويأكل ما يُقَدَّم له، ويأخذ ما يعطى. إلا أن يقال له: تشهَّ! فيتشهى امتثال أمر لا اختياراً منه.
"السؤال عند البعد، والسكوت عند القرب. القوم لا يعرفون غير الحق عز وجل. تقطعت الأرباب عنهم، وانخلعت الأسباب من قلوبهم(...)
"من ادعى محبة الله عز وجل وطلب منه غيره فقد كذب في محبته. أما إذا صار محبوبا واصلا ضيفا مقربا فيقال له: اطلب وتشَهَّ وقل ما تريد فإنك مُمَكَّنٌ!(...) اطلبوا منه طيبة القلوب معه، فإنه يُوَسِّع طيبة القلوب على من يشاء، يُكثِر أرزاق القلوب على من يشاء"[4].
قال مخالف لهواه وشهوات نفسه في الدنيا:
إذا طالبتك النفـس يـوما بشهـوة وكـان علـيـهـا للقـبـيـح طـريق
فدعها وخالف ما اشتهيت فإنما هـواك عـدوٌّ والخـلاف صـديـق

وقال مغترب في الدنيا، طاوٍ المراحلَ إلى عليّين:
بنفسي إذا نفسي أنابت وأصلحت غـريـبٌ جـرت من مقلتيه غُـروب
إذا ذكـر المــولـى تـنـسـم قلـبـه وإن غلبـتـه النفـس كـاد يـذوب
أنــاخ بعِلّـيّـِيــن رائــدُ ســره إلى حيث لا تمضي العقـول يجوب
أبـى الله أن تُـدْرى ذخـائـره التي شَـآبـيـبُـهـا مـاء السمـاء يَـصـوبُ
هم حـسـنـات الدهـر عند كمـالـه ولـكـنـهـم عنـد الأنــام ذنــوب
محبتهـم فـرض ورُؤيـتـهـم هـدىً وللـديـن مـنـهـم ألْـسُـنٌ وقـلـوب
بَـقيتَ قـرير العـين ما دمت فيهم وجـانـبـك المكـدور وَهْـوَ نَـكُـوبُ

وقلت:
أناخَتْ بأعْلى الشَّوْطِ سَـامقُ هِمَّةٍ يُراودُها الوعْدُ الشَّـريـف المُصـدَّق
تنسَّــمَ قَلبي الطِّيــبَ من قُرب ربِّه فَليــس لــه دون الإلــه تَـعــلُّـــقُ
إلى المَـلإِ الأعلَــى تَـتــوقُ جُهــودُنَـا وَلِــي بالنَّــبيِّ الهَــاشميِّ تَـعـشُّــقُ
عليــه صــلاة الله ثــم ســلامــه أُردّدهــا والقلـب بالحـبِّ يَـخْـفُــقُ




[1] حالة أهل الحقيقة مع الله ص 133-134.
[2] المصدر السابق ص 135-136.
[3] طريق الهجرتين ص 234.
[4] الفتح الرباني ص 237.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:25 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي


الطريق خطرة




بسم الله الرحمن الرحيم. )واغفر لنا ربنا. إنك أنت العزيز الحكيم(. اللهم يا ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد.
يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله عن طريق السلوك الصوفي: "كم فيها من قتيل وسليب وجريح وأسير وطريد!". في اصطلاح الإسلاميين المعاصرين يعرف "المتساقطون في الطريق" بأنهم الذين نكصوا على أدبارهم وتخلوا عن الدعوة لأسباب الابتلاء الخارجي، أو لأسباب نفسية تنظيمية، أو لمجرد ملل أو شك في القيادة والمنهاج، أو استبطاءً للنتائج.
وإذا كان الصبر والمُثَابرة والاستمرار خصالا ضرورية في العمل الجماعي الجهادي فإنها أيضا ضرورية في سلوك طريق الولاية. على أن أسباب التساقط في هذه الأخيرة أوفر عددا وأعمق في الاعتبار.
إن الاستمساك بعروة الدين وسط الفتنة والغربة رجولةٌ لا يتحلى بها إلا الأقوياء ذوو العزائم والمضاء، سواءً في ذلك السائرون في الطريق الجماعية الجهادية أو في الطريق الفردية الصوفية. روى أبو داود والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأَصحابِه: "فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن كالقابض على الجمر. للعامل فيهن مثل أجْر خمسين يعملون مثل عملكم". ورواه أيضا الطبراني وابن حبان وغيرهما فارتفع الحديث إلى درجة الصحة.
ضوعف الأجر بمضاعفة البلاء. وتعاظم الخطر في الطريق الصوفية لعلوِّ المقصد وطول الشُّقَّة وشروط الصحبة ودوام الذكر والحضور ومحاسبة النفس ودقة المعاملة مع الله عز وجل. ولئن كان المتساقطون في طريق الجهاد قد يلحقون بالمنافقين فإن المرتدين عن الطريق الصوفية والغاطسين في أوحالها قد ينزلقون من سكر الطريقة و"كفرها" إلى الزندقة والإلحاد كما انزلق الحلولية والاتحادية والإباحيون. قاتلهم الله، أنى يوفكون.
إن الاقتصاد في السلوك معناه السير الحثيثُ المتواصل بين طرفي الإفراط في الحماس الكاذب الذي يظهر على المبتدئين في السير ثم يخبو ويضمحِلُّ، وبين التراخي المالِّ المُمِلِّ الآئل إلى التوقف والفشل. هذان الطرفان المذمومان يُعَبِّرُ عنهما النطق النبوي بـ"الشِّرّة" و"الفَترة".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء شِرَّةً، ولكل شيء فَتْرَةً. فإنْ صاحِبُها سدد وقارب فارجوه. وإن أشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه". أخرجه الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان.
السائر إلى الله عن طريق الولاية، كالسائر مع الجماعة في طريق الجهاد، يعتريه حماسٌ أحيانا فيشتد، ويعتريه الفتور لأسباب ظاهرة أو نفسية فيسترخي. فيقول الدليل الرباني محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالة وتلك: إن رأيتم المشتد والفاتر رجعا إلى استقامة مقتصدة قاصدة من بعد التطرف فارْجُوا للراجع نجاح القصد. أما إن خرج عن دائرة المحمود من السلوك المثابر وتمادى في مذموم الشرة والفترة حتى أصبح شاذا يشار إليه بالأصَابع ويعرف بتطرفه فلا تَحْسُبُوه من المفلحين.
عَقَدَ السائر مع الجماعة العاملة للإسلام عهدا مع الله عز وجل ومع أصحابه، وعَقَدَ طالب القربة من الله عز وجل خاطبُ مقامات الولاية عهدا. عاهد كل الله تعالى لينصرانِّ الله في أنفسهما أو في العالم. فنقضَ ذلك العَهْدَ سقوطٌ وسلبٌ نعوذ بالله من السقوط والسلب. وليس عامل من عوامل الفشل أبْلغَ هدماً للإرادات من النفس. ما كان من قتيل وجريح وساقط وسليب وطريد في طريق الله عز وجل فمن النفس المعتَرِكَةِ بين شهواتها وأنانيتها وبين المغريات الخارجية، بين ما عندها من قياس واستئناس وبين ما يدخل أو يخرج من عوائد الناس. قال الله تعالى: ) وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( (سورة النساء، الآية: 79).
الابتلاء الخارجي والاستفزاز الشيطاني ما هما إلا الجانبان الأضعفان في مُرَكَّب العقبة التي على المرء أن يقتحمها صُعُداً إلى رضى الله ومعرفته والوصول إليه. ووجود النزغات النفسية العدوَّة هو الذي يعطي للجهاد معناه وقيمته، ولنصر الله عز وجل عبده في معركة النفس والآفاق مغزاه ومداه. قال حكيم الصوفية الشيخ ابن عطاء الله: "ما توقف مطلب أنت طالبُه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك".
عاهد الله كل من الملتزم مع الجماعة والمريد الطالب وجه الله عز وجل على الاستقامة في السير إلى ما رسمه كلٌّ من أهداف. الشرط على المبتدئ بالعهد الذي نذر نفسه لله تعالى الاستقامة، والشرط الذي أخذه الله عز وجل على نفسه ووعد بإنجازه لمن وفَّى هو الهدايةُ بمقتضى قوله عز من قائل: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ( (سورة العنكبوت، الآية: 69). صدق الله العظيم، ووثِقَ به سبحانه وصدَّقه وصدَقَه كل عبد ذي مَحْتِد كريم. وما خذلك في سيرك إلا نفسك، فانظر من أين أُتيتَ.
إن الصدق سيف الله في الأرض، والثقة به سبحانه زاد السائر السالك. فمهما أخلَّ العبد بشرط الصدق قطعه سيف الله، ومتى اختلت ثقته بِربه عز وجل سقط على أم رأسه.
أما إن وفَّى العبد بشرط الصدق فإن الله مع الصادقين. قال ابن القيم رحمه الله: "وهو (الصدق) سيف الله في أرضه، الذي ما وُضِعَ على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه. من صال به لم تُرَدَّ صولتُه. ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومِحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال"[1].
وأشد الأهوال مُظْلِماتُ النفس وتُرَّهاتُها وتعاظُمُها وكبرياؤها. يهون الحجاب الزمني أمام حاجِبِيَّتِها. وما أوقات العمر كلِّه إلا محطاتٌ لنزواتها وتحولاتها وتقلباتها. وما للسالك إلى الله عز وجل من راحة من أفعى نفسه حتى يخرج من سلطانها ويكسر سوْرَتها بمطرقة الذكر على سندان المخالفة والمحاسبة حتى تفيء إلى أمْر الله.
فإن فاءت فالصلح معها جائز على أن تقف في حدود الله، وتَفْسَحَ للقلب باب المعاملة الصادقة الواثقة معه سبحانه.
النُّقلة من المعاملة النفسية الملتوية إلى المعاملة القلبية المستقيمة نُقلة نوعية، نُقلة من أرض الوباء النفسي، أرض المزالقِ والمهاوِي والسقطات، إلى سماء الوفاء القلبيِّ. على أن النفس الأمارة بالسوء لا تُؤْمَنُ بَوائِقُها أبدا إلى أن تطمئن بالموتة المكتوبة فيقال للمُحسنات منهن )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي( (سورة الفجر، الآية الأخيرة).
قال الإمام الرفاعي في فقه المعاملة القلبية: "معاملة القلوب على عشر مدارج. أولها الخطرات، ثم حديث النفس، ثم الهم، ثم الفكر، ثم الإرادة، ثم الرضى، ثم الاختيار، ثم النية، ثم العزيمة، ثم القصد. حتى يبلغ إلى عمل الظاهر.
قال: "فمن حفظ معاملة القلب عند الخطرات فهو على مدارج الصديقين. ومن قام لله تعالى فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو على مدارج المقربين. ومن قام لله تعالى فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج الأوابين. ومن قام لله على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج المخلصين. ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الإرادة فهو على مدارج المريدين. ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الاختيار فهو على مدارج المتقين. ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين. ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند القصد فهو على مدارج المجتهدين. ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند عمل الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين"[2].
قلت، والبناء هرمي، إنما يبني في الهواء مَن لا أساس له من عمل الجوارح كما يعمل العابدون من عامة الموحدين. والصعودُ في هذه المدارج والمعارج قلبيٌّ يتقدم فيها القلب بخطى المعاملة اليقظة الوفية مع الله تبارك اسمُه، وليس للنفس الحابِطة الهابطة سيرٌ ولا دُروج ولا عُروج، ثَبَّطَها شِرْكها بالخَلق ومُراءاتها ونفاقها وشقاقها على المعالي.
قال الإمام عبد القادر: "كل البلايا والأمراض في شِرْكِكَ بالخلق، ورؤيتهم في الضّرِّ والنّفع، والعطاء والمنع. وكل الدواء وزوال البلاء في الخروج عن الخلق من قَلبِك، وعزمك عند نزول الأقضية والأقدار. وأن لا تطلب الرياسة على الخلق والعلو عليهم. وأن يتجرد قلبك لرَبك عز وجل، ويصفو سرُّكَ له، وتَعْلُوَ همتك إليه.
"إذا تحقق لك هذا ارتفع قلبك، وزاحم صفوف النبيئين والمرسلين والشهداء والصالحين والملائكة المقربين. وكلما دام لك كبُرتَ وعظُمْتَ ورُفِعْتَ وقُدِّمت وولِّيت وأُمِّرْتَ. تُرَدُّ إلى ما تُرَدُّ، تُوَلَّى ما تُوَلَّى، تُعْطَى ما تُعْطَى. المحروم من حُرِم سَمَاع هذا الكلام والايمان به والاحترام لأهله.
"يا مشغولين بمعايشهم! غِنَى المعيشة عندي! والأرباحُ عندي! ومتاع الأخرى عندي! وأنا منادٍ تارة، وسمسارٌ أخرى، ومالِكُ المتاع أخرى. أُعْطِي كل شيء حقه(...)
"كل من اطلع على كرم الله عز وجل لا تجد عنده بخلا. كل من عرف الله عز وجل هان عنده ما سواه. البخل من النفس، ونفس العارِفِ ميّتة بالاضافة إلى نفوس الخلق. هي مطمئنة إلى وعد الله عز وجل خائفةٌ من وعيده.
"اللهم ارزقنا ما رزقت القوم، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"[3].
قلت: تُرى من هذا الذي يقول: أنا! وعندي! ما هو طَبْلٌ أناني فارغ، بل هي والله نفس عارف بالله جلت عظمته، لا يَعظُم في عينه شيء غيرُ الله، وما ينادي ويُسَمْسر في بضاعة غير بضاعة الله.
قال الإمام الشافعي يصف أهوال الطريق إلى سُعادِ السعادة:
كيف الوصول إلى سُعادَ ودونها قُلَلُ الجبال ودونَهُـنَّ حتـوف!
والرجـل حـافيَة ولا لي مركـبٌ والكف صِفْـر والطـريق مَخـوفُ

وقال سائر سالك مغترب غاب عنه الركب:
ومغـتـرب بالأرض يبكـي لشَـجْـوه وقد غاب عنه المُسْعِفُـون على الحُب
إذا ما أتـاه الركـب من نحـو أرضـه تـنـشَّـقَ يستشْـفي بـرائحـة الرَّكـب

وقال غريب المثوى، غريب الأحوال، هائم في غيب الملكوت:
مستعجم السـر صامت ذاكـر منعجـم الأمـر غـائب حاضـر
منقـبـض في الغيـوب منبسـطٌ إذا بدا الغيـب مُطـرقٌ نـاظـر
تراه تحت السكوت منطـرحا كـذاك من كـان عـارفـا ذاكـر
يـرقـد فـي لـيـلـه بلا سِـنَـةٍ فهو مدى الليـل راقـدٌ ساهـر
يُـؤْيِـسُه الظـن ثم يُـطْـمِـعه! فمـن رأى قَـطُّ آيِسـا ظـافـر!

وقلت:
كَم ســاقِـط وجَريــحٍ على الطَّـريق المَخُـوفْ
في البَـرِّ وعْرُ البَــوادي وفي البُحــورِ الحُتـوفْ
مـا لِلوصــول سَبيــلٌ إلاَّ بِخــلٍّ عَـطــوفْ




[1] مدارج السالكين ج 2 ص 368.
[2] حالة أهل الحقيقة مع الله ص 168.
[3] الفتح الرباني ص 71.







رد مع اقتباس
قديم 19-11-2014, 04:26 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي

آداب السلوك





بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿ ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا. إنك على كل شيء قدير﴾ . "اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. سلما لأوليائك وعدوّاً لأعدائك. نحب بحبك من أحبك. ونعادي بعداوتك من خالفك."
الأدب لغة هو الدعوة والجمع والتعليم. فمن اجتمعت فيه خصال الدعوة إلى محامد الأفعال والأخلاق والنيات، وتحلى بمجامعها، وتعلمها ثم علَّمها فذاك الأديب.
والأدب في اصطلاح الصوفية وأهل السلوك عبارة عن حفظ آداب الحضرة الإلهية. وقد افتتح الأستاذ القشيري "باب الأدب" من رسالته بقول الله عز وجل عن نبيه وعبده محمد صلى الله عليه وسلم في معراجه وقربه من ربه: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [1] فعد ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الأقدس وطمأنينته أدبا. وعلق ابن القيم رحمه الله على صنيع الأستاذ فأحسن التعليق. قال: "لم يتجاوز البصر حده فيَطغَى، ولم يمِلْ عن المرئي فيزيغَ. بل اعتدلَ البصرُ نحو المرئي، ما جاوزه ولا مال عنه كما اعتدل القلبُ في الإقبال على الله، والإعراض عما سواه. فإنه أقبل على الله بكليته.(...) وهذا غاية الكمال في الأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه(...)"
وقال: "فلم يزل صلى الله عليه وسلم في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه وتكميل مراتب عبوديته له حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين. فانصبَّت إليه هناك أقسامُ القرب انصبابا، وانقشعت عنه سحائب الحُجْب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا. وأقيمَ مقاما غَبَطه به الأولون والآخرون. واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله، ما زاغ البصر وما طغى" [2] .
قلت: وفي هذا المقام الأسنى والدرجة العليا علمه ربه عز وجل وكلفه وشرفه، تتميما لتعليم الوحي لمَّا كان في الأرض وبعد أن رجع إليها. فاجتمع فيه صلى الله عليه وسلم كمال العلم وكمال المحامد، وعلم أمته فأحسن التعليم كما علمه ربه وأدبه. روى ابن السمعاني عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صححه السيوطي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" .
فأدَبُ أتباعه صلى الله عليه وسلم يبتدئ وينتهي عند اتِّباعه صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن ربه عز وجل، مع محبته وطاعته. فالأدب بهذا المعنى هو الدين كله، يشمل آداب القول والفعل والتخلق والنية. يشمل آداب المسلمين والمومنين والمحسنين السالكين، كلٌّ على حسب مدرجته وحظه من الله ومن العلم بالله، يشمل الأدب مع الله عز وجل ومع رسوله الكريم ومع الخلق كافة.
يتعين على السالكين إلى مقامات الإحسان وفيها يقظة خاصة حتى يؤدوا مراسيم العبودية مما فرضهُ الله عز وجل وندب إليه ونهى عنه وكرهه بالدقة التي يحرسها الورع، ويُجَلِّلها في القلوب الحضور الدائم مع الله عز وجل، ويوفِّيها هضم حق النفس الزائغة الطاغية بطبعها وهواها ليُصان حقُّ الله وحق عباد الله.
الأدب إحسان يلُفُّ سلوك السائر إلى الله عز وجل، المتقرب إليه سبحانه بالفرض والنفل، وبالنية الصادقة الواثقة في أن يُوَفِّيَ له الله تبارك اسمه ما وعد. يكتنف الأدبُ أقوال المريد الصادق الواثق وأفعالَه وأخلاقَه وخلجات قلبه في علاقته بالمصحوب الذي يدله على الله، وعلاقته بالجماعة المرافقة له في الطريق، وعلاقته بالله عز وجل في الصلاة والذكرِ وسائر العبادات. منبع هذا الأدب القلب ورقيق معاملته وصادق تحبُّبِه ومجاملته. فإن كان في القلب بقايا من جفاء وجفوة، أو سطا عدوان النفس الهَلوعة المنوعة على فَيْضات القلب فكدَّر منها الصفو وأزعج منها الانبعاثَ، فيرد هذا السالك إلى سياسة نفسه في صفوف العوام لِسوء أدبه.
العبد السالك بين طاعة ونعمة توجبان الشكر، وبين قضاء وقدر يلزم معهما الصبر، وبين معصية وتقصير وغَفلة طارئة يفر منها إلى الله العزيز الغفور بالتوبة المجددة والاستغفار. فهو في كل حالاته متنقل لا يستقر من شعور لشعور، ومن حركة لحركة، ومن لفظ لسان إلى خَفْق جنان. كل هذا في عبادة لا تنقطع، يرجع دائما من الله إلى الله، شأن الذاكر الدائم على صلاته، المحافظ على دقائق أوقاته.
وقد تكلم المشايخ في الأدب كلاما يعود في جملته إلى قهر النفس والمعاملة القلبية مع الله عز وجل. قال سعيد بن المسيَّب التابعي الجليل: "من لم يعرف ما لله تعالى عليه في نفسه، ولم يتأدّبْ بأمره ونهيه، كان من الأدب في عزلة" . وقال عبد الله بن المبارك: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم" . وقال أيضا: "الأدب للعارف كالتوبة للمُستأنِف" .
وقال عالم الصوفية الشيخ سهل بن عبد الله التستُري: "من قهر نفسه بالأدب فهو يعبُد الله تعالى بالإخلاص" . وقال: "استعانوا بالله على أمر الله فصبروا على أدب الله تعالى" .
وقال ابن عطاء: "الأدب الوقوف معَ المستحسنات" . قيل له: وما معناه؟ قال: "أن تعامل الله تعالى بالأدب سرا وعلنا. فإذا كنت كذلك كنت أديبا وإن كنت أعجميّاً" .
وقال أبو علي الدقاق: "ترْكُ الأدب موجب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط رُدَّ إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رُد إلى سياسة الدواب" .
وذكر أبو نصر الطوسي السَّرّاج أدب الناس فقسمهم ثلاث طبقات: أهل الدنيا، وأهل الدين، وأهل الخصوصية. قال: "فأما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك. وأما أهل الدين فإن أكثر آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح، وطهارة الأسرار وحفظ الحدود، وترك الشهوات، واجتناب الشبهات، وتجريد الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات" .
قال: "وأما أهل الخصوصية فأكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواطن الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب" .
قلت: وكلما ارتقى العبد في سلم المعرفة بالله عز وجل كانت تكاليف الأدب وضبط النفس عليه أدقَّ وأرقَّ. وقد قال يحيى بن معاذ. "إذا ترك العارف أدبَه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين" . ولخَّص الموقف النفسيَّ القلبيَّ للسالك خير تلخيص شيخ الإسلام ابن القيم فقال عن حالة الفتح وأخطار سوء الأدب فيه: "مواهب الرب تبارك وتعالى تنزل على القلب والروح، والنفس تسترق السمع. فإذا نزلت على القلب تلك المواهب، وَثَبَتْ لتأخذ قسطها منها، وتُصَيِّرَه من عُدَّتها وحواصلها. فالمسترسلُ معها، الجاهل بها، يَدَعُها تستوفي ذلك."
قال: "فبينا هو في موهبة القلب والروح وعُدة وقوة له، إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعُدَدِها. فصالت به وطغت، لأنها رأت غناها به. والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال، فكيف بما هو أعظمُ خطرا وأجـل قدراً من المال بما لا نسبة بينهما من علم أو حال أو معرفة أو كشف. فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبـد به -ولا بد- إلى طرَفٍ مذموم من جُرْأة أو إِدْلاَلٍ ونحو ذلك" .
قال: "فوالله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أُتيتُ؟ ومن أين دُهيتُ؟ ومن أين أصِبْتُ؟ وأقلّ ما يعاقب به من الحرمان بذلك أن يُغلق عنه باب المزيد."
قال: "ولهذا كان أرباب البصائر إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طَرَفِ الذُّلِّ والانكسار ومطالعة عيوب النفس، واستدعوا حارسَ الخوف، وحافظوا على الرباط بملازمة الثغْر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله عز وجل وأكرمِهم عليه وأدْناهم منه وسيلةً وأعظمهم عنده جاها، وقد دخل إلى مكة يوم الفتح وذقَنُه تمس قربُوسَ سَرْجه انخفاضاً وانكسارا، وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفس البشرية فيها أن يملِكهَا سرورُها، وفرحها بالنصر والظفر والتأييد، ويرفعها إلى عنان السماء."
قال: "فالرجل من صان فتحه ونصيبه من الله، وواراه عن استراق نفسه، وبخل عليها به. والعاجز من جاد لها به. فياله من جود ما أقبحه، وسماحة ما أسفه صاحبها. والله المستعان" [3] .
قلت: لوجود علة النفس الميَّالة للفرح بزينة الدنيا وللطغيان إذا استغنت خاف المشايخ المربون على السالك أن توقفه عن السير وتزيغه عن القصد بوادر الفتح إن فاجأته قبل أن تزكُوَ نفسه وترتفع عن المطالب الدنيا. وكل ما سوى وجه الله عز وجل دون، ولو كان من علوم الغيب والكشف والكرامة. قال المشايخ رضي الله عنهم "من سبق فتحه جهاده لنفسه لا يأتي منه رجل" .
وقال الإمام عبد القادر رضي الله عنه: "يا قومُ. دعوا عنكم الهوسات والأمانيَّ الباطلة.(...) اِخرَسْ أنت. فإن أراد الله عز وجل منك النطق فهو ينطقك. إذا أرادك لأمر هيأك له. صحبتُه (سبحانه والأدب معه) خرسٌ كليٌّ. فإذا تم الخرس يجيء النطق منه إن شاء أو يديم ذلك إلى حينِ الاتصال بالآخرة. "وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " "من عرف الله كلَّ لسانُه" ". يَكِلّ لسان ظاهره وباطنه عن الاعتراض عليه في شيء من الأشياء. يصير موافَقَةً بلا منازعة. يُعْمِي عينيْ قلبه عن النظر إلى غيره. يتمزق سرُّه، ويتلاشى أمرُه، ويتفرق ماله، ويخرج من وجوده، ويخرج من دنياه وآخرته. يذهب اسمُه ورسمُه. ﴿ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ﴾ [4]."يوجِدُه بعد الفقد، يعيده خلقا آخر، يفنيه بيد الفناء، ثم يعيده بيد البقاء ليطلب اللقاء. ثم يعيده ليدعوَ الخلق من الفقر إلى الغنى. الغنى هو الغنى بالله عز وجل والاتصال به. والفقر هو البعد عن الله عز وجل والاستغناء بغيره. الغَنِيُّ من ظفر قلبه بقرب ربه عز وجل، والفقير من عدِمَ ذلك[5].
قال حائر في سيره، مدهوش لما رأى من أمره:

إن كنتُ أدْرِي من أين آتي
وأين من حَيْرَةٍ أمُرُّ
فأنت يا مركبي حبيسٌ
ويا غلامي فأنت حُرّ

وقال هائم في بحار الأنوار:

تعَرَّضْ نَسِيما هَبَّ من أَرضِ نُعمان
لِيحيَى به ما مات من قلب هَيْمَانِ
وقف عن يمين الروح من جانب الحِمَى
وقوف ذليل هائم القلب حَيْرَان
وناد: سلام الله يا بانة الحِمَى
عليك ومن لي بالسلام على البان!
وقل إن رآك الواشِيَان مُدَلَّها
ضَلَلْتُ على النهج القويم فدُلاَّني
فإن شئتما قتلا فها أنا صابرٌ
وإن شئتما أسْرا لديكم فشُدّاني
لعلهمُ أن يسمعوا لك أَنَّةً
فنادِهمُ: صفحَ الكرام عن الجاني

وقال طيَّار على رفرف العناية ما عرف الخلقُ مَسْرَاهُ:

تَسترتُ عن دهري بِظلِّ جناحه
فطرفي يرَى دهري وليس يراني
فلو تسألُ الأيامَ ما اسْمِيَ ما دَرَتْ
وأينَ مكاني؟ ما عرفن مكاني

وقلت:

كَبِّرِ اللّه واعْزِم
واقتَحمْها لا تُحجِم
ومَعَ اللّه فاتَّخِذْ
عَهْدَ عَبدٍ مُسَلِّم
وتأدَّبْ بشرعِه
وتوكَّل وأقْدِم

[1] (سورة النجم، الآية: 17) [2] مدارج السالكين ج 2 ص 383. [3] مدارج السالكين ج 2 ص 394. [4] (سورة عبس، الآية: 22) [5] الفتح الرباني ص 172.






رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تراجم و سير عن مشايخ السلوك و الإرادة عمرالحسني عقيدة أهل السنة والجماعة 5 19-11-2014 04:36 PM
مساجد الخبر تبكيك يافقيد المساجد سكني قلب زوجي رحيق الحوار العام 2 18-07-2010 08:16 PM
مساجد وبيوت الله من لها اليوم أسد الإسلام رحيق الحوار العام 1 08-08-2009 03:19 PM
إدراك المفهوم يضبط السلوك. تراب رحيق الحوار العام 2 18-01-2009 01:33 AM
مساجد/اعداد مجد الغد مجد الغد السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 44 25-12-2008 10:35 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة