منتديات شو ون شو  

العودة   منتديات شو ون شو > مــنــــتـــدى الــعــــلـــوم الإســــــلامـــــيـــــــــة > السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى
التسجيل مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-04-2009, 08:27 PM رقم المشاركة : 31
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي



[align=center]عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز[/align]

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سير التابعين رحمهم الله تعالى ، والتابعيُّ اليوم هو عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز .
أيها الإخوة الكرام ؛ في هذه القصة دلالات كثيرة ، وتُعدُّ هذه القصة نموذجا من النماذج التي يمكن أن تُّعدَّ منهجا للمؤمنين ، فما كاد التابعيُّ الجليل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض ترابَ قبر سلفه سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية ، وقد توفِّي ودُفن ، وما إن نفض عمرُ بن عبد العزيز يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك حتى سمع للأرض من حولـه رجَّة، فقال : ما هذه ؟ قالوا : هذه مراكبُ الخلافة يا أمير المؤمنين ، هو الذي جاء بعد سليمان ، هذه مراكب الخلافة ، قد أُعِدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّج الذي نهكه التعبُ ، وأذبله السَّهرُ : مالي ولها ، طبعا هذا ماذا يعني ؟ هناك حقائق ، وهناك مظاهر ، والحقائق أهمُّ من المظاهر ، الحقائق أن يُرضيَ الإنسانُ ربَّه ، وأن يكون في طاعة الله، ولكن المظاهر لا نهاية لها ، وهذه المظاهر تنتهي عند الموت ، ماذا تنفع صاحبها ، لذلك أولئك الذين يتعلَّقون بالمظاهر هؤلاء خاسرون ، لأن الموت ينهي تلك المظاهر، ويواجهون عملهم إمَّا الذي فيه تقصير ، وإما الذي فيه إساءة ، أي الذي فيه عدوان ، ولو أن أهل الأرض جميعا من دون استثناء أثنوا عليك ، ولم يكن اللهُ راضيًا عنك فأنت أكبر خاسر ، ولو أن أهل الأرض جميعا سخطوا عليك وأنت في مرضاة الله فأنت الرابح ، لذلك ابتغوا الرِّفعة عند الله ، لقد رأى مظاهر فخمة جدًّا ، ولكنه قال ببساطة : مالي و لها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
الحقيقة أيها الإخوة أنّ الإنسان بحاجة إلى السعادة ، شاء أم أبى ، إما أن يستقيها من خارجه، وإما أن تنبع من داخله ، فحينما يكون في مرضات الله عزوجل تنبع من داخله ، وحينما لا يكون في مرضات الله يبحث عنها من خارجه ، يبحث عنها في الطعام ، وفي البيت الفخم وفي المركبة الفارهة ، وفي الجاه العريض ، وفي مُتع الأرض ، لكن حينما يكون في مرضات الله فهذه السعادة تنبع من ذاته ، لذلك لا يعبأ المخلِصُ كثيرا بهذه المباهج ، ولا تلك المظاهر ، إنها لا تعني عنده شيئا ، ولا تقدِّم ولا تؤخَّر ، أنت بين الحقائق وبين المظاهر ، من قُذِف في قلبه بنور ربَّاني يرى بهذا النور الحقائق ، فلا ينخدع بتلك المظاهر ، نحن ما الذي يهلكنا ؟ المظاهر، فلو دخلت إلى البيوت ما الذي يجعل الخلاف بين الزوجين ؟ المظاهر ، هي تريد المظاهر ، ودخله لا يسمح له بذلك ، لقد دقَّت المظاهرُ رقابَ الرجال ، و أحيانا لا أقول : افعلوا هذا ، لكن تجلس في بيت بسيط جدا ، على الأرض ، هناك أثاث لغرفة الضيف يكلَّف أربعمائة ألف ، وأحيانا أجلس في غرفة ضيوف فيها فُرش من الإسفنج ، لا يزيد سمكُها عن أربعة سنتيمتر ، مغلَّفة بقماش رخيص ، فإذا هناك السرور ، و هناك المحبَّة لله ، وهناك الشعور بالقرب من الله ، ومهما كان الأثاثُ بسيطا فإنّه يسعدُك ، و في حالة البعد عن الله عزوجل مهما كان البيتُ فخما و الأثاث وفيرا فلا يسعدك ، فهنيئا لمن عرف الحقائق ، وهنيئا لمن وضع يده على سرِّ السعادة ، وهنيئا لمن وضع يده على حقيقة حياة الإنسان .
في الدنيا مظاهر وحقائق ، فتعليقي على هذا الكلمة ، قال : ما هذا ؟ قالوا : إنها مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين ، قد أُعدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّجِ الذي نهَكه التعبُ وأذبَله السَّهرُ : ما لي ولها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
ذكرتُ هذه القصَّة مراتٍ عديدة ، وسمعتُ أن قريةً من قرى غوطةِ دمشقَ اتَّفق وجهاؤُها على أن الخاطب لا يُكلَّف إلا بخاتم وساعة ، كلُّ هذه المظاهر تحتَ أقدامهم ، فيسَّروا بذلك الزواجَ ، والآن ما الذي يقف عقبةً أمام زواجِ الشباب ؟ إنها المظاهرُ ، طلباتُ الأهل : بيتٌ مساحته كذا ، بالموقع الفلاني ، وغرفةُ الضيوف من النوع كذا ، غرفةُ النوم من النوع كذا ، ويجب أن يُلبِس مخطوبتَه كذا وكذا وكذا ، فتكلَّف الخاطب ثلاثةِ ملايين ، اتركوا ابنتكم عندكم ، ومَن الذي أشقى البيوتَ ؟ المظاهر ، لو أخلصنا لله عزوجل ، واتَّصلنا به لنبعت السعادةُ من داخلنا ، هذا الينبوع من السعادة يغنينا ويزهِّدنا بمصادر اللذة الخارجية ، قال : نحُّوها عني بارك الله عليكم ، وقرِّبوا لي بغلتي ، فإن لي فيها بلاغا ، ثم إنه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحبُ الشُّرَط ليمشي بين يديه ، ومعه ثُلةٌ من رجاله اصطفُّوا عن يمينه وعن شماله ، وفي أيديهم حِرابهم اللاَّمعة ، فالتفت إليه ، وقال : مالي بك وبهم حاجة ، صاحب الشُّرطة ورجاله والأسلحة البيضاء اللمَّاعة ، اصطفَّ هؤلاء في نسقٍ بهيج ، قال : ما لي بك وبهم حاجة ، فما أنا إلا رجل من المسلمين ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ *

[رواه ابن ماجه]
قال : فما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون .
سأقول لكم هذه الحقيقة أيها الإخوة ، إذا كان الإنسانُ بسيطا متواضعا طبيعيا من دون تكلُّف، ومن دون أُبَّهة ، ومن دون عظمة ، ومن دون كهنوت ، ومن دون هيئة ، ومن دون موكب ضخم ، هل تقلُّ محبُّتُه في قلوب الناس ؟ لا واللهِ ، بل ربما زادت ، قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون ، ثم سار وسار الناسُ معه حتى دخل المسجدَ، ونودِي للصلاة ؛ الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة ، فتسايل الناسُ على المسجد من كل ناحية ، فلما اكتملت جموعُهم قام فيهم خطيبا ، سيدنا عمر بن عبد العزيز قام في هؤلاء الجموع خطيبا ، وهم في المسجد الجامع ، فحمد اللهَ ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر- ماذا رآه ؟ بلاءً ، تذكرون أن سيدنا عمر بن الخطاب كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصَّته ، وقال : إني قد أمرتُ الناسَ بكذا ، و نهيتهم عن كذا ، و الناسُ كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايمُ اللهِ لا أوتينَّ بواحد وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني " - فصارت القرابةُ من عمر مصيبةً ، وهذا التابعي الجليل خامس الخلفاء الراشدين يقول :" أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر " ألم يقل سيدنا عمر:" و الله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني اللهُ عنها ، لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر ، على غير رأيٍ مني ، ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين" ، يبدو أن سليمان بن عبد الملك الذي كان قبله خليفة أوصى له بالخلافة ، فقال : هذا الأمر لم يكن لي رأيٌ فيه ، ولم أطلبه ، ولا كان على مشورة من المسلمين ، وإني خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه " ، ليس عن مشورة ، ولا عن طلب ، ولا عن رأي ، إنما جاء هذا في وصية سليمان بن عبد الملك ، إذًا أنا خلعتُ هذه الخلافة من عنقي ، وأنتم أحرار في اختيار خليفتكم ، فصاح الناسُ صيحةً واحدة : قد اخترناك يا أمير المؤمنين ، ورضينا بك ، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة ، أي تولَّ أمرنا باليُمن والبركة ، فلما رأى أن الأصوات قد هدأت ، والقلوب قد اطمأنت ، حمد اللهَ كرَّة أخرى ، وأثنى على محمد بن عبد الله عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وطفِق يحضُّ الناسَ على التقوى ، ويزهِّدهم في الدنيا ، ويرغِّبهم في الآخرة ، ويذكِّرهم بالموت بلهجة تستلين القلوب القاسية ، وتستدرُّ الدموع العاصية ، و تجرح من فؤاد صاحبها ، فتستقرُّ في أفئدة السامعين .
إخواننا الكرام ؛ إذا أحبَّ اللهُ عبدَه ألقى حبَّه في قلوب الناس ، لذلك الناسُ عندهم حاسَّة سادسة ، يعرفون بفطرتهم الصادق من الكاذب ، والمخلص من الخائن ، والورِع من المتفلِّت ، والذي ينفعهم مِن الذي يضرُّهم ، يعرفون هذا بفطرتهم ، لذلك أجمع الناسُ أن يختاروا سيدَنا عمر بن عبد العزيز خليفةً للمسلمين عن بيعة ، لا عن وصيَّة ، بعد سليمان بن عبد الملك ، ثم رفع صوتَه المتعَب حتى أسمع الناسَ جميعا ، وقال : أيها الناس من أطاع اللهَ وجبتْ طاعتُه ، ومَن عصى اللهَ فلا طاعة له على أحد ، أيها الناسُ كما قال الصدِّق : أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم ، ثم نزل من المنبر ، واتَّجه إلى بيته ، وأوى إلى حجرته ، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد ذلك الجُهد الجهيد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة .
الآن انتهينا من سيدنا عمر بن عبد العزيز ، لأن الموضوع ليس عنه ، بل الموضوع عن ابنه عبد الملك ، وشيء رائع جدا ، بل شيء لا يُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان عظيما بدينه ، وعلمه، وورعه ، وأن يكون ابنُه على شاكلته ، فمِن سعادة المرء أن يشبه الابنُ أباه .
الآن دقِّقوا في القصة التالية ؛ سيدنا عمر بن عبد العزيز ما كاد يسلم جنبَه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنُه عبد الملك ، وكان يومئذ يتَّجه نحو السابعة عشرة من عمره ، وقال : ما تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟
والآن هناك نقطة دقيقة ، يقول الناسُ : أزهد الناس بالعالم أهلُه وجيرانه ، يكون للإنسان شأن كبير ، ولكن في بيته يُنادى باسمه ، ولكن هذا الخليفة العظيم ربَّى أولادَه تربية عالية ، حيث إنّ ابنه إذا أراد أن يخاطبه في البيت يقول له : يا أمير المؤمنين ، وهذا من الأدب ، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام رأى شابا يمشي أمام شيخ فنهاه ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام ، فقال للغلام : مَنْ هَذَا ؟ قال : أبي ، قال : فَلا تَمْشِ أمامَهُ ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَهُ ، وَلا تَدْعُهُ باسْمِهِ *
قال النوويّ : قلت : معنى لا تَسْتَسِبَّ له : أيْ لا تفعل فعلاً يتعرّض فيه لأن يسبّك أبوك زجراً لك وتأديباً على فعلك القبيح .
[ذكره النووي في الأذكار]
قال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أيْ بنيَّ أريد أن أغفُوَ قليلا ، فلم تبقَ في جسدي طاقة ، يقال لك : عُصرت عصرا ، هل هناك شيء خلاف الأصول ؟ إنسان يومان أو أكثر في عمل مستمر وشاق ، أراد أن يغفو قليلا ، فقال ابنُه : أتغفو قبل أن تردَّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني قد سهرتُ البارحة في عمِّك سليمان ، وإني إذا حان الظهرُ صليتُ بالناس ، ورددتُ المظالم إلى أهلها إن شاء الله ، قال ابنُه : ومَن لك يا أمير المؤمنين أن تعيش إلى الظهر ؟ هل أنت ضامن ؟ يكون الواحد معلَّق في رقبته آلاف الحقوق ، ومع ذلك يشخر و ينام ، آلاف الحقوق ، آلاف الذمم ، قال له : وهل تضمن أن تعيش إلى الظهر ؟ فألهبت هذه الكلمات عزيمةَ عمر ، وأطارت النومَ من عينيه ، وبعثت القوةَ والعزم في جسده المتعب ، وقال : أُدنُ مني يا بني ، فدنا منه فضمَّه إليه ، وقبَّل ما بين عينيه ، وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يُعِينُنِي على ديني " .
واللهِ أيها الإخوة ، الذي عنده زوجة توقظه للصلاة ، لا بدَّ أن يذوب شكرا لله عزوجل ، والذي عنده ابنٌ فيه ورع ، عنده ورع على أخواته ، لا يحب المعصية ، هذا من سعادة المرء ، تأثَّر تأثرا لأن ابنه لم يسمح له أن ينام ساعة ، قبل أن يردَّ المظالم إلى أهلها ، ثم قام وأمر أن ينادى في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها "
الآن بدأنا في القصة الثانية ؛ فمَن عبد الملك هذا ؟ وما خبرُ هذا الفتى الذي قال عنه الناسُ: إنه هو الذي أدخل أباه في العبادة ، و سلكه مسلك الزهادة " ؟ تعالوا أيها الإخوة نلمَّ بقصة هذا الفتى الصالح من أولها .
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، لي قريب ذهب إلى أمريكا عند أخيه ، قال لي: البيتُ المقابل ؛ الفيلا المقابلة فيها شُرفة ، وفيها ألبسة أطفال موضوعة على الشرفة ، فيبدوا بعد حين ، أن هناك صداقة وعلاقة بين الجارين ، فزار هذا الضيفُ من سورية جارَ أخيه ، ومن حديث إلى حديث سأله : كم ولدا عندك ؟ فقال : ليس عندي أولاد ، فقال له : عجيب ، إني رأيت بعيني ألبسة أولاد صغار في الشرفة ، قال : هذه ألبسة الكلاب ، ليس عندي أولاد ، سبحان الله ، الابن في هذه البلاد عبءٌ على أبيه ، لأن هذا الابن ليس لأبيه ، أما طريق المنهج الإسلامي فأقرب شيء إلى الأب ابنُه ، لذلك ربُّنا عزوجل ينتظر من المؤمن بعد عرفات أن يذكر كما يذكر أباه ، قال تعالى :

[سورة البقرة]
والعرب في الجاهلية إذا أرادوا أن يسبُّوا إنسانا يقولون : لا أبا لك ، قال الشاعر زهير بن أبي سُلمى :
***
سئمت تكاليف الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حولاً لا أبَا لك يسأمِ
***
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، فيهم ثلاث بنات ، وكانوا جميعا على حظٍّ موفور من التقى ، ومقام كبير من الصلاح ، لكنَّ عبد الملك كان واسطة العقد ، و كوكبة إخوته، فقد كان أديبا ، وكان أريبا ذكيا ، له سنُّ الفتيان ، وعقلُ الكهول ، وأروع ما في الشاب عقلُه الكبير ، وأروع ما في الشاب ورعُه ، وأروع ما في الشاب معرفتُه ، وأروع ما في الشاب أدبُه، وأروع ما في الشاب عفَّته ، وأروع ما في الشاب توبتُه ، وأروع ما في الشاب حبُّه لله عزوجل، وربُّنا عزوجل يعجب لهذا فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
[رواه أحمد]
يعجب ربُّنا عزوجل ، إن الله يباهي الملائكة بالشاب المؤمن ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ *
[رواه أحمد]
ثم إنه نشأ في طاعة الله جل وعزَّ ، منذ نعومة أظفاره ، فكان أقربَ الناس سمتًا إلى آل الخَطَّاب عامة ، وأشبههم بعبد الله بن عمر ، خاصة في تقواه لله ، وتخوُّفه من معاصيه ، وتقرُّبه إليه بالطاعة ، حدَّث ابنُ عمَّه عاصمٌ فقال : وفدتُ على دمشق ، فنزلتُ على ابن عمي عبد الملك ، وهو عازِب ، فصلينا العشاء ، و أوى كلٌّ منا إلى فراشه ، فقام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه ، وأسلم كلٌّ منا جفنيه إلى الكرى ، ثم إني استيقظتُ في الليل ، فإذا عبد الملك قائم يصلِّي في العتمة ، وهو يقرأ قوله جل و علا - و اللهِ الآية دقيقة جدا - قال تعالى :
[سورة الشعراء]
بالمناسبة ؛ في سورة الأعراف فيما ما أذكر بعد أن تكلَّم ربُّنا عزوجل عن قصص الأنبياء، وكيف أن أقوامهم كذَّبوهم ، وكيف أن الله أهلكهم ، قال تعالى :
[سورة الأعراف]
هذه الآية تفيد أن ربنا عزوجل أوَّلاً : يرسل الرسول ، وثانيا : يسوق الشدائد و ثالثا : يبدِّل السيئة بالحسنة ، ورابعا : يقصم ، وهذا قانون ، أولا : دعوة سلمية فإذا لم يستجِبْ للحسنى صبَّ عليه الشدائد ، وإذا ما تضرَّع فتح عليه بالخيرات ، فإذا لم يشكر قصَمه بإهلاك وعذاب ، هذا قانون ، وهذا القانون ينطبق على الأمم ، و الشعوب ، وعلى الأفراد ، واللهُ عزوجل يسوق إليك مَن يسمعك الحقَّ ، فإن استجبت انتهى كلُّ شيء ، وإن لم تستجب أتَت الشدائد ، وإن تضرَعت نجوت من الشدائد ، وإن لم تتضرع أتى الرخاءُ الاستدراجي ، وإن لم تشكر أتى القصمُ، قال تعالى :
[سورة الشعراء]
قال ابنُ عمه عاصم : فراعني منه أنه كان يردِّد الآيةَ ، وينشج نشيجا مكبوتا يقطِّع نِياطَ القلوب ، والحقيقة أنّ صلاة الليل صلاة الإخلاص ، أنت قد تؤدِّي الفرائض خوفا من الله عزوجل، ولكنك لا تؤدِّي النوافل إلا حبًّا لله عزوجل ، تماما كالذي يؤدِّي الضريبة خوفا من المضاعفة أو العقاب ، لكن الذي يتبرَّع هذا دليل محبَّة ، وتأدية الضريبة دليل خوف ، لكن التبرُّع دليل محبَّة ، فأداء الزكاة دليل خوف ، وأداء الصدقة دليل محبة ، وأداء الصلوات الخمس دليل خوف ، وصلاة الليل دليل محبة ، قال : وكان كلما فرغ من الآية عاد إليها حتى قلتُ : سيقتله البكاءُ ، فلما رأيتُ ذلك قلتُ : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، كما يفعله المستيقظ من النوم، لأقطع عليه البكاءَ ، فلما سمعني سكتَ ، فلم أسمع له حسًّا "
تتلمذ هذا الفتى العمري على أكابر علماء عصره ، حتى تملَّى من كتاب الله ، و تضلَّع بحديث رسول الله ، وتفقَّه في الدين ، فغدا على حداثة سنِّه يزاحم الطبقةَ الأولى من فقهاء أهل الشام في زمانه ، فقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز - الآن أحد النقاط المضيئة في حياة هذا التابعي الجليل - فقدْ رُوي أن عمر بن عبد العزيز جمع قرَّاءَ الشام وفقهائها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي ، فما ترون فيها ؟ هو تسلَّم الخلافة قبل أيام ، وهناك مظالم سابقة ، فاستعان بالفقهاء والعلماء ، وبالمناسبة كان سيدنا عمر بن عبد العزيز له مستشار ومرافق اسمُه عمر بن مزاحم ، اختاره من بين العلماء الكبار ، قال : يا عمر كن معي دائما فإن رأيتني ضللتُ فهُزَّني هزًّا شديدا و خذُ بتلابيبي و قل لي : اتَّقِ اللهَ يا عمر فإنك ستموت ، جمع فقهاءَ الشام وقرَّاءها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي فما ترون فيها ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إن ذلك أمر كان في غير ولايتك ، ليس لك علاقة ، قضية سابقة ، وأن وزرَ هذه المظالم على من غصبها ، فطرة سليمة ، فلم يرتح إلى ما قالوا ، أحيانا الإنسان يسمع أول فتوى لصالحه ، وثاني فتوى ، وثالث فتوى ، ورابع فتوى ، وخامس فتوى ، ويقول : لستُ مرتاحا ، ما هو الدليل ؟ فطرة نقيَّة طاهرة ، فعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ فَقُلْتُ أَنَا وَابِصَةُ دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ فَقَالَ لِي ادْنُ يَا وَابِصَةُ ادْنُ يَا وَابِصَةُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَقَالَ يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي قَالَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ قُلْتُ نَعَمْ فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ قَالَ سُفْيَانُ وَأَفْتَوْكَ *
[رواه الترمذي]
اسمعوا هذه الكلمة أيها الإخوة : لو استطعتَ أن تنتزع من فم النبيِّ عليه الصلاة و السلام فتوى لصالحك ، ولم تكن محِقًّا فلن تنجَو من عذاب الله ، والدليل ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا *
[رواه البخاري]
لو أن القاضي الذي حكم لك هو رسولُ الله ، ولم تكن محقًّا فلن تنجوَ من عذاب الله ، فالتفتَ إليه أحدُهم ممّن كان يرى غيرَ رأيهم ، وقال : يا أميرَ المؤمنين ابعث إلى عبد الملك - ابنُه - فإنه ليس دونَ من دعوتَ علمًا أو فقها أو عقلا ، أي هؤلاء الذين دعوتهم علماء وفقهاء ، ولكن ابنَك ليس أقلَّ منهم فقها ولا علما ولا عقلا ، طبعا دُعِي ، فلما دخل عليه عبدُ الملك قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمِّنا من الناس ظلما ، وقد حضر أصحابُها وجعلوا يطلبونها ، وقد عرفنا حقَّهم فيها ؟ فقال عبد الملك لأبيه : أرى أن تردَّها إلى أصحابها ما دمتَ قد عرفت أمرها - هذا هو الحكم - وإنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " هذا كلام عبد الملك ، " أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها ، و إنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " فانبسطتْ أساريرُ عمر ، و ارتاحت نفسُه ، وزال عنه همُّه ، ولقد آثر الفتى العمري المرابطة على الثغور ، و الإقامة في إحدى المدن القريبة منها على البقاء في بلاد الشام .
الآن مشهد جديد في القصة ؛ عبد الملك بن عبد العزيز آثر أن يبقى على الثغور - على الحدود - في قرية على حدود البلاد ، عن أن يبقى في بلاد الشام ، فمضى إليها ، وخلَّف وراءه دمشق ذات الرياض النظرة ، والظلال الظليلة ، والأنهار السبعة ، وكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه خائفًا عليه من نزعات الشيطان ، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب ، حريصا على أن يعلم من أمره كل ما يجوز له أن يعلم ، وكان لا يغفل عن ذلك أبدا ، ولا يهمله .
حدَّث ميمونُ بن مهران وزيرُ عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره فقال : دخلتُ على عمر بن عبد العزيز ، فوجدتُه يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك ، يعظُه فيها ، وينصحه ، ويبصِّره ، ويحذِّره ، وينذره ، ويبشِّره ، موعظة ونصيحة و تبصير وتحذير وإنذار وتبشير ، وكان مما جاء فيها قولُه : أما بعد ؛ فإنّ أحقَّ مَن وَعَى عنِّي وفَهِم قولي لأنت - أحسن أولاده - وإنّ اللهَ وله الحمدُ قد أحسن إلينا في صغير الأمر و كبيره ، فاذكُر يا بنيَّ فضلَ الله عليك وعلى والديك ، وإياك و الكِبر والعظمة ، فإنها من عمل الشيطان ، وهو للمؤمنين عدوٌّ مبين ، واعلم أني لم أبعث إليك بكتابي هذا لأمرٍ بلغني عنك ، فما عرفتُ من أمرك إلا خيرا ، غير أنه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بنفسك ، ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلى ما أكره لرأيتَ مني ما تكره " ، رسالة شديدة عميقة ، من أبٍ عدْلٍ ورِعٍ إلى ابنه ، قال ميمونُ : ثم التفت إليَّ عمرُ وقال : يا ميمون إن ابني عبد الملك قد زُيِّن في عيني ، وإني أتَّهم نفسي في ذلك ، وأخاف أن يكون حبِّي له قد غلب على علمي به - يا لطيف - كلمات تُكتب بماء الذهب ، " أخاف أن يكون حبي له قد غلب على علمي به ، و أدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أبناءهم " يخاف هذا الخليفة الراشد أن يغلب حبُّه لابنه على علمه به ، ويخاف أن يكون كبقيَّة الآباء الذين يغفلون عن عيوب أولادهم ، قال له : فَسِرْ إليه واسبِرْ غورَه ، وانظُر هل ترى فيه ما يشبه الكبرَ و الفخر فإنه غلام حدَثٌ و لا آمنُ عليه الشيطان " رغم كل هذا الصلاح والتقوى والورع وإيصال المظالم إلى أهلها ، رغم كل ذلك لم ترتَح نفسُه ، أراد أنْ يرسل مبعوثَه الشخصي ليقف على أمر ابنه في الثغور ، قال ميمون : فشددتُ الرحالَ إلى عبد الملك حتى قدمتُ عليه فاستأذنتُ ، ودخلتُ، فإنه غلام في مقتبل العمر ، رَيَّانُ الشباب ، بهيُّ الطَّلعة ، جمُّ التواضع ، قد جلس على حاشية بيضاء فوق بساط من شَعر ، فرحَّب بي ثم قال : قد سمعتُ أبي يذكرك بما أنت أهلٌ له من الخير ، و إني لأرجو أن ينفع اللهُ بك ، فقلتٌ له : كيف تجدك ؟ فقال : بخير من الله عزوجل و نعمة ، غير أني أخشى أن يكون غرَّني حسنُ ظن والدي بي ، وأنا لم أبلغ من الفضل كل ما يظنُّ ، وإني لأخـاف أن يكون حبُّه لي قد غلبه على معرفته بي فأكون آفةً عليه ، فعجبتُ من اتِّفاقهما خواطر متواردة كيف حالك يا ابني ؟ قال له : أنا أخاف أن تكون محبة أبي أغلبَ من علمه بي فأكون آفة عليه ، فعجبت من اتِّفاقهما ، ثم قلتُ له : أعلمني من أين معيشتُك ؟ من أين تأكل ؟ سؤال غريب ، ابنُ خليفة المسلمين ، من أين تأكل ، قال : من غلَّة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه ، و دفعتُ ثمنها من مالٍ لا شبهة فيه ، فاستغنيتُ بذلك عن فيء المسلمين " عن الراتب الرسمي قال : فما طعامُك ؟ مكلَّف بمهمة ، تحقيق ، قال: ليليةً لحمٌ ، وليلةً عدسٌ وزيت ، وليلة خلٌّ وزيت ، ثلاث مستويات ، المستوى الراقي ، والمستوى الوسط ، والمستوى المتدنِّي ، وفي هذا بلاغ ، قلت له : أما تعجبك نفسُك ؟ قال : قد كان فيَّ شيء من ذلك ، فلما وعظني أبي بصَّرني بحقيقة نفسي ، وصغَّرها عندي ، وحطَّ من قدرها في عيني ، فنفعني اللهُ عزوجل بذلك ، فجزاه اللهُ من والدٍ خيرا ، فقعدتُ ساعة أحدِّثه ، وأستمتع بمنطقه ، فلم أرَ فتًى كان أجمل وجهًا ، ولا أكمل عقلا ، ولا أحسن أدبا منه على حداثة سنِّه ، وقلَّة تجربته ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلامٌ فقال : - هنا دخلنا في عتبه - ميمون جالسٌ ، ولا توجد مشكلة ، تواضع على تقشُّف على دخل حلال على أكل معتدل ، على عقل ، على ورع ، و لا مشكلة موجودة ، رجل متَّعظ بكلام والده و مستفيد ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلام و قال : أصلحك اللهُ قد فرغنا ، فسكت ، فقلت : ما هذا الذي فرغوا منه ؟ قال : الحمام ، قلتُ : و كيف، قال : أخلوه لي ، من الناس طبعا ابن خليفة ، أفرغوه ، قلتُ : لقد كنت وقعت من نفسي موقعا عظيما ، حتى سمعت هذا الآن ، فذُعِر و استرجع و قال : و ما في ذلك يا عمُّ - يرحمك الله - ماذا فعلت ؟ قلت : الحمام لك ؟ قال : لا ، قلت : فما دعاك أن تخرج الناسَ منه ؟ كأنك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم ، وأن تجعل لها قدرًا يعلو على أقدارهم ؟ من أنت حتى يخرج الناسُ من الحمام من أجلك ؟ ثم إنك تؤذي صاحبَ الحمام ، في غلَّة يومه ، و تُرجع من أتى حمَّامه خائبا ، الحمَّام يسع مثلا عشرين شخصا ، دخلت وحدك أنت ، الغلة قلَّت ، أحدهم أتى قاصدا الحمام ، ثم هو مغلق محجوز ، كلام دقيق ، قال : أما صاحب الحمام فأنا أرضيه ، وأعطيه غلَّة يومه كلَّها ، لا مشكلة ، قلتُ : هذه نفقة سرف خالطها كِبرٌ ، و ما يمنعك أن تدخل الحمام مه الناس وأنت كأحدهم ؟ قال : يمنعني من ذلك أن طائفة من رعاع الناس بغير أُزُر فأكره رؤيةَ عوراتهم ، وأكره أن أجبرهم على وضع الأُزر فيأخذون ذلك عليَّ على أنه اقتدارٌ مني عليهم بسلطان الذي أسأل الله أن يخلِّصنا منه كفافا لا لنا ولا علينا ، فعِظني رحمك الله عظةً أنتفع بها"، ماذا أفعل ؟ واجعلْ لي مخرجا من هذا الأمر ، قلت : انتظِر حتى يخرج الناسُ من الحمام ليلا و يعودوا إلى بيوتهم ثم ادخله وحدك ، قال : لا جرم ، لا أدخله نهارا بعد اليوم ، ولولا شدَّة برد هذه البلاد ما دخلته أبدا " ، لكن اضطرب وشعر أنه هناك غلطة كُشِفت ، ثم أطرق قليلا كأنه يفكِّر في أمر ، ثم رفع راسه إليَّ ، وقال : أقسمتُ عليك لتطوِينَّ هذا الخبرَ عن أبي ، إني أكره أن يظلَّ ساخطا عليَّ " يمكن ألاّ تبلِّغ والدي هذا الموضوع ، وإني لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه " ، قال ميمون : فأردتُ بعد ذلك أن أسْبِر عقلَه فقلت له : إن سألني أميرُ المؤمنين ، هل رأيتَ منه شيئا فهل ترضى ليَ أن أكذب عليه ؟ قال : لا ، معاذ الله ، و لكن قل له : رأيتُ منه شيئا فوعظتُه و كبَّرتُه في عينه فسارع في الرجوع عنه ، فإن أبي لا يسألك عن كشف ما لم تظهره له ، قل له : هناك موضوع شاهدته ووعظته واستفاد ، وانتهى الأمر ، أرأيتم إلى هذا الخوف الشديد ، لأنه حجز حمَّاما له وحده في النهار ، قال : لأن الله جل وعز قد أعاذه من البحث عما استتر ، قال ميمون: فلم أرَ والدا قط ولا ولدا مثلهما يرحمهما اللهُ عزوجل".
هذا هو عبد الملك بن عبد العزيز ، وإن كانت قصَّةً قصيرة إلا أن فيها دلالات كثيرة ، والعبرة أن تربَّي ابنَك على طاعة الله ، وعلى التواضع ، وعلى خفض الجناح للمؤمنين ، ألم يقل الله عزوجل :
[سورة الشعراء]






رد مع اقتباس
قديم 27-04-2009, 08:54 PM رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سير التابعين رحمهم الله تعالى ، والتابعيُّ اليوم هو عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز .
أيها الإخوة الكرام ؛ في هذه القصة دلالات كثيرة ، وتُعدُّ هذه القصة نموذجا من النماذج التي يمكن أن تُّعدَّ منهجا للمؤمنين ، فما كاد التابعيُّ الجليل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض ترابَ قبر سلفه سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية ، وقد توفِّي ودُفن ، وما إن نفض عمرُ بن عبد العزيز يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك حتى سمع للأرض من حولـه رجَّة، فقال : ما هذه ؟ قالوا : هذه مراكبُ الخلافة يا أمير المؤمنين ، هو الذي جاء بعد سليمان ، هذه مراكب الخلافة ، قد أُعِدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّج الذي نهكه التعبُ ، وأذبله السَّهرُ : مالي ولها ، طبعا هذا ماذا يعني ؟ هناك حقائق ، وهناك مظاهر ، والحقائق أهمُّ من المظاهر ، الحقائق أن يُرضيَ الإنسانُ ربَّه ، وأن يكون في طاعة الله، ولكن المظاهر لا نهاية لها ، وهذه المظاهر تنتهي عند الموت ، ماذا تنفع صاحبها ، لذلك أولئك الذين يتعلَّقون بالمظاهر هؤلاء خاسرون ، لأن الموت ينهي تلك المظاهر، ويواجهون عملهم إمَّا الذي فيه تقصير ، وإما الذي فيه إساءة ، أي الذي فيه عدوان ، ولو أن أهل الأرض جميعا من دون استثناء أثنوا عليك ، ولم يكن اللهُ راضيًا عنك فأنت أكبر خاسر ، ولو أن أهل الأرض جميعا سخطوا عليك وأنت في مرضاة الله فأنت الرابح ، لذلك ابتغوا الرِّفعة عند الله ، لقد رأى مظاهر فخمة جدًّا ، ولكنه قال ببساطة : مالي و لها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
الحقيقة أيها الإخوة أنّ الإنسان بحاجة إلى السعادة ، شاء أم أبى ، إما أن يستقيها من خارجه، وإما أن تنبع من داخله ، فحينما يكون في مرضات الله عزوجل تنبع من داخله ، وحينما لا يكون في مرضات الله يبحث عنها من خارجه ، يبحث عنها في الطعام ، وفي البيت الفخم وفي المركبة الفارهة ، وفي الجاه العريض ، وفي مُتع الأرض ، لكن حينما يكون في مرضات الله فهذه السعادة تنبع من ذاته ، لذلك لا يعبأ المخلِصُ كثيرا بهذه المباهج ، ولا تلك المظاهر ، إنها لا تعني عنده شيئا ، ولا تقدِّم ولا تؤخَّر ، أنت بين الحقائق وبين المظاهر ، من قُذِف في قلبه بنور ربَّاني يرى بهذا النور الحقائق ، فلا ينخدع بتلك المظاهر ، نحن ما الذي يهلكنا ؟ المظاهر، فلو دخلت إلى البيوت ما الذي يجعل الخلاف بين الزوجين ؟ المظاهر ، هي تريد المظاهر ، ودخله لا يسمح له بذلك ، لقد دقَّت المظاهرُ رقابَ الرجال ، و أحيانا لا أقول : افعلوا هذا ، لكن تجلس في بيت بسيط جدا ، على الأرض ، هناك أثاث لغرفة الضيف يكلَّف أربعمائة ألف ، وأحيانا أجلس في غرفة ضيوف فيها فُرش من الإسفنج ، لا يزيد سمكُها عن أربعة سنتيمتر ، مغلَّفة بقماش رخيص ، فإذا هناك السرور ، و هناك المحبَّة لله ، وهناك الشعور بالقرب من الله ، ومهما كان الأثاثُ بسيطا فإنّه يسعدُك ، و في حالة البعد عن الله عزوجل مهما كان البيتُ فخما و الأثاث وفيرا فلا يسعدك ، فهنيئا لمن عرف الحقائق ، وهنيئا لمن وضع يده على سرِّ السعادة ، وهنيئا لمن وضع يده على حقيقة حياة الإنسان .
في الدنيا مظاهر وحقائق ، فتعليقي على هذا الكلمة ، قال : ما هذا ؟ قالوا : إنها مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين ، قد أُعدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّجِ الذي نهَكه التعبُ وأذبَله السَّهرُ : ما لي ولها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
ذكرتُ هذه القصَّة مراتٍ عديدة ، وسمعتُ أن قريةً من قرى غوطةِ دمشقَ اتَّفق وجهاؤُها على أن الخاطب لا يُكلَّف إلا بخاتم وساعة ، كلُّ هذه المظاهر تحتَ أقدامهم ، فيسَّروا بذلك الزواجَ ، والآن ما الذي يقف عقبةً أمام زواجِ الشباب ؟ إنها المظاهرُ ، طلباتُ الأهل : بيتٌ مساحته كذا ، بالموقع الفلاني ، وغرفةُ الضيوف من النوع كذا ، غرفةُ النوم من النوع كذا ، ويجب أن يُلبِس مخطوبتَه كذا وكذا وكذا ، فتكلَّف الخاطب ثلاثةِ ملايين ، اتركوا ابنتكم عندكم ، ومَن الذي أشقى البيوتَ ؟ المظاهر ، لو أخلصنا لله عزوجل ، واتَّصلنا به لنبعت السعادةُ من داخلنا ، هذا الينبوع من السعادة يغنينا ويزهِّدنا بمصادر اللذة الخارجية ، قال : نحُّوها عني بارك الله عليكم ، وقرِّبوا لي بغلتي ، فإن لي فيها بلاغا ، ثم إنه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحبُ الشُّرَط ليمشي بين يديه ، ومعه ثُلةٌ من رجاله اصطفُّوا عن يمينه وعن شماله ، وفي أيديهم حِرابهم اللاَّمعة ، فالتفت إليه ، وقال : مالي بك وبهم حاجة ، صاحب الشُّرطة ورجاله والأسلحة البيضاء اللمَّاعة ، اصطفَّ هؤلاء في نسقٍ بهيج ، قال : ما لي بك وبهم حاجة ، فما أنا إلا رجل من المسلمين ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ *
[رواه ابن ماجه]
قال : فما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون .
سأقول لكم هذه الحقيقة أيها الإخوة ، إذا كان الإنسانُ بسيطا متواضعا طبيعيا من دون تكلُّف، ومن دون أُبَّهة ، ومن دون عظمة ، ومن دون كهنوت ، ومن دون هيئة ، ومن دون موكب ضخم ، هل تقلُّ محبُّتُه في قلوب الناس ؟ لا واللهِ ، بل ربما زادت ، قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون ، ثم سار وسار الناسُ معه حتى دخل المسجدَ، ونودِي للصلاة ؛ الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة ، فتسايل الناسُ على المسجد من كل ناحية ، فلما اكتملت جموعُهم قام فيهم خطيبا ، سيدنا عمر بن عبد العزيز قام في هؤلاء الجموع خطيبا ، وهم في المسجد الجامع ، فحمد اللهَ ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر- ماذا رآه ؟ بلاءً ، تذكرون أن سيدنا عمر بن الخطاب كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصَّته ، وقال : إني قد أمرتُ الناسَ بكذا ، و نهيتهم عن كذا ، و الناسُ كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايمُ اللهِ لا أوتينَّ بواحد وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني " - فصارت القرابةُ من عمر مصيبةً ، وهذا التابعي الجليل خامس الخلفاء الراشدين يقول :" أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر " ألم يقل سيدنا عمر:" و الله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني اللهُ عنها ، لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر ، على غير رأيٍ مني ، ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين" ، يبدو أن سليمان بن عبد الملك الذي كان قبله خليفة أوصى له بالخلافة ، فقال : هذا الأمر لم يكن لي رأيٌ فيه ، ولم أطلبه ، ولا كان على مشورة من المسلمين ، وإني خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه " ، ليس عن مشورة ، ولا عن طلب ، ولا عن رأي ، إنما جاء هذا في وصية سليمان بن عبد الملك ، إذًا أنا خلعتُ هذه الخلافة من عنقي ، وأنتم أحرار في اختيار خليفتكم ، فصاح الناسُ صيحةً واحدة : قد اخترناك يا أمير المؤمنين ، ورضينا بك ، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة ، أي تولَّ أمرنا باليُمن والبركة ، فلما رأى أن الأصوات قد هدأت ، والقلوب قد اطمأنت ، حمد اللهَ كرَّة أخرى ، وأثنى على محمد بن عبد الله عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وطفِق يحضُّ الناسَ على التقوى ، ويزهِّدهم في الدنيا ، ويرغِّبهم في الآخرة ، ويذكِّرهم بالموت بلهجة تستلين القلوب القاسية ، وتستدرُّ الدموع العاصية ، و تجرح من فؤاد صاحبها ، فتستقرُّ في أفئدة السامعين .
إخواننا الكرام ؛ إذا أحبَّ اللهُ عبدَه ألقى حبَّه في قلوب الناس ، لذلك الناسُ عندهم حاسَّة سادسة ، يعرفون بفطرتهم الصادق من الكاذب ، والمخلص من الخائن ، والورِع من المتفلِّت ، والذي ينفعهم مِن الذي يضرُّهم ، يعرفون هذا بفطرتهم ، لذلك أجمع الناسُ أن يختاروا سيدَنا عمر بن عبد العزيز خليفةً للمسلمين عن بيعة ، لا عن وصيَّة ، بعد سليمان بن عبد الملك ، ثم رفع صوتَه المتعَب حتى أسمع الناسَ جميعا ، وقال : أيها الناس من أطاع اللهَ وجبتْ طاعتُه ، ومَن عصى اللهَ فلا طاعة له على أحد ، أيها الناسُ كما قال الصدِّق : أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم ، ثم نزل من المنبر ، واتَّجه إلى بيته ، وأوى إلى حجرته ، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد ذلك الجُهد الجهيد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة .
الآن انتهينا من سيدنا عمر بن عبد العزيز ، لأن الموضوع ليس عنه ، بل الموضوع عن ابنه عبد الملك ، وشيء رائع جدا ، بل شيء لا يُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان عظيما بدينه ، وعلمه، وورعه ، وأن يكون ابنُه على شاكلته ، فمِن سعادة المرء أن يشبه الابنُ أباه .
الآن دقِّقوا في القصة التالية ؛ سيدنا عمر بن عبد العزيز ما كاد يسلم جنبَه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنُه عبد الملك ، وكان يومئذ يتَّجه نحو السابعة عشرة من عمره ، وقال : ما تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟
والآن هناك نقطة دقيقة ، يقول الناسُ : أزهد الناس بالعالم أهلُه وجيرانه ، يكون للإنسان شأن كبير ، ولكن في بيته يُنادى باسمه ، ولكن هذا الخليفة العظيم ربَّى أولادَه تربية عالية ، حيث إنّ ابنه إذا أراد أن يخاطبه في البيت يقول له : يا أمير المؤمنين ، وهذا من الأدب ، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام رأى شابا يمشي أمام شيخ فنهاه ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام ، فقال للغلام : مَنْ هَذَا ؟ قال : أبي ، قال : فَلا تَمْشِ أمامَهُ ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَهُ ، وَلا تَدْعُهُ باسْمِهِ *
قال النوويّ : قلت : معنى لا تَسْتَسِبَّ له : أيْ لا تفعل فعلاً يتعرّض فيه لأن يسبّك أبوك زجراً لك وتأديباً على فعلك القبيح .
[ذكره النووي في الأذكار]
قال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أيْ بنيَّ أريد أن أغفُوَ قليلا ، فلم تبقَ في جسدي طاقة ، يقال لك : عُصرت عصرا ، هل هناك شيء خلاف الأصول ؟ إنسان يومان أو أكثر في عمل مستمر وشاق ، أراد أن يغفو قليلا ، فقال ابنُه : أتغفو قبل أن تردَّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني قد سهرتُ البارحة في عمِّك سليمان ، وإني إذا حان الظهرُ صليتُ بالناس ، ورددتُ المظالم إلى أهلها إن شاء الله ، قال ابنُه : ومَن لك يا أمير المؤمنين أن تعيش إلى الظهر ؟ هل أنت ضامن ؟ يكون الواحد معلَّق في رقبته آلاف الحقوق ، ومع ذلك يشخر و ينام ، آلاف الحقوق ، آلاف الذمم ، قال له : وهل تضمن أن تعيش إلى الظهر ؟ فألهبت هذه الكلمات عزيمةَ عمر ، وأطارت النومَ من عينيه ، وبعثت القوةَ والعزم في جسده المتعب ، وقال : أُدنُ مني يا بني ، فدنا منه فضمَّه إليه ، وقبَّل ما بين عينيه ، وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يُعِينُنِي على ديني " .
واللهِ أيها الإخوة ، الذي عنده زوجة توقظه للصلاة ، لا بدَّ أن يذوب شكرا لله عزوجل ، والذي عنده ابنٌ فيه ورع ، عنده ورع على أخواته ، لا يحب المعصية ، هذا من سعادة المرء ، تأثَّر تأثرا لأن ابنه لم يسمح له أن ينام ساعة ، قبل أن يردَّ المظالم إلى أهلها ، ثم قام وأمر أن ينادى في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها "
الآن بدأنا في القصة الثانية ؛ فمَن عبد الملك هذا ؟ وما خبرُ هذا الفتى الذي قال عنه الناسُ: إنه هو الذي أدخل أباه في العبادة ، و سلكه مسلك الزهادة " ؟ تعالوا أيها الإخوة نلمَّ بقصة هذا الفتى الصالح من أولها .
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، لي قريب ذهب إلى أمريكا عند أخيه ، قال لي: البيتُ المقابل ؛ الفيلا المقابلة فيها شُرفة ، وفيها ألبسة أطفال موضوعة على الشرفة ، فيبدوا بعد حين ، أن هناك صداقة وعلاقة بين الجارين ، فزار هذا الضيفُ من سورية جارَ أخيه ، ومن حديث إلى حديث سأله : كم ولدا عندك ؟ فقال : ليس عندي أولاد ، فقال له : عجيب ، إني رأيت بعيني ألبسة أولاد صغار في الشرفة ، قال : هذه ألبسة الكلاب ، ليس عندي أولاد ، سبحان الله ، الابن في هذه البلاد عبءٌ على أبيه ، لأن هذا الابن ليس لأبيه ، أما طريق المنهج الإسلامي فأقرب شيء إلى الأب ابنُه ، لذلك ربُّنا عزوجل ينتظر من المؤمن بعد عرفات أن يذكر كما يذكر أباه ، قال تعالى :

[سورة البقرة]
والعرب في الجاهلية إذا أرادوا أن يسبُّوا إنسانا يقولون : لا أبا لك ، قال الشاعر زهير بن أبي سُلمى :
***
سئمت تكاليف الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حولاً لا أبَا لك يسأمِ
***
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، فيهم ثلاث بنات ، وكانوا جميعا على حظٍّ موفور من التقى ، ومقام كبير من الصلاح ، لكنَّ عبد الملك كان واسطة العقد ، و كوكبة إخوته، فقد كان أديبا ، وكان أريبا ذكيا ، له سنُّ الفتيان ، وعقلُ الكهول ، وأروع ما في الشاب عقلُه الكبير ، وأروع ما في الشاب ورعُه ، وأروع ما في الشاب معرفتُه ، وأروع ما في الشاب أدبُه، وأروع ما في الشاب عفَّته ، وأروع ما في الشاب توبتُه ، وأروع ما في الشاب حبُّه لله عزوجل، وربُّنا عزوجل يعجب لهذا فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
[رواه أحمد]
يعجب ربُّنا عزوجل ، إن الله يباهي الملائكة بالشاب المؤمن ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ *
[رواه أحمد]
ثم إنه نشأ في طاعة الله جل وعزَّ ، منذ نعومة أظفاره ، فكان أقربَ الناس سمتًا إلى آل الخَطَّاب عامة ، وأشبههم بعبد الله بن عمر ، خاصة في تقواه لله ، وتخوُّفه من معاصيه ، وتقرُّبه إليه بالطاعة ، حدَّث ابنُ عمَّه عاصمٌ فقال : وفدتُ على دمشق ، فنزلتُ على ابن عمي عبد الملك ، وهو عازِب ، فصلينا العشاء ، و أوى كلٌّ منا إلى فراشه ، فقام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه ، وأسلم كلٌّ منا جفنيه إلى الكرى ، ثم إني استيقظتُ في الليل ، فإذا عبد الملك قائم يصلِّي في العتمة ، وهو يقرأ قوله جل و علا - و اللهِ الآية دقيقة جدا - قال تعالى :
[سورة الشعراء]
بالمناسبة ؛ في سورة الأعراف فيما ما أذكر بعد أن تكلَّم ربُّنا عزوجل عن قصص الأنبياء، وكيف أن أقوامهم كذَّبوهم ، وكيف أن الله أهلكهم ، قال تعالى :
[سورة الأعراف]
هذه الآية تفيد أن ربنا عزوجل أوَّلاً : يرسل الرسول ، وثانيا : يسوق الشدائد و ثالثا : يبدِّل السيئة بالحسنة ، ورابعا : يقصم ، وهذا قانون ، أولا : دعوة سلمية فإذا لم يستجِبْ للحسنى صبَّ عليه الشدائد ، وإذا ما تضرَّع فتح عليه بالخيرات ، فإذا لم يشكر قصَمه بإهلاك وعذاب ، هذا قانون ، وهذا القانون ينطبق على الأمم ، و الشعوب ، وعلى الأفراد ، واللهُ عزوجل يسوق إليك مَن يسمعك الحقَّ ، فإن استجبت انتهى كلُّ شيء ، وإن لم تستجب أتَت الشدائد ، وإن تضرَعت نجوت من الشدائد ، وإن لم تتضرع أتى الرخاءُ الاستدراجي ، وإن لم تشكر أتى القصمُ، قال تعالى :
[سورة الشعراء]
قال ابنُ عمه عاصم : فراعني منه أنه كان يردِّد الآيةَ ، وينشج نشيجا مكبوتا يقطِّع نِياطَ القلوب ، والحقيقة أنّ صلاة الليل صلاة الإخلاص ، أنت قد تؤدِّي الفرائض خوفا من الله عزوجل، ولكنك لا تؤدِّي النوافل إلا حبًّا لله عزوجل ، تماما كالذي يؤدِّي الضريبة خوفا من المضاعفة أو العقاب ، لكن الذي يتبرَّع هذا دليل محبَّة ، وتأدية الضريبة دليل خوف ، لكن التبرُّع دليل محبَّة ، فأداء الزكاة دليل خوف ، وأداء الصدقة دليل محبة ، وأداء الصلوات الخمس دليل خوف ، وصلاة الليل دليل محبة ، قال : وكان كلما فرغ من الآية عاد إليها حتى قلتُ : سيقتله البكاءُ ، فلما رأيتُ ذلك قلتُ : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، كما يفعله المستيقظ من النوم، لأقطع عليه البكاءَ ، فلما سمعني سكتَ ، فلم أسمع له حسًّا "
تتلمذ هذا الفتى العمري على أكابر علماء عصره ، حتى تملَّى من كتاب الله ، و تضلَّع بحديث رسول الله ، وتفقَّه في الدين ، فغدا على حداثة سنِّه يزاحم الطبقةَ الأولى من فقهاء أهل الشام في زمانه ، فقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز - الآن أحد النقاط المضيئة في حياة هذا التابعي الجليل - فقدْ رُوي أن عمر بن عبد العزيز جمع قرَّاءَ الشام وفقهائها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي ، فما ترون فيها ؟ هو تسلَّم الخلافة قبل أيام ، وهناك مظالم سابقة ، فاستعان بالفقهاء والعلماء ، وبالمناسبة كان سيدنا عمر بن عبد العزيز له مستشار ومرافق اسمُه عمر بن مزاحم ، اختاره من بين العلماء الكبار ، قال : يا عمر كن معي دائما فإن رأيتني ضللتُ فهُزَّني هزًّا شديدا و خذُ بتلابيبي و قل لي : اتَّقِ اللهَ يا عمر فإنك ستموت ، جمع فقهاءَ الشام وقرَّاءها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي فما ترون فيها ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إن ذلك أمر كان في غير ولايتك ، ليس لك علاقة ، قضية سابقة ، وأن وزرَ هذه المظالم على من غصبها ، فطرة سليمة ، فلم يرتح إلى ما قالوا ، أحيانا الإنسان يسمع أول فتوى لصالحه ، وثاني فتوى ، وثالث فتوى ، ورابع فتوى ، وخامس فتوى ، ويقول : لستُ مرتاحا ، ما هو الدليل ؟ فطرة نقيَّة طاهرة ، فعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ فَقُلْتُ أَنَا وَابِصَةُ دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ فَقَالَ لِي ادْنُ يَا وَابِصَةُ ادْنُ يَا وَابِصَةُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَقَالَ يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي قَالَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ قُلْتُ نَعَمْ فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ قَالَ سُفْيَانُ وَأَفْتَوْكَ *
[رواه الترمذي]
اسمعوا هذه الكلمة أيها الإخوة : لو استطعتَ أن تنتزع من فم النبيِّ عليه الصلاة و السلام فتوى لصالحك ، ولم تكن محِقًّا فلن تنجَو من عذاب الله ، والدليل ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا *
[رواه البخاري]
لو أن القاضي الذي حكم لك هو رسولُ الله ، ولم تكن محقًّا فلن تنجوَ من عذاب الله ، فالتفتَ إليه أحدُهم ممّن كان يرى غيرَ رأيهم ، وقال : يا أميرَ المؤمنين ابعث إلى عبد الملك - ابنُه - فإنه ليس دونَ من دعوتَ علمًا أو فقها أو عقلا ، أي هؤلاء الذين دعوتهم علماء وفقهاء ، ولكن ابنَك ليس أقلَّ منهم فقها ولا علما ولا عقلا ، طبعا دُعِي ، فلما دخل عليه عبدُ الملك قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمِّنا من الناس ظلما ، وقد حضر أصحابُها وجعلوا يطلبونها ، وقد عرفنا حقَّهم فيها ؟ فقال عبد الملك لأبيه : أرى أن تردَّها إلى أصحابها ما دمتَ قد عرفت أمرها - هذا هو الحكم - وإنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " هذا كلام عبد الملك ، " أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها ، و إنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " فانبسطتْ أساريرُ عمر ، و ارتاحت نفسُه ، وزال عنه همُّه ، ولقد آثر الفتى العمري المرابطة على الثغور ، و الإقامة في إحدى المدن القريبة منها على البقاء في بلاد الشام .
الآن مشهد جديد في القصة ؛ عبد الملك بن عبد العزيز آثر أن يبقى على الثغور - على الحدود - في قرية على حدود البلاد ، عن أن يبقى في بلاد الشام ، فمضى إليها ، وخلَّف وراءه دمشق ذات الرياض النظرة ، والظلال الظليلة ، والأنهار السبعة ، وكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه خائفًا عليه من نزعات الشيطان ، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب ، حريصا على أن يعلم من أمره كل ما يجوز له أن يعلم ، وكان لا يغفل عن ذلك أبدا ، ولا يهمله .
حدَّث ميمونُ بن مهران وزيرُ عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره فقال : دخلتُ على عمر بن عبد العزيز ، فوجدتُه يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك ، يعظُه فيها ، وينصحه ، ويبصِّره ، ويحذِّره ، وينذره ، ويبشِّره ، موعظة ونصيحة و تبصير وتحذير وإنذار وتبشير ، وكان مما جاء فيها قولُه : أما بعد ؛ فإنّ أحقَّ مَن وَعَى عنِّي وفَهِم قولي لأنت - أحسن أولاده - وإنّ اللهَ وله الحمدُ قد أحسن إلينا في صغير الأمر و كبيره ، فاذكُر يا بنيَّ فضلَ الله عليك وعلى والديك ، وإياك و الكِبر والعظمة ، فإنها من عمل الشيطان ، وهو للمؤمنين عدوٌّ مبين ، واعلم أني لم أبعث إليك بكتابي هذا لأمرٍ بلغني عنك ، فما عرفتُ من أمرك إلا خيرا ، غير أنه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بنفسك ، ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلى ما أكره لرأيتَ مني ما تكره " ، رسالة شديدة عميقة ، من أبٍ عدْلٍ ورِعٍ إلى ابنه ، قال ميمونُ : ثم التفت إليَّ عمرُ وقال : يا ميمون إن ابني عبد الملك قد زُيِّن في عيني ، وإني أتَّهم نفسي في ذلك ، وأخاف أن يكون حبِّي له قد غلب على علمي به - يا لطيف - كلمات تُكتب بماء الذهب ، " أخاف أن يكون حبي له قد غلب على علمي به ، و أدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أبناءهم " يخاف هذا الخليفة الراشد أن يغلب حبُّه لابنه على علمه به ، ويخاف أن يكون كبقيَّة الآباء الذين يغفلون عن عيوب أولادهم ، قال له : فَسِرْ إليه واسبِرْ غورَه ، وانظُر هل ترى فيه ما يشبه الكبرَ و الفخر فإنه غلام حدَثٌ و لا آمنُ عليه الشيطان " رغم كل هذا الصلاح والتقوى والورع وإيصال المظالم إلى أهلها ، رغم كل ذلك لم ترتَح نفسُه ، أراد أنْ يرسل مبعوثَه الشخصي ليقف على أمر ابنه في الثغور ، قال ميمون : فشددتُ الرحالَ إلى عبد الملك حتى قدمتُ عليه فاستأذنتُ ، ودخلتُ، فإنه غلام في مقتبل العمر ، رَيَّانُ الشباب ، بهيُّ الطَّلعة ، جمُّ التواضع ، قد جلس على حاشية بيضاء فوق بساط من شَعر ، فرحَّب بي ثم قال : قد سمعتُ أبي يذكرك بما أنت أهلٌ له من الخير ، و إني لأرجو أن ينفع اللهُ بك ، فقلتٌ له : كيف تجدك ؟ فقال : بخير من الله عزوجل و نعمة ، غير أني أخشى أن يكون غرَّني حسنُ ظن والدي بي ، وأنا لم أبلغ من الفضل كل ما يظنُّ ، وإني لأخـاف أن يكون حبُّه لي قد غلبه على معرفته بي فأكون آفةً عليه ، فعجبتُ من اتِّفاقهما خواطر متواردة كيف حالك يا ابني ؟ قال له : أنا أخاف أن تكون محبة أبي أغلبَ من علمه بي فأكون آفة عليه ، فعجبت من اتِّفاقهما ، ثم قلتُ له : أعلمني من أين معيشتُك ؟ من أين تأكل ؟ سؤال غريب ، ابنُ خليفة المسلمين ، من أين تأكل ، قال : من غلَّة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه ، و دفعتُ ثمنها من مالٍ لا شبهة فيه ، فاستغنيتُ بذلك عن فيء المسلمين " عن الراتب الرسمي قال : فما طعامُك ؟ مكلَّف بمهمة ، تحقيق ، قال: ليليةً لحمٌ ، وليلةً عدسٌ وزيت ، وليلة خلٌّ وزيت ، ثلاث مستويات ، المستوى الراقي ، والمستوى الوسط ، والمستوى المتدنِّي ، وفي هذا بلاغ ، قلت له : أما تعجبك نفسُك ؟ قال : قد كان فيَّ شيء من ذلك ، فلما وعظني أبي بصَّرني بحقيقة نفسي ، وصغَّرها عندي ، وحطَّ من قدرها في عيني ، فنفعني اللهُ عزوجل بذلك ، فجزاه اللهُ من والدٍ خيرا ، فقعدتُ ساعة أحدِّثه ، وأستمتع بمنطقه ، فلم أرَ فتًى كان أجمل وجهًا ، ولا أكمل عقلا ، ولا أحسن أدبا منه على حداثة سنِّه ، وقلَّة تجربته ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلامٌ فقال : - هنا دخلنا في عتبه - ميمون جالسٌ ، ولا توجد مشكلة ، تواضع على تقشُّف على دخل حلال على أكل معتدل ، على عقل ، على ورع ، و لا مشكلة موجودة ، رجل متَّعظ بكلام والده و مستفيد ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلام و قال : أصلحك اللهُ قد فرغنا ، فسكت ، فقلت : ما هذا الذي فرغوا منه ؟ قال : الحمام ، قلتُ : و كيف، قال : أخلوه لي ، من الناس طبعا ابن خليفة ، أفرغوه ، قلتُ : لقد كنت وقعت من نفسي موقعا عظيما ، حتى سمعت هذا الآن ، فذُعِر و استرجع و قال : و ما في ذلك يا عمُّ - يرحمك الله - ماذا فعلت ؟ قلت : الحمام لك ؟ قال : لا ، قلت : فما دعاك أن تخرج الناسَ منه ؟ كأنك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم ، وأن تجعل لها قدرًا يعلو على أقدارهم ؟ من أنت حتى يخرج الناسُ من الحمام من أجلك ؟ ثم إنك تؤذي صاحبَ الحمام ، في غلَّة يومه ، و تُرجع من أتى حمَّامه خائبا ، الحمَّام يسع مثلا عشرين شخصا ، دخلت وحدك أنت ، الغلة قلَّت ، أحدهم أتى قاصدا الحمام ، ثم هو مغلق محجوز ، كلام دقيق ، قال : أما صاحب الحمام فأنا أرضيه ، وأعطيه غلَّة يومه كلَّها ، لا مشكلة ، قلتُ : هذه نفقة سرف خالطها كِبرٌ ، و ما يمنعك أن تدخل الحمام مه الناس وأنت كأحدهم ؟ قال : يمنعني من ذلك أن طائفة من رعاع الناس بغير أُزُر فأكره رؤيةَ عوراتهم ، وأكره أن أجبرهم على وضع الأُزر فيأخذون ذلك عليَّ على أنه اقتدارٌ مني عليهم بسلطان الذي أسأل الله أن يخلِّصنا منه كفافا لا لنا ولا علينا ، فعِظني رحمك الله عظةً أنتفع بها"، ماذا أفعل ؟ واجعلْ لي مخرجا من هذا الأمر ، قلت : انتظِر حتى يخرج الناسُ من الحمام ليلا و يعودوا إلى بيوتهم ثم ادخله وحدك ، قال : لا جرم ، لا أدخله نهارا بعد اليوم ، ولولا شدَّة برد هذه البلاد ما دخلته أبدا " ، لكن اضطرب وشعر أنه هناك غلطة كُشِفت ، ثم أطرق قليلا كأنه يفكِّر في أمر ، ثم رفع راسه إليَّ ، وقال : أقسمتُ عليك لتطوِينَّ هذا الخبرَ عن أبي ، إني أكره أن يظلَّ ساخطا عليَّ " يمكن ألاّ تبلِّغ والدي هذا الموضوع ، وإني لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه " ، قال ميمون : فأردتُ بعد ذلك أن أسْبِر عقلَه فقلت له : إن سألني أميرُ المؤمنين ، هل رأيتَ منه شيئا فهل ترضى ليَ أن أكذب عليه ؟ قال : لا ، معاذ الله ، و لكن قل له : رأيتُ منه شيئا فوعظتُه و كبَّرتُه في عينه فسارع في الرجوع عنه ، فإن أبي لا يسألك عن كشف ما لم تظهره له ، قل له : هناك موضوع شاهدته ووعظته واستفاد ، وانتهى الأمر ، أرأيتم إلى هذا الخوف الشديد ، لأنه حجز حمَّاما له وحده في النهار ، قال : لأن الله جل وعز قد أعاذه من البحث عما استتر ، قال ميمون: فلم أرَ والدا قط ولا ولدا مثلهما يرحمهما اللهُ عزوجل".
هذا هو عبد الملك بن عبد العزيز ، وإن كانت قصَّةً قصيرة إلا أن فيها دلالات كثيرة ، والعبرة أن تربَّي ابنَك على طاعة الله ، وعلى التواضع ، وعلى خفض الجناح للمؤمنين ، ألم يقل الله عزوجل :
[سورة الشعراء]






رد مع اقتباس
قديم 27-04-2009, 08:59 PM رقم المشاركة : 33
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

الجزء الاول
عمر بن عبد العزيز


الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثالث عشر من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، والتابعيّ اليوم هو سيدنا عمر بن عبد العزيز ، الذي عدَّه المؤرخون من أهل العلم العاملين ، ومن الخلفاء الراشدين ، وما أروعها أن تلتقي الخصائص الدينية بالخصائص الزمنية كما يقولون ، وما أروع الإنسان أن يكون عالماً ، وأن يكون عاملاً ، وأن يتفوق في الدنيا ، وأن يتفوق في الآخرة .
يقول هذا الخليفة العظيم : تاقت نفسي للإمارة ، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة ، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة .
معنى ذلك : أن ليس في حياة المؤمن إثنينية ، أعماله ، مناصبه ، تجارته ، بيته ، دخله ، إنفاقه ، طاقاته ، أفكاره ، أدبه ، قلمه ، مطالعاته ، ثقافته ، لهوه ، كلها تَصُبُّ في هدف واحد ، "تاقت نفسي للإمارة ، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة ، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة " ، يغلب على الظن أنه تاقت نفسه للإمارة ليصل بها إلى الجنة ، وتاقت نفسه للخلافة ليصل بها إلى الجنة ، والدنيا مطيّة المؤمن ، يتخذها وسيلة للتقرب من الله عز وجل .
بالمناسبة هذه الحظوظ التي أتحدث عنها كثيراً ، كلما نِلْتَ منها قسطاً أوفر اتَّسعتْ قدرتُك على العمل الصالح ، واتَّسعتْ بالتالي مسؤوليتُك .
أوضِّح هذا الكلام بمثال ، مخروط ، فكلما صعدت إلى مستوى من الجبل اتسعت دائرة النظر، نحن إذا صعدنا إلى جبل قاسيون نرى الشام ، لكن حينما نركب طائرة ، وترتفع الطائرة أربعين ألف قدم ترى مسافة تزيد عن مائتي كيلو متر بنظرة واحدة ، ورواد الفضاء الذين ركبوا مركبتهم رأوا الأرض بأكملها من هناك ، هذه قاعدة .
كلما ارتفعت في مستوى الحظ الذي منحك الله إياه ، ازدادتْ قدرتك على العمل الصالح ، وازدادتْ مسؤوليتك ، فأحياناً الإنسان القوي بتوقيع يلغي منكرًا ، وبتوقيع يقيم المعروف ، بتوقيع واحد .
تصور معلمَ مدرسةٍ ، أو مدير مدرسة ، أو مدير تربية ، أو وزير تربية ، كلما ارتفعت السلطة اتَّسعت القدرة على الخير ، وبالتالي ازدادت المسؤولية ، فالإنسان الغني بإمكانه أن يحلّ مشاكل عدد كبير من الفقراء ، وكل فقير يرقى به ، فالمال حينما تمتلكه بإمكانك أن تصل به إلى الجنة ، لكن بالمقابل أنت مسؤول عن هذا المال الوفير ، ومسؤولية الغنيِّ أشدُّ من مسؤولية الفقير، وهذا حظ المال .
أمّا حظ السلطة ، فكلما ازددتَ قوةً ازدادتْ قدرتُك على خدمة الخلق ، وازدادتْ بالتالي مسؤوليتك .
العلم : كلما ازداد علمُك ، ازدادتْ قدرتُك على إقناع الناس الدين ، فإن قصَّرتَ ازدادتْ مسؤوليتُك .
العلم قوة ، والمال قوة ، والسلطة قوة ، هذه القُوى الثلاث في الأرض .
عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ *
[ أخرجه مسلم ]

أنـت حينما تتفوق في جانب من جوانب الحياة ، إّما في العلم ، وإمّا في السلطة ، وإمّا في المال ، تزداد قدرتك على العمل الصالح في أشياء غير متاحة لك ، لأنه قد أُتيح لك شيء لا ينافسك عليه أحد ، وهو العلم ، يمكن أنْ يكون كسب المال صعبًا ، ففي الظروف صعبة ليتك تحصل على قوت يومك ، وبالمقابل .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه *
[ رواه أبو يعلى والبزار وزاد : وحسن الخلق ]
ربما كان تحصيل المال شيئًا صعبًا ، وربما كان الوصول إلى مركز قوي صعبًا أيضًا ، أما الشيء المتاح أنْ تطلب العلم ، ولا تنسوا أيها الإخوة أنّ قوة العلم هي أقوى قوة ، والدليل : أقوى أقوياء العالم لا يتحركون إلا باستشارة الخبراء ، ليس هناك إنسان قوي في العالم يتخذ قرارًا إلا بعدما يأخذ رأي الخبراء ، فالذين يحكمون في الحقيقة هم الخبراء ، لذلك الإمام الشافعي حينما فسر قوله تعالى :
( سورة النساء : 59 ) .
قال : أولي الأمر هم الأمراء والعلماء ، العلماء يعرفون الأمر ، والأمراء ينفذِّون الأمر ، فأن تجمع بين التفوق في الدنيا والتفوق في الدين شيءٌ رائع جداً ، والتفوق في الدنيا ليس للدنيا إطلاقاً، بل من أجل أن تزداد قدرتك على العمل الصالح.
العوام يقولون : ضربة المعلم بألف لو شلفها شلف ، يعني أنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ آلاف مؤلفة من الشقاء ، وأنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ الضالين ، وحينما تكون غنيًّا بإمكانك أن تمسح دموع البائسين ، وحينما تكون قوياً بإمكانك أن تنصف المظلومين ، فشيء جميل جداً أنك بإمكانك أن تنصف المظلوم ، إذا قنعت به ، لذلك علوُّ الهمة من الإيمان ، وباب العلم مفتوح على مصراعيه .
وقد قال بعض خلفاء أمية ينصح أولاده ، قال لهم :
يا أبنائي تعلموا العلم ، فإن كنتم سادة ، في الأصل ، فقتم ، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم ، وإن كنتم سوقةً عِشْتم " ، من السوقة ، أيْ من عامة الناس تعيش بالعلم ، من الطبقة الوسطى تصبح سيداً، وإن كنت في الأصل سيداً تصبح متفوقاً .
أيها الإخوة : العلم أساس أيِّ تقدم ، والحديث عن هذا الخليفة الذي يعد من أهل العلم ، مَن يشبهه ؟ سيدنا صلاح الدين الأيوبي ، كان من العلماء العاملين ، عامل عالم قبل أن يكون قائدًا ، وفاتحً ، وردَّ الصليبيين ، إنه عالم فقيه ، يقرأ القرآن ، ويفهم تفسيره ، ويقرأ الحديث ، وله باع طويل في العلم ، فالحديث عن هذا الخليفة الزاهد خامس الخلفاء الراشدين حديث أطيب من نشر المسك ، وأزهى من قطع الروض ، وسيرته الفذَّة واحة معطارة ، أينما حللت منها ألْفَيْتَ نبتاً طريا ، وزهراً بهيا ، وثمراً جنيا ، وإذا لم يكن في وسعنا أن نستوعب الآن تلك السيرة التي ازدان بها التاريخ ، فإنّ هذا لا يمنعنا أن نقطف من روضها زهرة ، وأن نقبس من نورها ومضة، ذلك لأنه : ما لا يُدرَك كلُّه لا يُتْرَك بعضُه .
هناك صور ثلاثة منتزعة من حياة هذه الخليفة الراشد .
أول صورة : رواها لنا سلمة بن دينار، عالم المدينة ، وقاضيها ، وشيخها ، قال : قدمتُ على خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، وهو بقرية من أعمال حلب ، وكانت قد تقدّ‍متْ بيَ السنُّ، وبَعُد بيني وبيـن لقائه العهدُ ، يعني منذ أمد طويل لم يره ، فوجدتُه في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه ، لتغيُّر حاله عما عهدتُه عليه يوم كان والياً على المدينة "، ما عرفه لتغيُّر حاله.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام : لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا ، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا ، ولا دخلتم بيتا تستظلون به ، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم وتبكون على أنفسكم *
(الجامع الصغير)
أحيانًا الإنسان يقال له : تعال إلينا بعد يومين ، لنسألك عن بعض الموضوعات ، لا ينام الليل ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، إنسان سيسألك ، وأنت بريء ، ولم تقترف إثماً ، ولم ترتكب جرماً ، ولك صفحة بيضاء ناصعة جداً ، ومع ذلك لا تنام الليل ، ولا تأكل ، تقول : ماذا يريدون مني ، يا ترى ما السؤال ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا ، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا ، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم وتبكون على أنفسكم *
(الجامع الصغير)
أيها الإخوة : قال : قدمت على خليفة المسلمين وهو بقرية من أعمال حلب ، وكانت قد تقدمت بي السن ، وبَعُدَ بيني وبين لقائه العهدُ ، فوجدته في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه لتغيُّر حاله عما عهدته عليه ، يوم كان والياً على المدينة ، فرحّب بي ، وقال : أدنُ مني يا أبا حازم ، فلما دنوتُ منه قلت : ألستَ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، قال بلى ، هذا يعني أنّه تَغَيَّر تغيُّرًا شديدًا ، وهذا أيها الإخوة الحزن المقدس ، وهذا هو القلق المقدس ، وهذا هو الخوف المقدس ، هناك قلق على الدنيا ، وخوف من الفقر ، وخوف من زوال بعض النعم ، وحزن على ما فات من الدنيا .
سيدنا الصديق رَضِي اللَّه عَنْه قرأت عنه كلمة لا أنساها : ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلِّمنا من خلال بعض أدعيته ، أن الدنيا لا قيمة لها ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ *
(رواه الترمذي)
ماذا دعا ؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ *
(رواه الترمذي)
يعني بالنهاية زوجته ليست كما يريد ، وبيته ليس كما يريد ، ودخله ليس كما يريد ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ، الدنيا مشغلة ، ومجبنة ، ومبخلة ، فربما لا تدري أن هذا الوضع المتوسط هو أنسب وضع لك أيها المؤمن ، وأن هذه المشكلة هي التي دفعتك إلى الله ، وأن هذه المصيبة هي التي حفزتك إلى باب الله ، فلذلك أنا متأثر جداً بقول الإمام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، فحينما أُخِذَ عليه هذا القولُ فَسَّره بعضهم وقال : أيْ ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني .
ألست أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ؟ قال : بلى ، فقلت : ما الذي حل بك ، ألم يكن وجهك بهيًّا ؟ وإهابك طريًّا ؟ وعيشك رخيا ؟ قال : بلى ، أنت خليفة الآن ، كنتَ واليًّا وكان وجهك بهيًّا ، وجلدك طريًّا ، وعيشك رخيًّا ، فما بالك ؟ يروون أنّ زوجتك مرة دخلت عليه ، وإنْ شاء آتيكم بالنص الكامل في وقت آخر ، فرأته يبكي ، استغربت ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! أمير المؤمنين يبكي ! وهو في مصلاه ، سألته فلم يجب ، فلما ألَّحت عليه ، قال : يا فلانة إنَّ الله ولاّني أمر هذه الأمة، نظرت في الفقير الجائع ، وفي ابن السبيل الضائع ، وفي المقهور ، وفي الذليل ، والشيخ الكبير ، وصاحب العيال الكثيرة ، والدخل القليل ، ذكر أصناف من المعذبين ، فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً ، وأن حجيجي يوم القيامة هو رسول الله ، فلهذا أبكي ، لقد أدرك عظم المسئولية .
أحيانًا هناك كلمات فَقَدت مدلولها ، يقال : فلان مسؤول كبير ، يظن أنّ هذا مدح مسؤول كبير ، أيْ سوف يُسْأَل .
( سورة الصافات : 24 ) .
فقلت فما الذي غيَّر ما بك بعد أن غدوتَ تملك الأصفر والأبيض ، وأصبحتَ أمير المؤمنين، فقال : وما الذي تغيّر بي يا أبا حازم ، لم شعر ، فقلت : جسمك الذي نحل ، وجلدك الذي اخشوشن ، ووجهك الذي اصفر ، وعيناك اللتان خبتا ، أو خبا وميضهما ، فبكى ، وقال : فكيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث ، وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وتفسخ بطني وتشقّق ، وانطلق الدود يرتع في بدني ، إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم لكنتَ أشدَّ إنكاراً لي من يومك هذا .
أحد الإخوة الأكارم ، رويَ أن له صديقاً حميمًا ، من أقرب الناس إليه ، وكان غنياً منعماً، ويعيش حياةً تفوق حدَّ الخيال ، توفِّي له زوجتان ، وبعدها بأيام نُمِيَ إلى بعض السلطات أنه مات مسموماً ، فلا بد من فتح القبر ، وأخذ عينة من معدته ، ليتأكد المحققون من صحة هذه الدعوى ، يقول هذا الصديق : فلما فُتِح القبر ، فإذا المنظر لا يصدق ، منتفخ ، فلما بقر بطنه صدر صوت رهيب ، منتفخ ، مسود أزرق على أسود ، يقول : واللهِ بقيت أسبوعين ، وقد عزفتْ نفسي عن الطعام ، لهول هذا المنظر .
قال له : كيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث ، وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وتفسخ بطني وتشقق ، وانطلق الدود يرتع في بدني ، إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم لكنتَ أشدَّ إنكاراً لي من يومك هذا ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لا أغبط أحداً في الدنيا إلا رجلاً عرف ربَّه فجهد في طاعته ، والعمل الصالح ، هذا الذي أراه ذكياً ، وأراه عاقلاً ، وأراه يستحق الإعجاب والتقدير ، بل هذا الذي عرف حقيقة الدنيا ، وتفاهتها ، وعمل للساعة الحرجة التي لا بد منها ، لساعة نزول القبر.
ورد في بعض الآثار أنه أول ليلة يدفن فيها الإنسان في قبره يقول الله عز وجل : عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
ثم رفع بصره إلي ، وقال : أما تذكر حديثاً كنت حدَّثتَني به في المدينة يا أبا حازم ؟ فقلت : لقد حدَّثتُك بأحاديث كثيرة يا أمير المؤمنين ، فأيها تقصد ؟ فقال : إنه حديث رواه أبو ذر ، فقلت: نعم أذكره يا أمير المؤمنين ، فقال أعده علي ، فإني أريد أن أسمعه منك ، فقلت :
عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر إن أمامك عقبة كؤودا لا يقطعها إلا كل مخف قال: يا رسول الله أمنهم أنا ؟ قال : إن لم يكن عندك قوت ثلاثة فأنت منهم*
[ الجامع الصغير ] .
فبكى عمر بكاءً شديداً ، خشيتُ معه أن تنشق مرارته ، ثم كفكف دموعه والتفت إلي ، وقال : فهل تلومني يا أبا حازم ، إذا أنا أهزلت نفسي لتلك العقبة رجاء أن أنجو بها ، وما أظنني ناجٍ ، هذا الخوف المقدس ، هذا القلق المقدس ، هذا الحزن المقدس ، هذا أرقى أنواع الحزن ، أن تبقى خائفاً من الله ، قلقاً على مصيرك الأخروي ، هذه الصورة الأولى .
الصورة الثانية : من صور حياة عمر بن عبد العزيز ، يرويها الطبري عن الطفيل بن مرداس ، يقول : إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة كتب إلى سليمان بن أبي السري واليه على الصغد كتاباً قال فيه : اتخذْ في بلادك فنادقَ لاستضافة المسلمين ، فإذا مرَّ بها أحد منهم فاستضيفوه يوماً وليلة ، مجاناً ، وأصلحوا شأنه ، وتعهدوا دوابه ، فإذا كان يشكو نصباً ، السبب أنه في عهد هذا الخليفة العظيم جمعت أموال الزكاة ، وكأن الفقر قد انتهى ، لذلك لم يجد هذا الخليفة مصرفاً للزكاة ، فبدا له أن يفيَ عن الغارمين دَيْنَهم ، ثم أمر بهذه المرافق الحيوية كي تكون في خدمة المسلمين ، فإذا كان يشكو نصباً فاستضيفوه يومين وليلتين ، وواسوه ، فإذا كان منقطعاً لا مؤنة عنده ، ولا دابة تحمله ، فأعطوه ما يسدّ حاجته ، وأوصلوه إلى بلده ، فصدع الوالي بأمر أمير المؤمنين ، وأقام الفنادق التي أمره بإعدادها ، فَسَرَتْ أخبارُها في كل مكان ، وطفِق الناسُ في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها يتحدثون عنها ، ويشيدون بعدل الخليفة وتقواه.
فما كان من وجوه أهل سمرقند - هذه البلاد الآن تابعة للجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي - فما كان من وجوه أهل سمرقند إلا أن وفدوا على واليها ، سليمان بن أبي السري ، وقالوا : - الآن دققوا - إن سلفك قتيبة بن مسلم الباهلي قد دهم بلادنا ، من غير إنذار ، ولم يسلك في حربنا ما تسلكونه معشر المسلمين ، فقد عرفنا أنكم تدعون أعداءكم إلى الدخول في الإسلام ، فإن أبوا دعوتموهم إلى دفع الجزية ، فإن أبوا أعلنتم عليهم القتال ، هؤلاء أهل سمرقند بَلَغهم أن هذه هي الطريقة الشرعية لفتح البلاد ، أمّا هم فلم يُعرَض عليهم الإسلام ، ولم يُدعَوا إلى دفع الجزية ، بل حوربوا مباشرة ، فاشتكوا إلى الوالي الذي كان عليهم ، اشتكوا سلفه الذي داهم بلادهم ، وهو قتيبة بن مسلم الباهلي ، يقولون : وإنا قد رأينا من عدل خليفتكم وتقواه ما أغرانا بشكوى جيشكم إليه ، فقدَّم أهل سمرقند شكوى ، والاستنصار بكم على ما أنزله بنا قائد من قوادكم ، فأْذَنْ أيها الأمير لوفد منا بأن يَفِد على خليفتكم ، وأن يرفع ظلامتنا إليه ، اسمح لنا أن نرسل وفدًا إلى دمشق نرفع ظلامتنا على قتيبة بن مسلم الباهلي الذي داهمنا ، ولم يسلك الطريقة التي شرعها نبيُّكم ، فإذا كان لنا حق أعطيناه ، وإن لم يكن لنا حق عدنا من حيث ذهبنا ، فأذن سليمان لوفد منهم بالقدوم على الخلفية في دمشق ، فلما صاروا في دار الخلافة ، رفعوا أمرهم إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، فكتب الخليفةُ كتاباً إلى واليه سليمان بن أبي السري ، يقول فيه : أما بعد ؛ فإذا جاءك كتابي هذا فأجلِسْ إلى أهل سمرقند قاضياً ينظر في شكواهم ، يكفي قاضٍ من عندك ، فإن قضى لهم ، فأمر جيش المسلمين بأنْ يغادر مدينتهم ، وادعُ المسلمين المقيمين بينهم إلى النزوح عنهم ، وعودوا كما كنتم ، ويعودون كانوا قبل أن يدخل ديارهم قتيبةُ بن مسلم الباهلي .
بلدة فتحت عن طريق الحرب ، ويعلم أهلها أن هذا الفتح فيه خلل شرعي ، يذهب وفدٌ منهم إلى خليفة المسلمين ، وبكل بساطة يقول للوالي عليهم : أَجلِسْ إليهم قاضياً يحكم بينهم وبين طريقة فتح بلادهم ، فإن كانوا على حق فأْمر جيشك أن يخرج من بلدتهم ، وأْمر المسلمين المقيمين بأن ينزحوا عنهم ، وعودوا كما كنتم قبل فتح البلدة ، تلك التي فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي ، وهناك تفصيلات أدق من ذلك ، لقد أعطاهم كتاباً على شكل قصاصة صغيرة ، فما صدقوه ، هل هذا معقول ؟! جيش بكامله ينسحب بهذه القصاصة أو بهذه الكلمة !! .
فلما قدم الوُفد على سليمان بن أبي السري ، ودفع إليه كتاب أمير المؤمنين ، بادر ، أَجْلَسَ إليهم قاضي القضاة جميع بن حاضر الناجي قاضي القضاة ، أعلى قاض ، فنظر في شكواهم ، واستقصى أخبارهم ، واستمع إلى شهادة طائفة من جند المسلمين وقادتهم ، فاستبان له صحة دعواهم ، وقضى لهم عند ذلك ، الآن صدر قرار مِن قاضٍ مسلم يحكم على جيش إسلامي بالخروج من سمرقند ، لأن فتحها لم يكن شرعياً ، عند ذلك أمر الوالي جندَ المسلمين أن يُخلُوا لهم ديارهم ، وأن يعودوا إلى معسكراتهم ، وأن ينابذوهم كرّة أخرى ، فإما أن يدخلوا بلادهم صلحاً بالجزية ، وإما أن يظفروا بها حرباً ، وإما ألاّ يكتب لهم الفتح لو انهزموا ، لم يصدَّقْ أهل سمرقند لما جرى ، فما سمع وجوه القوم حكمَ قاضي القضاة لهم ، حتى قال بعضهم لبعض : وَيْحَكُم ، لقد خالطتُم هؤلاء القوم ، وأقمتم معهم ، ورأيتموهم من سيرتهم ، وعدلهم ، وصدقهم ما رأيتم فاسْتَبْقوهم عندكم ، وطِيبُوا بمعاشرتهم نفساً ، وقرُّوا بصحبتهم عيناً .
أذكر لكم قصة هامشية ربما ذكرتها مرة ، أنّ فلاحًا أعطوه أرض عشرين دُنُمًا ، حسب الأنظمة الإقطاعية النافذة سابقاً ، ففرح بها ، وسأل شيخه ، فقال له : يا بني هذا حرام ، هذا المال ليس لك ، لا بد أن تشتري هذه الأرض ، فقال له : ليس معي ثمنها ، قال له : أَعْرِضْ هذا على صاحب الأرض ، على أن يأخذ ثمنها منك تقسيطاً ، فذهب إليه ، يا سيدي : أنا أعطوني أرضًا من أراضيك الواسعة ، وسألت شيخي ، فأجاب بأنه لا أنْ أشتريها منك ، فما العمل ؟ وعندي هذا المبلغ اليسير ، ويعني أساورَ زوجته ، فقال له هذا الإقطاعي : واللهِ أنا ذهب مني أربعمائة دُنُمٍ فما رأيت واحدًا جاءني بهذه المقولة إلا أنت ، فهذه الدُّنُمات هي لك عن طيب نفس مني ، هدية لك فتمَلَّكْها ، وازرعها ، وانتفع بها ، وبارك الله لك فيها .
إنها قضية ورع ، ف ***ة رأوا من عدلهم ، ورحمتهم ، وإنصافهم فقالوا : ما لنا ولإخراجهم ، طيبوا بهم نفساً ، وقروا بهم عيناً ، هذه الصورة الثانية .
الصورة الثالثة من صورة حياة هذا الخليفة العظيم يرويها لنا ابن عبد الحكم ، في كتابه النفيس المسمى (سيرة عمر بن عبد العزيز) ، فيقول : لما حضرت عمرَ الوفاةُ ، دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ، وقال : إنك يا أمير المؤمنين قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال ، فحبذا لو أوصيت بهم إليك ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك ، فلما انتهى من كلامه قال عمر : أجلسوني، فأجلسوه ، فقال : قد سمعتُ مقالتك يا مسلمة ، أمَا إنّ قولك : قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال ، فإني واللهِ ما منعتهم حقاً هو لهم ، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم ، أما قولك : لو أوصيت بهم إلي ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك ، فإنما وصيي وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق ، وهو يتولى الصالحين ، واعلمْ يا مسلمة أن أبنائي أحدُ رجلين ؛ إما رجل صالح متقن فسيغنيه الله من فضله ويجعل له من أمره مخرجا ، وإما رجل طالح مكبٌّ على المعاصي فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى ، ثم قال ادعوا لي بنيّ ، موقف مؤثر جداً، أولاد سيدنا عمر ، ما أعطاهم شيئاً ، فدعوهم وهم بعضة عشر ولداً ، فلما رآهم ترقرقت عيناه ، وقلتُ - القائل مسلمة - في نفسي : فتية تركهم عالة لا شيء لهم ، وهو خليفة ، وبكى بكاءً صامتاً ، ثم التفت إليهم ، وقال أي بنيّ إني لقد تركت لكم خيراً كثيراً ، فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين ، أو أهل ذمتهم ، إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً ، هذه السمعة الطيبة ، كيفما مشى ابن الرجل الصالح يقال له : رحمة الله على والدك ، هذه ثروة كبيرة جداً ، قال : إنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم ، إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً ، يا بنيّ إن أمامكم خياراً بين أمرين ، فإما أن تستغنوا ، أي أن تصبحوا أغنياء ، ويدخل أبوكم النار ، وإمّا أن تفتقروا ويدخل الجنة ، ولا أحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى ، كذلك ربّاهم تربية عالية ، ربّاهم على محبته ، ومحبة الحق ، ثم نظر إليهم في رفق وقال : قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله، مسلمة ، يعني شيء أحد قواد بني أمية الكبار ، فالتفت إليه مسلمة ، وقال : عندي يا أمير المؤمنين ما هو خير من ذلك فقال : وما هو ؟ قال لدي ثلاثمائة ألف دينار - من ماله الشخصي - لدي ثلاثمائة ألف دينار ، وإني أهبها لك ففرِّقها عليهم ، أو تصدّق بها إذا شئت، فقال له عمر: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة ؟! قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال تردُّها لمن أخذتها منه ، أنى لك بهذا المبلغ الضخم ؟ تردّها إلى من أخذتها منه ، فإنها ليست لك بحق ، فترقرقت عينا مسلمة، وقال : رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً ، فقد ألَنْتَ منا قلوباً قاسية، وذكّرتها ، وقد كانت ناسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا ، ثم تتبع الناسُ أخبارَ أبناء عمر من بعده ، فرأوا أنه ما احتاج أحد منهم ولا افتقر ، وصدق الله العظيم إذ يقول :
( سورة النساء : 9 ) .
ورد في الأثر أن الله سبحانه وتعالى يسأل عبداً أعطاه مالاً وفيراً يوم القيامة ، يقول له : عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ، يقول يا رب لم أنفق منه شيئاً على أحد مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، فيقول الله عز وجل : ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين ، إن الذي خشيت على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم ، أي جعلتهم فقراء ، ويسأل عبداً آخر فيقول : عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ، يقول : يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً ،وأنت أرحم الراحمين ، فيقول الله عز وجل : عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك .
يعني موضوع مستقبل أولادك منوط باستقامتك أنت ، ولو تركت لهم مئات الملايين ربما أصبحوا متسولين ، ربما أتلف المال كله ، ربما أنفق المال كله على المعاصي ، فلذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز وقف هذا الموقف ، فهذه ثلاث صور .
أول صورة : نحوله وشدة خوفه من الله .
الصورة الثانية : موضوع سمرقند ، والشيء الذي لا يصدَّق .
الصورة الثالثة : كيف أنه لم يبق لأحد من أولاده شيئاً ، لكن الله أغناهم من فضله .
ومن الطُّرَف التي كانت تُرْوَى أن رجلاً من بني أمية بعدما توفي سيدنا عمر بن عبد العزيز قال له للخليفة الذي من بعده : إن جدك قد أقطعني أرضاً ، وإن عمر رحمه الله تعالى قد أخذها مني فعجب هذا الخليفة ، وقال له : الذي أقطعك الأرض لم تترحم عليه ، أما الذي أخذها منك ترحمت عليه !
كن مع الله ولا تبالي ، من أرضَى الله بسخط الناس رضي اللهُ عنه و أرضى عنه الناسَ .
هذه السيرة تعني أنْ تكون وقافاً عند كتاب الله ، تكون مع الحق ، صورة معاكسة ، شاب توفي أبوه منذ يومين ، فرأوه متجهاً إلى مكان لا يليق به ، إلى ملهى ، إلى أين ؟ فقال : أريد أن أشرب الخمر على روح والدي ، فإذا كان الإنسان قد ترك أموالاً طائلة ، ولم يعلِّم أولاده ، فكل هذا المال الذي ينفقه الأولاد في المعاصي يتحمل الأبُ إثمَه ، لذلك أندمُ الناس يوم القيامة رجلان - استمعوا - غنيٌّ دخل أولادُه بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار ، جمعه من حرام فورِثه أولاده، الذين لو عرفوا الله لأنفقوه في طاعته ، فدخلوا بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار ، وعالم دخل الناسُ بعلمه الجنة ، ودخل هو بعلمه النار ، لذلك الدعاء : اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، إنها مصيبة كبيرة أن توضِّح حديثًا ، أن توضح آية ، ثم يأتي إنسان فيفهمها ، ويعقلها ، ويطبقها ، فيسعد بها ، ويرقى بها ، والذي علَّمها لا يستفيد منها ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك وألتمس به أحد سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيء يشينني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ، فلا يكن الإنسان قصةً ، فإذا عصى وطغى ، وبغى ، عاقبه اللهُ عقابًا أليمًا ، وصار قصة يتناقلها الناس في مجالسهم ، وفي ندواتهم ، ولقاءاتهم ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ، الله قال:
( سورة المؤمنون : 44 ) .
صاروا قصصًا وعِبرًا .
أيها الإخوة الكرام : دققوا في هذه السِّيَر ، هؤلاء التابعون مِن الذين ذكر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ *
(متفق عليه)
فهُم من القرن الذي تلا قرن النبي عليه الصلاة والسلام .







رد مع اقتباس
قديم 27-04-2009, 09:03 PM رقم المشاركة : 34
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي


الجزء الثاني

عمر بن عبد العزيز


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين ، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا ، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس التاسع عشر من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وتابعيّ اليوم هو سيّدنا عمر بن عبد العزيز ، ولعلَّه الموضوع الثاني عن هذا الخليفة ، الذي عُدَّ بحَقٍّ خامس الخلفاء الراشدين ، فالحديث عن هذا التابعيّ الجليل عمر بن عبد العزيز حديث ذو شُجون ، فأنت لا تكاد تُلِمّ بِصُورة من صُوَر حياته الفذَّة حتى تُسْلمك إلى أخرى أكثر بهاءً .
مرَّةً كنتُ في تَشْيِيع جنازة ، دخلنا إلى المسجد لِنُصلِّي على الجنازة ، وقام أحد العلماء يريد أن يؤبِّن المُتَوفَّى ، الذي لا أنساهُ أبدًا ؛ قال : كان أخوكم مؤذِّنًا ترحَّموا عليه ، وانتهى التَّأْبين ! وأنا أعرف المُتوفَّى رحمه الله تعالى إنسانًا حياتهُ غنِيَّة مُتْرفةٌ ، وفي بيته ما لذَّ وطاب ، له دخْلٌ كبير ، وجالَ في أوروبا كلَّها ، مُتمتِّع بالحياة في أعلى درجة ، ولكن اسْتوْقفَتْني كلمة المؤبِّن أنَّه ما استطاع أن يقول مِن كلمتين ، كان أخوكم مؤذِّنًا ، ترحَّموا عليه فقلتُ في نفسي ؛ الإنسان عليه أن يدَعَ أعمالاً صالحةً يتحدَّث الناس عنه خمس دقائق أقلّ شيء ، عشر دقائق ، فكلَّما عظم الإنسان يصبح الحديــث عنه ذا شُجون ، يمكن أن نتحدَّث عن الصحابة الكرام سنوات ، وعن التابعين سنوات ، وتؤلَّف الكتب والمجلَّدات ، وتُحلَّلُ الشَّخصِيات ، تُدْرس المواقف، وتوصف الملامح ، فالإنسانُ العظيم هناك مَن يتحدّث عنه إلى أمدٍ طويل .
فهذا الخليفة الراشد ، كتُبٌ مؤلَّفة عن حياته ، وتحليلات لِشَخصِيَّاته ، ووصْفٌ لبيانه ، فالإنسان سيَمْضي ، بقيَت بطولته أن يدعَ أثرًا في الحياة ، والدليل قول الله عز وجل :
[ سورة يس ]
أيها الأخ الكريم ، دقِّقْ في حياتك الدنيا ، الحديث عن بيْتك لا يُقال عند الموت ؛ عن مساحته وتَزْييناته ، الحديث عن دَخلَك ، والحديث عن ملاذَّك ، وهذا كلّه لا يمكن يُقال عند الموت ، لا يُقال عند الموت إلا الأعمال الطيّبة التي تركتها ، الآثار الإيجابيّة التي حقَّقْتها ، الخدمات الجلّة التي قدَّمتها للإنسانيَّة ، وهذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له *
[رواه مسلم]
فالمؤمن العاقل يبحث ، ويسعى لِتَرْك أثرٍ يُخلِّدُه بعد الموت ، ومَن ترك أثرًا طيِّبًا إيجابيًّا كأّنه ما مات .
قبل حين تُوفِّيَ أحد علماء دمشق ، وكانت التَّعزيَة في الجامع الأموي ، وأذكر أنَّ وزير الأوقاف وقتها قدَّمَ بِشارة للمُعزِّين ، أنَّ ابن هذا العالم عُيِّن خطيبًا لهذا المسجد ، فلمّا ألقى ابنهُ كلمةً ، قلتُ : واللهِ ، الأب ما مات ! ما دام قد تركَ عالمًا ، وخطيبًا ، وداعِيَةً إلى الله عز وجل ، معنى ذلك أنّ الأب لم يمُت ، فأنت أيها الأخ الكريم إذا تركْت عملاً طيِّبًا فما مِتَّ ، ولا تموت ، يقول سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه : يا بنيّ ماتَ خُدَّام المال وهم أحياء ! التخطيط جيّد ، والقلب جيّد والبسَّامات جيِّدة ، والعضلات والأسيد أوريك ، والنِّسَب من أعلى النِّسَب ، قال : مات خزَّان المال، وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقيَ الدَّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في الثلوب موجودة، معنى ذلك أنَّ الإنسان عليه أن يدَعَ أثرًا في حياته .
نحن بعد أربعةً عشرة قرْنًا نتحدَّث عن هذا الخليفة العظيم بكلّ طيبٍ ، إذًا هو لمْ يمُتْ ، مرَّةً سألتُ طُلاَّبي عن اسم تاجرٍ عاش سنة ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين في دمشق ، وله عندي علامة تامَّة ؟ فما تذكَّر أحد إطلاقًا ‍! فقلت لهم : وأنا معكم لا أعرف !! العلماء باقون ما بقي الدَّهر ، القوَّاد العظام ، والفاتحون ، والذين تركوا بصماتٍ على الإنسانيّة ، هؤلاء ما ماتوا ، لذلك اِجْهَدوا أن تعملوا عملاً يُخلِّدُكم إلى أبد الآبدين ، وما من عملٍ أعظم من أن تضع علمًا نافعًا ، أو ولدًا صالحًا ، أو صدقةً جاريَة .
هناك ثلاث صُوَرٍ عن هذا الخليفة العظيم ؛ الأولى يَرْويها دُكَيْم بن سعيد الدارمي أحد الشعراء الرجاز البداة ، وهذا شاعر تعامل مع هذا الخليفة يروي هذه القصَّة ، قال : امْتدَحْتُ عمر بن عبد العزيز يوم كان واليًا على المدينة ، فأمر لي بِخَمس عشرة ناقةً من كرائم الإبل ، فلمَّا صِرْن في يدي تأمَّلْتهنّ فراعني منظرهنّ ، وكرهْتُ أن أمْضي بهنّ وحدي في فِجاج الأرض خوْفًا عليهِنّ ، ولم تَطِبْ نفسي بِبَيْعِهِنّ ، مدحَ هذا الشاعر سيّدنا عمر بن عبد العزيز بِقَصيدة رائعة أعطاهُ عليها خمس عشرة ناقة من كرائم الإبل ، قال : ، فلمَّا صِرْن في يدي تأمَّلْتهنّ فراعني منظرهنّ ، وكرهْتُ أن أمْضي بهنّ وحدي في فِجاج الأرض خوْفًا عليهِنّ ، ولم تَطِبْ نفسي بِبَيْعِهِنّ ، وفيما أنا كذلك قدِمَت علينا رُفْقةٌ تبتغي السَّفر نحْوَ دِيارنا في نَجد ، فسألتهم صحبةً ، فقالوا : مرحبًا بك، ونحن نخرج الليلة فأعِدَّ نفسك للخروج معنا ، فمَضَيْت إلى عمر بن عبد العزيز مُوَدِّعًا ، فألْفَيْتُ في مجلسهِ شيخَين لا أعرفهما ، فلمَّا هَمَمْتُ بالانصراف ، الْتفتَ إليّ ، وقال : يا دُكَين : إنَّ لِيَ نفسًا توَّاقة ، فإذا عرفْت أنِّي بلغت أكثر مِمَّا أنا فيه الآن فأْتِني ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، إن عرفت أنَّني سأصلُ إلى مرتبةٍ أعلى فأتنِي ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، نفسهُ توَّاقة وطموحة .
أيها الإخوة الكرام ، أتظنّ أنّ المؤمن غير طَموح ؟ والله الذي لا إله إلا هو لطموح المؤمن الواحد يعْدل طموح ملايين من أهل الدنيا ، لأنَّ أهل الدنيا يطْمحون إلى الدنيا ، والدنيا زائلة ، ولكنَّ المؤمن يطْمحُ لِحَياةٍ أبدِيَّة بعد الموت ، فأيُّهما أشدُّ طموحًا ؟ المؤمن مُتَوَقِّتْ ، كالمِرْجَل ، نفسهُ توَّاقة وطموحة ، وهِمَّتُهُ عالِيَة ، وعزيمتهُ صلبة ، المؤمن لا يشيخُ أبدًا ؛ شابّ دائمًا ، ولو بلغَ من الكِبَر عِتِيًّا ، نفسهُ شابَّة ؛ لأنَّ هدفهُ كبير ، وطموحهُ كبير ، ونفسيَّتُهُ عالِيَة جدًّا ، لِدَرجة أنَّه لا يرضى بالأكل والشرب فقط كعامَّة الناس ، يريد أن يُحقِّق مبدأً ، ويعيشُ لِهَدفٍ نبيل ، له رسالة يحملها سيّدنا عمر بن عبد العزيز ، قال له : إنَّ لِيَ نفسًا توَّاقة ، فإذا عرفْت أنِّي بلغت أكثر مِمَّا أنا فيه الآن فأْتِني ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، فقلتُ : أشْهِدْ لي بذلك أيها الأمير ؟ يبْدو أنَّ الشاعر كان ذا دُعابة ؛ أيْ طلب منه أن يحضر شاهدًا لأنَّ العرْض خطير جدًّا ، فأنت الآن والي ، وما الذي هو فوق الولاية ؟ أن تكون خليفة ، فإذا أشْهَدْت لي من يقول هذا الكلام وقْتَها فلي منك العطاء الكثير ، فقلتُ : أشْهِدْ لي بذلك أيها الأمير ؟ فقال : أُشْهِدُ الله تعالى على ذلك ‍، أيْ إذا أتَيْتني وأنا في مرتبةٍ أعلى من هذه المرتبة لك مِنِّي البرّ والإحسان ، هذا الكلام كان لمَّا كان واليًا، فقلتُ : من خلقهِ ؟ أيْ أريد شاهدًا من خلْقه ، فقال : هذين الشَّيْخَين ، فأقْبلْتُ على أحدهما ، وقلتُ: بأبي أنت وأمِّي : قلْ لي ما اسْمك حتى أعْرفك ؟ فقال : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب ‍! فالْتَفَتُّ إلى الأميــر ، وقلتُ : لقد اسْتسْمَنْتُ الشاهد !! أي هذا الشاهد جيّد ، ثمَّ نظرْتُ إلى الشيخ الآخر وقلتُ : ومن أنت جُعِلْتُ فداك ؟ فقال : أبو يحيى مولى الأمير ، فقلْت: وهذا شاهدٌ من أهله، كان شاعرًا ذو دعابة .
قال : ثمَّ حيَّيْت ، وانْصرفْتُ بالنُّوق إلى ديار قومي في نَجْد ، إذًا سيّدنا عمر نفسهُ توَّاقة، فهل هذا منْقصَةٌ في حقّ المؤمن ؟ لا ، كُنْ توَّاقًا ، إلا أنَّ المؤمن طموحهُ يتَّصِل إلى الآخرة ، ولكنَّ طموح أهل الدنيا ينتهي عند الدنيا ، طموح المؤمن يسْتمرّ إلى الآخرة .
قال : فرمى الله فيهنّ البرَكة حتى اقْتَنَيْتُ من نِتاجهنّ الإبل والعبيد ، أي هذه الخمس عشرة ناقة طرحَ الله فيهنّ البرَكة ، ثمَّ دارَت الأيَّام دوْرتها ، فبَين أنا بِصَحراء ثلجٍ من أرض اليَمامة في نجْد ، إذْ ناعٍ ينعي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك - الذي قبل سيّدنا عمر - فقلْتُ للناعي : ومَن الخليفة الذي قام بعدَهُ ؟ فقال : عمر بن عبد العزيز ، - تحقَّق طموحه - فما إن سمعْتُ مقالتهُ حتَّى شدَدْتُ رحالي نحو بلاد الشام ، فلمَّا بلغْتُ دمشق لقيتُ جريرًا منْصرفًا عند الخليفة فحيَّيْتُهُ ، وقلــتُ : من أين يا أبا حمزة ؟ فقال : من عند خليفة يعطي الفقراء ، ويمنعُ الشعراء ! اِرْجِعْ من حيث أتَيْتَ فذلك خير لك ، فقلتُ : ليَ شأنٌ غير شأنِكم ، أنا لي وضْع خاصّ، لي معه شاهدين ، وعهْد ، فقال : أنت وما تريد ! فانطلقتُ حتى بلغتُ دار الخليفة ، فإذا هو في باحة الدار، وقد أحاط به اليتامى والأرامل وأصحاب الظلمات ، فلم أجِد سبيلاً إليه من تزاحمهم عليه فرفعْتُ صوتي مرتفعًا :
يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم

الدسائع جمعُ دسيعة ، وهي الجفنة العظيمة ، والقدر الذي يُقدَّم فيه الطعام .
قال :
إنِّي امرؤٌ من قطنٍ من دار طلبْتُ دَيني من أخي المكارم

فنَظَرَ إليّ مَولاه أبو يَحيى نظْرة طويلة ، ثمَّ الْتفتَ إليه وقال : يا أمير المؤمنين : إنَّ عندي لهذا البدويّ شهادةً عليك ! كان أحد شهوده مولاه أبو يحيى ، فقال : أعرفها ! ثمَّ الْتفتَ إليّ وقال : اُدْنُ مِنِّي يا دُكَين ، فلمّا صِرْت بين يديه مال عليّ وقال : أتَذْكرُ ما قلتهُ لك في المدينة من أنَّ نفسي ما نالَت شيئًا قطّ ، إلا أنَّها تاقَتْ إلى ما هو أعلى منه ؟ فقلتُ : نعم ، يا أمير المؤمنين ! فقال : وهذا أنا ذا نِلْتُ غايَةَ ما في الدنيا ، وهو المُلك ، فنَفْسي الآن تتُوقُ إلى غايَة ما في الآخرة، وهي الجنَّة!
ومرَّةً قال : تاقَت نفسي إلى الإمارة فلمَّا بلغْتُها ، تاقَت نفسي إلى الخلافة ، فلمَّا بلغتها تاقَت نفسي إلى الجنَّة ، وتسعى إلى الفَوْز بِرِضْوان الله عز وجل ، ولئن كان الملوكُ يجعلون الملك سبيلاً لِبُلوغ عزِّ الدنيا ، فلأجْعلنَّهُ - أي المُلك - سبيلاً إلى بلوغ عزّ الآخرة ! هؤلاء حجَّة على من سِواهم ، يمكن أن تكون ملكًا ، ويمكنُ أن ترقى إلى الجنَّة ، الجنَّة لا تغلقُ أمام أحد ، ولو كان ملكًا.
ثمَّ قال : يا دُكَين ، إنّي والله ما رزأْتُ - أخذْتُ - المسلمين في أموالهم درهمًا ولا دينارًا منذ وُليتُ هذا الأمر ، وإنِّي لا أملكُ إلا ألف درهمٍ فَخُذْ نصفها ، واتْرُك ليَ نصْفها ! فأخذْتُ المال الذي أعْطانيه ، فوالله ما رأيْتُ أعظمَ منه بركةً ! هذه أوَّل صورة ، شاعر أعْطاه يوم كان أميرًا خمس عشرة ناقة ، فلمَّا صار خليفةً أعطاه خمسمئة دينار من ماله الشَّخصي ، وهو يُقسمُ أنَّه ما أخذ دينارًا واحدًا من مسلمٍ من رعِيَّتِهِ .
سيّدنا عمر بن الخطّاب قال هذا ، قال : أيّها الناس ، لكم عليّ خمسُ خِصال خُذوني بهنّ ؛ لكم عليّ أن لا آخذ من أموالكم شيئًا إلا بِحَقِّها ، ولكم عليّ أن لا أنفقَ هذا المال إلا بِحَقِّه ، وإذا غِبْتُ في البعوث ، فأنا أبو العيال حتى ترجعوا ، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ أن لا أُجمِّركم في البعوث .
الصورة الثانيَة يرْويها قاضي الموصِل يحيى بن يحيى الغسَّاني ، يقول : بينما عمر يطوف ذات يومٍ في أسواق حمص يتفقَّد الباعة ، ولِيَتَعَرَّف على الأسعار - سيّدنا عمر بن الخطَّاب ما اسْتقْدمَ واليًا إلا وسألهُ كيف الأسعار عندكم ؟ - إذْ قام إليه رجلٌ عليه برْدان أحمران قطريَّان وقال: يا أمير المؤمنين ، لقد سمعتُ أنَّك أمرْت من كان مظلومًا أن يأتِيَك ؟ فقال : نعم ، وها أنا قد أتَيْتُكَ ، وها قد أتاك رجل مظلومٌ بعيد الدار ، فقال عمر : وأين أهلك ؟ فقال : في عَدَن ، جاءه من عدن إلى حمص ، فقال عمر : إنَّ مكانك من مكان عمر لبعيدٌ ، ثمَّ نزل عن دابَّتِهِ ووقفَ أمامه وقال : وما ظلامتُكَ ؟ فقال : ضَيْعَةٌ لي - بستان - وثَبَ عليها رجل مِمَّن يلوذون بك ، وانْتَزَعَها مِنِّي ، فكتَبَ عمر كتبًا إلى عروة بن محمَّد واليه على عَدَن يقول فيه : أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا فاسْمَع بيِّنَة حامِلِه فإن ثبتَ له حقّ فادْفَعْ له حقَّه ، ثمَّ ختَمَ الكتاب ، وناولَهُ الرجل، فلمَّا همَّ الرَّجل بالانصراف قال له عمر : على رِسْلِك ، إنَّك قد أتَيْتنا من بلدٍ بعيد ، ولا ريْبَ في أنَّك اسْتنفذْتَ في رحلتك هذه زادًا كثيرًا ، وأخلقْتَ ثيابًا جديدة ، ولعلَّه نفقَت لك الدابة ، ثمَّ حسب ذلك كلَّه فبلغَ ذلك أحدَ عشر دينارًا ‍! مبلغٌ ضخمٌ جدًّا ، فدَفَعَها إليه ، وقال : أَشِعْ هذا في الناس ، قلْ للناس : إنّ عمر أعطاني نفقة السَّفَر ، حتى لا يتثاقلَ مظلومٌ عن رفْعِ ظُلامتِهِ بعد اليوم مهما كان بعيد الدار.
النقطة أنَّه مظلوم ، وسوف يأخذ حقَّهُ ، ولكن أراد أنَّ المظلوم الذي يقْبع في أماكن نائيَة ، يُشَجِّعه لأن يأتي إلى الخليفة ، ويعرض عليه ظلامته ، ويأخذ نفقَة السَّفَر ، حتى لا يتثاقلَ المظلوم في أن يأتي إلى عمر ، هذه الصورة الثانيَة التي نقلها أحد القضاة .
وأما الصورة الثالثة ، هذه الصـورة يرويها العابد الزاهد زِياد بن ميْسَرَة المخزومي بِالولاء ، فيقول : أرسلني موْلاي عبد الله بن عياش من المدينة إلى دمشق للِقاء أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في حوائج له ، وكانت بيني وبين عمر صِلَةٌ قديمة ترجعُ إلى عهْد ولايتِهِ على المدينة ، فدخلْت عليه فإذا عندهُ كاتبٌ يكتب له ، فلمَّا صرْتُ في عتبة الحجرة قلْتُ : السلام عليكم، فقال : وعليكــم السلام ورحمة الله يا زِياد ‍! ثمَّ مضَيْتُ نحْوهُ خَجِلاً ، لأنّي لم أُسلِّمْ عليه بإمرة المؤمنين ، هو أمير المؤمنين الخليفة ، وقال له : السلام عليكم ! فلمَّا انْتَهيْتُ إليه قلتُ : السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى وبركاته ، عدَّلَ ! فقال : يا زِياد إنَّني لمْ أُنْكرْ عليك السَّلام الأوّل ، فما الحاجة إلى الثاني ؟! المؤمن يتعلَّق بالحقائق ، وبِجَوْهر الحياة .
أيها الإخوة الكرام ، المؤمن إذا أحْكم اتِّصالهُ بالله عز وجل يسْتغني عن ثناء الناس ، وعن تعظيمهم ، وعن تبْجيلهم ، وعن توْقيرهم ، لا يتعلَّق بهذا إلا من أقصى قلبه من الاتّصال بالله عز وجل ، وأساسًا أكبر نقطة ضَعْف في الإنسان اسْتِجداء المديح ، طبْعًا فقْرُهُ الداخلي يحملُهُ على اسْتِجداء المديح ، لو أنَّه وصلَ إلى شيءٍ من الله عز وجل ، إلى السكينة التي أخبر الله عنها ، إلى الصَّلوات التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم ، قال تعالى :
[ سورة التوبة ]
لو أنَّ الإنسان أشْرقَت نفسهُ بِنُور الله عز وجل لا يهتمّ بهذه الشَّكْليَّات ، ولا بهذه العبارات ، فهي عندهُ لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، فقال : يا زِياد إنَّني لمْ أُنْكرْ عليك السَّلام الأوّل ، فما الحاجة إلى الثاني؟! فكان كاتبُهُ إذْ ذاك يقرأُ عليه مظالمَ جاءتْهُ من البصرة مع البريد ، فقال لي : اِجْلسْ يا زياد حتَّى نفْرغَ لك ، فجلسْتُ على خشبة الباب ! بالمناسبة الإنساني العظيم طبيعي ، والإنسان الصغير إذا عظُمَ فجأةً يتكلَّف ! فلو جلسْت مع النبي صلى الله عليه وسلَّم ، دخل عليه أحدهم فأصابتْه رعدة : فقال : إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة " ، كلَّما الْتقيْت مع العظماء رأيتهم قريبين منك ، حتى إنَّه قيل : ما من أحدٍ خالَطَ النبي صلى الله عليه وسلَّم إلا ظنَّ أنَّهُ أقربُ الناس إليه ‍‍! وهذه من عظمة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل عنه : ما رآهُ أحدٌ بديهةً إلا هابهُ، وما خالطهُ إلا أحبَّه ، لكنَّك إذا خالطتَهُ ترى نفسكَ قريبةً منه جدًّا ، وتراه قريبًا منك ، فالتَّكَلُّف ليس من صفات المؤمنين، لا تتكلَّف التَّصنّع والكهنوت !! هذا ليس من صفات المؤمنين ، ويتناقض مع الفطرة السليمة ، فأنت عظيمٌ جدًّا إذا كنت طبيعيًّا .
فقال لي : اِجْلسْ يا زياد حتَّى نفْرغَ لك ، فجلسْتُ على خشبة الباب ! والكاتب يقرأ عليه ، وعمر يتنفَّس الصُّعداء من الهمّ ، فلمَّا فرغَ كاتبهُ من قراءة الرِّقاع التي معه ، وانطلقَ إلى شأنه ، قام عمر من مجلسِهِ ومشى إليه ، حتى جلسَ بين يديّ عند الباب ، ووضعَ يديْه على ركبتي ، ثمَّ يقوم سيّدنا عمر بن عبد العزيز بنفسه عند هذا المولى الذي جاءهُ من المدينة ، وقد أرجأهُ قليلاً لِيَحلّ قضايا المظالم ، يبدو أنَّه غفل ، فقال لِزِياد : هنيئًا لك يا زياد ، لقد اسْتدفأْتَ بِمَدْرعتِكَ ، واسْترحْتَ مِمَّا نحن فيه ! الخلافة كانتْ عبئًا ، سيّدنا عمر قال : لسْتُ خيرًا من أحدكم ، ولكنَّني أثقلكم حِمْلاً ، والله لو تعثَّرَتْ بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها ، لِمَ لمْ تفْسِح لها الطريق ياعمر؟!!!
مرَّةً حرمَ نفسهُ أكلَ اللَّحْم مدّةً طويلة ، فأصبحَ في بطنهِ صوتًا ، فقال : قَرْقِرْ أيُّها البطْن أو لا تُقَرْقِرْ ، فوالله لن تذوق اللَّحْم حتى يشبعَ منه صِبْيَة المؤمنين !!!.
قال : لقد اسْتدفأْتَ بِمَدْرعتِكَ ، واسْترحْتَ مِمَّا نحن فيه ! مرَّةً دخلتْ عليه زوجتهُ فاطمة ، فرأتْهُ يبكي في مُصلاَّه ، قالتْ له : ما لكَ تبكي ، فقال : دعيني وشأني ، فلمَّا ألحَّتْ عليه ، قال : إنِّي وُلِّيتُ هذا الأمْر ، فذكَرْتُ الفقير الجائع ، والضَّعيف ، وذو الحاجة ، والأسير ، والمظلوم ، وذا العِيال فعَلِمْتُ أنَّ الله سيُحاسبني عن هؤلاء جميعًا ، وأنّ حجيجَهـم دوني رسولُ الله ، فلهذا أبكي ، دعيني وشأني !
وكانت عليَّ مدْرعة صوف ، ثمَّ طفقَ يسألني عن صُلَحاء أهل المدينة ؛ رِجالهم ونسائهم واحدًا واحدًا ، فما ترك منهم واحدًا إلا وسألني عنه ، ثمّ سألني عن أشياء كان أمرَ بها في المدينة حينما كان واليًا عليها ، فأخبرتهُ عن كلّ ما سأل ، ثمَّ تنهَّد وقال : يا زياد ألا ترى إلى ما وقع فيه عمر ؟ فقلتُ : إنِّي أرجو لك في ذلك خيرًا ‍وأجْرًا ، فقال : هيهات ‍! ثمَّ بكى حتى رثَيْتُ له ، وقلتُ: اِرْفِق بِنَفسك يا أمير المؤمنين فإنِّي لأرجو لك خيرًا كثيرًا فقال : ما أبْعَدَ ما ترْجوهُ يا زياد!.
الآن اِسْمع أيها الكريم كيف يصِفُ مَنْصِبَ الخلافة ؟ قال: لقد أصْبح في وُسعي أن أشْتِمَ ولا أُشْتَم ، وأن أضْربَ ولا أُضرَب ، وأن أوذِيَ الناس ولا أوذَى بأحد ، مَن بإمكان مجابهة الملك؟ ومن بإمكانه أن يضربهُ ؟ منْصب الملك أعلى منصب ، قال له : لقد أصْبح في وُسعي أن أشْتِمَ ولا أُشْتَم وأن أضْربَ ولا أُضرب ، وأن أوذِيَ الناس ولا أوذَى بأحد ، ثمَّ بكى ، انظروا الخوف من الله عز وجل !! قال : ثمَّ بكى كرَّةً أخرى حتى جعلتُ أرثي له ، ولقد أقمْت عندهُ أيامًا ثلاثة حتى قضى ما أرسلني به مولاي ، فلمَّا هممْتُ بالانصراف زوَّدني بِكتابٍ إلى سيّدي يسألهُ فيه أن يبيعني منه ، ثمَّ أخرج من تحت فراشه عشرين دينارًا ، وقال : اسْتَعِن بهذا المال على دنياك ، ولو كان لك حقّ في الفيء لأعْطَيناك ، فأبيْتُ أن آخذ المال منه ، فقال : خُذْهُ فما هو من مال المسلمين إنَّما هو من نفقتي ، فامْتنعْتُ عن أخذه ، ولكنَّه ما زال بي حتى أخذتهُ منه ، ومضَيْتُ ، فلمَّا بلغْت المدينة دفعْت بكتاب أمير المؤمنين إلى مولاي ، ففضَّه ، وقال : إنَّما سألني أن أبيعك له لِيُعْتِقَكَ ! فلِمَ لا أكون أنا المُعْتِقُ لك ؟ ثمّ أعْتقَهُ .
أيها الإخوة الكرام ، هذا نموذج وهو أنَّه ما من عملٍ على وجه الأرض إلا ويمكن أن يكون طريقًا إلى الجنَّة ، وهذه عظمة الإسلام ، وقد قلتُ لكم سابقًا : الإنسان في عمله ومهنته ، وحرفته ، ووظيفته ، ومنصبهُ ، كرسيّه في الجامعة ، منصبه في الطب ، والتدريس ، تجارته ، صناعته ، العمل الذي ترتزق منه إذا كان في الأصل مشروعًا ، وسلكْت به الأساليب المشروعة التي بيَّنها الله ، أيْ لم تكذب ، ولك تغشّ ، ولم تُدلِّسْ ، ولك تظلِم ، ولم تحْتكِر ، ولم تستغلّ ، إذا كان العمل في الأصل مشروعًا وسلكْت به الأساليب المشروعة ، ولم يشْغلْك عن فريضة أو واجبٍ أو طلب علْم ، وأردْت به كفاية نفسك وأهلك ، وخدمة المسلمين انقلب العمل إلى عبادة ، فهذا الخليفة العظيم جعل من هذا المنصب العالي طريقًا إلى الجنَّة ، وكلّ واحد من سعادته أن يجعل ممَّا أقامه الله فيه ، الله أقامك تاجرًا أو موظَّفًا ، مدرِّسًا ، طبيبًا ، بائعًا ، أيّ عملٍ أقامك الله به بإمكانك أن تجعلهُ طريقًا إلى الجنَّة ، والحياة محدودة ، وقصيرة ، وهذه الحياة مزرعة الآخرة فانتَبِهوا أيّها الإخوة .
أيها الإخوة ، العادات إذا رافقتْها النوايا الطَّيِّبَة انقلبَت إلى عبادات ، فكلّنا نأكل ، ونشرب، وننام ، ونسكن في بيت ، ولنا عمل ، ونتنزَّه أحيانًا ، والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن تكون نزهتك مع أولادك عبادة ، إذا نوَيْتَ أن تُكْرمهم ، وأن تمكِّن علاقتهم بك ، وأن تضعَ اللّقمة في فم زوجتك هي لك صدقة ، أن تجلس مع أهلك تؤْنسهم بِحَديثك هو لك صدقة ، فالإنسان إذا عرف الله عز وجل فكلّ ذلك محْسوم ، كلّ شيءٌ يعمله هو عملٌ صالح يرقى به ، فالعِبرة أن تعرف الله تعالى أوَّلاً ، وأن تعرف سرّ وجودك ثانيًا ، وغاية وجودك ، الآن كلّ حركاتك وسكناتك أعمال صالحة ، حتى الأعمال التي تظنّها عاديّة ، أن تشتري بيتًا لابنك ، أطْعم أهله ، ودعا إخوانه إلى طعام ، أخذ أهله إلى نزهة ، ارتدى ثيابًا جديدة ، بصفته مسلمًا ، فالظهور بمظهر أنيق واجب ، فالأعمال العاديّة بالنوايا الطَّيّبة تنتقل إلى عبادات ، والأعمال الجليلة تنقلب إلى عبادات ، خليفة المسلمين قال : الناس يتَّخذون الملك ليكون طريقًا إلى الدنيا ، وأنا أتَّخذه طريقًا إلى الآخرة ، فيمكن لأيّ عملٍ على الإطلاق ، طبعًا إذا كان مشروعًا ، أن يكون لك طريقًا إلى الجنَّة ، فعلى الإنسان مراجعة حساباته ، ويجتهد في معرفة الله ، ومعرفة كتابه ومنهجه ، حتَّى تنقلب حياته إلى مغانمَ لا إلى مغارم ، فهناك مَن يموت ، قال تعالى :
[ سورة الكهف ]
وهناك من أَلْفُهُ كأُفّ ‍! العبرة أن تعرف ربّك ، وأن تعرف منهجه ، وبها تصير حركاتك كلّها صالحة ، عملك ، وبيتك ، وتربية أولادك ، إطعامك لأهلك ، نشاطك الاجتماعي كلّه في سجلاّت الأعمال الصالحة ، فهذا الدرس عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز ثلاثة صور ؛ الصورة الأولى والثانية والثالثة تؤكِّد أوَّلاً نفسًا توَّاقة ، فالمؤمن طموح لأعلى درجة ، ولكن طموح المؤمن لا ينتهي عند الدنيا ، بل ينتهي إلى الآخرة ، فالدنيا مَطِيَّة، والحياة جميلة ، لكن لمَن عرف الله ، يقول أحد العارفين بالله تعالى : مساكين أهل الدنيا ، جاؤوا إلى الدنيا ، وغادروها ، ولم يعرفوا أجْمل ما فيها ! يقول أحد العارفين بالله : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري إن حبسوني فحَبسي خَلوَة ، وإن أبعدوني فإبعادي سِياحة ، وإن قتلوني فقتْلي شهادة ، فماذا يصْنعُ أعدائي ؟!! وهذه دعوة لطيفة من الله عز وجل ، قال تعالى :
[ سورة النحل ]
أنت بِمَعرفة الله تجعل حياتك ذات معنى ، لذلك حياة العظماء عظيمة جدًّا ، هل تصدِّقون أنَّ الله سبحانه وتعالى أقْسمَ بماذا ؟ بِعُمُر النبي ! قال تعالى :
[ سورة النحل ]
خالق الكون يُقْسمُ بِعُمُر النبي ، فالعُمْر قد يكون قصيرًا جدًّا ، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاء الدنيا ، وعاش فيها ثلاث وستِّين سنة ، قلبَ وجْه الأرض ، وعمَّت الفضيلة في القارَّات الخمْس ، سمعتُ البارحة عشرة ملايين مسلم في أمريكا ، الآن بفرنسا الدِّين الثاني هو الإسلام ، فأيّ طالب في التعليم من حقِّه أستاذ دِيانة إسلامي ! فالنبي خلال ثلاث وستِّين سنة عمَّ الهدى الأرض ، والإسلام في توسّع ، لذلك الإنسان إذا أراد أن يتْرك شيئًا في الحياة الله عز وجل يعينه على ذلك ، ويكرمه ، فما علينا إلا أن نتحرَّك ، والله معنا والعوام يقولون كلمة أحبّها : عبْدي قُم أقمْ معك ! أنت تحرَّك ؛ اُتْرك عملاً صالحًا ، وأثرًا ، اُدْعُ إلى الله ، دُلَّ الناس على الله ، أتْقِن عملك ، وانْصح المسلمين ، أما الإنسان الذي لا عمل له ، فلا شيء له عند الله تعالى ، فحجْم الإنسان عند الله بِحَجم عمله الصالح .







رد مع اقتباس
قديم 28-04-2009, 06:15 PM رقم المشاركة : 35
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

أبيّ بن كعب - ليهنك العلم، أبا المنذر


سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:

" يا أبا المنذر..؟

أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟

فأجاب قائلا:

الله ورسوله أعلم..

وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:
أبا المنذر..؟؟

أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟

وأجاب أبيّ:

الله لا اله الا هو الحيّ القيّوم..

فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده، وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:

ليهنك العلم أبا المنذر"...


**


ان أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..

هو أنصاري من الخزرج، شهد العقبة، وبدرا، وبقية المشاهد..

وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، ومكانا عاليا، حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:

" أبيّ سيّد المسلمين"..

وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي، ويكتبون الرسائل..

وكان في حفظه القرآن الكريم، وترتيله اياه، وفهمه آياته،من المتفوقين..

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:

" يا أبيّ بن كعب..

اني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..

وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يتلقى أوامره من الوحي..

هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:

" يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك بأسمي"..؟؟

فأجاب الرسزل:

" نعم..

باسمك، ونسبك، في الملأ الأعلى"..!!

وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..

وطوال سنوات الصحبة، وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..

وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته، وفي قوة دينه، وخلقه..

وكان دائما نذيرا في قومه..

يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماكانوا عليه من عهد، وسلوك وزهد..

ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:

" لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..

فلما فارقنا، اختلفت جوهنا يمينا وشمالا"..


**


ولقد ظل مستمسكا بالتقوى، معتصما بالزهد، فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..

ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..

فمهما يعيش المرء، ومهما يتقلب في المناعم والطيبات، فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء، ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير، أو ما عمل من سوء..

وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:

" ان طعام ني آدم، قد ضرب للدنيا مثلا..

فان ملّحه، وقذحه، فانظر الى ماذا يصير"..؟؟


**


وكان أبيّ اذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق واصغاء..

ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..

وحين اتسعت بلاد الاسلام، ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق، وقف يرسل كلماته المنذرة:

" هلكوا ورب الكعبة..

هلكوا وأهلكوا..

أما اني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".


**


وكان على كثرة ورعه وتقاه، يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.

وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها، أ، يسنعها، تهه وتهز كل كيانه..

وعلىأن آية من تلك الآيات الكريمة، كان اذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..

تلك هي:

( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..

كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمو أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..

وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..

ولقي ربه مؤمنا، وآمنا ومثابا..







رد مع اقتباس
قديم 28-04-2009, 07:00 PM رقم المشاركة : 36
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي





تابــــــع أبي بن كعب



هو أُبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي، له كنيتان: أبو المنذر؛ كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو الطفيل؛ كناه بها عمر بن الخطاب بابنه الطفيل، وأمه صهيلة بنت النجار وهي عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان أُبيّ رضي الله عنه أبيض الرأس واللحية لا يخضب.
إسلامه:
كان رضي الله عنه ممن أسلم مبكرًا، وقد شهد بيعة العقبة الثانية، وبعد الهجرة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.

أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال ما هؤلاء فقيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصابوا ونعم ما صنعوا"، وكانت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة الدافع الذي جعل أُبي رضي الله عنه أحد المجتهدين وأحد علماء الصحابة وقرّائهم، ومع اجتهاده إلا أنه كان دائما يستأذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على بلى وعذرة وجميع بني سعد بن هديم من قضاعة قال: فصدقتهم حتى مررت برجل منهم وكان منزله وبلده من أقرب منازلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قال: فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض قال: فقلت له: أد ابنة مخاض فإنها صدقتك فقال: ذاك مالا لبن فيه ولا ظهر وإيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسول له قبلك وما كنت لأقرض الله من مالي مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن خذ هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإما أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبله وإن رد عليك رده قال: فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسول له قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما على فيه ابنة مخاض وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة سمينة ليأخذها فأبى علي وهاهي ذه قد جئتك بها يا رسول الله فخذها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي عليك وإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك، قال: فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.
وكان دائما ما يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما جزاء الحمى قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق قال أبي: اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجا في سبيلك ولا خروجا إلى بيتك ولا مسجد نبيك قال: فلم يمس أبي قط إلا وبه حمى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب في صدره فيفيض عرقًا:
روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلقُ كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
الرسول يعلمه:
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي ولم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام: "ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك" فقال يا رسول الله: إني كنت في الصلاة قال: "أفلم تجد فيما أوحي إلي (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)" قال: بلى ولا أعود إن شاء الله...
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" قلت: بلى قال: "فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت معه فأخذ بيدي فجعل يحدثني حتى بلغ قرب الباب قال فذكرته فقلت: يا رسول الله السورة التي قلت لي، قال "فكيف تقرأ إذا قمت تصلي" فقرأ بفاتحة الكتاب قال: "هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُ بعد"

أهم ملامح شخصيته: عميد قرّاء الصحابة وأحد علمائهم:
الله عز وجل يأمر رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن على أبي بن كعب:
روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ "لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" قَالَ: وَسَمَّانِي قَالَ: "نَعَمْ" فَبَكَى.
فكان رضي الله ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري بسنده عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرأ الأمة فعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وإن لكل أمة أمينا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"
بل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يستقرأوا القرآن عليه ففي البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل قال لا أدري بدأ بأبي أو بمعاذ بن جبل.
وعند الإمام أحمد بسنده عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْفَجْرِ فَتَرَكَ آيَةً فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: "أَفِي الْقَوْمِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ" قَالَ أُبَيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ: نُسِخَتْ آيَةُ كَذَا وَكَذَا أَوْ نُسِّيتَهَا قَالَ: "نُسِّيتُهَا"
ويشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعة علمه:
ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: الله ورسوله أعلم قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر".
قال النووي في شرح مسلم: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لِأُبَيِّ بْن كَعْب لِيَهْنِكَ الْعِلْم أَبَا الْمُنْذِر ) فِيهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِأُبَيٍّ وَدَلِيل عَلَى كَثْرَة عِلْمه. وَفِيهِ تَبْجِيل الْعَالِم فُضَلَاء أَصْحَابه وَتَكْنِيَتهمْ ، وَجَوَاز مَدْح الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَة ، وَلَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ إِعْجَاب وَنَحْوه ; لِكَمَالِ نَفْسه وَرُسُوخه فِي التَّقْوَى.
وقد أخذ عن أُبي قراءة القرآن ابنُ عباس وأبو هريرة وعبدُ الله بن السائب وعبدُ الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي، وحدث عنه سويد بن غفلة وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون...
فقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا له حقه، وأنزلوه المنزلة التي يستحقها وعرفوا له علمه وفضله، وكان يسألونه عما لا يعرفون، روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
ويكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة أبي بن كعب وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان قال: وكان أبي إذا لم يحضر دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فكتب.
وعن زرّ بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال: رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
وكان رضي الله عنه أول من أمّ الناس في صلاة التراويح فعن عبد الرحمن بن عبد القارىء أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.
وعن أبي بن كعب قال: أما أنا فأقرأ القرآن في ثماني ليال.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أتى على هذه الآية "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ" فأتى أبي بن كعب فسأله: أينا لم يظلم؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إنما ذاك الشرك أما سمعت قول لقمان لابنه: "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".
المستدرك...الحاكم
إلى بيته يُؤتى الحكم:
عن ابن سيرين قال: اختصم عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء فحكما أبي بن كعب فأتياه فقال عمر بن الخطاب إلى بيته يؤتى الحكم فقضى على عمر باليمين فحلف ثم وهبها له معاذ.
جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت له:إني وضعت بعد وفاة زوجي قبل انقضاء العدة فقال عمر: أنت لآخر الأجلين، فمرت بأبي بن كعب فقال لها: من أين جئت؟ فذكرت له وأخبرته بما قال عمر فقال: اذهبي إلى عمر وقولي له إن أبي بن كعب يقول قد حللت فإن التمستيني فإني ها هنا فذهبت إلى عمر فأخبرته فقال: ادعيه فجاءته فوجدته يصلي فلم يعجل عن صلاته حتى فرغ منها ثم انصرف معها إليه فقال له عمر: ما تقول هذه؟ فقال أبي: أنا قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم"وأولات الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن" فالحامل المتوفى عنها زوجها أن تضع حملها فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم نعم فقال عمر للمرأة: اسمعي ما تسمعين.
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازنا. المستدرك للحاكم


بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم: روى البخاري بسنده عن سويد بن غفلة قال لقيت أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: أخذت صرة مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثا فقال احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت فلقيته بعد بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا.
الرسول وأُبي وابن صياد:
في البخاري بسنده أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبي بن كعب قبل ابن صياد فحدث به في نخل فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وابن صياد في قطيفة له فيها رمرمة فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا صاف هذا محمد فوثب ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو تركته بَيَّنَ"
ويصاب يوم الأحزاب فيعالجه النبي صلى الله عليه وسلم:
في صحيح مسلم بسنده و حدثني بشر بن خالد حدثنا محمد يعني ابن جعفر عن شعبة قال سمعت سليمان قال سمعت أبا سفيان قال سمعت جابر بن عبد الله قال رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله - هو عرق في وسط الذراع - فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن جابر بن عبد الله قال جاء أبي بن كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كان مني الليلة شيء في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك قال: فصليت بهن ثماني ركعات ثم أوترت قال:
فكان شبه الرضا ولم يقل شيئا. صحيح ابن حبان
وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله يا أيها الناس اذكروا الله يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه فقال أبي بن كعب: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك منها؟ قال ما شئت قال: الربع قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال: النصف قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال: الثلثين قال: ما شئت وإن زدت فهو خير قال: يا رسول الله أجعلها كلها لك قال: إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك. قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.


بعض المواقف من حياته مع الصحابة: مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا قال: فخرجنا فكنت أنا و أبي بن كعب في مؤخرة الناس فهاجت سحابة فقال أبي: اللهم اصرف عنا أذاها، فلحقناهم وقد ابتلت رجالهم فقال عمر: ما أصابكم الذي أصابنا؟ قلت: إن أبا المنذر دعا الله أن يصرف عنا أذاها فقال عمر: ألا دعوتم لنا معكم؟
وعن ابن عباس قال: كان للعباس دار إلى جنب المسجد وفي المسجد ضيق فأراد عمر أن يدخلها في المسجد فأبى فقال: اجعل بيني وبينك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا بينهما أبي بن كعب فقضى للعباس على عمر فقال عمر: ما أحد من أصحاب محمد أجرأ علي منك فقال أبي: أو أنصح لك مني قال: يا أمير المؤمنين أما بلغك حديث داود أن الله عز وجل أمره ببناء بيت المقدس فأدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها فلما بلغ حجز الرجال منعه الله بناءه قال داود: يا رب منعتني بناءه فاجعله في عقبي فقال العباس: أليس قد صارت لي وقضى لها بها؟ قال: فإني أشهدك أني قد جعلتها لله عز وجل.
وعن ابن سيرين قال: تسلف أبي بن كعب من عمر بن الخطاب مالا قال: أحسبه عشرة آلاف ثم إن أبيا أهدى له بعد ذلك من تمرته وكانت تبكر وكان من أطيب أهل المدينة تمرة فردها عليه عمر فقال أبي: ابعث بمالك فلا حاجة لي في شيء منعك طيب تمرتي، فقبلها، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسىء.
مع أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف فقال أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع قال أبي وما ذاك قال استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا فقال أبي بن كعب فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا
مع أبي ذر:
في سنن ابن ماجة بسنده عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الآن فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أبي".
مع سعد بن الربيع:
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه؟ فقال أبي بن كعب: أنا وذكر الخبر وفيه: أقرأ على قومي السلام وقل لهم: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فوالله مالكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، وقال أبي: فلم أبرح حتى مات فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا.
مع جندب بن عبد الله البجلي:
وعن جندب قال: أتيت المدينة لأتعلم العلم فلما دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الناس فيه حلق يتحدثون قال: فجعلت أمضي حتى انتهيت إلى حلقة فيها رجل شاحب عليه ثوبان كأنما قدم من سفر فسمعته يقول: هلك أصحاب العقد ورب الكعبة ولا آسي عليهم يقولها ثلاثا هلك أصحاب العقد ورب الكعبة هلك أصحاب العقد ورب الكعبة هلك أصحاب العقد ورب الكعبة قال: فجلست إليه فتحدث ما قضي له ثم قام فسألت عنه فقالوا: هذا سيد الناس أبي بن كعب قال: فتبعته حتى أتى منزله فإذا هو رث المنزل رث الكسوة رث الهيئة يشبه أمره بعضه بعضا، فسلمت عليه فرد علي السلام قال: ثم سألني: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق قال: أكثر شيء سؤلا وغضب قال: فاستقبلت القبلة ثم جثوت على ركبتي ورفعت يدي هكذا ومد ذراعيه فقلت: اللهم إنا نشكوهم إليك، إنا ننفق نفقاتنا وننصب أبداننا ونرحل مطايانا ابتغاء العلم فإذا لقيناهم تجهموا لنا وقالوا لنا قال: فبكى أبي وجعل يترضاني ويقول: ويحك أني لم أذهب هناك ثم قال أبي: أعاهدك لأن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلمن بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخاف فيه لومة لائم قال: ثم انصرفت عنه وجعلت أنتظر يوم الجمعة فلما كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا الطرق مملوءة من الناس لا آخذ في سكة إلا استقبلني الناس، قال، فقلت ما شأن الناس؟ قالوا: إنا نحسبك غريبا قال: قلت أجل قالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب قال: فلقيت أبا موسى بالعراق فحدثته فقال: هلا كان يبقى حتى تبلغنا مقالته؟ قال في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
موقفه مع الجني:
عن أبي بن كعب: أنه كان له جرن فيه تمر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بداية شبه الغلام المحتلم قال: فسلمت فرد السلام فقلت: ما أنت جني أم إنسي؟ قال: جني قلت: ناولني يدك فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشد مني قلت ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم؟ قال هذه الآية آية الكرسي التي في سورة البقرة من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي - فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "صدق الخبيث" فتح القدير للشوكاني



أثره في الآخرين: روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
وكان رضي الله ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري بسنده عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
وقد أخذ عن أُبي قراءة القرآن ابنُ عباس وأبو هريرة وعبدُ الله بن السائب وعبدُ الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي، وحدث عنه سويد بن غفلة وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون...
وعن زرّ بن حبيش قال:سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال: رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
وعن أسلم المنقري قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يحدث عن أبيه قال: لما وقع الناس في أمر عثمان رضي الله عنه قلت لأبي بن كعب: أبا المنذر ما المخرج من هذا الأمر؟ قال: كتاب الله وسنة نبيه ما استبان لكم فاعملوا به وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه.

بعض ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود عن عن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح فقال " أشاهد فلان؟ " قالوا لا قال " أشاهد فلان؟ " قالوا لا قال " إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على الركب وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل وحسّنه الألباني
وعنه رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم أحدا من الناس ممن يصلي القبلة من أهل المدينة أبعد منزلا من المسجد من ذلك الرجل وكان لا تخطئه صلاة في المسجد فقلت لو اشتريت حمارا تركبه في الرمضاء والظلمة فقال ما أحب أن منزلي إلى جنب المسجد فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن قوله ذلك فقال أردت يا رسول الله أن يكتب لي إقبالي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي إذا رجعت فقال " أعطاك الله ذلك كله أعطاك الله جل وعز ما احتسبت كله أجمع. قال الألباني: صحيح
عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال "سبحان الملك القدوس" قال الألباني: صحيح
بعض كلماته:
من أقواله رضي الله عنه: تعلموا العربية كما تعلمون حفظ القرآن.
وقوله: لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن قوله تعالى: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقوله رضي الله عنه: الشهداء في قباب من رياض بفناء الجنة يبعث لهم حوت وثور يعتركان فيلهون بهما فإذا اشتهوا الغداء عقر أحدهما صاحبه فأكلوا من لحمه يجدون في لحمه طعم كل طعام في الجنة وفي لحم الحوت طعم كل شراب.
وقوله رضي الله عنه: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
وقوله رضي الله عنه: ما ترك عبد شيئا لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به فأخذه من حيث لا ينبغي له إلا أتاه الله بما هو أشد عليه.
وقال رضي الله عنه: إن مطعم ابن آدم ضرب للدنيا مثلا وإن قزحه وملحه فقد علم إلى ما يصير
وعن أبي العالية قال: قال رجل لأبي بن كعب: أوصني قال: اتخذ كتاب الله إماما وأرض به حكما وقاضيا؛ فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.
وفاته رضي الله عنه:
ثبت عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من المسلمين قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا فيها؟ قال: كفارات فقال أبي بن كعب: يا رسول الله وإن قَلّت؟ قال: وإن شوكة فما فوقها، فدعا أبي ألا يفارقه الوعك حتى يموت، وألا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صلاة مكتوبة في جماعة، قال: فما مس إنسان جسده إلا وجد حره حتى مات.
عن جندب قال: أتيت المدينة... خرجت لبعض حاجتي فإذا الطرق مملوءة من الناس لا آخذ في سكة إلا استقبلني الناس، قال، فقلت ما شأن الناس؟ قالوا: إنا نحسبك غريبا قال: قلت أجل قالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب.
وقد اختلف في سنة وفاته رضي الله عنه وأرضاه فقيل توفي في خلافة عمر سنة تسع عشرة وقيل سنة عشرين وقيل سنة اثنتين وعشرين، وقيل إنه مات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، قال في المستدرك: وهذا أثبت الأقاويل لأن عثمان أمره بأن يجمع القرآن.






رد مع اقتباس
قديم 29-04-2009, 12:37 AM رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي



قيل لشريح : بأي شيء أصبت هذا العلم فقال : بمذاكرة العلماء ، آخذ منهم ، وأعطيهم.
وصدقوني ـ أيها الإخوة ـ ما من شيء في الحياة الدنيا أمتع للمؤمن من أن يذاكر المسلمُ أخاه شؤونَ العلم ، فجلسة العلم ، ومذاكرة العلم ، والاستماع للعلم ، والنطق بالعلم شيء يليق بالإنسان المسلم ، قال تعالى:
[سورة المؤمنون]
الحقيقة الكبرى في الكون أنّ أيّة مذاكرة تبعدك عن هذه الحقيقة فهي لهو ، وأيّة مذاكرة تقرِّبك من هذه الحقيقة فهي حق .
أيها الإخوة ليس من عادتي أن أتحدث عن أهل الغرب ، ولكن أعجبتني كلمة قالها زعيم بريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، حيث اجتمع بوزرائه ، وقد أتت الحرب على كل شيء ، لا معمل ، ولا حق ، ولا مال ، ولاشيء ، الحرب المدمرة لا تبقي ولا تذر ، تطحن الناس طحناً ، فسأل هذا الزعيم وزراءه وزيراً وزيراً : كيف الصناعة عندك يا فلان ؟ قال : المعامل كلها مدمرة ، كم في حوزتك من المال يا وزير المالية ؟ قال : لا شيء ، سألهم وزيراً، وكل وزير بحسب اختصاصه أظهر أن البلاد مدمرة عن آخرها ، وصل إلى وزير العدل ، قال : يا فلان كيف العدل عندك ؟ قال : بخير .. قال : كلنا بخير .. نحن بخير إذا أخذ العدل مجراه ، كلمة قالها زعيم بريطاني لوزرائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
الدرس اليوم عن القاضي شريح .. وقد ورد في الأثر : عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة *
[رواه الديلمي عن أبي هريرة]
ومن طريق أبي نعيم بلفظ : عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة *
فلا شيء يرفع الإنسان كالعدل ، وقد يتوهم أحدكم أن العدل للقاضي ، كل واحد منكم قاضٍ ؛ الأب له أولاد فهو قاض بينهم ، النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل ، وتبع هذا الرجل ابنه الصغير ، وضعه على رجله اليمنى وقبله ، ودخلت بنته بعد ذلك وضعها على رجله اليسرى ولم يقبلها ، فقال النبي الكريم : لمَ لم تسوي بينهما ؟ ..
إلى هذا المستوى ، لذلك فالمؤمن عادل ، والدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً إذا اقتضت أن يقيم العدل بين الناس .
والحقيقة الآن نسمع عن هذا القاضي أشياء كأنها خيال .
لقد ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس ، ثم امتطى صهوته ، ومشى به ، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري ، فانثنى به عائداً من حيث انطلق ، وقال للرجل : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : لا آخذه يا أمير المؤمنين ، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر : اجعل بيني وبينك حكماً ، قال الرجل : يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي ، فقال عمر : رضيت به .
احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح ، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب ، وقال : يا أمير المؤمنين هل أخذت الفرس سليماً؟ فقال عمر : نعم ، قال شريح : احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين ، أو ردَّ كما أخذت..
هذا هو الحكم ، فما دمت قد أخذته سليماً ، وأصابه العطب بيدك ، فاحتفظ به أو ردَّه كما أخذته .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً ؟ وغير عمر يحنق عليه .
إنسان في بلد خليجي وجه إلى شخص مسؤول توصية ، فقال له : هذه لا أنفذها لأنها خلاف العدل ، فأزيح من منصبه .
سيدنا عمر نظر إلى شريح معجباً ، وقال : وهل القضاء إلا هكذا ؟! أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك ، هكذا القضاء ؛ قول فصل ، وحكم عدل ، سِرْ إلى الكوفة ، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه ، وأُعجِب بهذه النزاهة ، وبهذه الجرأة .
لم يكن شريح بن الحارث يوم ولاه عمر بن الخطاب القضاء رجلاً مجهول المقام في المجتمع المدني ، أو امرأً مغمور المنزلة بين أهل العلم ، وأصحاب الرأي من جل الصحابة، وكبار التابعين ، فقد كان من أصحاب الفضل وأهل السابقة يقدِّرون لشريح فطنته الحادة ، وذكاءه الفذّ ، وخلقَه الرفيع ، وطول تجربته في الحياة وعمقها ، فهو رجل يَمَنِيُّ الموطن ، كِنْدي العشيرة ، قضى شطراً غير يسير من حياته في الجاهلية ، فلما أشرقت الجزيرة العربية بنور الهداية ، ونفذت أشعة الإسلام إلى أرض اليمن ، كان شريح من أوائل المؤمنين بالله ورسوله ، المستجيبين لدعوة الفضيلة والحق ، وكان عارفوا فضله ، ومقدروا شمائله ومزاياه يأسون عليه أشد الأسى ، ويتمنّون أن لو أتيح له أن يفِدَ على المدينة مبكراً ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى ، ولينهل من موارده الصافية المصفاة مباشرة بلا واسطة ، ولكي يحظى بشرف الصحبة بعد أن حظي بنعمة الإيمان ، وبذلك يجمع الخير من أطرافه ، ولكن ما قدر الله كان .
إذاً ليس شريحٌ صحابياً ، لقد عاش في الجاهلية ، وأسلم حينما جاء النبي بدعوته ، ولكنه لم ينتقل من اليمن إلى المدينة إلا بعد أن توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً هو ليس صحابياً ، ولكنه عاش الجاهلية ، وعاش الإسلام .
سيدنا عمر لم يكن متعجلاً حين عهد إليه بمنصب القضاء ، على الرغم من أن سماء الإسلام كانت يومئذ لا تزال تتألق بالنجوم الزاهرة من صحابة رسول الله ، فقد أثبتت الأيام صدقَ فراسة عمر ، وصوابَ تدبيره .
قضى القاضي شريح بين المسلمين أكثر من ستين عاماً ، ويكاد يكون هذا الاسم من الأسماء المتألقة في سماء القضاء الإسلامي ، القاضي الأول .. لشدة ورعه ، وحرصه على إنفاذ أمر الله ، وتوِّخيه العدالة التامة ، فقد تَعَاقَبَ على إقراره على منصبه كل من عمرَ بن الخطاب وعثمانَ بن عفان ، وعليِّ بن أبي طالب ، ومعاويةَ بن أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، كلُّ هؤلاء الخلفاء أقرُّوه في منصبه .
والحقيقة أحياناً يكون هناك إنسان مخلص جداً ، كفء ، ومخلص ، رغم تبدل الحكومات لا يجرؤ أحد على أن يزحزحه من منصبه ، لأنه بالتعبير الحديث يملأ منصبه ، علماً وإخلاصاً ، وإنتاجاً ، وهناك تعبير عامي يقول لك : لا يصح إلا الصحيح ، فإذا أخلص الإنسان وأتقن ، وكان ملء السمع والبصر ، فهذا الإنسان أقوى من التغييرات ، وسيدنا عمر عيّنه ، ثم أقرَّه سيدنا عثمان ، وتتابع على إقراره سيدنا علي وسيدنا معاوية ، بل إن الخلفاء الذين جاءوا بعد معاوية قد أقروه على منصبه ، حتى إن شريحًا طلب إعفاءه من منصبه في أول ولاية الحجاج .
لقد أقره عمر ، وطلب الإعفاء من منصبه في ولاية الحجاج .
عاش هذا القاضي سبع سنوات بعد المائة الأولى للهجرة حياة مديدة رشيدة ، حافلة بالمفاخر والمآسي ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي]
زرت شخصاً قبل سنوات في أحد الأعياد ، وهو والد صديق لي ، عمره ستة وتسعون عاماً ، قال لي بالحرف الواحد : قبل أيام أجريت تحليلات شاملة ، فلم يكن هناك شيء غير طبيعي ، ثم قال : واللهِ ما أكلت درهماً حراماً ، ولا أعرف الحرام من النساء .
وكنت قد حدَّثتكم عن رجل عاش ستةً وتسعين عاماً ، أمضاها في تعليم النشء العلم الشرعي ، وكان يتمتع بقامة منتصبة ، وبصر حاد ، وسمع مرهف وكانت أسنانه في فمه ، وكان يقول حفظناها في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
سمعت أن أحد شيوخ الأزهر الصالحين عاش مائة وثلاثين عاماً ، وقد التقيت بابنه في أحد المؤتمرات في المغرب ، قال : نعم عاش أبي هذه السنوات ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]
الحقيقة تاريخ القضاء الإسلامي يزدان ببدائع هذا القاضي الجليل ، فمِن قصص هذا القاضي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً عنده كانت أثيرة غالية عليه ..
أمير المؤمنين ، المشكلة هنا مع أمراء ، فالقضية مع أمير المؤمنين ؛ مع سيدنا عمر حكم عليه ، قال له : أبق الفرس بحوزتك ، أو رُدَّها كما أخذتها ، وهذا حكم الله ، قال له : هكذا القضاء ، اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة .
سيدنا علي بن أبي طالب ما لبث إلا أن وجد هذه الدرع في يد رجل من أهل الكتاب يبيعها في سوق الكوفة ، فلما رآها عرفها ، وقال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي : بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين ، فقال علي رضي الله عنه : إنما هي درعي لم أبعها لأحد حتى تصير إليك .
هناك أشخاص يتوهمون أن المؤمن لا بد أنْ يُسقِط حقه .. سامحْه ، هذه بساطة وسذاجة ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
لكن إذا انتصروا :
[سورة الشورى]
فإذا غلب على ظنك أنه بعفوك عن أخيك الظالم تقرِّبه إلى الله ، وتقيله من عثرته ، وتعينه على الشيطان فينبغي أن تعفو عنه ، وعندئذ أجرُك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك يدعوه إلى مزيد من التطاول على الناس ، وأخذ أموالهم ، والاستخفاف بحقوقهم ، فينبغي حينئذٍ ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تنتصر ، وتقتصّ منه .
والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه أسير في بدر ، وقد شكا له بناته المتلهفات له ، ورجاه أن يعفو عنه ، وتوسل إليه ، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام ، وعاد الرجلُ إلى ما كان عليه مِن عداوة النبي ، ومِن قتل أصحابه ، ثم وقع أسيراً في أحد ، فرجاه ثانية ، قال : لا أعفو عنك ، لئلا تقول : خدعت محمداً مرتين .
المؤمن له أظافر أحياناً ، والمؤمن يطالب بحقه ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
أما أهل الدنيا فيريدون للمؤمن أنْ لو أُكِل حقُّه أن يسكت ، يقولون : ألست مؤمنًا ؟ .. وإذا كان مؤمناً .. ‍‍!!
[سورة الشورى]
يجب أن تنتصر مِن الذي بغى عليك ، وإذا غلب على ظنك أنك بعفوك عنه تزيده طغياناً.. فلا تعفُ عنه ، كإنسان يقود المركبة بشكل أرعن ، وسبَّبَ إيذاءً لإنسان .. أخي سامحه ، لا .. إذا سامحه هذا ، وسامحه ذاك ازداد رعونة ، أما إذا حوسب حسابًا عسيرًا فلعل هذا الحساب يردعه .
ولكن أحياناً لا يكون للشخص أيّ تقصير منه في القيادة ، طفل ألقى نفسه أمام المركبة ، وفقير ، أنت إذا عفوت عنه ، وقلت : هذا قضاء ، وقدر ، فقد قرّبته من الله عز وجل ، فأنت المفتي ، أمّا إذا غلب على ظنك أن العفو يقربه من الله ، ويقيل عثرته ، ويعينه على الشيطان، فينبغي والحالة هذه أن تعفو عنه ، وأجرك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك يزيده تطاولاً وجرأة واستخفافاً بحقوق الآخرين فينبغي ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تقتص منه ، وأن تنتقم منه ، والانتقام بالمعنى الدقيق أنْ توقف الظالم عند حده ، هذا هو الانتقام ، فقدْ يفهم الناسُ من الانتقام فهماً آخر ، على أنه عملية حقد ، لا .. قال تعالى :
[سورة الزخرف]
[سورة الأعراف الآية 180]
فانتقمنا منهم ..
أي أوقفناهم عند حدهم ، وردعناهم ، هذا معنى الانتقام .
فلما رآه قال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي: بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين .
فقال علي : إنما هي درعي ، لم أبِعْها من أحَد ، ولم أهبها لأحد حتى تصير لك.
فقال الذمي : بيني وبينك قاضي المسلمين .
فقال علي : أنصفت ، فَهَلُمَّ إليه .
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي ، فلما صارا عنده في مجلس القضاء ، قال شريح لعلي رضي الله عنه : ما تقول يا أمير المؤمنين .
قال : لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل ، وقد سقطتْ مني في ليلة كذا ، وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه لا ببيعٍ ولا بهبة .
قال شريح للذمي : وما تقول أنت أيها الرجل ؟.
فقال : الدرع درعي ، وهي في يدي .
كونها في يدي معناها درعي ، ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب ، لكنها درعي .
فالتفت شريح إلى عليّ كرم الله وجهه ، وقال : لا ريب عندي بأنك صادق يا أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين ، صحابي جليل ، باب مدينة العلم ، ابن عم رسول الله ليس معقول ، من سابع المستحيلات أن يكذب ، ومع ذلك قال له شريح : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ، وأنّ الدرع درعك ، ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادّعيت ، فقال علي : نعم مولاي قنبر ، وولدي الحسن يشهدان لي .
فقال شريح : ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين .
فقال علي : يا سبحان الله ، رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ *
[أخرجه الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

قال شريك :بلى يا أمير المؤمنين ، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .
عند ذلك التفتَ عليٌّ إلى الذميِّ ، وقال : خذها فليس عندي شاهد غيرهما.
فقال الذمي : ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين ، ثم أردف قائلاً : أمير المؤمنين، يقاضيني أمام قاضيه ، وقاضيه يقضي لي عليه ، أشهد أن هذا الدين الذي يأمر بهذا لحقٌّ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأسلم .
شيء لا يُصدق ، أمير المؤمنين ، والدرع درعه ، والقاضي من جماعته ، ويشدد هذا القاضي في الإجراءات التامة لتأخذ العدالة مجراها ، وقال هذا الذمي : اعلمْ أيها القاضي أن الدرعَ درعُ أمير المؤمنين ، وأني اتبعتُ الجيشَ ، وهو مُتَّجهٌ إلى صفين ، فسقطتْ الدرعُ عن جمله الأورق فأخذتها .
فقال له علي رضي الله عنه : أما وأنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك ، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً .
حدثني أخ كريم عنده معمل ، فقال لي : في كل يوم يجد نقصًا شديدًا في البضاعة ، ونقصًا في المال ، قال : فرَّغتُ إنسانًا حتى يراقب ، ولم نعثر على إنسان نتهمه بهذا ، فكان الذي يسرق على مستوى عالٍ جداً من الحنكة ، يضع في جيبه بضع مئات يفتقدها ظهراً ، يحسب البضاعة صباحاً فتنقص مساءً ، فرّغ إنسانا كلياً ليراقب فلم يعثر على شيء .
قال لي : بعد عشر سنوات طرق بابي شاب ، وقال : واللهِ لم أعرفه ، فلما دخل عليَّ قال: أنا فلان الفلاني ، كنت أعمل عندك في هذا المعمل ، وكنت آخذ من مالك ، ومن بضاعتك ، وأنت لا تدري ، ولكني تبت إلى الله ، وها أنا ذا عائد إليك كي أدفع لك ما عليّ من ذمم .
صاحب المعمل هو أخ من إخواننا ، قال له : هذا الذي عليك اتجاهي من بضاعة ومال وهبتُه لك نظير توبتك وإنابتك إلى الله ، وهبته لك ، ولن أسأل عنه بعد اليوم ، وكُلْهُ هنيئاً مريئاً ، وإذا أردتَ أن تعود إلى المعمل فمكانك محفوظ .
أنت كمسلم إذا ضلَّ الشخصُ ثم اهتدى ألا تفرح ؟ ألا تحسّ أن قلبك امتلأ فرحًا ؟ ألا تكافئ هذا الإنسان مقابل إسلامه بشيء من العطاء .
أيها الإخوة ، إنّ الإنسان إذا لم يفرح بأخيه عندما يسلم ، أو عندما يصطلح مع الله لا يكون عنده إيمان ، ومن علامات الإيمان أنَّ خبرَ اصطلاحِ إنسانٍ مع الله وتوبته له لا يُقدر بثمن .
لم يمض على هذا الحادث زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية علي بن أبي طالب يوم النهروان ، ويمعن في القتال حتى كُتبت له الشهادة .
هذا القاضي أيضا قال له ابنه يوماً : يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة ، فانظر فيها ، فإنْ كان الحقُّ لي قاضيتُهم ، وإنْ كان لهم صالحتُهم سلفاً .
أراد ابن شريح أن يعرِض على والده قضيةً بين ابنه وبين أشخاص في خصومة ، ثم قصّ عليه قصّته .. قال انطلق فقاضِهم .
ما معنى ذلك ؟ الحق لابنه .
فمضى إلى خصومه ، ودعاهم إلى المقاضاة ، فاستجابوا له ، فلمّا مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده ، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الابن لأبيه : فضحتني يا أبت ، واللهِ لو لم أستشرك من قبل لمّا لُمْتُك .
أنا استشرتك ، إذا كان الحقُّ عليَّ صالحتُهم ، وإذا كان الحق معي أقاضيهم فقال شريح : يا بني ، والله لأنتَ أحبُّ إلي من ملء الأرض من أمثالهم ، ولكن الله عز وجل أعزُّ عليَّ منك.
أخبرك بأن الحقلهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم ، فقلت لك ما قلت .
الدنيا بخير ، أعرف رجلاً توفي رحمه الله ، كان يعمل في منصب حساس في التربية والتعليم ، ابنه في إحدى الشهادات لم ينجح في بعض المواد ، هذه الورقة عُرضت على أربع لجان ، وأغلق الاسم ، التصحيح فيه خطأ ، فقال : واللهِ لا أنجِّحُه ، لأنه لم يُتحْ لكل الطلاب المظلومين هذه الفرصة ، وأبقاه .
فالعدالة المطلقة شيء لا يُقدر بثمن .
سمعت عن قاضٍ رُفعت إليه قضية ، طبعاً أحد المُدَّعى عليه موقوف ، قدّم المحامي أول مذكرة لإطلاق سراحه ، فلم يُستَجَبْ له ، وثاني مذكرة لم يستجب ، والثالثة لم يستجب ، والرابعة لم يستجب ، والخامسة لم يستجب .
فالموكلون عزلوا المحامي ، وكَّلوا محاميًا آخر ، القاضي بعيداً عن هذا الذي جرى بدا له أن يطلق سراح هذا المتهم ، فإذا أطلق سراح هذا المتهم بطلب أول من المحامي الجديد ، ماذا يُفهم ؟ أن ذاك المحامي فشل ، وأن هذا متألق .
استدعى الموكلين ، قال : أبلغوا المحامي السابق أن يقدم طلب الإفراج ولن أستجيب إلا له، للأول ، كي يحفظ له كرامته .
الإنسان كلما ارتقى يتقصى العدالة .
قال : خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت .
مرة كفل ولدُ شريحٍ رجلاً ، فقبِل شريحٌ كفالَته ، فما كان من الرجل إلا أنْ فرَّ هارباً من القضاء ، فسجن شريحٌ ابنَه بالرجل الفارِّ .
الكفيل مسؤول ، وكان شريح ينقل إليه طعامه بيده كل يوم إلى السجن ، لقد أمر بسجنه وصار يقدم له الطعام كلَّ يوم بنفسه .
أحياناً كانت الشكوكُ تساورُ شريحاً في بعض الشهود ، مثلاً : قضية يأتي الشاهد ليحلف اليمينَ أنه رأى بعينه هذا الحادث ، اسمعوا هذا الحوار الدقيق بين شريح والشهود .
شريح يشعر أن الشاهد كذابٌ ، ولكنه مستعد أن يحلف يميناً ، ولا يوجد دليل قطعي على أنه مجروح العدالة .
يقول الشهود : اسمعوا مني هداكم الله ، إنما يقضي على الرجل أنتم ، وإني لأتقي النار بكم ، أنتم مسؤولون ، وأنتم باتقائها أولى ، وإنّ في وسعكم الآن أنْ تدعوا الشهادة وتنصرفوا، إذا كنتم شاكين أعفيتُكُم من الشهادة فانصرفوا.
قال : فإذا أصروا على الشهادة التفتَ إلى الذين يشهدون له ، وقال : اعلم يا هذا أنني أقضي لك بشهادتهم ، وإني لأرى أنك ظالم ، ولكني لست أقضي بالظن ، إنما أقضي بشهادة الشهود ، وإن قضائي لا يحلُّ لك شيئاً حرّمه الله عليك .
ومن باب أولى ، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق ، وحبيبُ الحقّ لو أن إنساناً أدلى إليه بحجة مقنعة ، بلسان طليق ، وبيان ساطع ، فَحَكَمَ النبيُّ له ، فهل ينجو هذا الذي حُكِمَ له من عذاب الله ؟ لا ينجو .
عندنا قاعدة فقهية أساسية ، إنّ حكم القاضي لا يجعل الحق باطلاً ، ولا الباطل حقاً ، حكمُ القاضي لا يغيِّر شيئاً أبداً ، فإذا معك حكم القاضي فهذا الحكم لا ينجيك يوم القيامة .
كان هذا القاضي يقول : غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ .
إذا كان الشريكان أحدهما ظالم ، والثاني مظلوم ، وتفاككوا المستقبل مع المظلوم الله يوفق المظلوم ، ويخذل الظالم .
إذا افترق الزوجان ، ولم نعرف مَن الظالم ، الزوج أم الزوجة ؟ الظالم في الأغلب الأعم لا يُوفَّق في زواجه القادم ، والذي يُوفق في زواجه الثاني المظلوم دائماً .
غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ (العدل) ، وإني أحلف بالله عز وجل أنه ما من أحد ترك شيئاً لله عز وجل ثمَّ أحس بفقده .
روي أن أحدهم قال : سمعني شريح ، وأنا أشتكي بعض ما أغمّني من صديق ، فأخذني من يدي ، وانتحى بي جانباً ، وقال : يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل ، فإن مَن تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً ، فإن كان صديقاً أحزنته ، وإن كان عدواً شَمَتَ بك .
ثم قال : انظر إلى عيني هذه ، وأشار إلى إحدى عينيه ، فوالله ما أبصرتُ بها شخصاً ، ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة ، ولكنني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة ، أما سمعت قول العبد الصالح :
[سورة يوسف]
يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .
إنّ المؤمن كلما ارتقى إيمانه لا يبثّ شكواه إلى أحد إلاّ الله ، علمُك بحالي يغني عن سؤالي ..
هناك إنسان نقاق ، كلما جلس يشكو ، يشكو ما في سوق ، ويشكو بيته ، وأولاده ، فتملّ منه ، كيفما جلس يشكو ، لكن المؤمن :
فاجعل الله عز وجل موضع شكواكَ ، وموضع حزنك عند كل نائبة تنوبك ، فإنه أكرم مسؤول، وأقرب مدعو .
رأى ذات يوم إنسانًا يسأل آخر شيئاً ، فقال له : يا ابن أخي - دققوا في هذا الكلام - من سأل إنساناً حاجة فقد عرّض نفسَه على الرق ..

وقد قيل : احتجْ إلى الرجل تكن أسيره ، استغن عنه تكن نظريه ، أحسن إليه تكن أميره .
كائناً من كان ، فقد تكون أنت إنسانًا عاديًّا مكتفِيًا ، لكن حينما تستغن عن الناس فأنت نظيرهم، أنت والمليونير سواء ، أنت وأقوى شخص سواء إذا استغنيت عنه ، أما إذا سألته ، وتضعضعت أمامه فأنت أسيره ، أما إذا أكرمته فأنت أميره .

قال له : يا ابن أخي من سأل إنساناً حاجة فقد عرَّض نفسه على الرق ، فإنْ قضاها له المسؤول فقد استعبده بها ، وإنْ ردّه عنها رجع كلاهما ذليلاً ، هذا بذلَ البخلَ ، وذاك بذلَ الردَّ، فالبخيل ذليل ، والذي يسأل ذليل .

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ *
[رواه الترمذي وأحمد]

وقع في الكوفة طاعون ، فخرج صديقٌ لشريح منها إلى النجف ، يبتغي المهرب من الوباء، فكتب شريح إليه : أما بعد ؛ فإن الموضع الذي تركته لا يقرب حُمامك ، ولا يسلب منك أيامك ، وإن الموضع الذي سرت إليه في قبضة مَن لا يعجزه طلب ، ولا يفوته هرب ، وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد ، وإن النجف من ذي قدرته لقريب .
الإنسان في قبضة الله .
كان شريح شاعراً ، له شعر قريب المأخذ ، حلو الأداء طريف الموضوعات .
روي عنه أنه كان له صبي في نحو العاشرة من عمره ، وكان الصبي مؤثراً اللهو ، مولعاً باللعب ، فافتقده ذات يوم ، فإذا هو قد ترك الكتاب ، ومضى يتفرج على الكلاب .
فلما عاد إلى المنزل سأله أصليت ؟ قال : لا .
فدعا بقرطاس وقلم وكتب إلى مؤدِّبه (الأستاذ) يقول :
***
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غدوة بصحيفـــة كتبت له كصحيفـــة المتلمس
فإذا أتاك فداوه بملامـــة أو عظه موعظة الأديب الكيـس
و إذا هممت بضربه فبـدرة و إذا بلغت ثلاثــة لك فاحبـس
و اعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما يجرعنــي أعـز الأنفس
***
أيها الإخوة ، هذا غيض من فيض عن التاريخ الذهبي في القضاء الإسلامي ، وكان هذا القاضي شريح قد شغل منصب القضاء ستين عاماً ، ملأ أيام قضائه عدالة وإنصافاً ، ونزاهة، وفخراً ، والإنسانُ ينبغي أن يقتدي بشريح ، ولو لم يكن قاضياً - كما قلت أول الدرس - أنت قاضٍ بين أولادك ، قاضٍ بين موظفيك ، قاضٍ بين أقربائك ، قاضٍ بين ابنك وزوجته ، أو بين ابنتك وزوجها ، أنت قاضٍ دائماً ، فالإنسان المؤمن ينصف ، قال تعالى :
[سورة المائدة الآية 2]
لو كان الطرف الآخر مجوسيًّا ، لو كان كافرًا ، لو كان منافقًا ، لو كان مشركًا ، لو كان فاسقًا ، لو كان عاصيًا ، الزم الحق ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .


قيل لشريح : بأي شيء أصبت هذا العلم فقال : بمذاكرة العلماء ، آخذ منهم ، وأعطيهم.
وصدقوني ـ أيها الإخوة ـ ما من شيء في الحياة الدنيا أمتع للمؤمن من أن يذاكر المسلمُ أخاه شؤونَ العلم ، فجلسة العلم ، ومذاكرة العلم ، والاستماع للعلم ، والنطق بالعلم شيء يليق بالإنسان المسلم ، قال تعالى:
[سورة المؤمنون]
الحقيقة الكبرى في الكون أنّ أيّة مذاكرة تبعدك عن هذه الحقيقة فهي لهو ، وأيّة مذاكرة تقرِّبك من هذه الحقيقة فهي حق .
أيها الإخوة ليس من عادتي أن أتحدث عن أهل الغرب ، ولكن أعجبتني كلمة قالها زعيم بريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، حيث اجتمع بوزرائه ، وقد أتت الحرب على كل شيء ، لا معمل ، ولا حق ، ولا مال ، ولاشيء ، الحرب المدمرة لا تبقي ولا تذر ، تطحن الناس طحناً ، فسأل هذا الزعيم وزراءه وزيراً وزيراً : كيف الصناعة عندك يا فلان ؟ قال : المعامل كلها مدمرة ، كم في حوزتك من المال يا وزير المالية ؟ قال : لا شيء ، سألهم وزيراً، وكل وزير بحسب اختصاصه أظهر أن البلاد مدمرة عن آخرها ، وصل إلى وزير العدل ، قال : يا فلان كيف العدل عندك ؟ قال : بخير .. قال : كلنا بخير .. نحن بخير إذا أخذ العدل مجراه ، كلمة قالها زعيم بريطاني لوزرائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
الدرس اليوم عن القاضي شريح .. وقد ورد في الأثر : عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة *
[رواه الديلمي عن أبي هريرة]
ومن طريق أبي نعيم بلفظ : عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة *
فلا شيء يرفع الإنسان كالعدل ، وقد يتوهم أحدكم أن العدل للقاضي ، كل واحد منكم قاضٍ ؛ الأب له أولاد فهو قاض بينهم ، النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل ، وتبع هذا الرجل ابنه الصغير ، وضعه على رجله اليمنى وقبله ، ودخلت بنته بعد ذلك وضعها على رجله اليسرى ولم يقبلها ، فقال النبي الكريم : لمَ لم تسوي بينهما ؟ ..
إلى هذا المستوى ، لذلك فالمؤمن عادل ، والدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً إذا اقتضت أن يقيم العدل بين الناس .
والحقيقة الآن نسمع عن هذا القاضي أشياء كأنها خيال .
لقد ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس ، ثم امتطى صهوته ، ومشى به ، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري ، فانثنى به عائداً من حيث انطلق ، وقال للرجل : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : لا آخذه يا أمير المؤمنين ، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر : اجعل بيني وبينك حكماً ، قال الرجل : يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي ، فقال عمر : رضيت به .
احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح ، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب ، وقال : يا أمير المؤمنين هل أخذت الفرس سليماً؟ فقال عمر : نعم ، قال شريح : احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين ، أو ردَّ كما أخذت..
هذا هو الحكم ، فما دمت قد أخذته سليماً ، وأصابه العطب بيدك ، فاحتفظ به أو ردَّه كما أخذته .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً ؟ وغير عمر يحنق عليه .
إنسان في بلد خليجي وجه إلى شخص مسؤول توصية ، فقال له : هذه لا أنفذها لأنها خلاف العدل ، فأزيح من منصبه .
سيدنا عمر نظر إلى شريح معجباً ، وقال : وهل القضاء إلا هكذا ؟! أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك ، هكذا القضاء ؛ قول فصل ، وحكم عدل ، سِرْ إلى الكوفة ، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه ، وأُعجِب بهذه النزاهة ، وبهذه الجرأة .
لم يكن شريح بن الحارث يوم ولاه عمر بن الخطاب القضاء رجلاً مجهول المقام في المجتمع المدني ، أو امرأً مغمور المنزلة بين أهل العلم ، وأصحاب الرأي من جل الصحابة، وكبار التابعين ، فقد كان من أصحاب الفضل وأهل السابقة يقدِّرون لشريح فطنته الحادة ، وذكاءه الفذّ ، وخلقَه الرفيع ، وطول تجربته في الحياة وعمقها ، فهو رجل يَمَنِيُّ الموطن ، كِنْدي العشيرة ، قضى شطراً غير يسير من حياته في الجاهلية ، فلما أشرقت الجزيرة العربية بنور الهداية ، ونفذت أشعة الإسلام إلى أرض اليمن ، كان شريح من أوائل المؤمنين بالله ورسوله ، المستجيبين لدعوة الفضيلة والحق ، وكان عارفوا فضله ، ومقدروا شمائله ومزاياه يأسون عليه أشد الأسى ، ويتمنّون أن لو أتيح له أن يفِدَ على المدينة مبكراً ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى ، ولينهل من موارده الصافية المصفاة مباشرة بلا واسطة ، ولكي يحظى بشرف الصحبة بعد أن حظي بنعمة الإيمان ، وبذلك يجمع الخير من أطرافه ، ولكن ما قدر الله كان .
إذاً ليس شريحٌ صحابياً ، لقد عاش في الجاهلية ، وأسلم حينما جاء النبي بدعوته ، ولكنه لم ينتقل من اليمن إلى المدينة إلا بعد أن توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً هو ليس صحابياً ، ولكنه عاش الجاهلية ، وعاش الإسلام .
سيدنا عمر لم يكن متعجلاً حين عهد إليه بمنصب القضاء ، على الرغم من أن سماء الإسلام كانت يومئذ لا تزال تتألق بالنجوم الزاهرة من صحابة رسول الله ، فقد أثبتت الأيام صدقَ فراسة عمر ، وصوابَ تدبيره .
قضى القاضي شريح بين المسلمين أكثر من ستين عاماً ، ويكاد يكون هذا الاسم من الأسماء المتألقة في سماء القضاء الإسلامي ، القاضي الأول .. لشدة ورعه ، وحرصه على إنفاذ أمر الله ، وتوِّخيه العدالة التامة ، فقد تَعَاقَبَ على إقراره على منصبه كل من عمرَ بن الخطاب وعثمانَ بن عفان ، وعليِّ بن أبي طالب ، ومعاويةَ بن أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، كلُّ هؤلاء الخلفاء أقرُّوه في منصبه .
والحقيقة أحياناً يكون هناك إنسان مخلص جداً ، كفء ، ومخلص ، رغم تبدل الحكومات لا يجرؤ أحد على أن يزحزحه من منصبه ، لأنه بالتعبير الحديث يملأ منصبه ، علماً وإخلاصاً ، وإنتاجاً ، وهناك تعبير عامي يقول لك : لا يصح إلا الصحيح ، فإذا أخلص الإنسان وأتقن ، وكان ملء السمع والبصر ، فهذا الإنسان أقوى من التغييرات ، وسيدنا عمر عيّنه ، ثم أقرَّه سيدنا عثمان ، وتتابع على إقراره سيدنا علي وسيدنا معاوية ، بل إن الخلفاء الذين جاءوا بعد معاوية قد أقروه على منصبه ، حتى إن شريحًا طلب إعفاءه من منصبه في أول ولاية الحجاج .
لقد أقره عمر ، وطلب الإعفاء من منصبه في ولاية الحجاج .
عاش هذا القاضي سبع سنوات بعد المائة الأولى للهجرة حياة مديدة رشيدة ، حافلة بالمفاخر والمآسي ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي]
زرت شخصاً قبل سنوات في أحد الأعياد ، وهو والد صديق لي ، عمره ستة وتسعون عاماً ، قال لي بالحرف الواحد : قبل أيام أجريت تحليلات شاملة ، فلم يكن هناك شيء غير طبيعي ، ثم قال : واللهِ ما أكلت درهماً حراماً ، ولا أعرف الحرام من النساء .
وكنت قد حدَّثتكم عن رجل عاش ستةً وتسعين عاماً ، أمضاها في تعليم النشء العلم الشرعي ، وكان يتمتع بقامة منتصبة ، وبصر حاد ، وسمع مرهف وكانت أسنانه في فمه ، وكان يقول حفظناها في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
سمعت أن أحد شيوخ الأزهر الصالحين عاش مائة وثلاثين عاماً ، وقد التقيت بابنه في أحد المؤتمرات في المغرب ، قال : نعم عاش أبي هذه السنوات ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]
الحقيقة تاريخ القضاء الإسلامي يزدان ببدائع هذا القاضي الجليل ، فمِن قصص هذا القاضي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً عنده كانت أثيرة غالية عليه ..
أمير المؤمنين ، المشكلة هنا مع أمراء ، فالقضية مع أمير المؤمنين ؛ مع سيدنا عمر حكم عليه ، قال له : أبق الفرس بحوزتك ، أو رُدَّها كما أخذتها ، وهذا حكم الله ، قال له : هكذا القضاء ، اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة .
سيدنا علي بن أبي طالب ما لبث إلا أن وجد هذه الدرع في يد رجل من أهل الكتاب يبيعها في سوق الكوفة ، فلما رآها عرفها ، وقال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي : بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين ، فقال علي رضي الله عنه : إنما هي درعي لم أبعها لأحد حتى تصير إليك .
هناك أشخاص يتوهمون أن المؤمن لا بد أنْ يُسقِط حقه .. سامحْه ، هذه بساطة وسذاجة ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
لكن إذا انتصروا :
[سورة الشورى]
فإذا غلب على ظنك أنه بعفوك عن أخيك الظالم تقرِّبه إلى الله ، وتقيله من عثرته ، وتعينه على الشيطان فينبغي أن تعفو عنه ، وعندئذ أجرُك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك يدعوه إلى مزيد من التطاول على الناس ، وأخذ أموالهم ، والاستخفاف بحقوقهم ، فينبغي حينئذٍ ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تنتصر ، وتقتصّ منه .
والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه أسير في بدر ، وقد شكا له بناته المتلهفات له ، ورجاه أن يعفو عنه ، وتوسل إليه ، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام ، وعاد الرجلُ إلى ما كان عليه مِن عداوة النبي ، ومِن قتل أصحابه ، ثم وقع أسيراً في أحد ، فرجاه ثانية ، قال : لا أعفو عنك ، لئلا تقول : خدعت محمداً مرتين .
المؤمن له أظافر أحياناً ، والمؤمن يطالب بحقه ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
أما أهل الدنيا فيريدون للمؤمن أنْ لو أُكِل حقُّه أن يسكت ، يقولون : ألست مؤمنًا ؟ .. وإذا كان مؤمناً .. ‍‍!!
[سورة الشورى]
يجب أن تنتصر مِن الذي بغى عليك ، وإذا غلب على ظنك أنك بعفوك عنه تزيده طغياناً.. فلا تعفُ عنه ، كإنسان يقود المركبة بشكل أرعن ، وسبَّبَ إيذاءً لإنسان .. أخي سامحه ، لا .. إذا سامحه هذا ، وسامحه ذاك ازداد رعونة ، أما إذا حوسب حسابًا عسيرًا فلعل هذا الحساب يردعه .
ولكن أحياناً لا يكون للشخص أيّ تقصير منه في القيادة ، طفل ألقى نفسه أمام المركبة ، وفقير ، أنت إذا عفوت عنه ، وقلت : هذا قضاء ، وقدر ، فقد قرّبته من الله عز وجل ، فأنت المفتي ، أمّا إذا غلب على ظنك أن العفو يقربه من الله ، ويقيل عثرته ، ويعينه على الشيطان، فينبغي والحالة هذه أن تعفو عنه ، وأجرك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك يزيده تطاولاً وجرأة واستخفافاً بحقوق الآخرين فينبغي ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تقتص منه ، وأن تنتقم منه ، والانتقام بالمعنى الدقيق أنْ توقف الظالم عند حده ، هذا هو الانتقام ، فقدْ يفهم الناسُ من الانتقام فهماً آخر ، على أنه عملية حقد ، لا .. قال تعالى :
[سورة الزخرف]
[سورة الأعراف الآية 180]
فانتقمنا منهم ..
أي أوقفناهم عند حدهم ، وردعناهم ، هذا معنى الانتقام .
فلما رآه قال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي: بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين .
فقال علي : إنما هي درعي ، لم أبِعْها من أحَد ، ولم أهبها لأحد حتى تصير لك.
فقال الذمي : بيني وبينك قاضي المسلمين .
فقال علي : أنصفت ، فَهَلُمَّ إليه .
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي ، فلما صارا عنده في مجلس القضاء ، قال شريح لعلي رضي الله عنه : ما تقول يا أمير المؤمنين .
قال : لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل ، وقد سقطتْ مني في ليلة كذا ، وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه لا ببيعٍ ولا بهبة .
قال شريح للذمي : وما تقول أنت أيها الرجل ؟.
فقال : الدرع درعي ، وهي في يدي .
كونها في يدي معناها درعي ، ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب ، لكنها درعي .
فالتفت شريح إلى عليّ كرم الله وجهه ، وقال : لا ريب عندي بأنك صادق يا أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين ، صحابي جليل ، باب مدينة العلم ، ابن عم رسول الله ليس معقول ، من سابع المستحيلات أن يكذب ، ومع ذلك قال له شريح : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ، وأنّ الدرع درعك ، ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادّعيت ، فقال علي : نعم مولاي قنبر ، وولدي الحسن يشهدان لي .
فقال شريح : ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين .
فقال علي : يا سبحان الله ، رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ *
[أخرجه الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

قال شريك :بلى يا أمير المؤمنين ، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .
عند ذلك التفتَ عليٌّ إلى الذميِّ ، وقال : خذها فليس عندي شاهد غيرهما.
فقال الذمي : ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين ، ثم أردف قائلاً : أمير المؤمنين، يقاضيني أمام قاضيه ، وقاضيه يقضي لي عليه ، أشهد أن هذا الدين الذي يأمر بهذا لحقٌّ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأسلم .
شيء لا يُصدق ، أمير المؤمنين ، والدرع درعه ، والقاضي من جماعته ، ويشدد هذا القاضي في الإجراءات التامة لتأخذ العدالة مجراها ، وقال هذا الذمي : اعلمْ أيها القاضي أن الدرعَ درعُ أمير المؤمنين ، وأني اتبعتُ الجيشَ ، وهو مُتَّجهٌ إلى صفين ، فسقطتْ الدرعُ عن جمله الأورق فأخذتها .
فقال له علي رضي الله عنه : أما وأنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك ، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً .
حدثني أخ كريم عنده معمل ، فقال لي : في كل يوم يجد نقصًا شديدًا في البضاعة ، ونقصًا في المال ، قال : فرَّغتُ إنسانًا حتى يراقب ، ولم نعثر على إنسان نتهمه بهذا ، فكان الذي يسرق على مستوى عالٍ جداً من الحنكة ، يضع في جيبه بضع مئات يفتقدها ظهراً ، يحسب البضاعة صباحاً فتنقص مساءً ، فرّغ إنسانا كلياً ليراقب فلم يعثر على شيء .
قال لي : بعد عشر سنوات طرق بابي شاب ، وقال : واللهِ لم أعرفه ، فلما دخل عليَّ قال: أنا فلان الفلاني ، كنت أعمل عندك في هذا المعمل ، وكنت آخذ من مالك ، ومن بضاعتك ، وأنت لا تدري ، ولكني تبت إلى الله ، وها أنا ذا عائد إليك كي أدفع لك ما عليّ من ذمم .
صاحب المعمل هو أخ من إخواننا ، قال له : هذا الذي عليك اتجاهي من بضاعة ومال وهبتُه لك نظير توبتك وإنابتك إلى الله ، وهبته لك ، ولن أسأل عنه بعد اليوم ، وكُلْهُ هنيئاً مريئاً ، وإذا أردتَ أن تعود إلى المعمل فمكانك محفوظ .
أنت كمسلم إذا ضلَّ الشخصُ ثم اهتدى ألا تفرح ؟ ألا تحسّ أن قلبك امتلأ فرحًا ؟ ألا تكافئ هذا الإنسان مقابل إسلامه بشيء من العطاء .
أيها الإخوة ، إنّ الإنسان إذا لم يفرح بأخيه عندما يسلم ، أو عندما يصطلح مع الله لا يكون عنده إيمان ، ومن علامات الإيمان أنَّ خبرَ اصطلاحِ إنسانٍ مع الله وتوبته له لا يُقدر بثمن .
لم يمض على هذا الحادث زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية علي بن أبي طالب يوم النهروان ، ويمعن في القتال حتى كُتبت له الشهادة .
هذا القاضي أيضا قال له ابنه يوماً : يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة ، فانظر فيها ، فإنْ كان الحقُّ لي قاضيتُهم ، وإنْ كان لهم صالحتُهم سلفاً .
أراد ابن شريح أن يعرِض على والده قضيةً بين ابنه وبين أشخاص في خصومة ، ثم قصّ عليه قصّته .. قال انطلق فقاضِهم .
ما معنى ذلك ؟ الحق لابنه .
فمضى إلى خصومه ، ودعاهم إلى المقاضاة ، فاستجابوا له ، فلمّا مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده ، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الابن لأبيه : فضحتني يا أبت ، واللهِ لو لم أستشرك من قبل لمّا لُمْتُك .
أنا استشرتك ، إذا كان الحقُّ عليَّ صالحتُهم ، وإذا كان الحق معي أقاضيهم فقال شريح : يا بني ، والله لأنتَ أحبُّ إلي من ملء الأرض من أمثالهم ، ولكن الله عز وجل أعزُّ عليَّ منك.
أخبرك بأن الحقلهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم ، فقلت لك ما قلت .
الدنيا بخير ، أعرف رجلاً توفي رحمه الله ، كان يعمل في منصب حساس في التربية والتعليم ، ابنه في إحدى الشهادات لم ينجح في بعض المواد ، هذه الورقة عُرضت على أربع لجان ، وأغلق الاسم ، التصحيح فيه خطأ ، فقال : واللهِ لا أنجِّحُه ، لأنه لم يُتحْ لكل الطلاب المظلومين هذه الفرصة ، وأبقاه .
فالعدالة المطلقة شيء لا يُقدر بثمن .
سمعت عن قاضٍ رُفعت إليه قضية ، طبعاً أحد المُدَّعى عليه موقوف ، قدّم المحامي أول مذكرة لإطلاق سراحه ، فلم يُستَجَبْ له ، وثاني مذكرة لم يستجب ، والثالثة لم يستجب ، والرابعة لم يستجب ، والخامسة لم يستجب .
فالموكلون عزلوا المحامي ، وكَّلوا محاميًا آخر ، القاضي بعيداً عن هذا الذي جرى بدا له أن يطلق سراح هذا المتهم ، فإذا أطلق سراح هذا المتهم بطلب أول من المحامي الجديد ، ماذا يُفهم ؟ أن ذاك المحامي فشل ، وأن هذا متألق .
استدعى الموكلين ، قال : أبلغوا المحامي السابق أن يقدم طلب الإفراج ولن أستجيب إلا له، للأول ، كي يحفظ له كرامته .
الإنسان كلما ارتقى يتقصى العدالة .
قال : خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت .
مرة كفل ولدُ شريحٍ رجلاً ، فقبِل شريحٌ كفالَته ، فما كان من الرجل إلا أنْ فرَّ هارباً من القضاء ، فسجن شريحٌ ابنَه بالرجل الفارِّ .
الكفيل مسؤول ، وكان شريح ينقل إليه طعامه بيده كل يوم إلى السجن ، لقد أمر بسجنه وصار يقدم له الطعام كلَّ يوم بنفسه .
أحياناً كانت الشكوكُ تساورُ شريحاً في بعض الشهود ، مثلاً : قضية يأتي الشاهد ليحلف اليمينَ أنه رأى بعينه هذا الحادث ، اسمعوا هذا الحوار الدقيق بين شريح والشهود .
شريح يشعر أن الشاهد كذابٌ ، ولكنه مستعد أن يحلف يميناً ، ولا يوجد دليل قطعي على أنه مجروح العدالة .
يقول الشهود : اسمعوا مني هداكم الله ، إنما يقضي على الرجل أنتم ، وإني لأتقي النار بكم ، أنتم مسؤولون ، وأنتم باتقائها أولى ، وإنّ في وسعكم الآن أنْ تدعوا الشهادة وتنصرفوا، إذا كنتم شاكين أعفيتُكُم من الشهادة فانصرفوا.
قال : فإذا أصروا على الشهادة التفتَ إلى الذين يشهدون له ، وقال : اعلم يا هذا أنني أقضي لك بشهادتهم ، وإني لأرى أنك ظالم ، ولكني لست أقضي بالظن ، إنما أقضي بشهادة الشهود ، وإن قضائي لا يحلُّ لك شيئاً حرّمه الله عليك .
ومن باب أولى ، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق ، وحبيبُ الحقّ لو أن إنساناً أدلى إليه بحجة مقنعة ، بلسان طليق ، وبيان ساطع ، فَحَكَمَ النبيُّ له ، فهل ينجو هذا الذي حُكِمَ له من عذاب الله ؟ لا ينجو .
عندنا قاعدة فقهية أساسية ، إنّ حكم القاضي لا يجعل الحق باطلاً ، ولا الباطل حقاً ، حكمُ القاضي لا يغيِّر شيئاً أبداً ، فإذا معك حكم القاضي فهذا الحكم لا ينجيك يوم القيامة .
كان هذا القاضي يقول : غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ .
إذا كان الشريكان أحدهما ظالم ، والثاني مظلوم ، وتفاككوا المستقبل مع المظلوم الله يوفق المظلوم ، ويخذل الظالم .
إذا افترق الزوجان ، ولم نعرف مَن الظالم ، الزوج أم الزوجة ؟ الظالم في الأغلب الأعم لا يُوفَّق في زواجه القادم ، والذي يُوفق في زواجه الثاني المظلوم دائماً .
غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ (العدل) ، وإني أحلف بالله عز وجل أنه ما من أحد ترك شيئاً لله عز وجل ثمَّ أحس بفقده .
روي أن أحدهم قال : سمعني شريح ، وأنا أشتكي بعض ما أغمّني من صديق ، فأخذني من يدي ، وانتحى بي جانباً ، وقال : يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل ، فإن مَن تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً ، فإن كان صديقاً أحزنته ، وإن كان عدواً شَمَتَ بك .
ثم قال : انظر إلى عيني هذه ، وأشار إلى إحدى عينيه ، فوالله ما أبصرتُ بها شخصاً ، ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة ، ولكنني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة ، أما سمعت قول العبد الصالح :
[سورة يوسف]
يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .
إنّ المؤمن كلما ارتقى إيمانه لا يبثّ شكواه إلى أحد إلاّ الله ، علمُك بحالي يغني عن سؤالي ..
هناك إنسان نقاق ، كلما جلس يشكو ، يشكو ما في سوق ، ويشكو بيته ، وأولاده ، فتملّ منه ، كيفما جلس يشكو ، لكن المؤمن :
فاجعل الله عز وجل موضع شكواكَ ، وموضع حزنك عند كل نائبة تنوبك ، فإنه أكرم مسؤول، وأقرب مدعو .
رأى ذات يوم إنسانًا يسأل آخر شيئاً ، فقال له : يا ابن أخي - دققوا في هذا الكلام - من سأل إنساناً حاجة فقد عرّض نفسَه على الرق ..

وقد قيل : احتجْ إلى الرجل تكن أسيره ، استغن عنه تكن نظريه ، أحسن إليه تكن أميره .
كائناً من كان ، فقد تكون أنت إنسانًا عاديًّا مكتفِيًا ، لكن حينما تستغن عن الناس فأنت نظيرهم، أنت والمليونير سواء ، أنت وأقوى شخص سواء إذا استغنيت عنه ، أما إذا سألته ، وتضعضعت أمامه فأنت أسيره ، أما إذا أكرمته فأنت أميره .

قال له : يا ابن أخي من سأل إنساناً حاجة فقد عرَّض نفسه على الرق ، فإنْ قضاها له المسؤول فقد استعبده بها ، وإنْ ردّه عنها رجع كلاهما ذليلاً ، هذا بذلَ البخلَ ، وذاك بذلَ الردَّ، فالبخيل ذليل ، والذي يسأل ذليل .

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ *
[رواه الترمذي وأحمد]

وقع في الكوفة طاعون ، فخرج صديقٌ لشريح منها إلى النجف ، يبتغي المهرب من الوباء، فكتب شريح إليه : أما بعد ؛ فإن الموضع الذي تركته لا يقرب حُمامك ، ولا يسلب منك أيامك ، وإن الموضع الذي سرت إليه في قبضة مَن لا يعجزه طلب ، ولا يفوته هرب ، وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد ، وإن النجف من ذي قدرته لقريب .
الإنسان في قبضة الله .
كان شريح شاعراً ، له شعر قريب المأخذ ، حلو الأداء طريف الموضوعات .
روي عنه أنه كان له صبي في نحو العاشرة من عمره ، وكان الصبي مؤثراً اللهو ، مولعاً باللعب ، فافتقده ذات يوم ، فإذا هو قد ترك الكتاب ، ومضى يتفرج على الكلاب .
فلما عاد إلى المنزل سأله أصليت ؟ قال : لا .
فدعا بقرطاس وقلم وكتب إلى مؤدِّبه (الأستاذ) يقول :
***
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غدوة بصحيفـــة كتبت له كصحيفـــة المتلمس
فإذا أتاك فداوه بملامـــة أو عظه موعظة الأديب الكيـس
و إذا هممت بضربه فبـدرة و إذا بلغت ثلاثــة لك فاحبـس
و اعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما يجرعنــي أعـز الأنفس
***
أيها الإخوة ، هذا غيض من فيض عن التاريخ الذهبي في القضاء الإسلامي ، وكان هذا القاضي شريح قد شغل منصب القضاء ستين عاماً ، ملأ أيام قضائه عدالة وإنصافاً ، ونزاهة، وفخراً ، والإنسانُ ينبغي أن يقتدي بشريح ، ولو لم يكن قاضياً - كما قلت أول الدرس - أنت قاضٍ بين أولادك ، قاضٍ بين موظفيك ، قاضٍ بين أقربائك ، قاضٍ بين ابنك وزوجته ، أو بين ابنتك وزوجها ، أنت قاضٍ دائماً ، فالإنسان المؤمن ينصف ، قال تعالى :
[سورة المائدة الآية 2]


لو كان الطرف الآخر مجوسيًّا ، لو كان كافرًا ، لو كان منافقًا ، لو كان مشركًا ، لو كان فاسقًا ، لو كان عاصيًا ، الزم الحق ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .






رد مع اقتباس
قديم 29-04-2009, 10:58 PM رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
الله ربي ومحمد رسول الله
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


طالب عفو ربي غير متواجد حالياً


افتراضي

[align=center] ذكوان بن كيسان [/align]


من سير التابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين ، و تابعيُّ اليوم طاووس بن كيسان ، يقول عمرُو بن دينار : "ما رأيتُ أحدا قط مثلَ طاووس بن كيسان" ، طبعا نحن نؤرِّخ لكبار التابعين .
هذا التابعي الجليل علَّمته المدرسةُ المحمَّدية أن الدين هو النصيحة ، وفي تعريف جامع مانعٍ للنبيِّ عليه الصلاة و السلام ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) *

[رواه مسلم]
ولا تُؤخذ بعبادة الرجل ، عليك أن تُقيِّمه بمدى نصحه للمسلمين ، العبادات الشعائرية أيها الإخوة لا قيمة لها من دون إحكام العبادات التعاملية ، دائما وأبدا الإسلام مجموعة مبادئ ، ومجموعة قيم ، ومجموعة مثُل ، ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي عليه الصلاة و السلام ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) *
[رواه البخاري]
فهل هذه هي الإسلام ؟ الإسلام بُني على خمس ، فهل هذه الخمس هي الإسلام ؟ هذه الخمس بني عليها الإسلام ، والإسلام شيء آخر ، الإسلام قيم ، ومبادئ ، وصدق ، وأمانة ، وعفَّة ، وجرأة ، وصراحة ، واستقامة ، الإسلام ضبطُ الدخل ، وضبط الإنفاق ، وضبط الجوارح ، وضبط البيوت، وضبط العمل ، هذا هو الإسلام ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) *
[رواه البخاري]
في أيامِ تخلُّف المسلمين فَهِم المسلمون الإسلام الأركان الخمسة فقط ، فإذا صلَّى و صام وحجَّ فهو مسلم ، ولا عليه أن يغشَّ المسلمين بعد ذلك ، ولا عليه أن يأكل أموالهم بالباطل ، ولا عليه أن يكذب ، ولا عليه أن ينافق ، ولا عليه أن يدجِّل ، إذًا الإسلام بني على خمس ، وأوضحُ شاهدٍ سمعتموه مني كثيرا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ .... قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاء...."
[رواه أحمد]
هل هناك أوضح من هذا ؟ واللهِ كلام كالشمس ، إسلامنا قيم ، إسلامنا مبادئ ، و إسلامنا استقامة ، وإسلامنا غضُّ بصر ، وإسلامنا عفَّة ، وإسلامنا حياء ، وإسلامنا أنْ يأمنك أخوك على مليون ، ويأمنك على أهله ، وعلى ماله ، وعلى دمه ، و حتى لا يضيِّع الإنسانُ الوقت ، فقد علَّمته المدرسةُ المحمدية أن الدين النصيحة ، لمن ؟ لله ، لإقامة كتابه ، لله لطاعته ، وكتابه ، تطبيق كتابه ، ورسوله تطبيق سنة رسوله ، وأئمة المسلمين ، أن تنصحهم ، وعامتهم ، وهدَته التجربةُ إلى أن الصلاح كلَّه يبدأ عند وليِّ الأمر ، وينتهي عنده ، لأن صنفين من الناس إذا صلحا صلح الناسُ ، وإذا فسدا فسد الناس ؛ الأمراء والعلماء ، العلماء يعلِّمون ، و الأمراء ينفِّذون ، إن صلح هذان الصنفان صلح المجتمع كلُّه ، وإن فسد هذان الصنفان فسد المجتمع كلُّه .
اسمُ هذا التابعي ذكوانُ بن كيسان ، الملقَّب بطاووس ، الطاووس طائر معروف ، حسن الشكل ، طويل العنق ، جميل القنبرة ، وقد سمِّي به كثير من العلماء ، خُلع عليه لأنه كان طاووسَ الفقهاء ، والمقدَّم عليهم في عصره ، أي سيد الفقهاء ، من ؟ ذكوان بن كيسان ، الملقب بطاووس ، هذه الطاووس ، أو هذا التابعي الجليل من أهل اليمن ، وكان والي اليمن محمد بن يوسف الثقفي ، أخو الحجاج بن يوسف ، عيَّنه الحجاجُ واليًا على اليمن بعد أن عظُم أمرُه ، وقويَتْ شوكتُه ، واشتدَّت هيبتُه إثرَ قضائه على حركة عبد الله بن الزبير ، وكان محمد بن يوسف يُجمع في ذاته كثيرا من سيئات أخيه الحجاج ، ولكنه ما كان يتحلَّى بشيء من حسناته ، و الإنسان إذا قلَّد في الأعمِّ الأغلب يقلِّد السيئات ، فكان أخو الحجاج يجمع سيئات أخيه دون أن يتمتَّع بحسناته .
مرة دخل عليه طاووس في أيام الشتاء الباردة ، ومعه وهبُ بن منبِّه ، فلما أخذا مجلسيهما عنده طفق طاووسُ يعظه ، ويرغِّبه ، ويرهِّبه ، والناسُ جلوسٌ بين يديه ، فقال الوالي لأحدِ حُجَّابه : يا غلام أحضِر طيلسانًا ، ثوب ثمين جدًّا ، وألقِه على كتفي أبي عبد الرحمن ، طاووس، فعمد الحاجبُ إلى طيلسانٍ ثمين ، وألقاه على كتفي طاووس ، لكنَّ طاووس ظلَّ متدفِّقًا في موعظته ، وجعل يحرِّك كتفيه في تُؤدة حتى ألقى الطيلسانَ عن عاتقه ، حركتان أو ثلاث ، دفع الطيلسان إلى خلف ظهره ، وهبَّ واقفا وانصرف ، أي ما قبِل هذا العطاء ، ما تكلَّم ، حّرك حركات خفيفة إلى أن ألقى الطيلسان من كتفه ، ووقف ، وانصرف ، فغضب محمدّ بن يوسف غضبا ظهر في احمرار عينيـــه ، واحتقان وجهه ، فلما صار طاووس و صاحبه خارج المجلس ، قال وهبٌ لطاووس : واللهِ لقد كنا في غنًى عن إثارة غضبه علينا ، فماذا كان يضيرُك لو أخذتَ الطيلسان ثم بِعته ، وتصدَّقت بثمنـه على الفقراء والمساكين ، فقال طاووس : هو ما تقول - أي هكذا كان أفضل ، أن آخذه ، وأن أبيعه ، وأن أتصدَّق بثمنه على الفقراء والمساكين ، قال : نعم ، قال : فإذا قال الناسُ أو العلماء من بعدي : نأخذ كما أخذ طاووس ، صرتُ قدوةً لهم، ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول ، أنت ترى أن آخذ الطيلسان ، وأن أبيعه ، وأن أدفع ثمنه للفقراء والمساكين ، شيء جميل ، الذين يأتون من بعدي يقولون : نأخذ كما أخذ طاووس ، ولا يفعلون ما تقول أنت ، لكن محمد بن يوسف الثقفي أراد أن يردَّ لطاوس الحجرَ من حيث جاء ، ولكن بذكاء وبحنكة ، نصبَ له شَركا من شراكـه ، حيث أعدَّ صُرَّةً فيها سبعمائة دينار ، واختار رجلا حاذقا من رجال حاشيته ، وقال له : امضِ بهذه الصرة إلى طاووس بن كيسان ، واحتلْ عليه في أخْذِها ، فإن أخذَها منك أجزلتُ عطيَّتك ، وكسوتك ، وقرَّبتك ، أي تستطيع أنْ تعطيه إياها ، فخرج الرجلُ بالصرة حتى أتى طاووسا في قرية كان يقيم بها بالقرب من صنعاء ،يقال لها الجَنَد ، فلما صار عنده حيَّاه ، وآنسه ، وقال له : يا أبا عبد الرحمن هذه نفقة بعث بها الأمير إليك ، فقال أبو عبد الرحمن : مالي بها من حاجة ، فاحتال بكل طريق ليقبلها فأبى ، وأدلى له بكل حجَّة فرفض ، فما كان منه إلا أن اغتنم غفلةً من طاووس ، ورمى بالصرة في كُوَّة كانت في جدار البيت ، وجد كوة في حائط الغرفة وطاووس التفت إلى هذه الجهة فوضع الصرة في الكوة ، وعاد راجعا إلى الأمير، وقال : لقد أخذ طاووسُ الصرة أيها الأمير ، حسب توجيهاتك ، فسُرَّ بذلك محمدُ بن يوسف ، وسكت عليه ، فلما مضت على ذلك أيامٌ عدّة أرسل اثنين من أعوانه، ومعهما الرجل الذي حل إليه بالصرة ، و أمرهما أن يقولا له : إن رسول الأمير قد أخطأ فدفع إليك المال ، وهو مرسلٌ لغيرك ، و قد أتينا لنسترِدَّه منك ، نحمله إلى صاحبه ، فقال طاووس : ما أخذتُ من مال الأمير شيئا حتى أردَّه إليك ، فقالا : بل أخذته ، فالتفت إلى الرجل الذي حمل إليه الصرة ، وقال له : هل أخذتُ منك شيئا ؟ كانت له هيبة ، فأصاب الرجلَ الذُّعرُ ، وقال : كلا ، و إنما وضعتُ المال في هذه الكوة في غفلة منك ، فقال طاووس : دونك الكوة فانظر فيها ، فنظرا في الكوة فوجد فيها الصرة كما هي ، فأخذها ، وعاد بها إلى الأمير، الخطَّة لم تنجح ، ما معنى :
[سورة الحج]
رسم له خطة خبيثة ، دفع له هذا المبلغ ، فإذا أنفقه بعد يومين ، يقول : هات المبلغ ، أنفقت منه، ضعه في السجن ، هو ما أخذه ، ولكن ربُّنا عزوجل ألبسه ثوبا من الهيبة ، فلما توجَّه إلى الرجل الذي جاء بها إليه قال له : هل أخذت منك شيئا ؟ هذه الهيبة :
فيُكسى جلابيبَ الوقـــــــار لأنه أقام بإذلال على باب عزِّنا

من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء ، و من لم يهب اللهَ أهابه اللهُ من كل شيء ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً *
[رواه البخاري]
المؤمن المستقيم له هيبة ، هذه الهيبة يُروى أن رجلا كان له دَيْن على أبي جهل - لا أذكر - أبي جهل أو أبي لهب ، على أحد صناديد قريش ، على أعتى زعماء قريش كفرا ، فأراد أناسٌ أن يرموا بين النبي وبين هذا الزعيم ، فهذا البدوي الأعرابي الذي له على أبي لهب أو أبي جهل هذا المبلغ الكبير قالوا له : تذهب إلى محمد ، ومحمد يحصِّله لك من أبي جهل ، فصدَّق هذا البدوي ذلك ، فترقَّب النبي ، وطلب منه ذلك ، تروي الرواياتُ أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب مع هذا الأعرابي إلى بيت أبي جهل ، وطرق الباب و قال : أعطِه حقَّه ، فدخل ، وعاد من توِّه ، وأعطاه المبلغ ، الخطة التي كان من الممكن أن توقع بين النبيِّ الكريم و بين أبي جهل لم تنجح ، فلما سُئل أبو جهل : كيف أعطيته المبلـغ ؟ قال : و اللهِ رأيت على كتفيه أسدين خفتُ أن يأكلاني " ، فيه هيبة ، هذه نقطة مهمة جدا ، إذا كنتَ مع الله ، ألقى الله عزوجل عليك الهيبة ، في بيتك ، في عملك ، و الإنسان لما يعصي الله عـزوجـل تنخلع منه الهيبة ، لا شأن له ، و لا أحد يعبأ به ، هناك من يتطاول عليه ، لكن من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها ، قال : و كأنما أراد اللهُ عزوجل أن يقتصَّ من محمد بن يوسف على فعلته هذه ، و أن يجعل قصاصه منه على مرآى من الناس ، فكيف وقع ذلك ؟ .
حدَّث طاووسُ بن كيسان فقال : بينما أنا في مكة حاجًّا ، بعث إليَّ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي ، فلما دخلتُ عليه رحَّب بي ، وأدنى مجلسي منه ، وطرح إليَّ وسادةً ، ودعاني لأن أتَّكئ عليها ، ثم راح يسألني عما أشكل عليه من مناسك الحج ، وفيما نحن كذلك سمع الحجَّاج ملبِّيا يلبِّي حول البيت ، ويرفع صوته بالتلبية ، و له نبرةٌ تهزُّ القلوبَ هزًّا ، يبدو من الإنسان الصادق أحيانا أنه يلفت النظرَ بدعائـه ، وتضرُّعه ، فقال الحجاجُ : عليَّ بهذا الملبِّي ، عليَّ به ، فأوتي له به ، فقال له : ممن الرجل ؟ فقال : من المسلمين ، فقال : لم أسألك عن هذا ، إنما سألتك عن البلد ، قال : من أهل اليمن ، قال : كيف تركتم أميركم ، أي أخاه ، قال : تركته عظيما ، كبيرا ، جسيما لبَّاسا ركَّابا ، خرَّاجا ولاَّجا ، أي أكل ، وشرب ، وبيت ، ومركب ، ونزهات ، ومداخلات ، وصف فيه إيجاز ، تركتـه عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركَّابا ، خرَّاجا ، ولاَّجا ، فقال الحجاجُ : ليس عن هذا سألتك ، فقال : عما سألتني إذًا ؟ قال : سألتك عن سيرته فيكم ، عن أخلاقه ، قال : تركته ظلوما غشوما ، مطيعا للمخلـوق ، عاصيًا للخالق ، ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّد ، هذا معنى قول الله عزوجل :
[سورة الحج]
أحيانا الإنسان يظهر أحسن أعماله لمَن فوقه ، واللهُ عزوجل بطريقة أو بأخرى تُنقَل الصورة السوداء للجهة الأعلى عن الأدنى ، من دون قصد ، تركته عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركَّابا ، درَّاجا ، ولاَّجا ، فقال : ليس عن هذا سألتك ، عما سألتني إذًا ؟ قال : سألتك عن سيرته فيكم ، عن أخلاقه قال : تركته ظلوما غشوما ، مطيعا للمخلوق عاصيًا للخالق ، فاحمرَّ وجهُ الحجاج خجلا من جلسائه ، وقال : ما حملك على أن تقول فيه ما قلته ، وتعلم أنت مكانه مني ، تعرف أنه أخي، فقال : أتراه بمكانه منك أعزَّ منك بمكاني مِنَ الله ، وأنا وافدٌ بيته ، مصدِّقٌ نبيَّه ، قاضي دينه ، أكذب على الله في بيته ، معقول ، أنت أغلى عليَّ مِن الله عزوجل ؟ سألتني ، فأجبتك ، لقد تركتُه عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركوبا ، ولاَّجا ، دخَّالا ، قال : عن غير هذا أسألك، قال : رأيته ظلوما، غشوما ، مطيعا للمخلوق ، عاصيًا للخالق ، على كلٍّ فسكت الحجاج و لم يُحِر جوابا ، قال طاووس : ثم ما لبث الرجل أن قام ، وانصرف مِن غير أن يستأذن ، أو أن يؤذن له ، فقلت في إِثره في نفسي : إن هذا الرجل صالح ، فأتبعه ، وأظفر به قبل أن تغيِّبه عن عينيك جموعُ الناس ، فتبعته فوجدته قد أتى البيتَ ، وتعلَّق بأستاره ، ووضع خدَّه على جداره، وجعل يقول : اللهم بك أعوذ ، وبجنابك ألوذ ، اللهم اجعل لي في الاطمئنان إلى جودك ، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين ، وغنى عما في أيدي المستأثرين ، و الحديث القدسي أيها الإخوة : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هويا تحت قدميه ، و قطَّعت أسباب السماء بين يديه ، و ما من مخلوق يعتصم بي من دوني خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهلُ السماوات و الأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا" .
إخواننا الكرام ؛ الله هو هو ، إلهُ صحابة رسول الله هو إلهنا ، إله التابعين إلهنا ، القرآن هو هو، فأنت إذا اعتصمت بالله ، واستقمت على أمره لا يمكن إلا أن ترى من آياته الدالَّة على أنه هو الإله ،
[سورة الزخرف]
[سورة الأعراف]
[سورة هود]
[سورة الفتح]
[سورة الأنفال]
الله عزوجل يشعرك دائما أنه موجود ، وأنه معك :
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكلَّ وحاذِر طمعك
و إذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منــعك
المؤمن الصادق يشعر أن الله معه ، يشعر بوجود الله ، تجد أصعب إنسان يلين قلبُه معه ، واللهُ عزوجل يسخِّر عدوَّك ليخدمك ، ويسخر القويَ فيها لك ، يقف أمامك في حيرة ، وهو قادر على أن يسحقك ، ما الذي ألجمه .
ذكرت لكم قبل دروس عدة ، لما بلغ الحَجَّاجَ أن الحسن البصري ذكره بغير ما يريد ، فمباشرة خاطب مَن حوله ، قال : أنتم جبناء ، واللهِ لأسقينكم من دمه ، أعطى أمرا فوريا للسياف أن يهيِّئ نفسه لقطـع رأس الحسن البصري ، مُدَّ النطعُ في بهو القصر ، وجيء بالسياف ، وقال لصاحب الشرطة : ائتني بالحسن البصري لقطع رأسه ، وانتهى الأمر ، دخل الحسن البصري على الحجاج، فوقف لـه ، وقال : أهلا بأبي سعيد ، ماذا حدث ؟ شيء لا يُصَّدق ، فما زال يدنيه منه حتى أجلسه في مجلسه ، وسأله عن صحته ، وتلطَّف معه ، وعطَّره ، وسأله بعض الأسئلة ، وأجابه الحسنُ ، وقام ، وودَّعه ، وقال : يا أبا سعيد أنت سيد العلماء، السياف نظر ، لم يفهم الذي حدث ، معه أمرٌ بقطع رأسه فورا ، والنطع ممدود ، فتبعه الحاجبُ ، وقال له : يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فُعل بك ، فما القصة ؟ لما دخلتَ رأيناك تمتمت ، فماذا قلت ؟ قال الحسن البصري ، قلت : يا وليَ نعمتي ، يا ملاذي عند كربتي اجعل نقمته عليَّ بردا وسلاما كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم " ، أنا هناك كلمة أقولها كثيرا : إذا كان اللهُ معك فمن عليك ، وإذا كان اللهُ عليك فمن معك .
و اللهِ أيها الإخوة أعرف أناسا أقرب الناس إليهم زوجته أو ابنُه يتطاول عليه ، وقد يضربه ، وأعرف أناسا أعدى أعدائه يكرمه ، إذا كان اللهُ معك فمن عليك ، و إذا كان اللهُ عليك فمن معك، ليس معك أحد ، لذلك المؤمن موحِّد ، دائما يقول " يا ربي ليس لي إلا أنت ، تبرَّأ من حولك ، ومن قوتك ، ومن ذكائك ، وأتباعك ، ومن يحبك ، ومن يدعمك ، ومن يغطِّي أعمالك ، تبرَّأ من هؤلاء جميعا ، حتى يتولى اللهُ حفظك ، وتأييدك ، ونصرك ، ورعايتك ، قال : اللهم بك أعوذ ، و بجنابك ألوذ ، اللهم اجعل في الاطمئنان إلى جودك ، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين ، وغنًى عما في أيدي المستأثرين ، اللهم إني أسألك فرجك القريب ، ومعروفك القديم ، وعاداتك الحسنة ، يا رب العالمين ، قال : ثم ذهبت موجةٌ من الناس ، و أخْفَتْهُ عن عيني ، فأيقنتُ أنه لا سبيل إلى لقائه بعد ذلك ، فلما كانت عشيةُ عرفة رأيته ، وقد أفاض مع الناس فدنوتُ منه ، فإذا هو يقول : اللهم إن كنتَ لم تقبل حجِّتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني الأجرَ على مصيبتي لتركك القبولَ مني ، اعتبر عدم القبول مصيبة ، يا ربي اجرني عليها ، كما قال أحد التابعين : " التقيت بأربعين من أصحاب رسول الله ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقا "، من شدة الورع ، ومن شدة الخوف ، هذا الخوف المقدَّس ، هذا القلق المقدَّس ، يا ترى أنا مقبول عند الله ، عملي مقبول ، لعل هناك خللا ، لعل هناك تقصيرا ، لعل هناك نفاقا ، لعل هناك نية لا ترضي الله عزوجل ، لعل هناك دنيا ، ثم غاب عنه مرة ثانية ، فلما يئس من لقائه قال : اللهم اقبل دعائي ، و دعائه ، واستجِب لرجائي ورجائه ، وثبِّت قدمي وقدمه يوم تزلُّ الأقدام ، واجمعني معه على حوض الكوثر يا أكرم الأكرمين " .
جاء خليفةٌ ثانٍ اسمه سليمان بن عبد الملك يلقي رحاله في أكناف البيت العتيق ، و يدلُّ أشواقه إلى الكعبة المعظَّمة ، ثم التفت إلى حاجبه ، وقال : ابتغِ لنا عالما يفقِّهنا في الدين ، ويذكِّرنا في هذا اليوم الأغرِّ من أيام الله عزوجل ، فمضى الحاجبُ إلى وجوه أهل الموسم ، وطفق يسألهم عن بُغية أمير المؤمنين ، فقيل له : هذا طاووس بن كيسان سيد فقهاء عصره ، وأصدقهم لهجة في الدعوة إلى الله ، فعليك به ، فأقبل الحاجبُ إلى طاووس ، وقال : أجِب دعوةَ أمير المؤمنين أيها الشيخ ، فاستجاب طاووسُ له من غير إبطاء ، ذلك أنه كان يؤمن بأن على الداعية إلى الله تعالى ألاّ تعرض لهم فرصةٌ إلا اغتنموها ، وألاّ تسمح لهم بادرةٌ إلا ابتدروها ، وكان يوقن أنّ أفضل كلمة تُقال هي كلمة حقٍّ أُريد بها تقويم اعوجاج ، فلما دخل على أمير المؤمنين حيَّاه ، فردَّ الخليفة التحيةَ بأحسنَ منها ، وأكــرم استقبال زائره ، وأدنى مجلسه ، ثم أخذ يسائله عما أشكل عليه من مناسك الحج ، وينصت إليه في توقير وإجلال ، قال طاووس : فلما شعرتُ أن أمير المؤمنين قد بلـغ بغيتـــه ، ولم يبق ما يسأل عنه قلتُ في نفسي : إنّ هذا المجلس لمجلسٌ يسألك اللهُ عنه يا طاووس ، ثم توَّجهت إليه ، وقلت: يا أمير المؤمنين إّن صخرة كانت على شفير بئر في قعر جهنم، وقد ظلتْ تهوي في هذه البئر سبعين خريفا ، حتى بلغت قرارها ، أتدري يا أمير المؤمنين لمن أعدَّ اللهُ هذه البئر من آبار جهنم ؟ فقال من غير روِيَّة : لا ، ثم عاد لنفسه ، وقال : ويلك لمن أعدَّها ؟ بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا ، إلى أن يصل إلى قعرها ، فقال طاووس : يا أمير المؤمنين أعدّها الله عزوجل لمن أشركه في حكمه فجار " لمن يظلم ، فأخذت سليمانَ رِعدةٌ ، ظننتُ معها أن روحه تصعد إلى باريها ، وجعل يبكي ، و لبكائه نشيج يقطِّع نياطَ القلوب ، فتركته ، وانصرفتُ ، وهو يجزِّيني خيرا ، ماذا يقول له الخليفةُ ؟ جزاك الله خيرا ، أيقظه ، قال له : بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا ، أتدري لمن ؟ هذه لمن أشركه اللهُ في حكمه فجار على الناس " .
ولما ولِيَ عمرُ بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس ، وقال له : أوصني يا أبا عبد الرحمن، كتب إليه طاووسُ رسالةً في سطر واحد ، قال فيها : - دقِّقوا في هذا الكلام : إذا أردتَ أن يكون عملُك خيرا كلَّه فاستعمِل أهل الخير ، والسلام " أي أكبر مهمة يفعلها وليُّ الأمر أن يستعمل الصالحين ، الأمناء الأكفاء ، قال تعالى :
[سورة القصص]
سيدنا عمر قال : خذ عهدك وانصرِف إلى عملك ، واعلم أنك مصروف رأسَ سنتك ، أحد الولاة أراد أن يمتحنه ، قال له : إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلناك لضعفك ، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائنا قويًّا استهلنا بقوَّتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنا أدبَك ، وإن جمعت الجُرمين ، جمعنا المضرتين ، وإن وجدناك أمينا قويًّا زدناك في عملك " .
الآن ، لما آلتْ الخلافةُ إلى هشام بن عبد الملك ، لطاووس معه مواقف شهيرة ، لما قدِم هشام البيت الحرام قال لخاصَّة أهله : التمسوا لنا صحابيا من أصحاب رسول الله ، قالوا له : إن الصحابة قد تلاحقوا بربهم واحدا إِثرَ آخر ، حتى لم يبق منهم أحد ، في عهد هشام بن عبد الملك لم يبقَ من أصحاب النبي أحدٌ ، قال : إذًا فمن التابعين ، أوتيَ له بطاووس ، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطـه ، وسلَّم عليه من غير أن يدعوَه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس ، فاستشاط هشامُ غضبا حتى بدا الغيظُ في عينيه ، قال : ويحك ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال : وماذا صنعت ، فقال الخليفة : خلعت نعليك بحاشية بساطي ، ولم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وسمَّيتني باسمي ، ولم تكنِّني ، ثم جلستَ من غير إذني ، فقال طاووس بهدوء : أما خلعُ نعليَّ بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات في المسجد ، فلا يعاتبني ربي ، ولا يغضب عليَّ ، وأما قبولك : إني لم أسلِّم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك ، وقد خشيتُ أن أكون كاذبا إذا دعوتُك بأمير المؤمنين ، وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك ، ولم أُكنِّك ، فإن الله عزوجل نادى أنبياءه بأسمائهم ، يا داوود ، يا يحيى يا عيسى ، وكنى أعداءه بألقابهم ، قال :
[سورة المسد]
هل هناك أوضح من هذا ، أما قولك : إني جلست قبل أن تأذن لي ، فإني سمعت أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب يقول : إذا أردتَ أن تنظر لرجل من أهل النار فانظر إلى رجل وحوله قوم قيام بين يديه " ، فكرهتُ أن تكون أنت ذلك الرجل ، رأسا جلست ، فأطرق هشامُ إلى الأرض خجلا ، ثم رفع رأسه وقال : يا أبا عبد الرحمن عِظني ، قال : إني سمعتُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن في جهنم حيَّاتٍ كالقلال ، وعقارب كالبغال ، تلدغ كلَّ راعٍ لا يعدل في رعيته ، ثم قام وانصرف " سبحان الله لأنه مخلص ، وصادق ، ويبتغي وجهَ الله تقع هذه الكلمات موقعا حسنا في نفوس الخلفاء ، الإنسان الصادق يجعل اللهُ عزوجل لكلامه تأثيرا .
هذا التابعي جعل همَّه أن يعظ أولي الأمر ، انظُر كم خليفة ، وكم والٍ ، وكم مِن إنسان دخل عليه ، إخلاصُه لله جعل له هيبة كبيرة ، وصدقه في هداية الآخرين جعل لكلامه ذلك التأثير .
هذا الموضوع يحتاج إلى درس آخر إن شاء الله تعالى ، نرجو اللهَ عزوجل أن نستفيد من هذه المواقف ، أي الدين النصيحة ، فملخَّص درسنا " الدين النصيحة " الآن هناك اتِّجاه آخر ، يقال : يا أخي أعطه جَمَله ، ولا توجع رأسك ، أنت انصح أخاك ، وانصح أجيرك ، وانصح أقرباءك ، وانصح شريكك ، لا تسكت ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الفريضة السادسة ، والحمد لله رب العالمين .






رد مع اقتباس
قديم 01-05-2009, 02:53 AM رقم المشاركة : 39
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن


قبل أن يدخا رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..

هو اذن من الأوائل المبكرين..

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

قلت: نعم..

فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

فقال: انك غلام معلم"...


**


لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

انه الزبير رضي الله عنه يقول:

" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

هذا الذي خشينا عليك..

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!


**


لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

يقول على نفسه:

" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..



ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

يقول عليه السلام:

" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

دعاه يوما الرسول، وقال له:

" اقرأ عليّ يا عبد الله"..

قال عبد الله:

" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

فقال له الرسول:

"اني أحب أن أسمعه من غيري"..

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

ولا يكتمون الله حديثا)..

فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



وتحدث هو بنعمة الله فقال:

" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

" لقد ملئ فقها"..

وقال أبو موسى الأشعري:

" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

يقول عنه حذيفة:

" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

قال علي:

نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

قالوا:

نعم..

قال:

اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!



وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

وهكذا قال عنه أصحابه:

" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..



ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

يقول عمرو بن ميمون:

" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

ويقول علقمة بن قيس:

" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!


**


لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:

" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..


**


ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

ومن كلماته الجامعة:

" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..


**


هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..



ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!


**


تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!







رد مع اقتباس
قديم 01-05-2009, 02:53 AM رقم المشاركة : 40
معلومات العضو
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


لؤلؤة الغرب غير متواجد حالياً


افتراضي

عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن


قبل أن يدخا رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..

هو اذن من الأوائل المبكرين..

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

قلت: نعم..

فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

فقال: انك غلام معلم"...


**


لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

انه الزبير رضي الله عنه يقول:

" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

هذا الذي خشينا عليك..

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!


**


لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

يقول على نفسه:

" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..



ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

يقول عليه السلام:

" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

دعاه يوما الرسول، وقال له:

" اقرأ عليّ يا عبد الله"..

قال عبد الله:

" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

فقال له الرسول:

"اني أحب أن أسمعه من غيري"..

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

ولا يكتمون الله حديثا)..

فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



وتحدث هو بنعمة الله فقال:

" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

" لقد ملئ فقها"..

وقال أبو موسى الأشعري:

" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

يقول عنه حذيفة:

" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

قال علي:

نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

قالوا:

نعم..

قال:

اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!



وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

وهكذا قال عنه أصحابه:

" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..



ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

يقول عمرو بن ميمون:

" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

ويقول علقمة بن قيس:

" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!


**


لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:

" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..


**


ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

ومن كلماته الجامعة:

" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..


**


هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..



ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!


**


تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!







رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز المساوى السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى 5 02-12-2010 01:00 PM
شجرة الصلاة للاطفال اسراء رحيق الحوار العام 0 09-09-2010 08:55 PM
شجرة البندق , نبات سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 4 19-07-2010 08:20 PM
شجرة عيد الميلاد سلسبيل الخير المطبخ وتنسيق المنزل 1 27-03-2010 01:19 AM
صخرة يوم القيامة admin منتدى الأفلام الوثائقية 4 19-04-2009 04:57 PM


Loading...

الاتصال بنا - منتديات شو ون شو - الأرشيف - الأعلى

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
لا يسمح بوضع موضوعات تخالف منهج أهل السنة والجماعة