|
03-06-2009, 06:17 PM | رقم المشاركة : 1 | |||
|
إمـام أهـل الـسـنـة
إمـام أهـل الـسـنـة خذوا إيمان إبراهيم تنبت ~~~~~ لكم في النار جنات النعيم وفي ذلك درس وعبرة .. إن هذا الرجل من الحاشية هو كمؤمن آل فرعون ، يغار على الإمام أحمد ويحبه ولكنه لا يستطيع أن يصنع شيئا كثيرا . هو من حاشية الخليفة ومن أعوانه ومن المقربين منه وربما جامله بعض الشيء ، ولكنه أسر إلى الإمام أحمد بهذا الخبر , وهكذا يكون المؤمن الصابر الذي قلبه مع أهل الخير وأهل الإيمان وأهل التقوى , إن لم يستطع أن ينفعهم علانية نفعهم سرا ولو بالنصيحة بينه وبينهم أو بالموافاة بـما يكاد لهم { إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ } . ولما حمل الإمام أحمد للمأمون سأله رجل عن حديث وقال : يا إمام ما تقول في حديث كذا وكذا ؟ والإمام أحمد مثقل بالحديد في رجليه والقيود في يديه , فالتفت إليه الإمام أحمد وتبسم وهو يقول ويتمثل بقول الشاعر : رويدك حتى تنظري عما تنجلي ~~~~~~~ عماية هذا العارض المتألق أي انتظر حتى ينجلي هذا الأمر . نعم لقد انجلى هذا الأمر عن طيب معدن الإمام أحمد وصلاحه وأنه ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى ، وآثر الحياة الآخرة على الدنيا فجعل الله تعالى له الدنيا والآخرة . مات المأمون وجاء المعتصم , وكان جاهلاً لا يعرف شيئاً ولكنه مشى على سنن من كان قبله ووجد الإمام أحمد محبوسا فزاد في حبسه وقيده وضَرَبَه وأهانه ، وكان يقف عليهم بنفسه ويأمرهم بضربه حتى تتقطع أيدي الجلاد من شدة الضرب حتى قال أحدهم : والله لقد ضربت أحمد مائة سوط لو كانت على فيل لانهد . وكانوا يتعاقبون عليه والإمام أحمد رجل قد بلغ من السن ما بلغ وهو ضعيف الجسم كثير الصيام , يسرد الصوم بل ربما واصل أياما , ومع ذلك ربما ظل صابرا وهو يضرب ويتقلب تحت السياط ويتلوى ويعرضون عليه الفطر فلا يفطر ويقول : إني أقوى . يأتيه الخليفة فيقول له : يا أحمد والله لولا إني وجدت من قبلي قد حبسك ما صنعت بك شيئاً , ثم يقول والله يا أحمد لئن أجبتني إلى ما أريد أن تقول بأن القرآن مخلوق لأطلقن عنك القيود بيدي ولأركبن إليك بجندي ولأطأن عقبك ، يا أحمد والله إني عليك لشفيق وإني لك محب , والله إنك عندي مثل ولدي هارون فأجبني إلى ما أريد حتى أطلق عنك وأكرمك ... إلى غير ذلك . فاستخدموا معه أسلوب القوة والقسوة والضرب ، ثم أسلوب الترغيب والإشفاق والتعبير عن المشاعر . فكان الإمام أحمد لا يزيد في هذا ولا في ذاك على كلمة واحدة "هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تذهبون إليه وتقولون" ، ما عنده إلا هذا الكلمة . إنها قضية كبيرة , لامزايدة في المبادئ , والدين ليس فيه مجال للمساومة والبيع والشراء أو الالتقاء في منتصف الطريق ، الدين حق واضح يؤخذ من القرآن والسنة ولا يزيد أهله بإيذائهم وضربهم وحبسهم والوقوف في سبيلهم إلا صبرا وثباتا . أهل العقائد على مدار التاريخ - حتى ولو كانت عقائدهم باطلة - كل ما أوذوا وحوربوا كان ذلك دفعة لهم للأمام وتقوية لعزائمهم وتصبيرا لهم وحفزا لهمهم , فكيف إذا كانوا أهل الحق الذين ينطقون عن القرآن والسنة ويقتدون بهدى المرسلين ؟. إنهم يقرءون ويسمعون قول الله تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وفي الآية التي بعدها {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } . إذا هذه الفتن والمحن لا تزيد المؤمنين إلا صبرا وإصرار وثباتا على دينهم فالإمام أحمد لم يزايد ولم يجعله البلاء والشدة يقول : أنا لست مكلفا ولا ملزما بهذا وأنا بعافية والحمد الله , ألزمُ بيتي وأغلقُ بابي !.. لا , القضية قضية دين ومسؤولية وأمانة لا بد أن يحملها . كذلك لما قال له الخليفة ما قال : يا أحمد أنا والله عليك مشفق ، وأنت عندي مثل ولدي هارون فإذا أجبتني إلى ما أريد أطلقتك بيدي وفعلت وفعلت هذا أيضا لم يزلزل موقف الإمام أحمد , كانت كلمته في الحالين واحدة : "هاتوا لي دليلا من كتاب الله" , إنه لم يتقلب مع الذين تقلبوا ولم يتلون مع الذين تلونوا : ولم أتلون كالذين تلونوا ~~~~~~~~ وزاغوا وراغوا خسئة وتصيدا وحسبي من القول الحلال قصائد ~~~~ نطقت بها تبقي إذا لفني الردى ربي لك الحمد لا أحصى الجميلا ~~~~~ إذا نفذت يوما شكاه القلب في كربي فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وماشيء ~~~~~~~ سوى الحمد في الضراء يجمل بي رضيت في حبك الأيام جائرة ~~~~~~~ فعلقم الدهر إن أرحاك كالعذب شكرا لفضلك إذا حملت كاهلنا ~~~~~~~ مما وثقت بنا ما كان من نوب ثم جاء بعد ذلك المتوكل فأكرم الإمام أحمد وعظمه ورفع عنه المحنة وأذن له بالتعليم والتدريس ونشر علمه وفقه وحديثه وفتياه ، ومع ذلك فإن الأمر لم يسلم من المنغصات . فمع أن المتوكل أكرم أحمد واحتفى به ولقيه مرات وطلب منه أن يشخص إليه فاستقبله في بغداد وأسكنه ببيت فخم , وكان يغدى عليه بالموائد ويراح والإمام أحمد لا يأخذ شيئا من ذلك ولا يأكل منه شيئا ولا يقربه بل ينهى من حوله عن ذلك كله، وقد رضى وقنع باليسير والزهيد فكان يأكل من ماله الخاص . فحينئذ قال قائل للخليفة : إن هذا الرجل لا يأكل لك طعاما ولا يشرب لك شرابا ولا يجلس لك على فراش ، بل هو يحرم ما تشربه فلماذا لا تتخذ منه موقفا ؟! هذا تقرير رجال الأمن للخليفة في ذلك الوقت , فماذا قال الخليفة ؟ لم يلتفت إلى هذا التقرير ولا أعطى رجال الأمن هذه الأهمية ولا اعتبر أن تقريرهم هو القول الفصل في شأن الإمام أحمد ولا في غيره , بل قال قولةً مدوية صريحة , قال : "والله لو نشر المعتصم - يعني أخرج من قبره بعدما مات - وكلمني في الإمام أحمد ما قبلت منه شيئا . الإمام أحمد له من قلبي مكانة رفيعة ، لا أقبل فيه قول قائل" . ما سكتت الوشايات عند هذا الحد , فقد جاءه رجل من المغرضين وقال له : إن أحمد وإن كان يتظاهر بالدين والصلاح والعلم والفقه إلا أن الأمر بخلاف ذلك . قال له : ما الخطب ؟ قال له صاحب التقرير الأمني الثاني : (إن أحمد يخطط لقلب نظام الحكم ويسعى إلى الوصول إلى السلطة وأن هناك وثائق تدل على ذلك !!) ما هي الوثائق ؟! يقول التقرير الأمني الذي ذكره غير واحد من المؤرخين ، قال له : ( إن الإمام أحمد قد آوى بعض العلويين من نسل علي بن أبي طالب في بيته وأنه يُبايَع له في السر ) ! إذا نحن أمام دعوة عريضة تعتمد على أمر موجود في بيت الإمام أحمد ، رجل علوي يبايع له بالسر بالخلافة . فحينئذ أصاب الخليفة ما أصابه لأن هذا تقرير أمني يفترض أنه مبني على حقائق ومعلومات ودراسات ، وليس على تخمين أو ظن ، ولهذا فوجئ أحمد وأهل بيته وجيرانه وإذا بمنـزله يُحاصر في ساعة متأخرة من الليل - أو ساعة متقدمة من الليل - فلم يشعر إلا والمشاعل والمصابيح تضاءُ على منـزله ومنازل الجيران أيضا من أجل ضمان أن لا يتسلل أحد من المنـزل , وتحيط بالدار فرق التفتيش والدوريات وقوات الطوارئ وغيرها وإذا الناس والأجهزة الأمنية حتى من فوق السطوح .. فماذا وجدوا ؟ انظروا البساطة : أحمد رحمه الله جالس القرفصاء وعنده زوجته وأولاده وهم يتناولون طعام العشاء بكل هدوء وبكل بساطة مع الأولاد في جلسة عائلية . فوجئ الإمام رحمه الله بذلك : ما القصة ؟ قالوا : عندك رجل علوي . قال : فتشوا . ففتشوا كل شيء حتى خزائن الكتب والمطبخ وغيرها فما وجدوا شيئا ، فسألوه . قال : والله ما عندي من هذا علم وليس من هذا شيء ولا مثل هذا في نيتي وإنما هذا كذب علىٍّ ... فعرف الخليفة أن الناس يكذبون عليه فلم يعد يقبل فيه كلاما بعد ذلك . هذه هي الفتنة وهذه هي مجرياتها وأحداثها .. ولكن ما هي العبرة منها ؟ . أول هذه العبر : أن الإمام أحمد رحمه الله قام بفرض الكفاية وكان موقفه الفريد هو الذي أثبت الخيرية المستمرة لهذه الأمة وأنه لا يزال فيها من يأمر بالقسط والعدل ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويقوم بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم ، ولو لم يوجد الإمام أحمد لكان معنى ذلك أن الأمة كلها طأطأت رأسها وأذعنت وخفضت ظهرها للفتنة وأقرت بالباطل , ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يوجد في كل زمان ومكان من يقوم بحجة الله تعالى على عباده ويبلغ دين الله ويصبر في ذلك ويصابر . ولهذا لما ذكر علي بن شعيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة خباب رضي الله عنه : ( إن الرجل ممن كان قبلكم يؤتى به يحفر له في الأرض فيوضع فيها ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه حتى يشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب ما يصده ذلك عن دينه ) , فقال علي بن شعيب : "والله لولا أن الإمام أحمد قام بهذا الشأن لكان عارا علينا إلى يوم القيامة أن قوما سبكوا فلم يخرج منهم أحد" . يقول : لو ما وجد أحمد بن حنبل لكان معنى هذا أن الأمة كلها ليس فيها واحد يثبت للفتنة ويصبر ويقف في وجه الرياح العاتية لكن الله تعالى رحم هذه الأمة بالإمام أحمد . ولهذا قالوا : لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل لكتبت له سيرة . وأقول :كان الإمام أحمد في هذه الأمة وإنه لو كان في بني إسرائيل لكتبت له سيره واحدة أما لأنه من هذه الأمة فقد كتب له مئات السير , فقد ترجم له في مجلدات خاصة , كما صنف في ذلك ابن الجوزي والبيهقي ، وكما كتب في ذلك جمع من أهل العلم وعلى كلامهم اعتمدت : كما فعل الذهبي في سير أعلام النبلاء ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، وكما فعل ابن كثير في البداية والنهاية ، وكما فعل جماعة من المؤرخين المعتمدين . وكذلك المحدثون كما فعل ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل ، وغيرهم كثيرٌ . العبرة الثانية : أن الإمام أحمد قام بالشهادة لله تعالى . إن الذين كانوا على مثل مذهبه ويقولون بما يقول كثير بل هم أكثر العلماء والمحدثين والفقهاء , كانوا يقولون مثل قوله : القرآن كلام الله تعالى منـزل غير مخلوق , منه بدأ وإليه يعود , ولكن الذي ثبت وأعلن هذا المذهب وأصر عليه وأوذي في سبيله هو رجل واحد فقط وهو الإمام أحمد , ولهذا عُرف المذهب باسمه ونسب إليه وإن كان الجميع يقولون بقوله . إن الإمام أحمد لم يرض مسلك التأويل والتورية والمداراة بظاهر القول , فإن من أهل العلم مثلا من أجابهم إلى ما قولوا تقية فقال لهم ما يريدون على سبيل التخلص من أذاهم ، بل قيل إن من أهل العلم من قال القرآن والإنجيل والتوراة والزبور والصحف هذه مخلوقة ، وأشار إلى يديه - يعني اليد مخلوقة ولا يقصد هذه الكتب - فتخلصوا من ذلك . أما الإمام أحمد فما رضي بالمداهنة ولا بالتورية ولا بأسلوب اللف والدوران بل قالها واضحة صريحة ولو غضبت لها أنوف ولو انزعجت لها بلاطات الخلفاء ولو أرعدت لها قواتهم ولو أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم . إنه صبر حتى أعز الله تعالى به الدين حتى قال على بن المدينى : إن الله تعالى أعز هذا الدين برجلين بأبي بكر رضى الله عنه يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة . فهو مجدد لهذا الدين , والتجديد موقف صلب تتحطم عليه المحدثات وتنتهي عنده الانحرافات , أي تجديد للدين أعظم من أن يصبر الإمام أحمد عشر سنوات أو عشرين سنة فتعود الدولة إلى مذهب أهل السنة والجماعة ويعود الناس إلى هذا المذهب ويصبح هو المذهب المتبوع المقرر الرسمي الذي يدين به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ؟! إن أبا بكر رضى الله عنه جدد دين الإسلام بعدما كادت الردة أن تكتسح جزيرة العرب ولم يكن لأبي بكر إلا أنه وقف ذلك الموقف العظيم لما قال الصحابة : يا أمير المؤمنين الجزيرة كلها رمتنا على قوس واحدة الناس كلهم ارتدوا ونخشى أن تقتحم المدينة نفسها عاصمة الإسلام فلو تركنا الذين منعوا الزكاة وصبرنا عليهم وبدأنا بالمرتدين الكبار , فلم يرض أبو بكر رضي الله عنه ولا داهن وإنما قال : والله لو جرّت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين في المدينة ما فرقت من هؤلاءِ وهؤلاء ، إن الله تعالى ما فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عقالا - أو عناقا - كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها . قال عمر والله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى شرح صدر أبا بكر رضى الله عنه لهذا حتى علمت أنه الحق . إذا الإمام أحمد كان مجددا لهذا الدين بذلك الموقف العظيم الذي تحطمت عنده المحدثات والبدع والانحرافات , إن ثقة الناس بالدعوة - أي دعوة - تكون بقدر ثقة الداعية بها ويقينه بصحتها وتضحيته من أجلها , قال الله تعالى :{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} إذا بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين . وكان الإمام أحمد نموذجا فقد كان مؤمنا بآيات الله عز وجل ما داخله شك ولا ريب ولا تردد في صحة وصواب ما يدين به وما يعتقده ولم يزده البلاء والعذاب إلا يقينا على يقينه وإيمانا على إيمانه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} , {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} , إذا البلاء زاده إيمانا وزاده تسليما وزاده صبرا ويقينا ، وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل . وأيضا كان صبورا جُلد وخلع ظهره وأوجع وأوذي ومات وهو يتألم من أثر الجراح وأثر الجلد وأثر السياط ، فما صده ذلك عن دينه وما تراجع وما فكر وما قال أعطوني فرصة أشاور ولا قال أريد أن أستخير ، كانت كلمته واحدة "هاتوا لي دليلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك" , ولهذا خُلّد ذكره ولهذا كان إماما حتى كان العلماء في وقته وفي زمنه ممن يكبرونه سنا وممن جلسوا وقعدوا للتدريس والتعليم والتحديث قبله كانوا يقولون : "أحمد إمامنا وسيدنا وهو حجة بيننا وبين الله تعالى" كما قال على بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم من أهل العلم . بل قال قتيبه بن سعيد : "الإمام أحمد هو إمام الدنيا" ولذلك اهتموا به ونقلوا هديه وعلمه وأعماله وأحواله وأقواله وسائر أموره ،حتى نقلوا عنه الدقائق والتفاصيل التي تتعجبون من نقلها ، بل أقول بكل طمأنينة إن أهل الكتاب لا يعرفون عن أنبيائهم مثل ما نعرف نحن المسلمين عن عالم من علمائنا كالإمام أحمد رحمه الله تعالى . كان إماما مجددا صالحا قدوة حجة بين الناس وبين الله عز وجل ، ولو رضي بالتأويل والمدارة والتماس المعاذير والتورية لنجا من ذلك كله , ولكن لو نجا من ذلك كله لخمد ذكره وما كان له مقام يذكر فضلا عن نقص الأجور في الدار الآخرة , ولهذا كان الكثيرون يقولون كما قال البشر بن الحارث وعلي بن المديني ويحي وغيرهم يقولون : تريدون منا أن نقوم مثل ما قام الإمام أحمد ؟!. إن أحمد قام مقام الأنبياء - أي وقف موقف صدق يشبه ما كان عليه الأنبياء عليهم سلام الله تعالى -. النقطة الثالثة : ثبت الإمام أحمد في المحنه فكان هو نفسه المحنة . كيف ؟ كان العلماء في عصره يسعون إلى لقياه وإلى النظر إليه وإلى القعود بين يديه . قال المقرئ : رأيت علماءنا مثل الهيثم بن خارجة ومصعب الزبيري ( وعد خلقاً فيما لا أحصيهم من أهل العلم والفقه ) رأيتهم يعظمون الإمام أحمد ويبجلونه ويجلونه ويوقرونه ويقصدونه للسلام عليه . وقال أبو حاتم - رحمه الله - : إذا رأيتم الرجل يحب أحمد فاعلموا أنه صاحب سنة . فصار الإمام أحمد رمزاً من رموز السنة ما يحبه إنسان إلا لأنه يحب دينه ويحب عقيدته ويحب مذهبه ويحب صبره ويحب ما كان عليه ، وبالمقابل قال الغلاس : إذا رأيتم الرجل يقع في أحمد ويغتابه ويسبه ويبغضه فاعلموا أنه مبتدع .. لأنه لا يبغض أحمد إلا لمحاربته لدينه ومسلكه ومذهبه وما كان عليه . بل قال الهمداني : أحمد بن حنبل محنه يُعَرف به المسلم من الزنديق : أضحى ابن حنبل محنة مأمونة ~~~~~~ وبحب أحمد يعرف المتمسك وإذا رأيت لأحمد متنغصا ~~~~~~~~~~ فاعلم بأن ستوره ستهلك العبرة الرابعة : بماذا ثبت الإمام أحمد ؟ أو : ما هي أسباب ثباته ؟ تأملت فرأيت ثلاث أسباب : أولها : تثبيت الله عز وجل {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيل ا(74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} .. ثبته الله تعالى بعونه وتشديده وتأيده : وإذا لم يكن عون من الله للفتى ~~~~~~~ فأول ما يجني عليه اجتهاده السبب الثاني : البينة والعلم الذي كان يحمله ، فكان على بينة من أمر دينه , تلقى كتاب الله وكان عالما إماما في القرآن ، وتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إنه يحفظ مئات الألوف من الأحاديث بأسانيدها ، وعرف وعلم فلم يكن عنده في ذلك شك ولا تردد ولا ريبه ولذلك ما داخله في ذلك شيء فعلم أنه على الحق فصبر وصابر ، وكان الله تعالى يسخر له بعد ذلك . السبب الثالث : وهو الأمة التي كانت وراء الأمام أحمد . نعم , كانت وراءه أمة تؤيده وتساعده وتصبره, قال أبو جعفر الأنباري : لما حمل الأمام أحمد إلى المأمون وتجاوز الناس به النهر - نهر الفرات - عبرت إليه فإذا هو في الخان فسلمت عليه فرد عليّ السلام وقال لي : تعنيت - أي تعبت في سبيل المجيء إلي - قلت له :ليس هذا بعناء . قال :ثم قلت له - وانظر إلى نصيحة هذا الرجل الذي لا يملك شيئا إلا النصيحة يقولها لأحمد يثبته ويصبره بها - : يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فوالله لأن أجبتهم إلى ما يريدون وقلت بخلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله تعالى , وإن أنت امتنعت عن هذا ليمتنعون بامتناعك ، ومع هذا فإن الرجل - أي المأمون - إن لم يقتلك فإنك تموت غير بعيد ولا بد لك من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء , قال : فجعل الإمام أحمد يبكي ويكفكف دموعه ويقول : ما شاء الله ما شاء الله أعد علي هذا الكلام , قال : فأعدته عليه . فقال : ما شاء الله ، ما شاء الله . وأعجب من ذلك أن الإمام أحمد لما جيء به إلى الخليفة يمتحن جاءه رجل فهمس بأذنه بكلام - ما هذا الكلام ؟ - قال أنا رسول إليك أرسلني إليك فلان الحداد - رجل محبوس - يقول لك يا أحمد اثبت ولا تـجزع من الضرب فوالله أنا قد جُلِدت في معصية الله ألف حد - ولعله يقصد ألف جلدة في معصية الله - فما يضرك أنت أن تجلد في ذات الله ؟! حتى السجناء وحتى العصاة يشعرون أن عليهم واجبا في تثبيت أهل الطاعة ودعمهم وتقوية هممهم وعزائمهم وتصبيرهم وإعانتهم بما يستطيعون . الوقفة الخامسة : أن الإمام أحمد ثبت وكان وحده , وانجفل الناس عنه وأعرضوا فلا تجد حول بيته أحد ولا يقترب الناس منه ولا يُؤْذَنْ لهم فيأخذون عنه العلم والحديث , على حين كان بعض شيوخ البدعة حولهم الجاه والصولجان ، وما هي إلا سنوات حتى انقلبت الآية فكان يجلس في مجلس الإمام أحمد كما ذكر الذهبي وغيره خمسة آلاف منهم خمسمائة يكتبون العلم والباقين يتعلمون من الإمام أحمد الأدب والهدي والسمت وأصبح لا يجرؤ عليه أحد . ثم مات رحمه الله فصلى عليه خلق كثيرون حتى قيل إنهم حسب الإحصائيات المتوسطة مليون إنسان ، فضلا عمن صلوا عليه في السفن وفي الأنهار , وفي غيرها خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى . ازدحمت الشوارع وامتلأت بغداد وغصت بمن فيها واجتمع خلق وقال بعض المؤرخين إنهم لم يجتمعوا في الإسلام قط كما اجتمعوا على جنازة الإمام أحمد .. لماذا ؟ لأنه صبر وكان يقول لأهل البدع : "بيننا وبينكم الجنائز " . فأما أحمد فحضر جنازته ما يزيد على المليون وارتفع الصياح في البيوت والأسواق والمقابر والمساجد وغيرها ، وما من مسلم إلا دخلت المصيبة عليه بموت الإمام أحمد ؛ أما أهل البدعة ومنهم ابن أبى دؤاد خصم الإمام أحمد وعدوه اللدود والذي كان يقول للخليفة : يا إمام اقتله ودمه في عنقي ، لأنه من علماء السلطان وكان ضالا مبتدعا منحرفا عن السنة , هذا الرجل لما مات بالفالج ما حضر جنازته إلا ثلاثة . وهناك كثيرون كبشر الحافي وغيره من أهل الزهد والورع والصلاح ومع ذلك لم يحضر جنازتهم أحد يذكر .. أما أحمد فكان هذا الخلق حضر جنازته . أما في الدنيا قبل أن يموت فحدث ولا حرج فقد ضربت شهرته الآفاق وصار ذكره على كل لسان حتى صار هو يضيق بذلك ويقول : "اشتهرت ، اشتهرت" , وكان يقول : طوبى لمن أخمد الله تعالى ذكره . ويرى عليه الحزن أحيانا من كثرة ذكر الناس له .. بل لعل من الطريف أن الحسين بن الحسن الرازي كان يقول : اشتريت من بقال بمصر - مع أن الأمام أحمد لم يدخل مصر - متاعا وتحدثت معه وذهبنا في الحديث وجئنا , قال : فسألني عن الإمام أحمد بن حنبل , قال : أتعرفه ؟ قلت : نعم أعرفه وقد كتبت عنه حديثا . قال : فلما أتيت أعطيه ماله قال : والله لا آخذ منك شيئا , أنا آخذ ثمن متاع من إنسان عرف الإمام أحمد ورآه بعينه ؟! أبدا أنا سامحتك ولا أخذ منك شيئا . فكانوا يعظمون حتى من لقي أحمد أو أحبه أو أخذ عنه أو كتب عنه الحديث , وهذه بعض آثار صبره رحمه الله على المحنة. النقطة السادسة : فهي زهده وعبادته . ولعل هذا يمت بسبب إلى ما سبق ، فلم يكن يصبر ويصابر لولا أنه كان يستمد هذا من عبادته لله تعالى , قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا(2)نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا }قال عبدالله ابن الإمام أحمد : كان والدي ساعة يصلي العشاء ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو على رغم كبر سنه وبعدما جاوز السبعين من عمره ، وكان يقرأ في كل يوم سُبع القرآن فيختم القرآن في كل أسبوع وربما ختم القرآن في كل أسبوع مرتين , وكان يكثر من الصيام ويسرده وربما صام وهو في السجن وربما صام وهو يجلد وربما ضعف كثيرا حتى كاد أن يغمي عليه وهو مع ذلك مصرٌّ على الصيام حتى قرب وفاته رحمه الله تعالى . ولما اشتد مرض الإمام أحمد بعث إليه الخليفة بابن ماسويه الطبيب ، فنظر إلى الإمام أحمد ورجع إلى الخليفة وقال له : يا أمير المؤمنين , أحمد ليست به عله في بدنه إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام ، وكثرة العبادة . فسكت المتوكل عن ذلك . هذا جانب من عبادته وقربه إلى الله تعالى . ثم إنه كان معرضا عن الدنيا ومباهجها وزخرفها . قال بعض المؤرخين عرض الشافعي على الإمام أحمد أن يتولى القضاء في اليمن فأبى وقال للشافعي : أنت تعلم أنني أتعلم منك العلم المزهد في الدنيا فلا أريد شيئا يبعدني عن الآخرة ويرغبني في الدنيا . والإمام أحمد حينما رفض القضاء رفضه كَسُلَّم إلى الدنيا , أما أن يكون القضاء سببا إلى إصلاح بين الناس وإلى إقامة القسط والعدل وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى قضاء حوائج المسلمين فلا شك أن هذا من أعظم القربات وأجل الطاعات ، ولا بد للناس من القضاء ومن القضاة وقد يتعين هذا المنصب على من يكون أهلا له وجديرا به . كان الإمام أحمد يكره التكلف والتصنع والتزين والتظاهر بالأشياء ، ويعرف أن البهرج لا ينطلي على الله تعالى , وأن العبد يعرض على الله تعالى لا تخفى منه خافيه {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } , {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} حتى ثيابكم ونعالكم وملابسكم وأراضيكم خلفتموها وراء ظهوركم ! ليس معكم شيئا أنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح . فكان الإمام يتعامل مع الله تعالى ، ويراقب الله ، ويخاف من الله ، فلا يتظاهر بشيء . قال أبو حاتم : إذا رأيت أحمد تعلم أنه لا يظهر النسك , رأيتُ عليه نعلا لا يشبه نعل القراء له رأس كبير ( يعني النعل ) معقد , وشراك مسبل كأنه اشترى له من السوق ( يعني نعلة من نعال الناس ) وليس من النعال التي يتميز بها القراء وأحيانا فتيان القراء . وبعض المحدثين وبعض الطلبة قد يكون له سمت خاص وبزة معينة أما أحمد لم يكن كذلك ، بل كان كسائر الناس . قال : ورأيت عليه إزارا وجبة. قال أبو محمد ابن أبي حاتم : أراد الإمام أحمد بهذا - والله أعلم - ترك التزين بزي القراء وإزالته عن نفسه لئلا يشتهر به . إذا كان الإمام يكره أن يشتهر بشيء من ذلك . وقال المروزي إذا كان الإمام أحمد في بيته كان خاشعا وكان عامة جلوسه التربع , فإذا كان برّا - يعني في خارج بيته - لم يتبين منه خشوع ولم يكن يتظاهر بذلك لا في مشيته ، ولا في ثيابه ، ولا في طأطأة رأسه . ولا يتميز بثياب خاصة أو ملابس معينة أو هندام وإنما كان يهتم بالحقائق لا بالمظاهر وبالمعاني لا بالرسوم . أمر ثالث من زهده وعبادته إعراضه عن الدنيا والمال : قضى الإمام أحمد حياته كلها فقيرا , وكان يحب الفقر ويفرح به . ومع ذلك عرضت عليه أُعطيات كثيرة من التجار ومن سائر الناس , بعضها أموال ، وبعضها من المزارع ، وبعضها هدايا ، وبعضها أعطيات . ومع أنهم يحاولون بكل وسيلة إلا أنه كان لا يقبل شيئا من ذلك قط مهما كانت به من الحاجة . قال :عبد الرزاق : أعطيته بعض الدنانير فردها الإمام أحمد ، وقال : أنا بخير . وقال محمد بن سعيد الترمذي : قدم إلى بغداد صديق له من خرسان وكان قد اتخذ بضاعة يبيع ويشتري وقال : إن ربح هذه البضاعة للإمام أحمد . فذهب الرجل إلى الإمام أحمد ،وقال له : أن رجل بخرسان يبيع ويشتري ويقول : إن ربح البضاعة لأحمد . فقال الإمام أحمد : جزاه الله تعالى عنا عن العناية والاهتمام خيرا ، أما نحن ففي غنى وسعة , وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك . ربما أحرجه بعض الناس وأطال عليه فيقوم من المجلس ويدخل في بيته . دفع إليه السلطان أموالاً فردها ، ودفعها فردها مرة أخرى , فقالوا له : إن رددتها تغير عليك قلب السلطان وظن أنك لا تأخذ منه شيئا وربما وقع في نفسه . فأخذ هذه الأموال وقال : هاتوا لي أسماء الفقراء وطلاب الحديث وطلاب العلم المحتاجين وجعلها كلها في قوائم فما أصبح في بيته درهم واحد منها ولا دينار , وكان يقول : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } . ولما مات الإمام أحمد بعث ابن طاهر بصينيتين عليهما كفن و حنوط للإمام أحمد وقال :كفنوه في هذا وحنطوا بهذا . فقال صالح ولد الإمام أحمد : لا , إن الإمام أبا عبدالله قد أعدّ كفنه وأعدّ حنوطه قبل أن يموت ، وإن أمير المؤمنين قد أعفى والدي من كل ما يكره وهذا مما يكره الإمام أحمد ، وأبى أن يقبلها وردها إليه . كان الإمام أحمد يقول لولده صالح : إن والدتك - وكان يحبها كثيرا ويتذكرها وقد ماتت قبله - كانت تغزل غزلا دقيقا فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر وكان ذلك قوتنا ومعاشنا ، وكان يقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيئ من الدنيا . ثم يقول : إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وأيام قلائل ثم نصير إلى الدار الآخرة . ثم بلغ من ورع الإمام أحمد وزهده أنه نهى ولده عن أن يأخذ شيئا من أعطيات السلاطين ، وكان صالح - فيما أذكر - قد وليَّ القضاءُ وأخذ بعض المال وبعض المرتبات ، فكان الإمام أحمد - لا تحريما لهذا ولكن من باب الورع ولأنه يرى أنه دخل في الأموال شيئ - يتورع عن أخذها ويعتذر عن ذلك ، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا , وقالوا : احتجنا يا أبانا , فهجرهم شهرا لا يكلمهم . ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يشوي ويؤخذ ماؤه فلما جاءوا بهذا القرعة قال بعض الحضور : اجعلوها في تنور صالح . لأن تنور صالح قد أوقد وحمى فاجعلوها في هذا التنور . فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا ( لا، لا ) ، لا تجعلوها في تنور صالح لأنه يأخذ من السلطان . وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد فربما حرك عليه المروحة يروح عنه أحيانا فبغض الإمام أحمد ذلك لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أعطيات السلطان . هذا جانب من ورعه ، جانب من زهده ، إنه لا يحرم الحلال أبدا ولا يضيق على الناس أبدا . والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) , أي ما كان من سبل الحلال ولكنه كان في خاصة نفسه وفي من يعول من ولده يتخذ مسلك الورع والتقوى والاحتياط والتعفف والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك . أخلاقه ومناقبه : وإنها عجب من العجب ! أُوذِي الإمام أحمد وضُرِب وقضى حياته كلها مترددا بين السجون فماذا كان موقفه ؟ سامح من آذوه وضربوه , وقال : "ما علينا ألا يعذب الله تعالى أحد بسببنا" , إلا من أصروا على الضلال والبدعة فإنه لم يصالحه . وقد تلقى عنه هذا الهدي والسمت تلاميذه ومحبوه وأتباعه , فكان الإمام ابن تيمية مثلا وقد ضُرِب أيضا وأُوذى واعتُدِي عليه وسُجِن , وكان إذا أصرَّ عليه طلابه يقول لهم : الحق إن كان لي فقد عفوت عنهم ، وإن كان لله فالله تعالى يتولاهم ، أما أنتم فليس لكم بذلك شأن . قيل للإمام أحمد قد مكنك الله من عدوك , هذا هو ابن دؤاد اصنع به ما شئت واحكم فيه ما شئت , فلم يتكلم بشيء !. ما قال أنتقم منه وأن هذه فرصة سانحة بل أعرض عنه , { وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفي وأصلح فأجره على الله } , ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تحن من خانك ) . استفتوه في أموال لابن أبي دؤاد وكانت أموالا جاءته من السلاطين فلم يرد منها شيئا وما أفتاهم بشيء . بل ذكر البيهقي حكاية عجيبة عن أبي الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه كان يدعو في سجوده ويقول : "اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إليه حتى يكون على الحق حقا" . هكذا حرصه ودعاؤه حتى للضالين والمحاربين والمبتدعين يدعو لهم بالهداية لأنه يقول : "ما علينا ألا يعذب الله أحد في النار بسببنا , اللهم إن قبلت من عصاة هذه الأمة فداء فاجعلني فداء لهم" ! إلى هذا الحد حرصه على هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وإنقاذهم من المعصية ودعوتهم إلى الطاعة والسنة !! ناظر الإمام أحمد أهل البدعة في مجالس عديدة في زمن المعتصم وغيره فلم يكن يقول إلا هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى . ما كان يسب ولا يشتم ولا يلعن ولا يرفع صوته ولا يتهم , فالمسألة ليست مشاتمة ولا ملاعنة ولا خصومه , وإنما كانت المسألة مسألة مناظرة بالدليل . كلام الإمام أحمد في الرجال - الجرح والتعديل - : لم يكن يغلظ في القول ولا يبالغ في ذلك وإنما كان في كلامة إجمال وعفة وإعراض . فربما قال لا تأخذ الحديث عن فلان أو اتركه أو ما أشبه ذلك أو أشاح عنه بوجه وتركه . ولكن لا ينقل عنه الكلام الغليظ ، فالكلمات المعروفة بالقسوة والشدة قلما تسمع من فم الإمام أحمد . تواضعه : وهذا أمر عجيب أذكر منه نماذج فحسب . لم يكن يدع أحدا يستقي له الوضوء بل كان يأخذ الماء بنفسه , وربما خاط الإمام أحمد قلنسوته بيده ، ويتولى شأنه مباشرة ويعمل فيه بيده أيضا . وربما خرج إلى البقال يشتري حاجته بيده ويحملها على كتفه {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ } هذا هو هدي المرسلين التواضع والبساطة والبعد عن الأبهة وعن الجبروت وعن الكبرياء ومن تواضع لله رفعه الله . قال له رجل : يا أحمد هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال : هذا شرط شديد , وفي رواية أنه قال أما لله فعزيز ولكن حبب إلي شيء فجمعته . وروى البيهقي أن رجلا قال للإمام أحمد : إن أمي مقعدة منذ سنين وإنها أوصتني أن آتي إليك لتدعو الله تعالى لها , فغضب الإمام أحمد وقال : أنا أدعو لله تعالى لها ؟! أنا أحوج أن تدعو الله تعالى هي لي . فذهب الغلام وهو مكسوف وذهب إلى أمه يريد أن يخبرها بخبر الإمام أحمد . فلما ولى رفع الإمام أحمد يديه إلى السماء ودعا الله تعالى لها . فلما طرق الغلام الباب إذا أمه تفتح الباب له وقد عافها الله تعالى وشفاها ببركة دعاء الإمام أحمد لها . روى عنه ولده صالح وعبدالله أنه كان في مرض موته إذا أغمى عليه قال : لا بعد لا بعد ، فلما أفاق قال : يا أبتِ ما كلمة تلهج بها قال : ما هي ؟ قال : تقول لا بعد لا بعد , قال : إن الشيطان عرض لي في زاوية هذه الحجرة وهو عاض على أصبعه يقول : فتني يا أحمد فتني يا أحمد , فأقول له : لا ما فتك بعد .. فما دامت الروح في الجسد فأنا لم أفتك بعد والكيد قائم وربما كان هذا من كيد الشيطان للإمام أحمد أن يدخل على قلبه أو نفسه شيء من العجب فربما داخله ذلك ، ولكن الله تعالى عصم الإمام أحمد بصدقه وورعه وتقواه فكان يقول لا ما فتك بعد . وقال المروزى لأحمد : ما أكثر الذين يدعون لك يا أحمد . قال : عسى ألا يكون هذا استدراجا . أي : من أجل ماذا يدعون لي ؟ ما فيّ شيء يستحق أن يُدعى لي وأخشى أن يكون هذا من الاستدراج . قال له يا أحمد : كنا في بلاد الروم وقد هجم المسلمون على الكفار فكان الجنود وهم مرابطون في المعارك يدعون لك في الهزيع الأخير من الليل ويبكون ويسألون الله تعالى لك . فدمعت عيناه وقال : من أجل ماذا ؟ أخشى أن يكون هذا استدراجا . قال : يا أحمد والله لقد رأيت الجنود يرمي أحدهم بالمنجنيق ويقول : هذا عن الإمام أحمد ، فربـما ضرب علجا من علوج الروم فقطعه أو قتله فبكى أحمد وقال : من أجل ماذا يصنعون هذا ؟ أخشى أن يكون استدراجا . قيل له وقد ترك التحديث في آخر عمره وحلف ألا يكمل حديثا من أوله إلى آخره وأعرض عن الناس , فقال قائل في مجلسه : يا أحمد إن الناس يتكلمون أنك لست زاهدا في الدنيا فقط بل أنت زاهد في الدنيا زاهد في الناس . قال : ومن أنا حتى أزهد في الناس , الناس يزهدون بي . ولاحظ أخي أن الإمام أحمد ما كان يرى أنه هو الإمام الفحل المبجل الذي اتسم بالورع حين خلط الناس ، والتقوى حين فجر الناس ، والتزم بالسنة حين خالفها الناس ، وأنه وحيد زمانه وفريد أوانه .كان متواضعا لا يرى لنفسه حقا ولا يرى نفسه شيئا ! يقول : لا , الناس يزهدون بي ولست أنا الذي أزهد بالناس . ذكروا له أن فلانا رأى أنك بشرت بالجنة , فلان رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك ويثني عليك ويقول : اصبر . فيبكى الإمام أحمد وينفض يده ويقول : الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره وهذا فلان بُشِّر بالجنة فوقع في الدماء - أي اعتدى على الناس وتجرأ عليهم - . ننتقل بعد ذلك إلى نقطه وفقره أخيره وهي : ( بين الإمام أحمد وبين علماء عصره ) . علماء عصره كثي ر، وقل منهم أحد إلا ولقي أحمد وأخذ عنه أو تتلمذ الإمام أحمد عليه لكني سوف أضرب نماذج سريعة لكل فئة : الإمام الشافعي نموذج لعلماء السنة , أخذ عنه الإمام أحمد نحو عشرين حديثا مع أن الإمام أحمد أبصر منه بالحديث وأوسع منه في الرواية بمراحل ومع ذلك أخذ عنه ، وكان الإمام أحمد يقول لبعض زملائه تعال حتى أريك رجلا لم ترَ عينك مثله قط ، ثم يشير إلى الشافعي رضي الله عنه . كما أخذ عن الشافعي جملة من كلام العرب . ولما مات أحمد وجد في تركته كتاب الرسالة وهو كتاب عظيم صنفه الشافعي في أصول الفقه وكان أحمد يقرأ فيه ويستفيد منه ويدعو للشافعي ويثني عليه . وقد روى أحمد عن الشافعي حديثا طريفا مسلسلا بالأئمة : رواه أحمد عن الشافعي عن مالك وهم ثلاثة أئمة متبوعون , عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى تعود إلى جسدها ) ولما لقي الإمام الشافعي أحمد في رحلته الثانية إلى بغداد قال الشافعي لأحمد : "يا أحمد إذا صح الحديث عندكم فأعلمني به حتى أذهب إليه " .. حجازيا كان الحديث أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا أو كان ما يكون إذا صح الحديث فأخبرني حتى أذهب إليه . يقول هذا لإنسان يصغره بسنوات طويلة . وكان الإمام أحمد يقول لولد الشافعي محمد بن محمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم في السحر . وكان الإمام أحمد في حداثته يختلف إلى مجالس علماء آخرين كالقاضي أبو يوسف , وقد كتب روايات علماء الرأي وروايات أهل العراق ثم أقبل على الحديث والسنة . نموذج آخر : الحارث بن أسد المحاسبي وهو من المشهورين بالزهد والتقوى والورع والصلاح , بل التشديد في ذلك والتنقيب فيه . قال إسماعيل بن إسحاق السراج : قال لي الإمام أحمد هل تستطيع أن تريني الحارث بن أسد المحاسبي ؟ قال قلت له : نعم . وفرحت فرحا شديدا فدعوتهم ليلة على العشاء فأتوني بعد المغرب فجلسوا مطرقي الرؤوس , وجلس الإمام أحمد في غرفة بحيث يسمع حديثهم ولا يرونه هم ولا يعلمون به .. قال فجلس هؤلاء مطرقي الرؤوس كأن على رؤوسهم الطير وهم يتحدثون وبشر يعظهم ويذكرهم . قال : فإذا كان قريب من نصف الليل سأل أحدهم الحارث عن مسألة فشرع الحارث يتكلم فيها بكلام قوي جزل مؤثر فجعل هذا يبكى وهذا يأن وهذا يزعق ، قال : فصعدت إلى أحمد في الغرفة فإذا هو يبكى وقد اشتد به البكاء حتى كاد أن يغشى عليه . قال فرجعت فلم يزل كذلك إلى الصباح ، ثم ذهبت إلى أحمد فقلت له : ماذا رأيت ؟ قال : ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل ، وما رأيت مثلهم قط ، فأثنى عليهم بالخير الذي فيهم ، قال ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم . لماذا ؟ أولا : قيل لأنه كان عنده شيء من علم ا لكلام ، وهذا محتمل . ثانيا : قال البيهقي لأنه ظن أن هذا الرجل يعجز أن يصل إلى سيرة هؤلاء ويشق عليه . ثالثا : وهذا الذي رجحه ابن كثير في البداية والنهاية أن الإمام أحمد رأى في الحارث ومن معه من شدة التقشف والتدقيق والتنقير والمحاسبة والتشديد في ذلك والمبالغة فيه ما يرى أنه ليس بمشروع . فلذلك تركهم ونصح هذا الرجل بأن لا يصحبهم وأن يقبل على العلم والحديث والزهد المعتدل الذي لا يكون فيه إسراف . النموذج الثالث من علماء عصره ابن أبي دؤاد الذي كان يسمى قاضي القضاة ، وكان عالم الخليفة وهو الذي تسبب في البدعة وناظر الإمام أحمد ووقف على رأسه وأغرى به وآذاه وحصل منه ما حصل ، ثم دارت الدائرة عليه فجرد من منصبه وبيعت أمواله بالمزاد العلني وأخرج من بغداد واضطهد وضيق عليه ومات شر ميتة ، ثم لم يحضر جنازته إلا عدد قليل . سئل عنه الإمام أحمد فلم يجب عنه بشيء فسئل في أمواله فأعرض عنها . فهذا نموذج سريع لمواقفه من علماء عصره ... رحم الله الإمام أحمد ورفع من درجته في المهديين وألحقنا به في الصالحين إنه على كل شيء قدير .. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . |
|||
03-06-2009, 06:27 PM | رقم المشاركة : 2 | |||
|
جزاك الله خير |
|||
04-06-2009, 12:43 AM | رقم المشاركة : 3 | |||||
|
جزاك الله خيرا اخي
|
|||||
05-06-2009, 11:46 AM | رقم المشاركة : 4 | |||||
|
رضى الله عن الامام احمد بن حنبل امام السنه
|
|||||
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|