لغتنا العربية تستغيث أبا الأسود الدؤلي

لغتنا العربية تستغيث أبا الأسود الدؤلي

بقلم د‏.‏ ممدوح عشري
أستاذ بجامعة جوتنجن ـ ألمانيا الاتحادية

أبوالأسود الدؤلي هو مؤسس علم النحو في اللغة العربية‏.‏ ولد في الجاهلية قبل الهجرة بستة عشر عاما‏,‏ من قبيلة كنانة بالكوفة‏,‏ نشأ في البصرة وصحب عليا بن أبي طالب‏,‏ اعتنق الإسلام بعد وفاة الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولم يشرف برؤيته‏...‏ انتقل إلي مكة والمدينة وتوفي سنة‏69‏ هـ‏.‏
أثار قلق الدؤلي الخلل الذي بدأ يتسرب إلي اللغة العربية مع اتساع رقعة الامبراطورية الإسلامية ودخول الكثير من العجم فيها‏,‏ وقد هاله بوجه خاص لحن بعض الناس في قراءة القرآن الكريم لجهلهم بقواعد النحو وما يسببه ذلك من تغيير جذري للمعني‏.‏ ولذا بادر الدؤلي بوضع قواعد علم النحو العربي وقام بتشكيل كلمات المصحف الشريف بعلامات الفتحة والكسرة والضمة والشدة والسكون‏.‏ وقد أرسي الدؤلي بهذا العمل الرائد الأساس اللغوي لضبط النطق السليم بالكلمات العربية‏,‏ وكان يأمل في أن يلتزم به كل الناطقين باللغة العربية الفصحي من بعده‏,‏ ومن رحمة الله به أنه لا يعيش بيننا الآن ليري كيف استهانت بتعاليمه دور نشر الكتب المدرسية والعلمية والأدبية ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وما أشبه اليوم بالأمس‏!‏
من المعروف أن كل الحروف العربية ساكنة لا تنطق بمفردها‏,‏ ولذا كانت علامات التشكيل التي ابتكرها الدؤلي بمثابة إشارات دليلية لتحريك الحروف في الكلمة‏.‏ وتتضح الأهمية الكبري لهذا الابتكار في أن كلمة عربية واحدة قد يختلف معناها باختلاف الحركة اللفظية لحروفها‏,‏ فعلي سبيل المثال لا الحصر الكلمة المكونة من الثلاثة أحرف ع ج ل إذا نطقت بجر العين وسكون الجيم عجل يكون معناها ولد البقرة‏,‏ وبفتح العين والجيم عجل يكون معناها سرعة أو جمع عجلة‏,‏ وبفتح العين وجر الجيم عجل تكون صفة بمعني سريع‏.‏ وعدم الضبط اللفظي لكلمة كيس بفتح الكاف والتشديد المجرور للياء‏,‏ والتي تعني ظريف‏,‏ تحول الإنسان المنعوت بهذه الصفة الحميدة إلي كيس إذا نطقت الكاف مجرورة بحرف الياء‏.‏ وهناك فرق كبير بين غنم بضم الغين وتسكين النون أي فوز وبين غنم بفتح العين والنون أي القطيع من المعز والضأن‏,‏ وكلمة سنة بضم السين والتشديد المفتوح للنون تختلف في معناها تماما عن كلمة سنة بفتح كل من السين والنون وعن كلمة سنة بجر السين وفتح النون وهي النعاس السابق للنوم‏.‏
علاوة علي ما تقدم فإن إهمال تشكيل الحروف يؤدي إلي صعوبات جمة في النطق الصحيح للمصطلحات الأعجمية المعربة في مختلف المجالات‏,‏ وهذه مشكلة عصرية كبيرة يقع عبؤها علي العلماء بالتعاون مع مجامع اللغة العربية في الوطن العربي‏.‏
وكان من الممكن التغاضي عن عملية التشكيل لو كان لدي الأجيال الناشئة إلمام كاف بقواعد النحو والصرف وتعودت آذانهم منذ الطفولة علي سماع لغة سليمة من الأم والأب علي وجه الخصوص ومن مجتمعهم بصفة عامة‏,‏ كما هو الحال في دول تحافظ علي لغتها وتحترمها كألمانيا أو بريطانيا مثلا‏.‏ فالأصل في أي لغة أن تكون صوتية يتعلمها الإنسان بالسمع أولا ليمكنه قراءتها علي نحو صحيح‏.‏ وللأسف الشديد تكاد تنعدم في المجتمعات العربية الظروف التربوية للنشء لكي يستقيم لسانه بلغة عربية سليمة‏,‏ وكيف يتأتي ذلك ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية‏,‏ وهي واجهة المجتمع‏,‏ تعطي المثل الأسوأ‏!‏ فمعظم المذيعين ومقدمي البرامج من الجنسين يلحنون في كلامهم ولا يرون في ذلك حرجا‏,‏ وتجنبا للالتباس فإنني أعني هنا بكلمة يلحنون بضم الياء وسكون اللام وجر الحاء يخطئون في قواعد النحو والصرف‏,‏ ولا أقصد يلحنون بضم الياء وفتح اللام والتشديد المجرور للحاء أي يترنمون في كلامهم ـ لا سمح الله‏.‏
رحم الله الدؤلي وأثابه علي ما بذله في خدمة لغة القرآن الكريم من جهد ضاع عندنا‏.‏

جريدة الأهرام(26 من ذى القعدة 1429 هـ 24 نوفمبر 2008 السنة 133 العدد 44548)