بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله القائل.......
فى أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل ٬ وتختمر جراثيم التلاشى والفناء . إذا كان العمل رسالة الأحياء فإن العاطلين موتى . وإذا كانت دنيانا هذه غراسا لحياة أكبر تعقبها ٬فإن الفارغين أحرى الناس أن يحشروا مفلسين لا حصاد لهم إلا البوار والخسران. وقد نبه النبى صلى الله عليه وسلم إلى غفلة الألوف عما وهبوا من نعمة العافية والوقت فقال:`نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة ٬ والفراغ `. أجل.. فكم من سليم الجسم ممدود الوقت يضطرب فى هذه الحياة بلا أمل يحدوه ٬ ولا عمل يشغله ٬ ولا رسالة يخلص لهاويصرف عمره لإنجاحها. ألهذا خلق الناس؟. كلا ٬ فالله عز وجل يقول(أفحسبتم أنماخلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق) . إن الحياة خلقت بالحق ٬الأرض والسماء وما بينهما. والإنسان فى هذا العالم يجب أن يتعرف هذا الحق وأن يعيش به!؟. أما أن يدخل فى قوقعة من شهواته الضيقة ٬ ويحتجب فى حدودها مذهولا عن كل شىء فبئس المهاد ما اختار لحاضره ومستقبله!!. ومن أصدق ما رواه `الشافعى` فى أسس التربية هذه الكلمة الرائعة : ` إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل `. وهذاصحيح؟ فإن النفس لا تهدأ. إذا لم تدر فى حركة سريعة من مشروعات الخير والجهادوالإنتاج المنظم لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة ٬ وأن تلفها فى دوامة من الترهات والمهازل.وأفضل ما تصون به حياة إنسان أن ترسم له منهاجاً يستغرق أوقاته ٬ ولا تترك فرصةللشيطان أن يتطرق إليه بوسوسة أو إضلال. وتوزيع التكاليف الشرعية فى الإسلام منظورفيه إلى هذه الحقيقة ٬ ألا يترك للنفس فراغ يمتلئ بالباطل ٬ لأنه لم يمتلئ من قبل بالحق.ويشرح ` ديل كارنيجى ` هذا فيقول: “إننا لا نحس أثرا للقلق عندما نعكف على أعمالنا ٬ولكن ساعات الفراغ ٬ التى تلى العمل هى أخطر الساعات طراً. فعندما يتاح لنا وقت فراغ لاتلبث شياطين القلق أن تهاجمنا ٬ وهنا نتساءل: أترانا نحصل من الحياة على ما نشتهى؟.أترى كان الرئيس يعنى شيئا بملاحظته التى أبداها اليوم؟. أترانا مرضى؟. ذلك أن أذهانناتشبه أن تكون خاوية عندما تفرغ من العمل ٬ والطلاب فى دروس الطبيعة يعلمون أن الطبيعةتمقت الفراغ ٬ تريد تجربة على ذلك؟. أحدث ثقباً فى مصباح كهربائى مفرغ من الهواء ٬وسترى أن الطبيعة تدفع بالهواء إلى داخل المصباح ليملأ ما فيه من خلاء ٬ كذلك تسرع
الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة ٬ بماذا؟بالعواطف والإحساسات غالبا. لماذا؟ لأن مشاعرالقلق والخوف والحقد والغيرة والحسد تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة ٬ وتلك المشاعر من القوة بحيث يمكنها أن تبدد السلام من نفوسنا والاستقرار من عقولنا” . من حق المربين إذن أن يحذروا آفات الفراغ ٬ وأن يحصنوا النفوس من شرورها. وأمثل الوسائل
فى هذه الحالات وضع سياسات محكمة للإنشاء الدائم ٬ والبناء المستمر. فإن شحن الأوقات بالواجبات ٬ والانتقال من عمل إلى عمل آخر ولو من عمل مرهق إلى عمل مرفه هو وحده الذى يحمينا من علل التبطل ولوثات الفراغ. وأحسب أن المجتمع يستطيع الخلاص من مفاسد كثيرة لو أنه تحكم فى أوقات الفراغ ٬ لا بالإفادة منها بعد أن توجد ٬ بل بخلق الجهد الذى يستنفد كل طاقة ٬ ويوجه هذا وذاك إلى ما ينفعه فى معاشه ومعاده.فلا يبقى مجال يشعر امرؤ بعده أنه لا عمل له. من قديم عرف المصلحون أن بطالة الغنى ذريعة إلى الفسوق. إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أى مفسدة ونضم إلى هذا أن بطالة الفقراء تضييع لقدرة بشرية هائلة ٬ وبعثرة مخزية لما أودعه الله فى العضلات والأعصاب والأفئدة من طاقات لو فجرت لغيرت وجه العالم . وأحق الأنظمة بالقبول والتشجيع ما رعى هذه الحقيقة ورتب عليها تعاليمه. والإسلام يملك على الإنسان أقطار نفسه من هذه الناحية ٬ فإن أغلب شرائعه يدور على جهاد النفس وجهاد الناس. وجهاد النفس فطامها عماتشتهى من أثام ٬ أو تجنح إليه من مناكر. وجهاد الناس منع مظالمهم من إفساد الحياة وخلخلة الإيمان ٬ والإصلاح فى جنباتها. وكلا الجهادين يستغرق العمر كله لحظة لحظة ٬ ولايستبقى فرصاً للعبث والذهول والغفلات. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله الاستمساك بدينه مع نبض قلبه بالحياة ٬ فيدعو: ` يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ` . وكان يقول: ` اللهم رحمتك أرجو ٬ فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين ٬ وأصلح لى شأنى كله ٬ لا إله إلا أنت ` . وهذا الاستمداد اليقظ الدائب هو أساس الاكتمال النفسى .أما شغل الوقت كله بالجهاد العام بعد ذلك فأمر معروف فى سيرته ٬ فما استراح من
مناهضة الكفر فى فج من فجاج الجزيرة إلا ليتحول إلى فج آخر يعمره بالإيمان والتقوى.وقد جاء صاحباه من بعده أبو بكر وعمر فلم يدعا للمسلمين مجالا لقعود ٬ فرموا بجيوشهم
على معاقل الطغيان فى الأرض ٬ فما هى إلا سنوات معدودات حتى امتلأت بقاع العالم بأضواء الإيمان. فماذا حدث بعد أن ترك المسلمون هذه الواجبات المهيمنة على أوقاتهم
كلها؟. فرغ بعضهم لبعض ٬ وعاثت بينهم الفتن!!. ثم خلفت خلوف جعلت من تفسيرالمتشابه فى كتاب الله مضيعة للوقت الواسع الرخيص!!. فأساءت بذلك إلى آيات الكتاب
كلها محكمها ومتشابهها. إن الحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة لم يجدالباطل بقية يستمد منها. وإذا استولى على قلبه ولبه فلا مجال لوساوس اللهو وهواجس الريبة. ويتساءل ` ديل كارنيجى `: “ما السبب فى أن أمرا هينا كالاستغراق فى العمل يطرد القلق؟. السبب فى ذلك هو أحد القوانين الأساسية التى اكتشفها علم النفس وهو:من المحال لأى ذهن بشرى مهما كان خارقا أن ينشغل بأكثر من أمر واحد فى وقت واحد”.وهذا صحيح ٬ وهو قريب من قول الله عز وجل: “ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه” . إنك كما تعجز عن تخيل شيئين فى وقت واحد ٬ فكذلك تعجز عن الجمع بين إحساسين متناقضين. ليس فى استطاعتنا أن نتحمس لعمل مثير ونحس القلق فى الوقت نفسه ٬ فإن واحدا من هذين الإحساسين يطردالآخر.وهذا القانون البسيط هو الذى مكن الأطباء النفسيين الملحقين بالجيش أن يأتوا بالعجائب فى خلال الحرب ٬ عندما كان يأتى إليهم الجنود الذين ضعضعت الحرب أعصابهم ٬ كانوايقولون: أشغلوهم بعمل ما . إن الفراغ فى الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب ٬ ويخفيهاوراء رُكام هائل من الاستهانة والاستكانة ٬ كما تختفى معادن الذهب والحديد فى المناجم المجهولة !!. ويستتبع هذا الإهدار الشنيع لقيمة العمل والوقت مصائب لا حصر لها فى الأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية . يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنى لأرى
الرجل فيعجبنى ٬ فإذا سألت عنه فقيل: لا حرفة له ٬ سقط من عينى . وفى الحديث: ` إن الله يحب المؤمن المحترف ` . فلا جرم أن شعوبا بأسرها تسقط من عين الله ٬ وتسقط من
أعين أهل الجد والإنتاج لأنها لا عمل لها ٬ استهلكها الفراغ وأسلمها للفناء .. وعندى أن العلة الأولى لتخفف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحوالها النفسيةوالاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعس. ويستحيل أن تحرز هذه الأجيال الغفيرة من البشرسهما من نجاح فى الدنيا أو فلاح فى الأخرى إلا إذا تغير أسلوبها فى الحياة ٬ وامحت من ربوعها آثام البطالة والفراغ......والله من وراءالقصد