06-05-2009, 06:00 PM | رقم المشاركة : 1 | |||||
|
هل يجوز الحديث عن طبيعه انسانيه؟
هل يجوز الحديث عن طبيعة إنسانية عند جان بول سارتر؟ فاطمة سويدان ولكن قصدية الوعي هذه، كما تظهرها مقاربة سارتر لما يسميه "بالإيمان الكاذب" كما "بالسلوك الصادق"، تظهر الخصوصية المزدوجة للطبيعة الإنسانية من حيث ما هي حقيقة واقعه، يجسدها واقعي التزامن، وماهية متعالية، تفكر ما أرمي إليه من غايات. بهذا المعنى، يظهر الإنسان كفعل تطلع، أي أنه يحدد نفسه بواسطة غاياته، التي تمثلها الأنا القابعة في المستقبل، كتجسيد لواقع التعالي، لا كميزة إنسانية وحسب، بل كطريقة في الوجود، بحيث لا يمكن أي تصور للإنسان خارج عملية التعالي نفسها. ضمن هذا المنظور، يستحيل الحديث عن ماهية إنسانية بالمعنى الثابت والنهائي الذي نعطيه للأشياء، فعدم المطابقة مع الذات، يظهر كأصل تكوين للذات الإنسانية، والقول بخلاف ذلك، يقتضي تصورا للإنسان يخرجه من دائرة الوعي إلى دائرة الشيء، أي يقدمه كماهية لا قدرة لها على استعادة ذاتها. بكلمة، إن كل تساؤل عن الإنسان يطرح موضوع الحرية التي تبقى الهوية الوحيدة للإنسان، وهو ما أحاول إيضاحه في هذا البحث. الإيمان الكاذب ووحدة الظاهرة النفسية الإنسان كما تصوره سارتر، لا يمكن له أن يدرك العالم، وإمكاناته فيه، دون أن يكون فاعلا لعمليات سلب، أي ممارسا لحريته كسبيل وحيد في معرفة العالم، ولكن تبشر في الوقت نفسه، أن الأنا التي تمارس فعل السلب في كنهها للعالم ولذاتها، لا تبقى غير معنية بهذا الفعل، بل تتقدم في ذاتها كفعل لا، أي أن الإنسان لا يكتفي فقط بممارسة السلبيات حيال العالم، بل يمارس السلب حيال نفسه، إذ يحدث أن يعي الإنسان هذه الإمكانات، وبدل أن يسعى إلى تحقيقها، فإنه يتهرب منها، متهربا بذلك من مسؤولياته، وحتى يمكن القول إن الهروب هنا، هو هروب من الحرية التي تنجلي أمام الوعي، يبحث الإنسان عن سلوكيات يخدع فيها نفسه، محاولا إخفاء هذه الحقيقة-الحرية، واضحا نفسه، أنه كباقي أشياء العالم، يخضع لحتمية لا مرد لها، فيجد في نمط من السلوك، يسميه سارتر بالإيمان الكاذب (Mauvaise foi)، ما يساعده على تحقيق توازن نفسي، يخفف من حدة القلق، بحيث يعيش حريته بطريقة أقل إيلاما. إن معاينة هذا السلوك يسمح لنا بالتقرب عن كثب من البنية التركيبية للوعي الإنساني، كبنية تسمح بل وتؤسس لهذه الحرية، فما هو الإيمان الكاذب، ومن هو الإنسان لكي يكون بمقدوره أن يمارس فعل السلب حيال نفسه؟ غالبا ما يخلط بينه وبين الكذب، ولا شك أن الإيمان الكاذب هو "كذب على الذات" شريطة أن نقيم تمييزا بين "الكذب على النفس" والكذب الخالص (Le mensonge tout court). هذا التميز يعود إلى أن الكاذب يكون على بينة من الحقيقة التي يقوم بإخفائها، فنحن لا نكذب في حال الجهل، ولا عندما نروج لخطأ نكون ضحية له، الكذب يكشف عن "قصدية عند الكاذب في أن يخدع وهو لا يسعى لإخفاء هذه القصدية على نفسه"، وهو، وإن أظهر لمحاوره عن نيته في قول الحقيقة، فإن هذه النية تبقى في حيز التكلف، فهي ظاهرية، لا تطال شخصه بالذات، بل هي "قصدية الشخصية التي يلعب دورها حيال محاوره". بتعبير أكثر وضوحا، يظهر الكذب كسلوك سلبي، إلا أن السلب الذي يفترض غير موجه إلى الوعي، بل يحمل على المجرد كموضوع له، إنه يحمل على هذه الحقيقة المنكرة (Vérité niée )، من "حيث هي نمط خاص من التجريد" وعلى الخبر الذي يعلنه (Le fait énoncé) كمجرد هو الآخر لأنه غير موجود، وكذلك على الشخصية التي يلعبها الكاذب أمام محاوره، وكلها مجردات. فالكذب بهذا المعنى، "لا يمس البنية الداخلية للوعي الراهن، وكل السلبيات التي تقومه تحمل على أشياء، هي ولهذا السبب بعينه، تبقى خارج الوعي…" [1]. في المقابل، يفترض الإيمان الكاذب، على عكس ما هو عليه الحال في الكذب –"الذي يستخدم لصالحه الكينونة الثنائية La dualité ontologique للأنا والآخر"- لا ثنائية الخادع والمخدوع، لأن هذه الحقيقة، أقوم بإخفائها على نفسي. فالإيمان الكاذب، كسلوك سلبي، يقتضي من حيث المبدأ "وحدة الوعي". فنحن لا نكون عرضة لإيمان كاذب، يفرض علينا من الخارج، ولكن الوعي يقوم هو نفسه بتكلف مثل هذا السلوك، أي أن الخادع والمخدوع هما الشخص نفسه، "أي علي أن أكون كخادع على اطلاع على الحقيقة التي هي خافية علي من حيث أني مخدوع"[2]. ولا شك أن إلغاء الثنائية هنا يهدد بنسف المشروع كله، "إذ كيف يمكن لعملية الكذب أن تثبت، إذا ما ألغيت الثنائية التي هي شرط لها؟" ثم هناك مشكلة ثانية تتعلق "بالشفافية الكاملة للوعي". فالذي يتكلف الإيمان الكاذب، عليه أن يكون على دراية بفعله هذا، لأن كينونة الوعي هي وعي بالكينونة، أي أن معرفتي بما أنا عازم على فعله يقوض بحد ذاته هذا المشروع، فأكون بالنتيجة أعثر عن حسن نية في "هذا على الأقل، وهو أني عارف بما أنا عليه من سوء نية"[3]. هذه الصعوبة في التأسيس لهذا السلوك، يعبر في الواقع عن صعوبة تكوينية فيه، فنحن أمام سلوك يمتاز في طبيعته بعدم الثبات، فالهشاشة (précarité) أو التلاشي (évanescence) يتميزا الإيمان الكاذب كظاهرة "لا توجد إلا من خلال وعن طريق تمايزها" ورغم ذلك، فإن هذا السلوك يظهر كنمط دائم في حياة عدد كبير من الناس. هذا السلوك، هو ما نجد التعبير عنه في "نظرية التحليل النفسي" بظاهرة المخدوع إزاء سلوكيات الخادع. فالمخدوع هو الشخص (Sujet) الذي يجد نفسه أمام سلوكياته دون أن يكون قادرا على تفسيرها، بسبب جهله بالدوافع الغريزية الأولى، التي يتكون منها تاريخ الفرد، وتبقى في دائرة اللاوعي، وتعمل الرقابة، وهي جملة القوانين والعادات والنظم الأخلاقية وأنساق التربية على كبتها… إن القول باللاوعي يجعل من الإنسان كائنا يعوزه الوعي الكافي كسبيل لفهم حياة يعود إليه صنعها. لقد شطر فرويد، يكتب سارتر، الكتلة النفسية (La masse psychique) إلى شطرين بتمييزه بين الأنا والهو، فأنا هذه الأنا، ولكنني لست هذا الهو، والذي أبقى حياله في موقف لا أحسد عليه، أي حيال [حياتي النفسية] غير الواعية[4]. هذا يعني أنه وفقا لنظرية التحليل النفسي، أنا هذه الظواهر النفسية التي ألاحظ في حقيقتها الواعية، فعلى سبيل المثال، هذا "الدافع (impulsion) لسرقة هذا الكتاب أو ذاك، هو أنا، بل هو جزء مني، وأوضحه بمقدار ما أحدد عزمي على السرقة تبعا له، ولكني لست هذه الوقائع النفسية، من حيث إني أتقبلها بطريقة سلبية، وأجد نفسي مجبرا على إقامة افتراضات حول مصدرها ومعناها الحقيقي، تماما كما يضع العالم فرضياته بشأن طبيعة وماهية ظاهرة خارجية"[5]. بمعنى آخر، هناك حقيقة تقع وراء الحادث النفسي أو الواقعة النفسية، يسعى التحليل النفسي للكشف عنها بواسطة المحلل كوسيط خارجي، فيظهر هذا الآخر "كوسيط بين ميولي (tendances) اللاواعية وحياتي الواعية"، بحيث لا يمكن التعرف إلى نفسي، إلا كطريق الآخر، فأكون القياس إلى "الهو" الذي هو "أنا" في موقع الآخر[6]. فالتحليل النفسي، يستنتج سارتر، يفسر كيف أكون مخدوعا، لا كيف أكون خادعا لنفسي، فهو بإحلاله "الهو" و"الأنا" محل ثنائية الخادع والمخدوع، أدخل في الصميم من ذاتيتي التركيبة البين-شخصانية (Inter-subjective) لوجود الآخر[7]. ولا شك، تعلق كريستيفا، بأن سارتر أحرز تقدما بالنسبة للفرودية، عندما بين أن التحليل النفسي بفصله النفسي بين الهو والأنا، قد واصل الأخذ بثنائية الخادع والمخدوع، برده الاعتبار للتركيبة البين-شخصانية، في طابعها الأكثر عمقا لوجود الآخر، ولكن ما تقره كريستيفا كعنصر إيجابي في فلسفة سارتر، تعود لتلقي حوله ستارا من التعتيم، حين تستنتج بأن سارتر "يخطئ إلى حد كبير في فهمه الصراع الحميمي الذي يكشف عنه التحليل النفسي بواسطة الوعي ورغما عنه"[8]. ليس بالإمكان التوقف عند غوامض العلاقة التي طبعت مواقف سارتر من علم التحليل النفسي، في إطار هذا البحث، هذا على الرغم من أن تماسا حقيقيا في المشكلات هنا وهناك، كثيرا ما يجر الباحث إلى الغوص عن حقيقة المشكلة، مدار البحث، وهو ما سأفعله باقتضاب. فالخلاف بين سارتر وعلم التحليل النفسي هو طرائقي أكثر منه رفضا أو إنكارا لمنجزات هذا العلم، وهو يحمل بتعبير أدق على الطرق المستخدمة في التحليل النفسي وبخاصة تقديمه للحقائق أو للوقائع النفسية كما لو أنها قائمة بذاتها، ثابتة ونهائية. فالإنسان لا يمكن له، كما يرى سارتر، أن يعيش أحلامه ومخاوفه وقلقه وآلامه، وكل ما نسميه بالحياة النفسية للفرد، بطريقة سلبية، بل إن هذه الحياة لا فاعلية لها إلا بمقدار ما يمدها بالحياة، أي بمقدار ما يعي أهدافه التي تستطيع هي وحدها إلقاء الضوء على الحقيقة النفسية التي يعيش. من هنا، يظهر الموقف الرافض للاوعي، كما يعبر عنه سارتر، على أنه رفض لنظرية في الإنسان، تجعل من هذا الأخير مجرد قلق لحياة نفسية تفرض عليه حتمية صارمة، بحيث يكون عليه قبولا دون مقاومة. وباختصار، فإن القول باللاوعي يجعل من الإنسان كائنا يعوزه الوعي الكافي كسبيل لفهم حياة يعود إليه وحده صنعها. لا يتعلق الأمر إذن بعدم فهم عميق "للصراع الحميمي" الذي يكشف عنه التحليل النفسي، بل بعدم كفاية طرائق التحليل النفسي التي تبين في تناولها لهذا السلوك (الإيمان الكاذب) عن قصور يتحدد في عدم كفاية الدليل بشأن الرقابة. وفي الواقع، يشير سارتر إلى أن فرويد يتحدث عن مقاومة يعثر عنها المريض، حين يقترب المحلل النفسي من الحقيقة، إذ يكشف عن "شعور بعدم الثقة، برفض الكلام، حتى أنه يقدم بيانا مغلوطا لأحلامه (compte-rendu fantaisiste) وأحيانا يتمنع حتى عن متابعة العلاج النفسي بكامله"[9]. ولكن إذا ما تساءلنا مع سارتر عن هوية الفاعل موضوع المقاومة هنا، أي ما هو العنصر النفسي الذي يقاوم، نجد أنه لا يمكن أن يكون هذه الأنا، التي تمثل كل هذه الوقائع النفسية الواعية، إذ لا يمكن للمريض "أن يخامره شك بأن الطبيب يقترب من الهدف، لأنه يجد نفسه أمامالتغيرات التي تنطوي عليها ردود أفعاله في الموقف نفسه للطبيب". ثم إن التكهن بأن المريض قد انتابه قلق من الاكتشافات اليومية التي يزوده بها المحلل، فيسعى إلى التهرب منها، متظاهرا في الوقت نفسه بمتابعة العلاج، لا يحل المعضلة، لأنه في هذه الحال "لن يكون بالإمكان الرجوع إلى اللاوعي لتفسير الإيمان الكاذب: إنه هنا، في صميم الوعي، بكل تناقضاته"[10]. إن العنصر الفاعل لفعل المقاومة هنا، هو الرقابة، فالرقابة هي وحدها قادرة على معرفة ما إذا كانت الاكتشافات التي يتحدث عنها الطبيب قريبة أم لا من الميول التي تسعى إلى كبتها في الحقيقة، لأنها "وحدها قادرة على فهم ما تقوم بكبته"[11]. هكذا، لا يفهم سارتر "الصراع الحميمي" للمكونات النفسية على أنه صراع أعمى، فإذا ما كان صحيحا أن على الرقابة أن تقوم بوظيفتها بكثير من التمييز، فإن عليها أن تكون "عارفـة بمـا تقـوم بكبته" وهـذا يعني أن عليها أن تختار، ولكي تختـار أن تتمثـل ما تختاره[12]. فالمقاومة التي يظهرها الشخص تحيل من غير شك إلى الرقابة التي تقوم فعلا "بعملية تمثل للمكبوت من حيث هو كذلك، أي معرفة بالهدف الذي تتجه نحوه أسئلة المحلل، وذلك بإجراء تأليف تركيبي لمقارنة حقيقية المركب المكبوت (complexe refoulé) بفرضية التحليل النفسي، وكل هذه العمليات تقتضي أن تكون الرقابة مدركة لذاتها"[13]. وهي تدرك ذاتها، من حيث هي إدراك للميل الذي يجب كبته. فالوعي هو وعي بشيء، والرقابة وعي بالمكبوت الذي يجب كبته، "ولكن تحديدا لكي لا يكن محل وعي" أي بهدف إخراجه من دائرة الوعي. ألا يعني هذا أن الرقابة تقدم نفسها كسلوك يعتمد الإيمان الكاذب؟ هذا ما يستنتجه سارتر، فالإيمان الكاذب يظهر الرقابة كذات تسعى إلى تحديد الفكرة بهدف إخفائها، وهذا يستدعي في الصميم وحدة الظاهرة النفسية التي تمارس فعلا مزدوجا؛ وساعية من ناحية إلى التعرف إلى الشيء، ومن ناحية ثانية للعمل على سلبه والتعتيم عليه وإخفائه من الوجود. هكذا، يتبين أن ما يفعله التحليل النفسي بتركيزه هذا النشاط المزدوج على مستوى الرقابة، لا يخرجنا من المأزق، فالوعي يظهر من وراء الرقابة نفسها، كمنسق وموجه ومؤسس للآلية نفسها للرقابة. إذ، كيف يمكن للميل المكبوت أن يتقنع (se déguiser) إن لم ينطو على معرفة بأنه مكبوت، بأنه غير مرغوب فيه، بسبب أنه كذلك، وأخيرا، على معرفة بمشروع الإخفاء (التنكر) هذا؟ فعملية التخفي هذه تحتوي في ذاتها على غائية، لا يمكن رسم حدودها خارج مشروع واع يسعى إلى تحقيقها، بل، وهل "يمكن تعبير الشعور بالقلق أو باللذة الذي يرافق الإرضاء الرمزي (assouvissement symbolique) والواعي للميل، إن لم يطو الوعي، من وراء الرقابة على معرفة غامضة بالهدف المنشود، من حيث هو محل رغبة وكبت في الوقت نفسه؟"[14]. ذلك أن ما لا حد له من أنماط السلوكيات التي يعبر عنها الإيمان الكاذب، تفترض الوعي في جوهريتها، "لأنه لا يمكن لها الظهور، إلا من خلال شفافية الوعي"[15]. من هنا تصيب كريستيفا عندما تقول أن نقطة الخلاف بين التحليل النفسي وسارتر تعود إلى أن هذا الأخير "يطرح وعيا يتميز بالشفافية والوضوح حيال ذاته، وعيا لا يعرف النسيان ولا ينطوي على أسرار"[16]. لتستنتج أنه وفقا لهذا الطرح، لا سبيل لوجود مكبوت لا أكون على دراية به… ولكن لتعود وتذكر بأن الوعي ليس سيد الحياة النفسية وحده، بأن "الرقابة اللاواعية حسب التعبير الفرويدي، تميز في المقام الأول الفكر الواعي عن اللاوعي"[17]. هذا، دون أن نتساءل كيف يجوز لرقابة تصفها بأنها لا واعية أن تقوم بهذا التمييز؟ ثم ما الهدف منه؟ لن يمكنني التوقف أكثر عند هذه المسألة، يكفي أن أشير أن سارتر لن يبحث مسألة الإيمان الكاذب في حدود التحليل النفسي فقط، بل وفي الأساسي، على المستوى الذي تتساءل فيه الذات لم هذا السلوك، وما الغاية من السعي إليه، وما الذي يؤسسه تكوينيا. الخاصية المزدوجة للكائن الإنساني: "علينا أن نملك الشجاعة بأن نتصرف ككل الناس، دون أن نكون أيا من الناس"[18]. بهذه الجملة التي يرددها أحد أبطال رواية سارتر، بعد خطاب طويل يحمل على الضرورة الخلقية في أن نكون فعلا ما نحن عليه، ندخل عالم الحقيقة الإنسانية من بابه الواسع: من نحن إذا ما كان علينا أن نكون ما نحن عليه؟ يدعونا سارتر لمقاربة دقيقة لسلوك امرأة تذهب للقاء رجل لأول مرة، وهي تعلم تماما نوايا هذا الأخير حيالها، وتدرك جيدا أن عليها أن تحسم الموقف دون إبطاء. ولكنها في الواقع ليست على عجلة من أمرها "فهي تعير أهمية فقط إلى ما يقدمه موقف الشريك من احترام وحشمة"، دون أن تدرج هذا السلوك في سياقه الزمني، من حيث يمهد لإمكانيات علاقة في المستقبل. فهي تحصر سلوك الشريك في دائرة "الحاضر"، فإذا ما عبر لها هذا الأخير عن إعجابه، فإنها تنزع هذا الإعجاب عن أي طابع جنسي قد يكون وراءه، لتستجيب فقط إلى تفسير فوري لهذا السلوك، لا يخرج به عن حدوده الموضوعية فيبدو الرجل الذي يتحدث إليها صادقا "كما تبدو الطاولة في شكلها المربع أو الدائري، أو دهان الحائط في زرقته أو رماديته"[19]. فأن تكون موضع رغبة من الآخر، يملؤها زهوا، دون شك. ولكن الرغبة الصريحة و"العارية" تولد لديها شعورا بالإهانة.. فماذا سيكون عليه موقفها؟ ببساطة، ترفض المرأة "قبول هذه الرغبة على ما هي عليه، حتى أنها لا تمسها، ولا تعترف بها إلا بمقدار ما تتعالى بها إلى الإعجاب والتقدير والاحترام بحيث تذوب في أكثر الأشكال علوا فتستحيل إلى ما يشبه الدفء أو الكثافة"[20]. في هذه الحال، تجد المرأة نفسها في موقف تدفع فيه شريكها إلى أعلى "درجات التأمل العاطفي"، فتروح تحدثه عن الحياة، عن حياتها، فتظهر بصورتها الأساسية، مجرد "وعي" بينما تترك يدها بلا حراك، لا مقاومة ولا راضية، مجرد شيء… وبالطبع، لا نجد صعوبة في إظهار موقف المرأة كتجسيد لإيمانها الكاذب. فهي من ناحية "جردت سلوكيات شريكها عن أية إمكانية تخرج بها عن حدود ما هي عليه، بإبقائها على نمطية "الما هو في ذاته"، ولكنها من ناحية ثانية، كانت تغتبط بهذه الرغبة، بمقدار ما كانت تنظر إليها على غير ما هي عليه، أي بمقدار ما "كانت تتعرف إليها في حقيقتها المتعالية"[21]. وفي الحقيقة، لن يتطلب الأمر كثير جهد لكي يظهر جيدا أن آلية هذا السلوك (سلوك المرأة) تقدم على تكوين تصورات متناقضة، تعتمد في جوهرها على "الربط بين الفكرة وسلب هذه الفكرة". فالتصور الأساسي المعمول به هنا، يكتب سارتر، يستخدم لصالحه "الخاصية المزدوجة للكائن الإنساني، كحقيقة واقعة ومتعالية"[22]. بل إن هذا السلوك، بإبرازه لهذه الازدواجية لا يسعى مطلقا إلى تجاوزها أو إلقائها، بل يهدف بالأساس إلى الإفادة منها وتكريسها، لكي يكون بالإمكان الانتقال دائما في الموقف الطبيعي، أي من حقيقة الأمر الواقع إلى الوجه الآخر للحقيقة الإنسانية، إلى طبيعتها المتعالية، أي من جملة الشروط التي يجسدها واقعي الراهن كإمكان يمثله وجودي الحاضر، إلى الإمكان الذي تعبر عنه حقيقتي المستقبلية، والذي لم يدخل بعد حيز الوجود، أي لا يزال في حيز التعالي. هذا الانتقال يقوم في صميم الصيغة التي تقدم الحقيقة الإنسانية بأنها "الكائن الذي يتحدد بأنه ليس ما يكونه وبأن ما يكونه ليس هو"[23]. فما أكونه لن يكون له أي معنى خارج قصدية تعكس ما أرمي إليه من أهداف، تكشف الحاضر، بمقدار ما ترسم معالم المستقبل، وهذا ما يعنيه سارتر حين يقول عن الوجود الإنساني بأنه يسبق الماهية، فهذه الأخيرة هي فعل خلق، يمد جذوره في أفعالنا التي تعكس أهدافنا، بل "لا وجود لماهية خارج عملية الخلق التي نوجد من خلالها" كما تقول كولومبيل[24]. من هنا، يلوح أيضا انطواء هذه الحقيقة الإنسانية على زمانية يصح تسميتها بزمانية التعالي، الإنساني، هذه الزمانية التي تستعيد المفهوم نفسه للإنسان الذي يتضمن زمانه الخاص، كما وصفه هايدغر، والذي يتحدد أصلا كفعل انطلاق وتطلع نحو الذات المستقبلية، والتي تقودنا إليها مشروعاتنا.
|
|||||
06-05-2009, 06:02 PM | رقم المشاركة : 2 | |||||
|
فالحقيقة الإنسانية من حيث هي حقيقة متعالية، يكتب سارتر، لا تشير "إلى شيء ما يكون أولا، ليجد نفسه فيما بعد على علاقة مع هذه الغاية أو تلك، ولكنها على العكس تتحد ككائن هو نفسه فعل تطلع (pro-jet) أصلي، أي أنه يحدد نفسه بواسطة غايته"[25].
|
|||||
06-05-2009, 06:18 PM | رقم المشاركة : 3 | |||
|
لا تعليق .. طبعا |
|||
07-05-2009, 12:53 AM | رقم المشاركة : 4 | |||
|
اختي الفاضلة : البتول |
|||
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
هل يجوز نزْع النقاب لأجل الوظيفة ؟ | بنت الفاروق | عقيدة أهل السنة والجماعة | 9 | 01-12-2014 03:19 AM |
علم الحديث .. بيان بعض الكلمات المصطلح عليها في علم الحديث | أبو العبادلة | الحديث الشريف والسنة النبوية | 10 | 27-11-2014 03:21 AM |
حاخام يهودي يدوس مسلما ساجدا | تراب | رحيق الحوار العام | 4 | 29-03-2010 12:41 AM |
لا يجوز وصف منتدى بأنّه إسلامي | تراب | رحيق الحوار العام | 4 | 29-04-2009 12:22 AM |
يا جيوش المسلمين ... ما الرقم المطلوب حتى تتحرّكوا ؟ | تراب | رحيق الحوار العام | 0 | 13-01-2009 02:30 AM |
|