منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > عقيدة أهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-11-2014, 04:01 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عمرالحسني غير متواجد حالياً


افتراضي عقبة الخلاف و الاختلاف

كان عبد الله بن المبارك محدثا كبيرا، وجمع الله له إلى ذلك خصالا جليلة، فكان شاعرا جوادا مجاهدا، يحج عاما ويغزو عاما. واشتهر فضيل بن عياض بالزهد والصلاح، يعتبره الزهاد والصوفية إماماً.
عِتَابٌ رقيق بين صديقين متصافيين. وكان الرجلان عَلَمين بارزين من أعلام القرن الثالث الفاضل. في القرون التالية اتخذ الخلاف في المذهب والرأي ووجهة النظر شكل الجدَل العَنيف، واستفحل، وكانت حروب كلامية وغارات. وتَرِثُ هذه الأجيال المتأخرة كتُبَ الخلاف فيما ترث، فتقفُ عند جزئيات الخلاف دون أن تتعلم أن ذلك الخلاف كان ضروريا، وكان رحمة، لأنه تمخض عن زبدة الدين، وتحررتْ من خلاله العقيدة، وصُفي الحديث، وتأصل الفقه، وحوربت البدع.
لا يمكننا أن نضرب بما شجر من خلاف بين علمائنا عُرض الحائط، ويمكننا أن نستفيد من مسيرة هُبوطِهِ إلينَا اكتشاف الطريق الصاعدة إلى النبوة والخلافة الراشدة. تخطي هذا الخلاف مثل اتّخاذه هدفاً أسمى وسقفا موقفان متطرفان، بينهما توجد الحكمة.
والحكمة قبول الخلاف ظاهرةً بشرية، وقبول تنوع الاجتهاد، وتنظيم هذا التنوع. وبداية الحكمة أن نضع خلافات علمائنا الأولين مواضعها النسبية، لا نتخذ رأي فلان أو فلان مرجعا نهائيا ومطلقا لا تسمو العقول لمناقشته.
حظُّ كل صاحب مذهب ورأي من حفظ النص وتحريره، ومن حِدة العقل وتنظيمه، ومن تَوجُّه الإرادة وسموها ومضائها يحدد إمكانياته ويرسم له حدودا. فينكر في حدوده وظروفه وزمانه ومكانه ما هو عند الآخرين غير منكور. ويَرُدّ ويُردّ عليه. ولكل مجتهد أجر عند الله، ووجه معقول مَقْبول عند العقلاء الموفقين.
عقبة الخِلاف في شأن الصوفية والتصوف ليست أهون العقبات أمام من يريد أن يشرح ما عند القوم من كنز محفوظ لقارئ وقع في يده كتاب من هذه الورقات السطحية التي تتكاثر في السوق، يكتبها من ألهاهم التكاثر عن السؤال المركزي: "وأنا ماذا فعلت، وماذا علمت، وما حظي من ربي؟".
ينحصر معظم الخلاف على الصوفية في المُحَدّثين الحنابلة. علم أصول الحديث علم تعديل وتجريح، وبنفس المنهاج تناول الحنابلة المحدثون الصوفية فجرحوا أكثر مما عَدَّلوا. وكان من أدعياء التصوف وفلاسفة الإشراق طوائف نالوا بجدارة واستحقاق من بعض المحدثين الحنابلة تصويرا سلبيا محضا. فأنت إذا قرأت كتاب "تلبيس إبليس" خيل إليك أن الصوفية في كلمة واحدة هم إخوان الشياطين. ويا حسرة على من قرأ نُقول من نقل عن من نقل عن أمثال ابن الجوزي رحمه الله، ثم اكتفى وطوى الملف! ماذا فاتك يا مسكين!
لهذه الخلافات أسباب ظاهرة مشروعة، مثل الخلاف في العقيدة، ولها أسباب دُنيوية تاريخية. والخلاف جزء لا يتجزأ من العناصر الحركية التي عليها صلحت الأرض واستقامت. الخلاف مهما كانت أسبابه، شريفة عفيفة أو مغرضة أو جاهلة أو تحاملية، دفاع الله الناس بعضهم ببعض، )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (سورة البقرة، الآية: 251).
قال التاج السبكي يقص قصة خلاف المحدثين والصوفية، وقد كان ووالده التقي السبكي شيخ الإسلام من أكبر المعارضين لابن تيمية. قال: "نبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الخلاف بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث قد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في الحارث المحاسبي وغيره. وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد، وإن عده ابن دقيق العيد غيرَهُ. والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى. نعم، وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا. وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين"[1].
عندما تختلف الآراء، وتشتبك الألسنة في الجدال تثور النفوس وتتعمق الهوة بين الخصوم، ويجد الشيطان في هوى الناس مطية لإشعال الفِتْنة. والغِرُّ من يظن أن النزاعات بين العلماء تعكس كلها الصفاء الملائكي والتحري المجرد عن كل شائِبَةٍ. والبشر بشر، والفتنة اللسانية أمضى من فتنة السيف وأسرع ضِراما. روى أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكون الفتنة تَستنطف (أي تأتي على الأخيار) العرب. قتلاها في النار. اللسان فيها أشد من السيف". هذا لفظ الترمذي.
والغيرة البشرية بين الأقران والمتعاصرين تتدخَّل فتُضخِّم ما يكون ثَمَّ من أصل حقيقي للخلاف. رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا أدركتُ ولا أدْركتم زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج!".
ولأبِي عُمر بن عبد البر كلام نفيس في الموضوع أنقله عن التاج السبكي. وابن عبد البر من المحدثين المحققين يحظى بالاعتبار التام عند علماء الأمة. قال السبكي: "عقد الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزُّبَيْر رضي الله عنه: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" الحديث. قلت: وهو حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال الأشَرُ والبَطَرُ والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي".
ثم قال السبكي رحمه الله: "وروى (ابن عبد البر) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض. فوالذي نفسي بيده، لهم أشدُّ تَغايُراً من التُّيوس في زُروبها" وعن مالك بن دينار: "يوخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض"(...). واختلاف الاجتهاد مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا. ثم اندفع ابن عبد البر في ذكر كلام جماعة من النظراء بعضهم في بعض وعدم الالتفات إليه، إلى أن انتهى إلى كلام ابن معين (وهو من كبار المحدثين) في الشافعي، وقال: إنه مما نُقِمَ على ابن معين وعِيبَ به. وذكر قول أحمد بن حنبل: "من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعيّ، ولا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه"[2].
أقول وبالله التوفيق: إن خلاف العلماء وشجارهم ووقوع بعضهم في بعض عن حسن نية أو فلتةً بشريّةً ينبغي أن لا يوهمنا أن الحق في هذا الجانب ضربة لازب. فهم خطاؤون ككل ابنٍ لآدم، وهم مخطئون أحيانا. وحلة القدسية التي يضفيها خيال المُقلدين على إمام عالم هي من صنع الجهل. وكل واحد يؤخذ من كلامه ويطرح إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وأرجع لابن السبكي وابن عبد البر لأنقل إليك فَصّاً ثمينا من فصوص العلم ونوادر الحكمة. قال: "ثم قال ابن عبد البر: فمن أراد قبول قول العلماء الثقات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة بعضهم في بعض. قال: فإن فعل ذلك فَقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خُسرانا مبينا. قال: وإن لم يفعل، ولن يفعل إن هداه الله وألهمه، فليقف عند ما شرطناه في أن لا يقبل في صحيح العدالة المعلوم بالعلم قول قائل لا برهان له".
يظلم نَفسَه ويظلم العلماءَ من يجرد الخصومات التي خاضُوها من ملابساتها الظرفية وشوائبها البشرية، وينصب أحدَهم لواءً خفاقا يخوض تحته معاركهُ هو، عن جهل للأصول والفروع، وعن تقليد أعمى لمن لا يحسن حتى فك جملهم وفهم لغتهم، فأحرى أن يفهم مرامي الكلام وظواهره وبواطنه ودوافعه ومقدماته التاريخية.
من المظلومين في هذا العصر شيخ الإسلام ابن تيمية. تبحره في العلوم، وتمكنه في الحديث وقد كان حافظا، ثم انتشار كتبه الانتشار الواسع تنفق عليها بسخاء جهات معروفة لأسباب قد لا يعرفها كل الناس، جعل من اسمه سلاحا مرهبا، ومن سرد كلماته حجة قاطعة، ومن فكره مرجعا نهائيا، يحسب المتحنبلون الجدد أن كلمة شيخ الإسلام رحمه الله هي الكلمة الفصل، والكلمة الوحيدة، والكلمة الأخيرة، وكأن الله عز وجل لم يخلق معه ولا بعده عالما يذكر.
تعمدت في هذا الكتاب الاستشهاد بكلام ابن تيمية، وخاصة بكلام تلميذه ومريده هذا النجم الثاقب في سماء البيان ابن القيم، إشفاقا على من ظَلَموا أنفسهم وظلموا أهل العلم، وإشفاقا على من تجرعوا مرارات الخلاف وصمَّتْ آذانَهم طبولُ المقلِّدَةِ.
كتب الدكتور سعيد رمضان البوطي مقالا مهما بعنوان: "موقف ابن تيمية من ابن عربي"، دافع فيه عن ابن عربي بما هو معروف من أن كتبه دُسَّ فيها الكثير. في كتابي هذا تجنّبت مواطن الخلاف على الأشخاص، إذ الشأنُ بي وبك لا بمن مضوا وانقضوا ولقُوا الله بأعمالهم. لكني أنقل إليك تظَلُّم عالمنا الجليل سعيد من المقلدة. قال: "والحقيقة التي لا ريب فيها أن ابن تيمية رحمه الله قد ظُلم من قِبَلِ هؤلاء الناس... لقَدْ ظُلم من قبلهم مرتين: المرةَ الأولى أنّهم نسبوا إليه بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم التي يتأبطونها مالم يقله، وما لم يخطر منه على بال. فقد صوّروا منه عدوا للتصوف، وهو من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه، والقائلين بوجوب الانخراط في منهجه التربوي على كل مسلم(...).
قال: "والمرةَ الثانيَةَ أنهم صَبَغوه بذلك في تصوُّر كثير من الناس، بل حتى العلماءِ والباحثين السطحيين، بصبغة المُنكِرِ لهذا الذي ثبت أنه جوهر الإسلام ولُبابه، والمنقِّصِ لكل من سار في هذا الطريق وسلك الناس في طريق تزكية النفس، حتى غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزاً لمحاربة هذا السبيل الإسلامي القويم"[3].
نعم، من العقبات الكبرى والحواجز العائقة عن سماع كلمة الحق في موضوع جوهر الإسلام ولُبابه استعمال المتسطحين الحرفيين لاسم ابن تيمية وترجمتهم لفكره.
كان الرجل رحمه الله شعلة من الذكاء والهمة العالية والفروسية العلمية والميدانية. كانت حياته كلها معارك، فاصطبغ فكرُه بلون الأرْجُوان، وعلاه غبار الميدان الحربي. ولولا وضوح فكره وتمكنه ورسوخه في العلوم، ولولا تشبثه المتين بالأصول يدافع عن الحق في زمان استفحلت فيه البدع، وهجمت الباطنية، وطمَّ الغزو التتاري فكان الفارس المُعْلَم في كل تلك الميادين، لكانت خلافياته مما طُوِيَ وبقي في الرفوف. لكن نشر تراثه الممتاز أثار موجة من البلوى عمت وطمت.
الرجل، وإن كان اختلف مع المتأخرين من الصوفية، يعتبر أمثال الجنيد وابن يزيد وسهل أئمة هدى. ويضع الشيخ عبد القادر الجيلاني موضع الاحترام المطلق. يذكر اسمه فيقرنه بالترحم الصوفي على الأكابر: "قدس الله سره".
إن كان ابن تيمية كفر هذا وجرح ذاك وشدّد على هؤلاء وسالم أولئك، فتلك معاركُ مضت وانقضت. وتبقى رسالة ابن تيمية وشهادته ناصعة الجبين واضحة المعالم لمن تجاوز مراحل محاربة الأمية أنَّه من أكبر الداعين للتزكي القلبي وصحبة المشايخ وملازمة الأوراد.
خاصم الغزاليَّ في أمور نُسبت إليه في كتاب "مشكاة الأنوار" وكتاب "كيمياء السعادة" ثم قال: "وقد أنكر عليه (على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق. وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم. وأخطأوا أيضا في هذا النفي. بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم"[4].
المكاشفة والكشف والفتح هي الأسماء التي يطلقها الصوفية على العلوم الوهبية التي يفتحها الله الكريم الوهاب على من يشاء مصداقا لوعده الكريم: )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( (سورة البقرة، الآية: 282). ابن تيمية من أهل الذوق، علم يقينا أن الذاكرين السالكين تفتح لهم أبواب من العلم لا يَنالها غيرهم. وهذا لب المسألة كلها. ومن العلماء من ينكر هذا العلم الموهوب جملة وتفصيلا ويعتبر المكاشفة "كلاما فارغا"[5]. وكلا الرجلين محدث حنبلي، لكن شتان ما بينهما.
نقطة أخرى تتطابق فيها معرفة ابن تيمية وتجربته مع معرفة الغزالي وتجربته، هي ضرورة صحبة المشايخ لاكتساب علوم الولاية. قال: "أهل التصفية والرياضة والتأله يحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري للرازي ورفيقه، وقد قالا له: يا شيخ! بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقال: نعم! فقالا: كيف تَعْلَمُ ونحن نتناظر في زمان طويل، كلما ذكرَ شيئا أفسدتُه، وكلما ذكرتُ شيئا أفسدَه؟ فقال: هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام. وطلب أحدهما أن يحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له"[6].
اعتراف إذا ونصح بمشروعية التشيخ وبنتائجه.
في نص آخر يصرح ابن تيمية بحقيقة لا تسعها أدمغة المقلدة، ولعل منهم من يؤولها لنا تأويلا إن استطاع. قال: "إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم (أي الفلاسفة) الذي ذكروه، بله الفراسة أيضا وأمثالها"[7].
قرَنَ إذن الأنبياء والأولياء في تلقي علوم الوحي والإلهام. هل قال الغزالي وأكابر السادة الصوفية غير هذا؟
كان ابن تيمية رحمه الله ذا شخصية قوية عزيزة الجانب. قوته وعزة جانبه يرشَحان من مقالاته الجازمة الحاسمة في مؤلفاته. فمن لا يعطي الحقائق مكانتها النسبيّة يظن أن ما كتبه عالِمنا الواسعُ في زمان ما ومكان ما حقٌّ مطلقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذلك خطل وخبال.
كان خطاءً ككل بني آدم عرضة للخطإ مثلهم. وكان يكتب اليوم ما يجزم به اليوم، فيَفتح الله له غدا بما يناقض اقتناعه بالأمس. نرجع إن شاء الله في الفصل السادس من هذا الكتاب لمسألة نظر الأولياء في اللوح المحفوظ. ابن تيمية الشيخ يكتب في مرحلة ما من مراحل سلوكه أن ذلك ممتنع، ويشهد ابن القيم المريد أن شيخه صرح بأنه ينظر في اللوح المحفوظ. تناقض؟ لا! لكن سَيْر، واطلاع نسبي، وقصور بشري، ومِنن إلهية يختص الله بها من شاء من عباده متى شاء. وقد نعرض لبعض التناقضات الظاهرة في كلام ابن تيمية وتلميذه الوفي، لا لكي نحطم الشخصين العزيزين، لكن لنكسر صورة التشويه التي صنعها المقلدة.
كان خصوم ابن تيْمية يرمونه بتهمة أنه لم يتأدب على يد شيخ يهذب شخصيته. وكيف ينقاد شخص في مثل قوته وكرامته واندفاعه لأحد؟ قال التقي السبكي الوالد: "ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له اطلاع، ولم يجد شيخا يهذبه، وهو على مذهبهم (يعني الحنابلة المُثْبتة يسميهم الخصوم مجسمة). وهو جَسور مُتجرد لتقرير مذهبه"[8]. وقال: "وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارة واتساع خيال وشغَب كثير( … ). وكان الناس في حياته قد ابتلوا بالكلام معه للرد عليه"[9].
في نظر معاصري ابن تيمية يتقمّص ابن تيمية حجمه الطبيعي النسبي: "جاء في أواخر المائة السابعة رجل"، رجل "له اطلاع ولم يجد شيخا يهذبه". لَمّا ترفعه قداسة القِدَمِ وتقليد القاصرين إلى مراتب العلاء.
ومن معاصري شيخ الإسلام، من المحدثين الحنابلة الصوفيين، رجل من أكابر العلماء وأئمتهم لا ريب، أخذت منه شخصية الحافظ "الجسور" كل مأخذ، فاتخذه شيخا بكل ما في كلمة "شيخ" من فخامة وضخامة، وأحبه وأخلص له، ووَفّى، وخاض معه معارك، وبث في كتبه النفيسة ما أورثته صحبة شيخ الإسلام الكريم علينا من علوم ظاهرة، وأذواق باطنة لا تكون إلا عند خلّص الصوفية. ها هو يشيد بشيخه إشادة لاَ يتأتى لها النثر. فقال شعرا في نونيته المشهورة التي سجَّلت معركة حَاميةً في تاريخ الخلاف. إنه ابن القيم شيخ الإسلام الجليل. قال:
حتى أتـاح لِيَ الإلـه بفضـلـه من ليس تجـزيه يدي ولساني
فتى أتى من أرض حـران فيـا أهلا بمـن قـد جـاء من حـران
فالله يـجـزيـه الذي هو أهـله من جنـة المـأوى مع الرضـوان
أخذت يداه يَدي وسار فلم يَرِمْ حتى أرانـي مطلـع الإيمــان
ورأيت أعـلام المديـنـة حولـها نزل الهدى وعسـاكـر القـرآن
ورأيت آثارا عظيـمـا شـأنهـا محجـوبةً عـن زمـرة العميـان
ووردت كأس الماء أبيض صافيا حصـبـاؤه كـلآلئ التيـجــان
ورأيت أكـوابا هـنـاك كثـيـرة مثـل النجــوم لوارد ظـمــآن

وقلت جعلني الله وإياك من عساكر القرآن المجاهدين تحت أعلام النبوة لإقامة الخلافة الثانية آمين:
نَزلَ الـهُـدى ببشــائــر القُــرآن للمُستجيب لدعوةِ الإحســانِ
أمِر الوَرى بالعدل في أحكــامهم واستُنهِضـوا لِمـآدب الرحمــان
والعدْل في الأقسام نُطْعِمُ سَـاغباً نُرْوي لُغُــوبَ الواردِ الظَّـمْــآن




[1] طبقات الشافعية ج 1 ص 165.
[2] طبقات الشافعية ج 1 ص 188 - 189.
[3] مجلة "منار الإسلام" رمضان 1408 ص 103.
[4] كتاب "الرد على المنطقيّين" ص 511.
[5] ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص 184.
[6] رسائل ابن تيمية ج 1 ص 52.
[7] الرد على المنطقيين ص 437.
[8] الرسائل السبكية ص 85.
[9] نفس المصدر ص 195.







رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الخلاف على الصوفية عمرالحسني عقيدة أهل السنة والجماعة 1 20-11-2014 03:51 AM
لا مستقبل للخلاف و الاختلاف ، نعم للوحدة و الحوار المعتدل البناء عمرالحسني عقيدة أهل السنة والجماعة 1 20-11-2014 03:34 AM
ركائز فقه الاختلاف للعلامة القرضاوي عماد حامد رحيق الحوار العام 4 15-07-2009 02:16 AM
مانشستر يونايتد يسعى لتخطي عقبة توتنهام الصعب نسيم الورد الرياضة وبناء الأجسام والألعاب الإلكترونية الترفيهية 1 26-04-2009 02:27 PM
الأمير المجاهد عقبة بن نافع فاتح بلاد المغرب مجد الغد السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 6 17-12-2008 07:35 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة