وإنما كانت دولة إسلاميةً أصيلةً، وإن حدث فيها بعض التجاوزات، التي لا تعيبها حقيقةً كدولة، وإنما تؤخذ على بعض الخلفاء الذين حصل منهم هذه التجاوزات.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هؤلاء المتجاوزين بشرٌ يَقَعُ منهم الخطأ، كما يقع من غيرهم، لارتفع هذا اللَّوْمُ العنيفُ، الذي يُوَجَّهُ إليهم.
نعم! إنَّ كذبة الأمير بلقاء مشهورة، وخطأه ليس كخطأ العامة، ولكنه ما دام غير معصوم، فالخطأ حاصل لا محالة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر تلك الحقيقة حين يقول: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
على أننا ينبغي أن نعلم: (أن كثيراً من التُّهم التي أُلصِقَتْ بالخلفاء، وبخاصة بني أمية لم تثبت صحَّتُها، وإنما كانت مِن وضع أعدائهم...).
ثم قال: (إن الذين استباحوا لأنفسهم الكذب، لا يتورَّعُونَ عن إلصاق التُّهم بغيرهم، ولا يكفُّون عن تشويه حياة أعدائهم.
ولست أُريدُ مِن وراءِ ذلك تبرئةَ خلفاءِ بني أمية مِن كُلِّ ما نُسِبَ إليهم، ولكني أُريدُ توضيحَ حقائق لا ينبغي أن تخفى على الباحث، وهي أن كثيراً مما وُجِّهَ للخلفاء من التهم: زَيْفٌ لم يستطع أحدٌ إثباتَهُ بطريق يُمْكِنُ التَّسْليم به).
ثم قال الدكتور الوكيل (1/8-9): (إنَّ الدَّولةَ الأُموية التي فتحت بلاد الهند والسند، حتى وصلت حدود الصين شرقاً، وواصلت فتوحاتها في المغرب العربي، بل وجاوزته إلى أوروبا، حتى فتحت الأندلس، ووصلت جنوب فرنسا، هذه الدولة، لا يُمْكِن أن تَسْلَمَ مِن ألسنة المستشرقين والمستغربين على حَدٍّ سواء ؛ لأن هذه الفتوحات المُذْهِلَة، أَوْرَثَتِ الأعداءَ حِقْداً لم يستطيعوا إخفاءَهُ، ولم يقدروا على تجاوزه، بل ظلُّوا يجترُّونه قروناً طويلة، حتى واتتهم الفرصة، بإصابة الدولة الإسلامية بالشيخوخة، التي تُصِيبُ الأمم دائماً من غير تفريق، فانقضُّوا عليها وهي تحتضر، ليأخُذُوا منها ثأرهم، وهي على فراش الموت.
ومَهْمَا قال الحاقِدُون عن الأمويين، ومهما أثاروا الزوابع والعواصف من حولهم، فإن تاريخهم حقبةٌ مُشْرِقَةٌ مِن أحقاب التاريخ الفذ.
وسيرى الدَّارِسُ لهذه الحقبة: ما نشَرُوهُ مِن الحضارة، وما خلَّفُوهُ وراءَهُم من النظم، وما أنجبوا من القيادات، التي ساقت جيوشهم من نصر إلى نصر، حتى دان لهم أكثرُ مِن نصفِ الأرض المعروفة في تلك الفترة من الزمان.
وإذا تركنا الأمويين في الشرق، لِنُلْقِي نظرةً على دولتهم في الغرب، نرى ما لم يخطر لأحد على بال في تلك الفترة، نرى حضارة في العمران، في القصور الرائعة، والمساجد المبهرة، نرى الحدائق في البيوت والميادين، نرى الشوارع المرصوفة والأسواق العامرة) انتهى المقصود نقله من كلام الدكتور.
صقر قريش:
ويبقى بنو أمية رغم الإبادة!
بعد أن قام بنو العباس بإبادة جماعية لبني أمية، تفلت بعض الأمويين وفروا هاربين، وكان من الأمويين الفارين -رغم الأمان الذي بذله له أعوان العباسيين- عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك المعروف بعبد الرحمن الداخل «صقر قريش».
لقد قطع هذا الرجل النهر سباحة، وانتهز من العباسيين غفلتهم فجمع الأعوان وجيش الجيوش وذهب إلى الأندلس، وغامر مغامرات عجيبة غريبة عنيفة حتى وصل إلى سدة الحكم! وأعاد الدولة الأموية من جديد، ولكن في الغرب لا الشرق.
هكذا قامت دولة الأمويين في الغرب أقامها رجل واحد منهم.
قال أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي لبعض جلسائه: أخبروني من صقر قريش من الملوك؟
فقال بعضهم: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء!!
قال: ما قلتم شيئاً!
وقال بعضهم: فعبد الملك بن مروان. قال: لا..
فقالوا: من هو يا أمير المؤمنين؟
قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحار، وقطع القفار، ودخل بلداً أعجمياً، منفَرِداً بنفسه، فمصّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام مُلْكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته...
إن عبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطَّدَ الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين.
فقالوا جميعاً: صدقت يا أمير المؤمنين.
تلك شهادة له من عدو، آثر أن يقتل بني أمية، وأن يدفن آثارهم فلا يتكلم بها أحد، ولكن شجاعة عبد الرحمن وحزمه، جعلت الخليفة يشيد به، ويذكر محاسنه مرغماً، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ومن العجائب في هذا أنَّ عبد الرحمن الداخل حكم ثلاثاً وثلاثين سنة، ومن بعده من بني أمية عمّروا في حكمهم بخلاف بني العباس.
فمنذ دخل عبد الرحمن الأندلس إلى ولاية الناصر مات من بني أمية في المغرب سبعة خلفاء في الوقت الذي مات فيه من بني العباس اثنان وعشرون خليفة، ولله الحكمة البالغة.
وعلى الرُّغم من سعي النصارى في أوروبا على إزالة هذه الدولة الفتيَّة إلا أنها تخرج في كل معركة منهزمة سوى معركة واحدة في عهد عبد الرحمن الناصر.
وبعد هذا فمهما قال الحاقِدُونَ عن الأمويين، ومهما أثاروا الزوابع والعواصف من حولهم، فإن تاريخهم حقبة مشرقة من أحقاب تاريخ أمتنا الفذ.
ومما يجدر بنا أن نشير هو أن الطاعنين في بني أمية لم يُعلم عنهم أنهم نصروا الإسلام أو جاهدوا مع المسلمين، أو فتحوا مصرا من الأمصار بالسيف، أو ذُكِرَ لهم تاريخ في كتب السِّيَر والمغازي سوى أنهم كانوا يعينون النصارى والمشركين على المسلمين، ويسعون في سفك دمائهم، وما حادثة إدخال التتار في بغداد قديماً والنصارى حديثاً عنا ببعيد.
ويبقى ذكر بني أمية في سجلاَّت التاريخ شاهدا على بطولتهم ودينهم وشجاعتهم وتمسكهم بالسنة، وأمَّا أعداؤهم من الرافضة وأذنابهم فليس لهم ذِكرٌ سِوى أنهم أهل الخيانة والكذب، واللطم والبكاء في كُلِّ عام.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرّ الميامين والله تعالى أعلم وهو أعز وأكرم.
([1]) انظر: سير أعلام النبلاء (1/260).
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) انظر: السير للذهبي (1/261).
([4]) انظر: السير (1/260).
([5]) السير (1/329).
([6]) قمع الدجاجلة (230).