19-04-2009, 05:04 PM | رقم المشاركة : 11 | |||
|
عروة بن الزبير
عروة بن الزبير أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثالث من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم ورحمهم الله تعالى ، والتابعيّ اليوم عروة بن الزبير ، قال أحدهم : من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنَّة فلْينظر إلى عروة بن الزبير . بالقرْب من الركن اليماني في الحرم المكيّ جلسَ أربعة فِتيانٍ ، صِباح الوُجوه ، كرام الأحساب ، مُعَطَّرين ، كأنهم بعض حمامات المسجد ، نصاعة أثواب ، وأُلْفة قلوب ، ومنهم عبد الله بن الزبير ، وأخوه مصعب بن الزبير ، وأخوهما عروة بن الزبير ، ومعهم عبد الملك بن مروان ، ولهذا الموقف دلالة كبيرة ، فأحيانًا الطّفل الصغير في مقتبل حياته يحلم بِمُستقبل ما ، يُرْوى عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز أنَّه قال : تاقَتْ نفسي إلى الإمارة ، فلمَّا بلغتُها تاقت نفسي إلى الخلافة ، فلمَّا بلغتها تاقَتْ نفسي إلى الجنّة ، هؤلاء الفتيان الأربعة عبد الله بن الزبير ، ذلك الذي كان مع مجموعة من الأطفال ، وقد مرَّ بهم عمر ، وجميعهم تفرَّقوا إلا هو ، بقيَ واقفًا إلى أن وصَلَ إليه عمر ، فقال: يا غلام لِمَ لمْ تهْرب مع من هرب ؟ قال : أيّها الأمير لسْتُ مُذْنبًا فأخشى عقابك ، ولسْتَ ظالمًا فأخشى ظلمك ، والطريق يسَعُني ويسَعُك ! عبد الله بن الزبير ، وأخوه عروة بن الزبير ، وأخوهما مصعب بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ، هؤلاء الأربعة دار حديث بينهم ، فتيانٌ صغار ، وما لبث أحدهم أن قال : لِيَتَمَنَّ كلّ منَّا ما يحبّ ، فانْطلقَت أخيِلَتُهم ترحّل في عالم الغيب الرَّحل ، ومضَتْ أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر ، ثمَّ قال عبد الله بن الزبير : أمنيَّتي أن أملِكَ الحجاز ، وأن أنال الخلافة، وقال أخوه مصعب : أما أنا فأتمنَّى أن أملِك العراقَيْن ، وألاّ يُنازعني فيهما منازع ، وقال عبد الملك بن مروان : إذا كنتما تقْنعان بذلك ، فأنا لا أقْنعُ إلا أنْ أملكَ الأرض كلّها ! وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان ، مَنْ بقيَ ؟ عروَة بن الزّبير ، وسكت عروة بن الزبير ، فلم يقل شيئًا ، فالْتفتوا إليه ، وقالوا : وأنت ماذا تتمنّى يا عروة ؟ قال : بارك الله لكم فيما تمنَّيْتم من أمر دنياكم، أنا أحيانا أدعو وأقول كما في الدعاء المأثور : اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إليَّ ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني من عبادتك * (أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الهيثم بن مالك الطائي) (أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر) [ سورة الإسراء ] والإنسان كلَّما كبُر عقْلهُ يعلو اخْتيارهُ ، ومرَّةً ضربْتُ مثلاً ؛ أنَّ إنسانًا خيَّرناه بين وِعاءٍ بِلَّوْري كبير ، أزرق اللَّون رخيص ، وبين كأس (كريستال) غالٍ جدًّا ، وبين قطعة ألماس ، وقلنا له : اخْتر أيًّا من هذا ؟ فاختارَ الوِعاء الكبير ، هنا نحكم عليه بِضَعف العقل ، قلْ لي ماذا تختار أقُل لك من أنت ، قال : بارك الله لكم في أمر دنياكم ، أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً يأخذوا الناس عنِّي كتاب ربّهم وسنَّة نبيِّهم وأحكام دينهم ، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل ، وأن أحظى بِجَنّته.حدَّثني صديق في التعليم ، خرج مفتِّشًا ابتدائيًا إلى مدرسة تقع على أطراف البلاد ، قرية حدوديّة متَّصلة بِبَلَدٍ آخر مفتوح ، فسأل المفتِّش أحد طلاَّب الصفّ ، قال : قمْ يا بنيّ ، ما اسمك؟ فقال : اسمي فلان ، ماذا تتمنَّى أن تكون في المستقبل ؟ فقال : أتمنَّى أن أكون مهرِّبًا ! أين الثرى من الثريّا ؟! أحدهم طلب الحجاز ، وآخر طلب العراقين ، وأحدهم طلب الخلافة ، وآخرهم طلب أن يكون عالمًا ، دارت الأيام دورتها ، فإذا بعبد الله بن الزبير يُبايَعُ له بالخلافة عقبَ موت يزيد بن معاوية ، فيحكم الحجاز ومصر واليمن وخراسان والعراق ، ثمَّ يُقتل عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنَّى فيه ما تمنَّى ، وإذا بِمُصعب بن الزبير يتولى إمْرة العراق من قِبَل أخيه عبد الله ، ويُقْتل هو الآخر دون ولايته أيضًا ، وإذا بعبد الله بن مروان تؤول الخلافة إليه بعد موت أبيه ، وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، وأخيه مصْعبٍ على أيدي جنوده ، ثمّ يغدو أعظم ملوك أهل الدنيا في زمانه ، فماذا كان من أمر عروة؟ أُقْسمُ لكم بالله الذي لا إله إلا هو ، إذا طلبْت من الله شيئًا ، وكنت صادقًا في طلبك ، واللهِ لزَوال الكون أهْونُ على الله من ألاّ تصل إلى هدفك ، بين الله وبين عباده كلمتان ، قال تعالى : [ سورة الأنعام ] [ سورة النساء ] [ سورة الإسراء ] *** إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر *** أوَّلاً وُلِدَ عروة بِسَنَةٍ واحدة بقيَت من خلافة الفاروق رضي الله تعالى عنه ، فمَن أبوهُ ؟ الآن اسْمعوا إلى هذا النَّسَب ، وقبل أن أتحدَّث إلى نسب هذا التابعيّ الجليل ، أقول لكم ما هو النَّسب ؟ النَّسَبُ لا قيمة له إطلاقًا ، إذا كان الإنسان كافرًا أو تائهًا أو شاردًا أو عاصِيًا ، نسبهُ لا قيمة له إطلاقًا ، والدليل قوله تعالى : [سورة المسد] (متفق عليه) قال تعالى : [ سورة هود ] الآن عروة بن الزبير تمنَّى أُمنِيَةً على الله ، لذا انقطَعَ إلى طلب العلم ، وأكبّ على طلب العلم ، إنسانٌ تجده قد آتاه الله علمًا ، وهو نائمٌ ، تعلَّم !! عشرون أو ثلاثون سنة وهو جالس على ركبتَيْه يحضر مجالس العلم ، ويحضر ويناقش ، ويقرأ ويُتابع ويصبر ، إلى أن يسْمَحَ الله له أن ينطق ، أكبّ على طلب العلم ، وانْقطَعَ له ، واغْتَنَمَ البقيَّة الباقيَة من صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، فَطَفِقَ يؤمُّ بيوتهم ، ويصلِّي خلفهم ، ويتتبّع مجالسهم حتى روى عن علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عباس ، والنعمان بن البشير ، وأخذ كثيرًا عن خالته عائشة أُمّ المؤمنين حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيتهُ كلَّكَ ، ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم ، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهل ، نظام الجامعة ليس فيه تفتيش على المدرِّسين ، كما هو الحال في التعليم الثانوي، لكنّ في الجامعة أسلوب ذكيّ جدًّا ، يستقدمون أستاذًا زائرًا ، وهذا الأستاذ الزائر يلقي محاضرات على طلاَّب الجامعة ، فأُستاذ المادَّة إذا كان مستواه وعلمه قليلاً ؛ من يكْشفُهُ ؟ لذلك هذا نظام متَّبع في الجامعات ، يستقدمون أساتذة في الاختصاص نفسهِ من بقيَّة الجامعات ، لِيُلقوا محاضرات على الطلاب ، فالأستاذ لا بدَّ له من توسيع دائرة معرفته ، ومن المطالعة ، وتجويد محاضرته لكي لا يبدوَ أقلّ مستوًى من الأستاذ الزائر ، مرَّةً جاءنا أستاذٌ زائرٌ من بلاد المغرب العربيّ ، وهو آية في اللّغة ، والنحو الصرف ، وألقى علينا عِدَّة محاضرات ، وجلس في الصَّف الأوَّل عدد من أساتذتنا ، أنا كنتُ أتأمَّلُ في هؤلاء ، بعضهم جاء بِدَفتر وقلم ، وبدأ يكتب بعض الملاحظات ! صدِّقوني الذي كتب بعض الملاحظات من الأستاذ المحاضر كبُر في عَين الجميع ، لأنَّه تعلَّم ، يظلّ المرءُ عالمًا ما طلب العلم ، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهِل ، فالإنسان يتعلَّم دائمًا. عمر بن عبد العزيز الخليفة الذي يُعدّ حقيقةً خامس الخلفاء الراشدين ، حين قدم المدينة واليًا عليها من قِبَل الوليد بن عبد الملِك ، جاءهُ الناس فسلَّموا عليه ، فلمَّا صلَّى الظهر دعا عشرةً من فقهاء المدينة ، وعلى رأسهم عروة بن الزبير ، فلمّا صاروا عنده رحَّب بهم ، وأكرم مجلسهم ، ثمّ حمِدَ الله عز وجل ، وأثنى عليه بما هو أهلهُ ، ثمَّ قال : إنِّي دعوْتكم لأمرٍ تؤجرون عليه ، وتكونون لي فيه أعوانًا على الحقّ ، فأنا لا أريد أن أقْطعَ أمْرًا إلا برأْيِكُم أو بِرَأْيِ من حضرَ منكم ، فإذا رأيتُم أحدًا يتعدَّى على أحد ، أو بلَغَكُم عن عامل لي مظلمة ، فأسألكم بالله أن تُبَلِّغوني ذلك ، فدعا له عروة بن الزبير بخير ، ورجا له من الله السداد والرشاد . وله موقفٌ آخر ، عيَّنَ سيّدنا عمر بن عبد العزيز مرافقًا له اسمهُ عمر بن مزاحم ، قال له: يا عمر ، كُنْ إلى جانبي دائمًا ، إن رأيْتني ظللْتُ فأمسِكْنِي من تلابيبي ، وهُزَّني هزًّا شديدًا ، وقُلْ لي : اتَّق الله يا عمر ، فإنَّك ستَموت ! والإنسان من علامات نجاحهِ تواضُعه ، ومن علامات نجاحه استشارتُه وقبوله للنَّقْد ، فالذي يقبل النَّقْد قد ينْمو ، والذي يرفض النَّقد يسقط ، والإنسان حينما رفض النَّقد ينتهي ، لأنَّ الأشخاص دائمًا ينظرون من زوايا متعدِّدة ، وليس عليهم ضغوط كالتي على من ينتقدونه ، فالإنسان إذا أصغى إلى مَن ينتقدُهُ باحْتِرام وأدبٍ ، والنبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا ، والصحابي الجليل الحباب بن المنذر لمَّا رأى الموقع غير مناسب في معركة بدر ، جاء إلى النبي على اسْتِحياء ، وتكلَّمَ كلامًا يقطر رِقَّةً وأدبًا وحياءً وإخلاصًا ، قال له : يا رسول الله ، هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك ، أم هو الرأي والمشورة ؟ قال : بل هو الرأي والمشورة ، فقال له : يا رسول الله هذا ليس بِمَوقعٍ ، فالنبي بِبَساطة اسْتجاب لهذه النصيحة ، وأمر بِنَقل الجيش إلى الموضع الذي اقترحه الحباب بن المنذر ، فكان لنا قدْوةً صلى الله عليه وسلَّم في سماع النَّصيحة وقَبولها مع التواضع . لقد جمع عروة العلمَ إلى العمل ، فقد كان قوَّامًا في الهواجر ، في أيام الصيف ، نحن نقول للواحد صُم بالشِّتاء ، فالنهار قصير ، والجو بارد ، ومن دون عطش ، أمّا عروَة فكان صوَّامًا في الهواجر ، قوَّامًا في العتَمَات ، رطْب اللِّسان بذِكْر الله تعالى ، وكان إلى ذلك خَدينًا ، أيْ مُصاحبًا لكتاب الله عز وجل ، عاكفًا على تلاوته ، فكان يقرأ ربْع القرآن كلّ نهارٍ ، نظرًا في المصحف ، ثمّ يقوم به الليل عن ظهر قلب ، ولم يُعْرف أنَّه ترَكَ ذلك منذ صدْر شبابه إلى يوم وفاته ، غير مرَّةٍ واحدة لِخَطبٍ نزل به ، وسيأتي هذا النبأ بعد قليل ، وكان عروة يجد في صلاته راحة نفسه ، وقرَّة عينِهِ ، وجنَّته في الأرض ، وقال أحد العارفين : في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الله ، وقال : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبْعدوني فإبْعادي سياحة ، وإن حبسوني فحَبْسي خلْوَة ، وإن قتلوني فقَتْلي شهادة . كان عروة يُتقنُ صلاته أتمَّ الإتقان ، ويطيلها غاية الطول ، ورُوِيَ عنه - ودَقِّقوا في هذه القصَّة - أنَّه رأى رجلاً يصلِّي صلاة خفيفة ، فلمَّا فرغ من صلاته دعاه إليه ، وقال له : يا ابن أخي ، أما كانت لك عند ربّك جلّ وعلا حاجة ؟! أبِهذه الطريقة تصلّي ؟ واللهِ إنِّي لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كلّ شيء ، حتى الملح ! وهكذا أخبرنا الله عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّ الله يحبّ الملحِّين في الدعاء * (الجامع الصغير عن عائشة) (رواه الترمذي) وكان عروة بن الزبير سخِيّ اليد ، سمحًا جوادًا ، والمعروف أنّه لا يجتمع إيمانٌ وبُخل ، كما أنَّه لا يجتمعُ إيمان وحسد ، كما أنَّه لا يجتمع إيمان وجبْنٌ ، مستحيل أن تجد مؤمنًا حسودًا أو بخيلاً أو جبانًا ! ومِمَّا أُثِرَ عن جوده أنَّه كان له بستانٌ من أعظم بساتين المدينة ، عذْب المياه، ظليل الأشجار ، باسق النخيل ، وكان يُسوِّر بستانه طوال العام ، لِحِماية أشجاره من أذى الماشيَة، وعبث الصِّبْيَة ، حتى إذا حان أوان الرّطب ، وأيْنَعَت ثماره ، واشْتهَتْها النفوس ، كسر الحائط في أكثر من جهة لِيُجيز للناس دخول بستانه والأكل من ثماره ، فكان الناس يُلِمُّون به ذاهبين آيِبين ، ويأكلـون من ثمره ما لذَّ لهم الأكل ، ويحملون منه ما طاب لهم الحمل ، وأنا سمعتُ قبل خمسين سنة أنّ منطقة الصالحية كلها كانت بساتين ، وكان هناك مكان اسمه جبن الشاويش ، كانت كلّ أصحاب البساتين يضعون سلّة من الفاكهة من إنتاجهم في الطريق ، وهناك سكِّينُ صغيرة ليأكل المارّ حتى يشبع ، ولكن لا أحد يحمل شيئًا من هذا إلى بيته ، المشمس ، والتفاح ؛ وكلّ شيءٍ ، وقد كنت مرَّةً في قرية جبليَّة فيها فواكه نادرة ، وزرتها اسْتجمامًا لأسبوع، وأنا في الطريق أتنزَّه فإذا بأحد أصحاب البساتين يشير إليّ ، وقال : تفضَّل ، فما فهمْتُ منه شيئًا ، وتوهَّمْت أنه يريد مساعدة في شيء ، فتقدَّمْتُ نحوهُ فأعطاني كمِّيَة فواكه تكفيني أسبوعًا ، فاسْتغربْت ، ولمَّا حدَّثتُ الناس بما جرى لي قالوا لي : هذه عادة أهل البلدة ، كلّما رأَوا ضيْفًا يعطونه من الفواكه ما تكفيه أسبوعًا أو أسبوعين ، فلمَّا بخِل الإنسان بخِلَ اللهُ عليه ، مرَّةً قلت لكم : إنَّ امرأةً صالحة في بيتها شجرة ليمون ، تحمل لها أربعمائة أو خمسمائة ليمونة في السنة ، ولا يوجد إنسان يطرق الباب بحاجة إلى الليمون إلا وأعطتْه ، وكأنّ هذه الشجرة وقفٌ للحيّ كلّه ، وهذه الشجرة أعطَتْ عطاءً لِسَنواتٍ مديدة ؛ عشرين أو ثلاثين سنة ، والحمْل غير طبيعي ، كأنّ تلك الشَّجرة كانت لِتِلك الحارة ، توفَّتْ المرأة الصالحة ، فجاء بعدها من يطلب الليمون فطرده صاحب البيت ، وبعد أسبوع يبُسَت الشجرة وماتَتْ !! وعلى هذا فقِسْ، فإذا كنت كريمًا فالله تعالى أكرم ، قال سيّدنا ابن عوف : ماذا أفعل ؟ إذا كنتُ أُنفق مائة في الصباح فيُؤتيني ألفًا في المساء ! فإذا كنت كريمًا كان الله تعالى أكرم ، وإنْ تبْخل يبْخل الله عليك. فكان كلّما دخل هذا البستان يتلو قوله تعالى : [ سورة الكهف ] الآن دخل طَوْر الامتِحان ، قلتُ لكم سابقًا : المؤمن له ثلاثة أطوار ؛ طور التأديب ، وطَور الابتلاء ، وطور التكريم ، فلا بدَّ من فترة من حياتك تكون للتكريم ، لأنَّ الله عز وجل قال : [ سورة طه ] [ سورة البقرة ] [ سورة البقرة ] أما امتِحان سيّدنا عروَة فقد كان صعْبًا ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ* (رواه الترمذي) *** إنَّ الطبيب له علْم يُدِلّ بــه إن كان للناس في الآجال تأخيرُ حتى إذا ما انْتهَت أيام رحلته جار الطبيب وخانتْهُ العقاقيــرُ *** فجاء الطبيب بالمَبَاضِع لِشَقّ اللَّحم ، والمناشير لِنَشر العظم ، قال الطبيب لِعُروة : أرى أن نسْقيك جرعةً من مُسْكر لكي لا تشعر بالآلام ، فقال : هيهات ! لا أستعين بِحَرام على ما أرجوهُ مِن عافِيَةٍ ، ما عند الله لا يُنال بِمَعصيَة الله ، هناك أدوِيَة مخالفة للشَّرع ، فقال له : إذًا نسقيك مخدِّرًا ، فقال : لا أحبّ أن أُسلبَ عضْوًا من أعضائي دون أن أشْعرَ بِألمِهِ ، وأحْتسب بذلك ، فلمَّا همَّ الجراح بِقَطع الساق تقدَّم نحو عروة طائفة من الرجال ، فقال : مَن هؤلاء ؟ فقال : جيءَ بهم لِيُمسِكوك ، فربَّما اشْتدّ عليك الألم ، فجذبْت قدمَكَ جذْبةً أضرَّتْ بك ، قال : رُدُّوهم لا حاجة لي بهم ، وإنِّي لأرجو أن أكْفيَكم ذلك بالذِّكْر والتَّسْبيح ، ثمَّ أقبلَ عليه الطبيب ، وقطع اللَّحم بالمِبضَع، ولمَّا بلغَ العظم وضع عليه المنشار ، وطفِقَ ينشرهُ به وعروَة يقول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وما فتىء الجرَّاح ينشر وعروة يكبّر ويُهلِّل حتى بُتِرَتْ الساق بتْرًا ، ثمّ أُغْليَت الزَّيتُ في مغارف الحديد ، وغُمِسَت فيه ساق عروة لإيقاف تدفّق الدِّماء ، وحسْم الجِراح ، وأُغْمِيَ عليه إغماءةً طويلة حالَت دون أن يقرأ حصَّته في كتاب الله ، وكان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم يقرأ فيه القرآن !! وكانت المرَّة الوحيدة التي فاتهُ فيها ذلك الخير ، ولمَّا صحا عروة دعا بقَدَمِهِ المبتورة فناولوه إيَّاها ، اسْمعوا الآن ؛ فجعلَ يُقبِّلُها بيَدِهِ ويقول : أما والذي حملني عليك يا قدمي في عتمات الليل إلى المساجد إنَّه ليعْلمُ أنَّني ما مشْيتُ إلى حرامٍ قطّ ، ثمَّ تمثَّل بأبيات لِمَعن بن أوْس قال : *** لعَمْركُ ما أهويت كفِّي بريبــةٍ و ما حملتني نحو فاحشةٍ رجلي وأعلم أنِّي لمْ تُصِبني مصيبة من الدَّهر إلا قد أصابتْ فتًى قبـلي *** الآن حُمِل عروة إلى المدينة ، وأُدخل على أهله ، ماذا قال ؟ بادرَهم قائلاً : لا يهُولنَّكم ما ترَوْن ! لقد وهبني الله عز وجل أربعةً من البنين ، ثمَّ أخذ منهم واحدًا ، وأبْقى ليَ ثلاثًة ، فله الحمد والشكر ، وأعطاني أربعة أطراف ثمَّ أخذ منها واحدًا ، وأبقى لي منها ثلاثة ، وَايْمُ الله لئن أخذ الله لي قليلاً فقدْ أبقى لي كثيرًا ، ولئن ابتلاني مرَّةً فلطالما عافاني مرَّات ، هل تسمعون ما قال ؟ هكذا المؤمن . ولمَّا عرف أهل المدينة بِوُصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير ، تسايلوا على بيته لِيُواسوه ويُعَزُّوه ، فكان مِن أحسنِ ما عُزِّيَ به كلمةٌ قالها إبراهيم بن محمّد بن طلحة ، قال له : أبْشِرْ يا أبا عبد الله - هناك كلام لطيف أحلى من العسل ، علْمًا أنَّك تُعَزِّي إنسانًا بِفَقْد رجله وابنه - فقد سبقَكَ عضْوٌ من أعضائك ، وولدٌ من أبنائك إلى الجنَّة ، والكلّ يتْبَعُ البعض إن شاء الله تعالى ، ولقد أبقى الله لنا مِنك ما نحن فقراء إليه ، أبقى لنا منك علمك وفقْهك ورأيَك ، أما الطرف الذي سبقك إلى الجنَّة فاحْتسِبْهُ عند الله ، نفعنا الله وإيَّانا به ، واللهُ ولِيُّ ثوابك ، والضَّمِين بِحُسْن حِسابك ، وظلّ عروة بن الزبير للمسلمين منارَ هدًى ، ودليلَ فلاح ، وداعِيَةَ خير طوال حياته ، واهْتمَّ بِتَربيَة أولاده خاصَّة ، وسائر أولاد المسلمين ، فلم يترك فرْصةً لِتَهذيبهم . قال : يا بنيّ تعلَّموا العلم ، وابْذُلوا له حقَّه ، فإنّكم إن تكونوا صِغارَ قومٍ فعسى أن يجعلكم العلم كبراء القوم ، واسَوْأتاه هل في الدنيا شيءٌ أقْبحُ من شيءٍ جاهل ؟ العالم شيخٌ ولو كان حدثًا، والجاهل حدث ولو كان شيخًا ، وكان يقول : يا بنيّ لا يَهْدِينَّ أحدكم إلى ربِّه ما يسْتحيي أن يُهْدِيَهُ إلى عزيز قومه ، فإنَّ الله تعالى أعزّ الأعزّاء ، وأكرم الكرام ، وأحقّ من يُختار له ، وكان يقول : يا بنيّ ، إذا رأيْتم من رجلٍ فعلةَ خير رائعة فأمِّلوا به خيرًا ، ولو كان بنَظر الناس رجل سوء ! وهذه قاعدة ؛ إن رأيْت إنسانًا أخلاقيًّا وكريمًا ، وله حياء ، ويحبّ الخير فتأمَّل فيه الخير ، ولو كان بِنَظر الناس قليل الدِّين ، فإنَّ لها عندهُ أخوات ، وإن رأيتم من رجلٍ فِعْلةَ شرّ فضيعةً فاحْذروه ، وإن كان في نظر الناس رجلَ خير ، فإنّ لها عنده أخوات أيضًا ، واعلموا أنَّ الحسنة تدلّ على أخواتها ، وأنَّ السيِّئة تدلّ على أخواتها ، وكان يوصي أولاده بلِين الجانب ، وطيب الكلام ، وبِشْر الوجه ، ويقول : يا بنيّ ؛ مكتوب في الحكمة لِتَكُنْ كلمتُك طيِّبةً ، ووجْهكَ طليقًا تكنْ أحبَّ للناس مِمَّن يبذل لهم العطاء ، وكان إذا رأى الناس يجْنحون إلى الطَّرَف ، ويسْتمرئون النعيم ، يُذكِّرهم بما كان عليه رسول الله من شظف العيش ، وخشونة الحياة . وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِـدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ * (متفق عليه) هذا تابعيّ جليل كان قد ارْتقى ، وارْتقى ، حتى بلغ الكمال الإنساني . |
|||
19-04-2009, 05:17 PM | رقم المشاركة : 12 | |||||
|
[frame="1 98"]
|
|||||
19-04-2009, 05:38 PM | رقم المشاركة : 13 | |||
|
طلحة بن عبيد الله |
|||
19-04-2009, 10:55 PM | رقم المشاركة : 14 | |||
|
اشكر كل من تفاعل مع السيرة العطرة للتابعين واشكر الاخت لؤلؤالغرب وجزاكم الله خير الدنيا والاخرة |
|||
20-04-2009, 11:19 PM | رقم المشاركة : 15 | |||
|
قاهر قيصر |
|||
21-04-2009, 12:29 AM | رقم المشاركة : 16 | |||
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته |
|||
22-04-2009, 07:07 PM | رقم المشاركة : 17 | |||
|
الاخ الفاضل عبدالله آخر تعديل طالب عفو ربي يوم 22-04-2009 في 07:21 PM.
|
|||
22-04-2009, 07:24 PM | رقم المشاركة : 18 | |||
|
سعيد بن المسيب
سعيد بن المسيب سيرة سيد التابعين (سعيد بن المسيب) يمكن أن نجد الكثير من معالم الطريق المنشود والعديد من المبادئ التى لابد أن نقوم بها إن أردنا بصدق أن يعود لنا المجد المفقود. العلم الركيزة الأساسية للرقى أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره فى تحصيل العلم يقول فى ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالى فى طلب الحديث الواحد) وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافى فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابى أبى هريرة رضى الله عنه المنحة الربانية التى هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحى حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضى الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها قال أبو طالب قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ ومع طول المثابرة فى تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقى بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول (ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله ? ولا أبو بكر ولا عمر منى) وقال عنه قتادة: ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب وعن مكحول قال طفت الأرض كلها فى طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد وسأل رجل القاسم بن محمد عن شئ فقال أسألت أحدا غيرى قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وروى الربيع عن الشافعى أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقال الإمام أحمد هى صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين وقال على بن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندى أجل التابعين وقال أبو حاتم: ليس فى التابعين أنبل منه. ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا فى الفقه أو التفسير أو الحديث التى كتبت فى عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة فى ثنايا مباحثها قال عمر بن العزيز (إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتينى بعلمه) وبالإضافة إلى تميزه فى العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين فى علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضى الله عنهم وتُروى فى براعته فى التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إنى رأيت رؤيا قال ما هى؟ قال: رأيت كأنى أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت فى ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرنى قال: ابن الزبير رآها وهو بعثنى إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوى فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألنى عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لى بقضاء دينى وأصبت منه خيرا. وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إنى أرانى أبول فى يدى فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إنى أرى فى النوم كأنى أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوى: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف. واليوم وفى عصر الفضائيات وثورة المعلومات لابد لنا أن لا نغفل حقيقة هامة هى أن العلم الذى رفع ابن المسيب إلى سماء المجد بل ورفع أى أمة عبر الزمان لابد أن يكون اللبنة الأولى فى صرح تقدمنا المنشود وأن لا نرضى بغيره بدلا لأن أى رقى بدون علم وهم وسراب سرعان ما يزول تاركا مرارة ومذلة فى حياة أصحابه لا يعلم قدرها إلا الله. لا … لا … يا قيود الأرض كان ابن المسيب آية فى الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التى لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها يقول ابن كثير (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس فى فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا فى الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إنى كرهت أن أحدثك عن رسول الله ? وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودى للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد فى المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة). ولقد بلغ حب العبادة شغاف قلبه فلم يفتر عنها لا فى سراء ولا ضراء فيقول رحمه الله (ما فاتتنى التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل فى الصلاة منذ خمسين سنة) وعن بشر بن عاصم قال: قلت لسعيد يا عمى ألا تخرج فتأكل الثوم مع قومك؟ فقال معاذ الله يا ابن أخى أن أدع خمسا وعشرين صلاة خمس صلوات وقد سمعت كعبا يقول وددت أن هذا اللبن عاد قطرانا اتبعت قريش أذناب الإبل فى هذه الشعاب إن الشيطان مع الشاذ وهو من الاثنين أبعد. واشتكى يوما عينه فقالوا له لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفه قال فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح. وها هو العابد حتى فى أحلك المواقف فعن أبى حازم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد أحد من خلق الله غيرى وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون وما يأتى وقت صلاة إلا سمعت أذانا فى القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما فى المسجد أحد غيرى ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب (براهب قريش) وكان يكثر من قول (اللهم سلم سلم) فإذا دخل الليل خاطب نفسه قائلاً (قومى يا مأوى كل شر والله لأدعنك تزحفين زحف البعير) فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه (بذا أمرت ولذا خلقت) ومع ذلك لم تكن العبادة عنده مرادفة للقيام والقعود فعن مالك بن أنس قال: قال برد – مولى ابن المسيب – لسعيد بن المسيب ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء قال سعيد وما يصنعون؟ قال يصلى أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلى حتى العصر فقال سعيد ويحك يا برد! أما والله ما هى بالعبادة تدرى ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر فى أمر الله والكف عن محارم الله. كما كان رحمه الله يكره كثرة الضحك ويصوم الدهر ولا يفطر إلا فى أيام التشريق بالمدينة. ومن مواقفه المضيئة أنه أدركه رجلاً من قريش ومعه مصباح فى ليلة مطيرة فسلم عليه وقال كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال أحمد الله فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال نبعث معك بالمصباح قال لا حاجة لى بنورك نور الله أحب إلى من نورك وكان يقول رحمه الله (لا تقولن مصيحيف ولا مسيجيد ولكن عظموا ما عظم الله فكل ما عظم الله فهو عظيم حسن) ويقول (ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل بمعصية الله وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله) أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها فى الزيت ويقول عن هذا المال (اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهى عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فىّ وفيهم وأصل منه رحمى وأؤدى منه الحقوق التى فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار) وكان له فى بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول (لا حاجة لى فيها حتى يحكم الله بينى وبين بنى مروان) وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد فى الطبقات عن طلحة الخزاعى قال (كان فى رمضان يؤتى بالأشربة فى مسجد النبى ? فليس أحد يطمع أن يأتى سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشئ لم يشرب شيئا حتى ينصرف) أما طعامه فهو بسيط يشمل فى الغالب خبزا وزيتا ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا (لا تعودى لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالى فأحتاج إلى ما فى أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظرى إلى القوت الذى كنت آكل فى بيتى فابعثى إلى به). ومن أقواله الرائعة (من استغنى بالله افتقر الناس إليه) وقوله (الدنيا نذلة وهى إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها فى غير سبيلها). إن هذه المعانى الغالية لهى خير دواء لهذه المادية التى خيمت على كل شئ فى حياتنا وأردت الكثيرين منا وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها. لا تأخذك فى الحق لومه لائم تجلت هذه القاعدة فى حياة سيد التابعين فى أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله فى كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذى لا يحابى فى الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه فى الله كما قال عمران بن عبد الله (أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه فى ذات الله من نفس ذباب) ومن مواقفه الشهيرة فى ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لأبنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذى ناله ولكنه لم يزد على كلمة (لا) وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتى فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد هل أحدثت امرأة غيرها قال يرحمك الله ومن يزوجنى وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة: فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلى وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائى لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت من هذا فقال سعيد ففكرت فى كل إنسان إسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلى فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرنى قال رأيتك رجلا عزبا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هى قائمة خلفه فى طوله ثم دفعها فى الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءونى وقالوا ما شأنك قلت زوجنى سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هى فى الدار فنزلوا إليها وبلغ أمى فجاءت وقالت وجهى من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هى من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله ? وأعرفهم بحق الزوج. وكان رحمه الله يقول (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم) وعن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فوالله لا يسلمنى الله ما أخذت بحقوقه. وعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى المدينة وعامله يومئذ عليها هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا وأبى سعيد أن يبايع لهما وقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر قال والله لا يقتدى بى أحد من الناس فضربه هشام ستين سوطا وطاف به فى تبان من شعر وسجنه فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول سعيد ! كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه. وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك قال والله ما أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصل صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفا من حصى فحصبته بها زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة. وفى سنة 91هـ حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عزوجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال نحن أحق بالسعى إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين. نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس فى آذانهم قائلين (تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة فى الدنيا والآخرة). |
|||
22-04-2009, 07:30 PM | رقم المشاركة : 19 | |||
|
سعيد بن المسيب
سعيد بن المسيب سيرة سيد التابعين (سعيد بن المسيب) يمكن أن نجد الكثير من معالم الطريق المنشود والعديد من المبادئ التى لابد أن نقوم بها إن أردنا بصدق أن يعود لنا المجد المفقود. العلم الركيزة الأساسية للرقى أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره فى تحصيل العلم يقول فى ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالى فى طلب الحديث الواحد) وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافى فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابى أبى هريرة رضى الله عنه المنحة الربانية التى هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحى حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضى الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها قال أبو طالب قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ ومع طول المثابرة فى تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقى بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول (ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله ? ولا أبو بكر ولا عمر منى) وقال عنه قتادة: ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب وعن مكحول قال طفت الأرض كلها فى طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد وسأل رجل القاسم بن محمد عن شئ فقال أسألت أحدا غيرى قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وروى الربيع عن الشافعى أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقال الإمام أحمد هى صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين وقال على بن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندى أجل التابعين وقال أبو حاتم: ليس فى التابعين أنبل منه. ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا فى الفقه أو التفسير أو الحديث التى كتبت فى عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة فى ثنايا مباحثها قال عمر بن العزيز (إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتينى بعلمه) وبالإضافة إلى تميزه فى العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين فى علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضى الله عنهم وتُروى فى براعته فى التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إنى رأيت رؤيا قال ما هى؟ قال: رأيت كأنى أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت فى ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرنى قال: ابن الزبير رآها وهو بعثنى إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوى فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألنى عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لى بقضاء دينى وأصبت منه خيرا. وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إنى أرانى أبول فى يدى فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إنى أرى فى النوم كأنى أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوى: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف. واليوم وفى عصر الفضائيات وثورة المعلومات لابد لنا أن لا نغفل حقيقة هامة هى أن العلم الذى رفع ابن المسيب إلى سماء المجد بل ورفع أى أمة عبر الزمان لابد أن يكون اللبنة الأولى فى صرح تقدمنا المنشود وأن لا نرضى بغيره بدلا لأن أى رقى بدون علم وهم وسراب سرعان ما يزول تاركا مرارة ومذلة فى حياة أصحابه لا يعلم قدرها إلا الله. لا … لا … يا قيود الأرض كان ابن المسيب آية فى الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التى لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها يقول ابن كثير (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس فى فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا فى الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إنى كرهت أن أحدثك عن رسول الله ? وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودى للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد فى المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة). ولقد بلغ حب العبادة شغاف قلبه فلم يفتر عنها لا فى سراء ولا ضراء فيقول رحمه الله (ما فاتتنى التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل فى الصلاة منذ خمسين سنة) وعن بشر بن عاصم قال: قلت لسعيد يا عمى ألا تخرج فتأكل الثوم مع قومك؟ فقال معاذ الله يا ابن أخى أن أدع خمسا وعشرين صلاة خمس صلوات وقد سمعت كعبا يقول وددت أن هذا اللبن عاد قطرانا اتبعت قريش أذناب الإبل فى هذه الشعاب إن الشيطان مع الشاذ وهو من الاثنين أبعد. واشتكى يوما عينه فقالوا له لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفه قال فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح. وها هو العابد حتى فى أحلك المواقف فعن أبى حازم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد أحد من خلق الله غيرى وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون وما يأتى وقت صلاة إلا سمعت أذانا فى القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما فى المسجد أحد غيرى ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب (براهب قريش) وكان يكثر من قول (اللهم سلم سلم) فإذا دخل الليل خاطب نفسه قائلاً (قومى يا مأوى كل شر والله لأدعنك تزحفين زحف البعير) فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه (بذا أمرت ولذا خلقت) ومع ذلك لم تكن العبادة عنده مرادفة للقيام والقعود فعن مالك بن أنس قال: قال برد – مولى ابن المسيب – لسعيد بن المسيب ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء قال سعيد وما يصنعون؟ قال يصلى أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلى حتى العصر فقال سعيد ويحك يا برد! أما والله ما هى بالعبادة تدرى ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر فى أمر الله والكف عن محارم الله. كما كان رحمه الله يكره كثرة الضحك ويصوم الدهر ولا يفطر إلا فى أيام التشريق بالمدينة. ومن مواقفه المضيئة أنه أدركه رجلاً من قريش ومعه مصباح فى ليلة مطيرة فسلم عليه وقال كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال أحمد الله فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال نبعث معك بالمصباح قال لا حاجة لى بنورك نور الله أحب إلى من نورك وكان يقول رحمه الله (لا تقولن مصيحيف ولا مسيجيد ولكن عظموا ما عظم الله فكل ما عظم الله فهو عظيم حسن) ويقول (ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل بمعصية الله وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله) أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها فى الزيت ويقول عن هذا المال (اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهى عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فىّ وفيهم وأصل منه رحمى وأؤدى منه الحقوق التى فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار) وكان له فى بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول (لا حاجة لى فيها حتى يحكم الله بينى وبين بنى مروان) وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد فى الطبقات عن طلحة الخزاعى قال (كان فى رمضان يؤتى بالأشربة فى مسجد النبى ? فليس أحد يطمع أن يأتى سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشئ لم يشرب شيئا حتى ينصرف) أما طعامه فهو بسيط يشمل فى الغالب خبزا وزيتا ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا (لا تعودى لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالى فأحتاج إلى ما فى أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظرى إلى القوت الذى كنت آكل فى بيتى فابعثى إلى به). ومن أقواله الرائعة (من استغنى بالله افتقر الناس إليه) وقوله (الدنيا نذلة وهى إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها فى غير سبيلها). إن هذه المعانى الغالية لهى خير دواء لهذه المادية التى خيمت على كل شئ فى حياتنا وأردت الكثيرين منا وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها. لا تأخذك فى الحق لومه لائم تجلت هذه القاعدة فى حياة سيد التابعين فى أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله فى كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذى لا يحابى فى الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه فى الله كما قال عمران بن عبد الله (أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه فى ذات الله من نفس ذباب) ومن مواقفه الشهيرة فى ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لأبنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذى ناله ولكنه لم يزد على كلمة (لا) وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتى فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد هل أحدثت امرأة غيرها قال يرحمك الله ومن يزوجنى وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة: فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلى وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائى لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت من هذا فقال سعيد ففكرت فى كل إنسان إسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلى فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرنى قال رأيتك رجلا عزبا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هى قائمة خلفه فى طوله ثم دفعها فى الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءونى وقالوا ما شأنك قلت زوجنى سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هى فى الدار فنزلوا إليها وبلغ أمى فجاءت وقالت وجهى من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هى من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله ? وأعرفهم بحق الزوج. وكان رحمه الله يقول (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم) وعن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فوالله لا يسلمنى الله ما أخذت بحقوقه. وعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى المدينة وعامله يومئذ عليها هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا وأبى سعيد أن يبايع لهما وقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر قال والله لا يقتدى بى أحد من الناس فضربه هشام ستين سوطا وطاف به فى تبان من شعر وسجنه فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول سعيد ! كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه. وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك قال والله ما أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصل صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفا من حصى فحصبته بها زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة. وفى سنة 91هـ حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عزوجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال نحن أحق بالسعى إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين. نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس فى آذانهم قائلين (تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة فى الدنيا والآخرة). |
|||
23-04-2009, 09:26 PM | رقم المشاركة : 20 | |||
|
خـبـيـب بـن عـدي... |
|||
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز | المساوى | السيرة النبويه الشريفة وأحوال الصحابة والتاريخ الإسلامى | 5 | 02-12-2010 01:00 PM |
شجرة الصلاة للاطفال | اسراء | رحيق الحوار العام | 0 | 09-09-2010 08:55 PM |
شجرة البندق , نبات | سلسبيل الخير | المطبخ وتنسيق المنزل | 4 | 19-07-2010 08:20 PM |
شجرة عيد الميلاد | سلسبيل الخير | المطبخ وتنسيق المنزل | 1 | 27-03-2010 01:19 AM |
صخرة يوم القيامة | admin | منتدى الأفلام الوثائقية | 4 | 19-04-2009 04:57 PM |
|