فضلُ العشرِ الأوائل ِمن ذي الحِجةِ
الحمدُ للهِ جلـَّت قدرتـُهُ , وتعالت منزلتـُهُ , فاقتضت حكمتـُهُ , أن فاضلَ بينَ خلقِهِ , وحُقَّ لهُ ذلك , فهوَ الخالقُ .
ففضَّـلَ الإنسانَ على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلا .
وفضَّـل من خلقهِ المؤمنينَ على مَنْ دونـَهم .
ثمَّ اصطفى من المؤمنينَ أنبياءَهُ ورُسلـَهُ .
وفضَّـلَ المُصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بأن بَعَثـَهُ بخيرِ كتابٍ وأفضلَ دين ٍلخيرِ أمَّةٍ , وجَعَلهُ للعالمينَ بشيراً ونذيراً .
ثمَّ أنعمَ بالفلاح ِعلى مَن حملَ لواءَ الأمرِ بالمعروفِ , والنهي ِعن ِالمنكرِ فلاحاً في الدنيا والآخرة .
ثمَّ فضَّـلَ منَ الأيام ِالجُمُعَة َ, ومن الليالي ليلة َالقدرِ , ومن الشهورِ رمضانَ الخير .
ومن الأيام ِيومَ عرفة َالذي تـَبَدَّتْ أنوارُهُ ، وهلـَّتْ بركاتـُهُ , وهو اليومُ التاسعُ من ذي الحِجَّةِ .
والصلاة ُوالسلامُ على نبيِّ الهُدي ، وإمام ِالتـُّقى ، وصاحبِ الضُّحى ، محمدٍ بن ِعبدِ اللهِ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ اللهِ .
أمَّا بعدُ أيُّها المؤمنون : يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في مَطلـَع ِسورةِ الفجرِ: ( والفجرِ{1} وليال ٍ عشرٍ{2} والشـَّفع ِ والوَترِ{3} والليل ِإذا يَسرِ{4} هل في ذلكَ قسمٌ لذي حِجرٍ{5} ) .
في هذهِ الآياتِ المباركاتِ يُشَّرِّفُ اللهُ هذهِ الأيامَ بأن أقسمَ بحقـِّهنَّ ، وأكرَمَهُنَّ , وفضَّـلهنَّ .
فحَثَّ على الإكثارِ منَ الطاعاتِ فيهنَّ ، من صوم ٍ, وصلاةٍ , وصدقةٍ , وقيام ٍوذِكرٍ .
فقولـُهُ والفجر : قسمٌ أقسمَ اللهُ بهِ وهوَ فجرُ الصُّبح ِ .
وليال ٍعشرٍ : هيَ العشرُ الأوائلُ من ذي الحِجَّةِ إلى يوم ِالنحر .
والشَّفع ِ: هوَ يومُ النحرِ ذاتـُهُ .
والوَتر : هوَ يومُ عرفة َ, حينَ يَحثو الشيطانُ الترابَ على رأسهِ ويصرُخُ مُولولاً بعدَ أن يَغفرَ اللهُ ذنوبَ العبادِ فيقولُ : أ ُضِلـُّهُم طولَ العام ِويَغفرُ لهم هذا اليوم .
والليل ِإذا يَسرِ : قسمٌ خامسٌ بالليل ِإذا سَارَ .
هل في ذلكَ قسمٌ لذي حِجر : أي لِذي عقل ٍولبٍّ . وهوَ خطابٌ لأُولي النـُّهى .
فهذه الآياتُ عبرة ٌوتبصرة ٌ لمن كانَ لهُ قلبٌ ( أيْ :عقل )
أو ألقى السمعَ وهوَ شهيد ( أيْ وهوَ حي ) .
خمسة ُأيمان ٍمُغلـَّظةٍ أقسمَ بها اللهُ ربُّ العزَّةِ , رفعة ً لمكانتِـها ، وعظيم ِشانِـها ، وقد حُقَّ لهُ أن يُقسِمَ بما خلقَ ، فيما لا يَحِـقُّ لمخلوق ٍأن يُقسِمَ بغيرِ مَن خلقَ جلَّ وعلا .
أيُّها الإخوة ُالأحبة ُ: روى البخاريُّ في صحيحهِ عن ِبن ِعباس ٍرضيَ اللهُ تعالى عنهما : أنَّ النـَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال : ( ما من أيام ٍ، العملُ الصالحُ ، فيهنَّ ، أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيام ِــ يعني الأيامَ العشر ـ قالوا يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيل ِاللهِ ؟ قال : ولا الجهادُ في سبيل ِاللهِ ، إلاَّ رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالِهِ ثـُمَّ لم يَرجعْ من ذلكَ بشيء ) .
وفي حديثٍ آخرَ للإمام ِاحمدَ في مُسندهِ عن ِبن ِعمرَ رضيَ اللهُ عنهما , أن النـَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال : ( ما مِـن أيام ٍأعظمَ ولا أحَبَّ إلى اللهِ العملُ فيهنَّ من هذهِ الأيام ِ، فأكثروا فيهنَّ منَ التهليل ِوالتكبيرِ والتحميد ) صدقَ عليهِ السلام .
فهنيئاً إخوتي وأحبتي : لمن حجَّ واعتمرَ فيهنَّ ، فالعُمُرة ُإلى العُمُرةِ كفارة ٌ لما بينهُمَا ، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلاَّ الجنـَّة ُ، تماماً كما أخبرَ بذلكَ الحبيبُ المُصطفى صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ .
وهنيئاً إخوة الإيمان : لِمن صامَ هذهِ الأيامَ , أو خصَّ بصومِهِ يومَ عَرَفة َ, كفارة ٌ لسنتين ِ، سنةٍ خلتْ ، وسنةٍ آتية .
ثـُّمَّ أنعِـم بهِ من أجرٍ ، واشرَحْ بهِ من صَدرٍ ، حينَ تسمعُ قولَ حبيبي محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ , إذ يبشِّرُ بعظيم ِأجرِ صائم ٍمنعَ نفسَهُ الطعامَ والشرابَ لقاءَ وجهِ ربِّهِ ، لقولِهِ عليهِ السلامُ ( ما من عبدٍ يَصومُ يوماً في سبيل ِاللهِ ـ أيْ في الجهاد ــ إلاَّ باعدَ اللهُ بذلكَ اليوم ِوجهَهُ عن ِالنارِ سبعينَ خريفا ) .
فالمطلوبُ من كلِّ مسلم ٍفي كلِّ آن ٍوحين ٍ، التوبة ُوالرجوعُ إلى اللهِ بتركِ المُنكراتِ ، والإكثارِ منَ الطاعاتِ والاستغفارِ، فالإستغفارُ من مُكفـِّرَاتِ الذنوبِ لقولِهِ تعالى : ( فقلتُ استغفروا ربَّـكم إنهُ كانَ غفـَّارا{10} ) نوح .
كما ويندبُ الحرصُ على صلاةِ العيدِ وحضورِ خـُطبتهِ ، ويُستحبُ كذلكَ دعوة ُالنساءِ لشهودِهَا لِمَا روتهُ أمُّ عطـيَّة َرضيَ اللهُ عنها أنها قالت : ( أمَرَنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أن نـُخرِجَهُنَّ بالفطرِ والأضحى ، العواتقَ والحُيَّضُ وذواتَ الخُدورِ ، فأمَّا الحُيَّضُ فيعتزلنَ الصلاة َويَشهدنَ الخيرَ ودعوة َالمسلمينَ ) .
ويُستحبُّ كذلكَ الذبحُ بعدَ صلاةِ العيدِ , اقتداءٍ بهدي ِالمُصطفى عليهِ السلامُ للمُوسِرينَ ، فليسَ أحبَّ إلى اللهِ من إهراق ِالدم ِفي هذا اليوم ِالمشهود ، لقولِهِ تعالى : ( فصَلِّ لربِّـكَ وانحر{2} ) الكوثر . فوقتُ الذبح ِمن بعدِ صلاةِ العيدِ إلى ثالثِ أيام ِالتشريق .
وعليهِ : فليحرص ِالمسلمُ يومَ العيدِ على شكرِ اللهِ تباركَ وتعالى ، بما أنعمَ عليهِ وتفضَّلَ , وأن يَسألـَهُ العونَ على الطاعاتِ : كالبرِّ وصلةِ الأرحام ِ، وفعل ِالخيراتِ ، وأن يُجَنـِّبَهُ مواطنَ اللهوِ , ومواضعَ اللغوِ ، إنهُ سميعٌ قريبٌ مجيب .
فليسَ العيدُ إلاَّ ختامََ العشرِ المُباركات .
فإذا كانَ هذا جزاءُ مَن أطاع َاللهَ فيها والتزمَ شرعَهُ ، وتقرَّبَ إليهِ بصوم ٍأو صلاةٍ أو صدقةٍ تنفـُّلا !! فكيفَ بمن أتى الفريضة َ, فتلبسَ بالعمل ِمَعَ العاملينَ المخلصينَ , الداعينَ لإعزازِ هذا الدين ِ، وإظهارِ حُكمِهِ بإقامةِ دولتِهِ ، دولةِ الخلافةِ الراشدةِ التي وَعَدَنا بها اللهُ ورسولـُهُ .
فقد آنَ أوانها , وحانَ زمانها , وتـَبَدَّى للناظرينَ سُلطانـُهَا ، وما ذلكَ على اللهِ بعزيز .
واللهَ أسألُ , أن يعيدَ علينا هذهِ الأيامَ المباركاتِ وقد عادَ الإسلامُ عوداً محموداً , ليُعيدَ العدلَ , وينشرَ الأمنَ والأمان , تحتَ أمِّ الضياء , ليرضى عنا الباري , ويسعدَ بحكمها ساكنُ الأرض ِ وساكنُ السماء .
ويقولونَ متى هو ؟ قل عسى أن يكونَ قريبا .