مشاهدة النسخة كاملة : سيرة الصحابة والتابعيين
طالب عفو ربي
10-04-2009, 01:46 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الاخوة الاحباب هيا بنا نجمع سيرة التابعون وتابعي التابعون حتي تكون لنا نبراس ونقتدي بهم ونتعلم منهم وان يكون ملتقانا هنا مع التابعين .
فمن منكم ينقل لنا قصة وسيرة احد التابعين وتابعي التابعين
طالب عفو ربي
10-04-2009, 01:52 AM
إيَّاس بن معاوية المزني
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ *
[رواه البخاري]
والتابعيُّ اليوم هو إياسُ بن معاوية المزني .
وردَ اسمُ إياس في بيت شعر للشاعر أبي تمَّام حينما مدح أحمد بن المعتصم ، و البيت مشهور جدًّا ، قال :
***
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
***
كان إياس بن معاوية مِن أذكى العرب ، وكان مِن أشدِّهم حِلمًا الأحنفُ ، ومِن أكثرهم سخاءً حاتمُ ، و من أشدِّهم شجاعة عمرو :
***
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
***
وقبل أن نمضيَ في الحديث عن هذا التابعيِّ الجليل ، لا بدَّ أن نقف وقفةً عند الذكاء ، والحقيقة أنّ الذكاءُ قيمة كبيرة جدا ، إلا أنه وحده ربَّما كان مدمِّرا لصاحبه ، لأنّ الذكاء يشبه اندفاعا شديدا ، فإذا لم يوجد سياجٌ من القيم ، ولا توجد مبادئ ، و لا توجد استنارة بنور الله عزوجل فهذا الذكاء يكون شؤما على صاحبه ، ألم تسمعوا في الأدعية الشريفة : اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم .
أيها الإخوة ؛ قليل من التوفيق خيرٌ من كثير من الذكاء :
***
ولو كانت الأرزاقُ تجري مع الحِجا هلكْنَ إذًا من جهلهن البهــائمُ
***
الذكاء قيمة عالية جدا ، و لكن الذكاء وحده لا يكفي ، لا بدَّ من الهدى ، ولا بدَّ من أنْ يستنير الإنسانُ بنور الله ، لا أملك إلا هذا المثلَ الدقيق جدًّا ؛ هذه العينُ لو أن أحدا فحص عينيه عند طبيب العيون ، فكانتا في أعلى درجات الحساسية ، والرؤية : 12/10 ، ولم يكن هناك مصباح يتوسَّط بينك وبين المرئي ، فالعينُ لا قيمة لها ، و كذلك العقل ، إن لم يكن هناك هدًى يتوسّط بين العقل وبين الأشياء فالعقلُ لا يرى ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image001.gif
[سورة المدثر]
العقل وحده قد يطغى ، وأكبر دليل العالَمُ الغربي ، هذا العالَم يكاد يكون عقلا فقط ، وهذا العقل توصَّل إلى تدمير الحياة الاجتماعية ، وتدمير البنية الأساسية ، و هي الأسرة ، فالإنسان عقل وقلب ، وعقيدة ومصالح ، فحينما تطغى المصلحةُ على العقيدة ، ربما كان تدميرُ الإنسان في تدبيره ، أما في عالَم الحيوان فأذكى الحيوانات على الإطلاق أكثرُها حقارةً ، فالقوارض من أذكى الحيوانات ، وإذا كان الإنسان ذا عقل راجح فهذا من نِعَم الله الكبرى ، لكن عقلَه الراجح من دون طاعة لله عزوجل هذا شؤم على صاحبه ، وبالعكس ، فالعقلُ من دون هدى أداةٌ انهيار وتدمير ، وهل الحربُ الحديثة كما يقول العلماءُ إلا حربٌ بين عقلين ، وعلى كلًّ نعمةُ العقل كبيرةٌ ، وربُّنا عزوجل يقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image002.gif
[سورة الفتح]
ومن تمام النعمة أن يكون العقلُ والإيمانُ متكاملين ، أن يكون العقلُ والخلقُ متكاملين ، وسيدنا عمرُ بن عبد العزيز بات ليلةً قلقا مسهَّدا ، لم يُغمَض له جفنٌ ، لماذا ؟ قال :"كان يشغله في تلك الليلة من ليالي دمشق أمْرُ اختيارِ قاضي البصرة ، و الحقيقة أن الإنسان إذا أوتيَ مقاليدَ الأمور فأخطرُ أعماله أن يختار مساعديه ، هذه أخطر أعماله ، وسيدنا عمر يقول : " أريد أميرا، إن كان أميرا بدا وكأنَّه واحد من أصحابه ، و إن كان واحدا من أصحابه بدا و كأنه أميرٌ" ، أي من شدَّة غيرته على مصالح الأمة لو كان يكن أميرا بدا وكأنه ليس بأمير ، ومن شدَّة تواضعه لو كان أميرا بدا وكأنه واحد منهم ، يريد هذا الخليفةُ الراشد والخامس كما يقولون أن يختار قاضيًا للبصرة ، يقيم بين الناس موازين العدل ، و يحكم فيهم بما أنزل الله ، و لا تأخذه في الحق رهبةٌ و لا رغبة ، وقع اختيارُه على رجلين كفرسيْ رِهان ، فقهًا في الدين ، وصلابةً في الحق، وورعًا في السلوك ، ووضاءةً في الفكر ، وثقوبًا في النظر ، وكلمَّا وجد لأحدهما مزيَّةً ترجِّحه على صاحبه ألفى في الآخر مزية يقابل بها تلك المزية ، فلما أصبح دعا واليَ العراق عديَّ بن أرطأة ، وكان يومئذٍ عنده في دمشق ، وقال له : يا عديُّ اجمع بين إياسٍ بن معاوية المزني والقاسم بن ربيعة الحارثي ، وكلمِّهما في أمر قضاء البصرة ، وولِّ أحدهما عليه، فقال : سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين ، وكما قلتُ قبل قليل : أخطرُ أعمال من أوتيَ مقاليد الأمور أن يختار مساعديه ، من الأكفاء ، الأكفاء جمعُ كفء ، أحيانا يتفاصح بعضُ الأشخاص يقول : من الأكفياء،الأكفياء جمع كفيف ، والكفيف من فَقَدَ بصرَه ، والكفء جمعه أكفاء ، والكفيف جمعه أكفَّاء ، والأكفاء جمع كفء ، جمعَ عديُّ بن أرطأة بين إياس والقاسم ، وقال : "إن أميرَ المؤمنين أطال اللهُ بقاءه أمرني أن أُولِّيَ أحدكما قضاءَ البصرة ، فماذا تريَانِ ؟ قال كلٌّ منهما عن صاحبه: إنه أولى منه بهذا المنصب " تصوَّر تبدُّلَ القيم ، العرب كانوا في تألُّقهم يقولون : المنيةُ ولا الدنيَّة، و العربُ في تخلُّفهم قد يكون لسانُ حالهم : الدنيةُ ولا المنية ، لذلك أحد الشعراء دخل السجن لأنه قال بيتًا عُدَّ أهجى بيتٍ قالته العربُ ، قال الحطيئة :
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها و اقعُدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسِي
وقد يكون هذا أمنيةَ كل إنسان ، وعلى كلٍّ كان كلٌّ منهما يثني على صاحبه و يقول : إنه أولى بهذا المنصب منه ، وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء اللهُ أن يذكر ، فقال عديُّ :" لن تخرجا من مجلسِي هذا حتى تحسما هذا الأمرَ ، فلا بد من أُولِّيَ أحدَكما ، فقال له إياسُ : أيها الأمير سَل عني وعن القاسم فَقِيهَي العـراق الحسنَ البصري ومحمد بن سيرين ، فهما أقدرُ الناس على التمييز بيننا " ، كان القاسمُ يزورهما ويزورانه ، و إياسٌ لا تربطه بهما رابطةٌ ، أي هناك علاقة بين القاسم و بين هذين التابعيين ، فلذلك قال له : اسأل عنا هذين التابعين ، فهما يزكِّيان ، فَعَلِمَ القاسمُ أن إياسًا أراد أن يورِّطه في هذا المنصب ، قال : أيها الأمير لا تسل أحدا عني ولا عنه ، أيها الأمير فواللهِ الذي لا إله إلا هو - أقسم - فوالله الذي لا إله إلا هو إنَّ إياسًا أفقه مني في دين الله ، وأعلم بالقضاء ، فلا تسأل ، أنا أقسم لك ، فإن كنتُ كاذبا في قسمي فما يحلُّ لك أن تولِّيني القضاءَ ، وأنا أقترف الكذبَ ، وإن كنتُ صادقا في قسمي فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول " ، هذا كلام ليس له جواب ، أنا أقسم بالله أن إياسا أفضلُ مني ، وإن كنتُ كاذبا لا ينبغي أن تولِّيني القضاءَ لأني اقترفتُ جريمة الكذب ، وإن كنتُ صادقا لا يجوز لك أن توليني بعد أن ثبت لديك أنه أفضلُ مني ، فالتفت إياسٌ إلى الأمير ،وقال : أيها الأمير - اسمعوا الجوابَ الثالث - قال : إنك جئتَ برجل و دعوتَه إلى القضاء فأوقفتَه على شفير جهنم - ولقد صحَّ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ *
[رواه الترمذي]
وقد جعل أحدُهم تعديلا للحديث فقال : قاضيان إلى النار و قاضٍ إلى جهنم ، لا يوجد أحد ، قال : " أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوتَه إلى القضاء و أوقفتَه على شفير جهنم ، فنجَّا نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر اللهَ منها ، و ينجو بنفسه مما يخاف ، فقال له عديُّ : إنما يفهم مثلَ فهمك هذا لجديرٌ بالقضاء ، حريٌّ به ، ثم ولاَّه قضاءَ البصرة " انظُروا إلى هذا التعفُّف عن ذاك المنصب .
سألوا واحدا كاذبا : تحلفُ اليمين ، فقال : جاء الفرَجُ ، أحلف طبعا ، فالإنسان أحيانًا يلاحظ تغيُّرا شديدا في القيم بين الماضي والحاضر.
هذا الذي اختاره الخليفةُ الزاهد عمر بن عبد العزيز قاضيًا للبصرة من هو ؟ هذا الإنسانُ ضُرِب لذكائه المثل ، فكان ذكيًا فطِنا ذا بديهة حاضرة .
وُلِد إياسُ بن معاوية بن قُرِّةَ المزني سنة (46) للهجرة في منطقة اليمامة في نجد ، وانتقل مع أسرته إلى البصرة ، وبها نشأ وتعلَّم ، وتردَّد على دمشق في يفاعته ، و أخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجِلَّة التابعين ، ولقد ظهرت على الغلام المزني علائِمُ النجابة ، وأماراتُ الذكاء منذ نعومة أظفاره ، فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من إخواننا الكرام بطفل ذكيٍّ جدا فلا بدَّ أن يهيِّئه تهيئةً تتناسب مع قدراته ، ومن يدريك أن هذا الطفل يكون أحدَ أعلام الأمة؟ و " الديك الفصيح من البيضة يصيح" ، هكذا قالت العوام ، وهذا كلام دقيق ، والطفلُ الفطِن يظهر عليه ذلك منذ نعومة أظفاره ، فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من إخواننا الكرام بغلام عنده قدرات عالية جدًّا فينبغي أن يعتنيَ به كثيرا ، فلعلَّ اللهَ سبحانه وتعالى ينفع المسلمين به ، والحقيقة في البلاد الأخرى - أنا لا أقول : متقدِّمة ، ولكن بالمقياس المادي متقدِّمة - هناك مدارس خاصة للمتفوِّقين، لأن هؤلاء أعلام الأمة ، وكلُّ بلد لها ترتيب ، نحن نعطي الأذكياء كلِّيةَ الطِّب ، هذا اتِّجاهنا ، أي 230 درجة فما فوق للطب ، ثم صيدلة ، وأقل ننزل إلى الهندسة، إلى آخره ، وبعضُ البلاد أعلى العلامات لكلية الحقوق ، لماذا ؟ لأن خرِّيجي هذه الكلية في الأعمِّ الأغلب محافظون ووزراء و سفراء ، بيدهم مقاليد الأمور ، فينبغي أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من القدرات ، و لو أُتيح لبلد ما أن يجعل النخبةَ العالية جدًّا دعاةً إلى الله عزوجل ، لأن هذا الداعي يبني النفوسَ، فالمفروض من هؤلاء الذين يصعدون المنابرَ ، والذين يتصدَّون لخدمة الخلق وتوجيههم ، ولبناء نفوسهم ، المفروض أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من الفطانة والذكاء ، والحقيقة أن الذكاء قدرة عالية جدًّا ، والدليل أن صفة من صفات الأنبياء المشتركة هي الفطانة ، ولو تعاملتَ مع أيِّ نبيٍّ فضلا عن أخلاقه وقيمه ، والوحيِ الذي يأتيه ، وعن مستواه الرفيع ، وعن خلقه ، فضلا عن كل ذلك فهو في درجة من الذكاء تفوق حدِّ الخيال، هذه قدرات أودعها اللهُ فيهم ، لتعينهم على أداء رسالتهم ، فلا ينبغي لكلية من كليات الجامعة أن تستأثر بالعباقرة ، هكذا الأكمل.
ظهرت على هذا الغلام علائمُ النجابة وأمارات الذكاء منذ نعومة أظفاره ، و جعل الناسُ يتناقلون أخبارَه ونوادرَه ، وهو مازال صبيًّا صغيرا ، رُوِي عنه أنه كان يتعلَّم الحساب في كتَّاب لرجل من أهل الذِّمة ، فاجتمع عند المعلِّم أصحابٌ له ، و جعلوا يتكلَّمون في أمور الدين ، وهو ينصت إليهم من حيـث لا يدرون ، فقال المعلِّم لأصحابـه :" ألا تعجبون للمسلمين فهم يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوَّطون ، فالتفت إياسٌ إليه ، وقال : أتأذن لي يا معلِّم بالكلام فيما تخوضون فيه ؟ قال : نعم تكلَّم ، قال الفتى : أكلُّ ما يُؤكل في الدنيا يخرج غائطا ؟ فقال المعلِّم: لا ، قال : فأين يذهب الذي لا يخرج ؟ قال المعلِّم : يذهب في غذاء الجسم قال الفتى : فما وجهُ الاستنكار منكم إذا كان يذهب بعضُ ما نأكله في الدنيا غذاءً أن يذهب كلُّه في الجنة في الغذاء"، طبعا قسمٌ من الغذاء يسهم في بناء الخلايا ، وقسم يخرج ، وقسم يبقى ، كما قال النبيُّ الكريم : "إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأخرج عني أذاه *
(أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة)
تقدَّم الغلامُ سنةً بعد سنة ، وتقدَّمت مع هذه السنين أخبارُ ذكائه أينما حلَّ ، فدخل دمشق وهو لا يزال غلاما ، فاختلف مع شيخ من أهل الشام في حقٍّ من الحقوق ، ولما يئس من إقناعه بالحجَّة ، دعاه إلى القضاء ، فلما صار بين يدي القاضي احتدَّ إياسٌ ، ورفع صوته على خصمه، فقال له القاضي : اخفِض صوتك يا غلام ، فإن خصمك شيخ كبير السن والقدر ، فقال إياس : ولكن الحقَّ أكبر منه ، فغضب القاضي ، وقال : اسكُت ، فقال الفتى : ومَن ينطق بحجتي إذا سكتُّ ، فازداد القاضي غضبا ، وقال : ما أراك تقول منذ دخلت مجلس القضاء إلا باطلا ، فقال إياس :لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قال له : أحقٌّ هذا أم باطل ؟ فهدأ القاضي و قال : حقٌّ و ربِّ الكعبة " ، أحيانا الإنسان على صغر سنه يُؤتى الحجة البالغة في وقتها ، ولا تُقدَّر بثمن .
وأكبَّ هذا الفتى على العلم ، ونهل منه ما شاء اللهُ أن ينهل ، حتى بلغ منه مبلغا جعل الشيوخَ ، يخضعون له ، ويأتمُّون به ، ويتتلمذون على يديه على الرغم من صغر سنه ، والعالم شيخ ولو كان حدَثًا ، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخا ، وذات مرة زار عبدُ الملك بن مروان البصرة قبل أنْ يَليَ الخلفة ، فرأى إياسا وكان يومئذٍ فتًى يافعا ، لم ينبت شاربُه بعد ، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر ، وهو يتقدَّمهم ، فقال عبد الملك : أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى ، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم ، فقدَّموا هذا الغلام ، ثم التفت إلى إياس ، وقال : يا غلام كم سنُّك ؟ - أي ازدراءً له - فقال : أيها الأمير سني أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر ، فقال له عبد الملك : تقدَّم يا فتى تقدَّم - أي علمُك قدَّمك - بارك الله فيك ".
وذات سنة أيضًا خرج الناسُ يلتمسون هلالَ رمضان ، وعلى رأسهم الصحابيُّ الجليل أنسُ بن مالك الأنصاري ، وكان يومئذٍ شيخا كبيرا ، قد قارب المائة ، فنظر الناسُ في السماء ، فلم يروا شيئا ، لكن أنسَ بن مالك جعل يحدِّق في السماء ، و يقول : لقد رأيتُ الهلالَ ، ها هو ذاك ، وجعل يشير إليه بيده ، فلم يرَه أحدٌ ، عند ذلك نظر إياسٌ إلى أنس رضي الله عنه ، فإذا شعرةٌ طويلة في حاجبه قد انثنت حتى غدتْ قُبالة عينه ، وكأنها الهلال ، فاستأذنه في أدب ، ومدَّ يده إلى الشعرة فمسحها و ، سوَّاها ، ثم قال له :أترى الهلال الآن يا صاحب رسول الله ؟ فجعل أنسُ ينظر و يقول : كلا ما أراه ، أين ذهب ؟ كلا لا أراه" ، هذا الصحابيّ متقدِّم في السن ، وإياس كان فطِنًا وأديبًا مؤَدَّبًا ، سحب هذه الشعرة فغاب الهلال ، أحد الشعراء وصف جسمه النحيل بأنه كهلال الشك .
الحقيقة هناك كتاب عنوانه (الأذكياء) ، و هناك كتاب أيضا لغير الأذكياء ، مرة ثانية أيها الإخوة ؛ ما من نعمة أجلُّ من أن يهبك الله قدرةً عقلية تعيش بعقلك بين الناس .
وشاعت أخبارُ ذكاء إياس ، وذاعت وصار الناسُ يأتونه من كل حدب وصوب ، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات في العلم والدين .
رُوِي أن دهقانا أتى مجلسه فقال :يا أبا وائلة ، ما تقول في المسكِر ؟ - الخمر - قال : حرام ، قال:ما وجهُ حرمته ؟ أقنعني ، وهو لا يزيد عن كونه ثمرا وماءً غُلِيا على النار فصار خمرًا ، وكل ذلك مباح لا شيءَ فيه ، فلماذا هو حرام ؟ فقال إياسُ : أفرغتَ من قولك يا دهقانُ، أم بقيَ لديك ما تقوله ؟ قال : بل فرغتُ ، قال : لو أخذتُ كفًّا من ماء ، وضربتُك به أكان يوجعك ؟ قال :لا ، قال :لو أخذتُ كفًّا من تراب وضربتُك به أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال :لو أخذتُ كفًّا من تِبنْ فضربتك به أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال :لو أخذت الترابَ ، ثم طرحتُ عليه تبنا ، وصببتُ فوقه الماءَ ، ثم مزجتهما مزجا ، ثم جعلتُ الكتلة في الشمس حتى يبست ، ثم ضربتك به ، أكان يوجعك ؟ قال :وقد تقتلني به ، قال : هكذا شأنُ الخمر ، فهو حينما جُمِعَت أجزاؤه خُمِّر فأصبح حراما ، كما أن الماء و التراب و التبن لو ضربتك به لا تُؤذى ، أما إذا جمعتُ هذه العناصر الثلاثة ، ويبَّستها في الشمس فأصبحت كتلةً قاسية ، ورميتُك به قال: قد تقتلني ، قال : هكذا الخمر .
والحقيقة كان هذا القاضي على جانب عالٍ جدا من الذكاء ، وظهرت له مواقفُ تدلُّ على فرط ذكائه ، وإن علماء النفس قالوا : هناك منحنى ، هذا المنحنى يمثِّل نِسب الذكاء بين البشر ، تسعون بالمائة ذكاؤهم متوسِّط ، و خمسة بالمائة عباقرة ، و خمسة بالمائة أغبياء ، لكن الخطَّ العريض دائما هو الخطُّ المتوسِّط ، لذلك في علم النفس علامة مائة في الذكاء تمثِّل الخطَّ العريض، أما مائة وأربعون فهؤلاء عباقرة.
لما ولِيَ القضاءَ جاءه رجلان يتقاضيان عنده ، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالا ، فلما طلبه منه جحده ، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها ، وقال : إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها ، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين ، لا يوجد بيِّنة ، فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع ، وقال له : في أيِّ مكان أودعته المالَ ؟ أي أعطيته، قال : في مكان كذا ، قال : وماذا يوجد في ذلك المكان ؟ قال : شجرة كبيرة جلسنا تحتها ، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها ، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ ، فقال له إياسٌ : انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك ، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به، فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة ، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء ، اذهب أيها الرجل إلى الشجرة فلعلك نسيت المالَ هناك ، هذا بريء ، قال : ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت ، فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه : اجلس إلى أن يجيء صاحبُك ، فجلس ، ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضين ، وطفق يقضي بينهم ، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ ، حتى إذا رآه قد سكن - ارتاحت نفسُه وكأنه صار بريئا ، واطمأن ، التفت إليه وسأله على عجل : أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال ؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه ؟ قال له : لا إنه بعيد من هنا ، فقال له إياس : يا عدوَّ الله تجحد المالَ ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه ، تركه ينسى، و تركه يطمئن ، وسأله فجأة ، صاحبك وصل إلى الشجرة في تقديرك ؟ إلى المكان الذي أخذت فيه المالَ، هل وصل إليه صاحبُك ، لا المكان بعيد ، لا يزال في الطريق ، واللهِ إنك لخائن ، فبُهِت الرجل ، وأقرَّ بخيانته ، فحبسه حتى جاء صاحبُه ، وأمره بردِّ وديعته إليه .
ومن ذلك ما رُوي من أن رجلين اختصما إليه في قطيفتين - ثوبين - مما يوضع على الرأس ، ويُسدَل على الكتفين ، مثل القلنسوة ، أو"غطرة " بالتعبير الآخر ، إحداهما خضراء جديدة ثمينة ، وأخرى حمراء بالية ، قال المدَّعي : نزلتُ إلى الحوض لأغتسل ، ووضعتُ قطيفتي الخضراء مع ثيابي على حافة الحوض ، و جاء خصمي فوضع قطيفته الحمراء إلى جانب قطيفتي ، ونزل إلى الحوض ، و خرج قبلي ، فلبس ثيابه ، وأخذ قطيفتي ، فألقاها على رأسه وكتفيه ، ومضى بها ، فخرجتُ على إثره وتبعتُه وطالبته بقطيفتي ، فزعم أنها له ، فقال إياسٌ للرجل المدَّعى عليه : وما تقول أنت ؟ قال : هي قطيفتي ، وهي في يدي ، فقال إياس للرجل المدَعي : ألك بيِّنة ؟ قال : كلا ، فقال لحاجبه : أحضر لي مشطًا ، فأُحضر له ، فمشط شعرَ رأس الرجلين، فخرج من رأس أحدهما زغب أحمر من نُثار صوف القطيفة ، و خرج من رأس الثاني زغبٌ أخضر من نثار صوف القطيفـة ، فقضى بالقطيفة الحمراء لصاحب الزغب الأحمر ، و بالقطيفة الخضراء لصاحب الزغب الأخضر ، أخذ المشط وسرَّح الشعر حتى حصل على بعض الزغب الملوَّن ، وعرف مَن هو صاحب الحق .
من أخبار فطنته أيضا أنه كان في الكوفة رجل يظهر للناس الصلاحَ ، ويبدي لهم الورعَ والتقى ، حتى كثُر الثناءُ عليه ، واتَّخذه بعضُ الناس أمينا لهم يأتمنونه على مالهم إذا سافروا ، ويجعلونه وصيًّا على أولادهم إذا أحسُّوا بدنوِّ الأجل ، وقد دخل رجلٌ مرة المسجد ، وتفرَّس في المصلين ، إلى أن اهتدى إلى رجلٍ كثيرِ الخشوع ، متألَّقِ الوجه ، فأعجبه ، فبعد أن أتمَّ صلاته قال له : إني أردتُ أن أعطيك بعض المال كأمانة عندك ، وأنا ذاهب إلى الحج ، وقد توسَّمتُ فيك الصلاح ، فقال له هذا المصلِّي : وأنا أيضا صائم ، قال له : واللهِ أعجبتْني صلاتُك ، ولكن لم يعجبني صيامك ، فهناك أناس يتَّخذون الدينَ طريقا لكسب المال ، أتاه رجلٌ واستودعه مالا ، و لما احتاج الرجلُ إلى المال طالبه فأنكره ، فمضى إلى إياس ، وشكى له الرجل ، فقال للمشتكي: أعَلِمَ صاحبَك أنك تريد أن تأتيني ؟ قال : كلا ، فقال : انصرِف ، وعُد إليَّ غدا ، ثم أرسل إياس إلى الرجل المؤتمن ، وقال له : لقد اجتمع لديَّ مالٌ كثير للأيتام ، لا كافل لهم ، وقد رأيتُ أن أودعه لديك ، وأن أجعلك وصيًّا عليهم ، فهل منزلك حصين ، ووقتك متَّسِع ؟ قال : نعم أيها القاضي ، هذا الذي جعل نفسه صالحا ، قال : تعالَ إليَّ بعد غٍد ، وأعِدْ موضعًا للمال ، وفي اليوم التالي جاء الرجل المشتكي ، فقال له إياس : انطلِق إلى صاحبك ، واطلب منه المال ، فإن أنكره فقل له : أشكوك إلى القاضي ، فأتاه الرجل ، فطلب منه المال ، فامتنع عن إعطائه ، و جحده ، فقال له : إذًا أشكوك إلى القاضي ، فلما سمع ذلك منه دفع المال إليه فورا ، و طيَّب خاطره ، فرجع الرجل إلى إياس ، وقال : لقد أعطاني صاحبي حقي ، و جزاك الله خيرا ، ثم جاء المؤتمَن بعد غدٍ إلى إياس في موعده ، ومعه الحمالون ، فزجره وأشهره ، قال له : بئس الرجل أنت يا عدوَّ الله ، لقد اتخذْتَ الدِّين مطية للدنيا ، أي جعل نفسه صالحا ، فلما عرض عليه القاضي أموالَ الأيتام الكثيرة ، و جاء الخصمُ يطالبه بالمال ، فأعطاه المال لكيلا يفضحه عند القاضي ، والقاضي جعلها فخًّا له .
والحقيقة إذا أراد القاضي أن ينصف الناس بإخلاص شديد ، فإنّ اللهَ عزوجل يلهمه ، وهذا مأخوذ من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا*
[رواه البخاري]
فإنْ صدق الإنسان في خدمة الخلق هداه ذلك إلى الطريق الصحيح ، و الحقيقة أن القضاء شيء صعب ، إذا لم توجد التقوى ، فقد تلتبس الأمورُ على القاضي ، لكن القاضي يحتاج إلى فراسة ، و يحتاج إلى فطنة ، و يحتاج إلى إلهام من الله عزوجل ، ولكنَّ إياسا على الرغم من شدَّة ذكائه وفطنته فهناك من أقام عليه الحُجَّةَ ، و فوق كل ذي علم عليم
حدَّث عن نفسه فقال : ما غلبني أحدٌ قط سوى رجل واحد ، وذلك أني كنتُ في مجلس القضاء في البصرة ، فدخل عليَِّ رجل ، فشهد عندي أن البستان الفلاني هو ملكٌ لفلان ، وحدَّده لي ، طبعا الشاهد دليل قويٌّ في القضاء ، فجاء الشاهد ، و قال : البستان الفلاني لفلان ، فقلتُ لهذا الشاهد : وكم عددُ شجرات البستان ؟ فأطرق قليلا ، ثم رفع رأسه ، وقال : منذ كم يحكم سيدُنا القاضي في هذا المجلس ؟ كم سنة لك يا سيدي في هذا المجلس ؟ قال له : منذ كذا سنة ، من ثمان سنوات فرضًا ، قال له : كم عددُ خشب سقف هذه الغرفة ؟ ثمان سنوات ، ولا يخطر لإنسان أن يعُدَّ كَمْ خشبة هي ، هو شهد أن هذا البستان لفلان ، قال له : كم شجرة فيه ؟ قال له : أنت كم سنة لك في هذا المجلس ، فكم عدد خشبات السقف في هذا المجلس ؟ قال : فلم أعرف وقلتُ : الحق معك ، ثم أجزتُ شهادته ، كذلك الإنسان كلما تفوَّق في شيء فإنّ اللهَ عزوجل يحجِّمه بأن يأتيه شخصٌ يبدو أنه أكثر منه تفوُّقا .
أنا في الحقيقة لا أريد أن أجعل كما قلتُ في بداية الدرس أن الذكاء وحده هو كلُّ شيء ، لكن ما أجمل أن يكون عقلُ الإنسان متَّقِدًا ، وقلبُه صافيا نقيًّا ، ما الذي يحصل في الحياة ؟ تجد أحيانا إنسانا يتَّقد ذكاءً ، لكنه على خُبث ، ذكاء شيطاني ، و انحراف ، وتفلُّت من أوامر الدين ، وأكل لأموال الناس بالباطل ، وتجد شخصا آخر يعجبُك تفوُّقه ، ولكن لا يعجبك عقلُه ، فالمنحرف قد يكون فطنًا جدًّا ، والمستقيم قد يكون محدودا جدا ، وهذا شيء مؤلِم جدا ، لكن إذا اجتمع العقلُ الراجح مع القلب الطاهر فهذا من أغرب ومن أندرِ النماذج البشرية .
بلغ إياسُ بن معاوية السادسة والسبعين من عمره ، ورأى نفسَه وأباه في المنام راكبين على فرسين ، فجريا معًا ، فلم يسبق أباه ، ولم يسبقه أبوه ، وكان والدُه قد مات عن ستٍّ وسبعين سنة.
أنا سمعتُ كثيرا عن أناس صالحين أكرمهم الله عزوجل بأن عرَّفهم بدنوِّ أجلهم ، وهي قصص كثيرة جدا ، ولعلَّ هذا من إكرام الله للإنسان ، فقبل أن يموت بشكل أو بآخر ، منام أو شعور أو حدس أو إدراك يشعر أن أجله قد دنا ، يا تُرى النبيُّ عليه الصلاة و السلام هل نعاه اللهُ بالقرآن الكريم ؟ ما الآية ؟ قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image003.gif
[سورة النصر]
أي انتهت مهمَّتك ، والعظماء الحياة لا تعنيهم ، حياتهم جليلة وعظيمة ، فإذا أدَّوا رسالتهم فقد انتهت حياتهم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أدَّى رسالته ، ألا تقل له أنت إذا وقفتَ أمام قبره : أشهد أنك بلَّغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، و كشفت الغُمة ، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد ، واللهُ عزوجل أقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image004.gif
[سورة الحجر]
إنّه لشيء عظيم أنْ يعيش الإنسان الحقَّ ، وفي سبيل الحق ، ومن أجل نشر الحق ، وأن يبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس من أجل الحق ، والإنسان حجمُه عند الله بحجم عمله الصالح ، وأعظم مرتبة تنالها عند الله أن تكون جنديًّا من جنود الحق ،و لا أنسى هذا الحديث الشريف : يا بِشر ، لا صدقة و لا جهاد ، فبم تلقى الله إذًا ؟ ، والإنسان لا بدّ له من عمل يذهب به إلى الله عزوجل ، والدنيا فانية ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image005.gif
[سورة آل عمران]
قال علي كرم اللّه وجهه لكميل بن زياد : يا كميل القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، احفظ ما أقول لك ، الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، المال تنقصه النفقة ، ومحبة العلم دين يدان بها ، مكسب العالم الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعـد موته ، وضيعـة المـال تزول بزواله ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ، ههنا - وأشار لصدره - علماً لو أصبت له حمله *
(كنز العمال)
وفي ذات ليلة ، أوى إياسٌ إلى فراشه ، وقال لأهله : أتدرون أيَّةُ ليلة هذه ؟ قالوا : كلا ، قال : في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه ، كلُّ واحد منا له عمر محدود ، الله أعلم به ، فقد كنا من حوالي شهر في دعوة خارج دمشق ، والداعي بيته صغير لا يتَّسع للضيوف ، له زميل عنده مزرعة جميلة ، أخذنا إلى هذه المزرعة ، هذا كان موظَّفا كبيرا في الزراعة ، استقال وأخذ هذه المزرعة ، وأنشأ فيها جنات معروشات ، ودواجن ، شيء جميل ، واللهِ كأنه الآن أمامي ، يتمتَّع بصحة ، وهنا الهواء نقيٌّ ، و أنا أعمل رياضة كل يوم ، وهنا صفاء ، وراحة نفسية ، شعرنا أننا نعيش في جنة ، وهو غير متقدِّم في السن ، واللهِ البارحة بلغني أنه قد مات ، هذه الدنيا ، يبني الإنسانُ دنياه لبِنةً لبنةً ، أخـذ بيتا صغيرا فكبَّره ، وزيَّنه ، وأفرشه ، و اشترى بيتا لابنه ، واشترى محلا ، وتمكَّن أن يأخذ بيتا في المصيف ، اشترى سيارة ، وهو يبني يأتيه ملَكُ الموت، لقد ترَك كلَّ شيء وراءه في الدنيا ، والمغادرة صعبة أيها الإخوة ، هذه الساعة واللهِ الذي لا إله إلا هو ما رأيتُ إنسانا عاقلا إلا جعل هذه الساعة نصبَ عينيه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image006.gif
[سورة الحجر]
القرش الواحد نُحاَسب عليه ، اسمع الآية الكريمة ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image007.gif
[سورة الزلزلة]
كنَّسْ الغرفة في الشتاء ، والشمس داخلة إليها ، تجد زغبات عالقة في الهواء ، هذه هي الذرة ، لشدَّة انعدام وزنها ، وهي لا وزن لها ، فتعلق في الهواء ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-5_files/image008.gif
[سورة الزلزلة]
<font face="Simplified Arabic"> أحدُ أثرياء البلاد توفاه الله ، وأولادُه خافوا أن يقضي الليلة الأولى في القبر وحده بشكل مخيف ، عرضوا على إنسان فقير جدا معدم أن ينام معه ليلة في القبر ، ويعطونه مبلغا ضخما ، هي قصة رمزية طبعا ، جاء منكر ونكير ، ووجدا اثنين في القبر ، غريبة ، واحد حرَّك رجله من خوفه ، قالا : هذا حيٌّ ، و ليس بميت ، تعالوا نبدأ به ، أجلسُوه ، وقد لبِسَ كيسَ خيشٍ ، وربطه بحبل ، من أين أتيت بهذا الحبل
مسلمة وافتخر
11-04-2009, 02:55 AM
http://vb.arabseyes.com/uploaded/27305_1181381196.bmp
طالب عفو ربي
11-04-2009, 04:43 AM
شريك بن عبد الله
القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة)
فما أعظمها من مسئولية!!
في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة،
ولمَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد،
ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك،
وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟
فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له:
إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء،
وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه،
وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام".
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك،
وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟
فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد.
فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس،
فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس.
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث،
ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا.
فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك.
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ.
طالب عفو ربي
12-04-2009, 12:49 AM
سلمان الفارسي
الباحث عن الحقيقة
من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..
ومن بلاد فارس، عانق الاسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الايمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..
وانها لاحدى روائع الاسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في اعجاز باهر، كل نبوغها ويحرّ: كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فاذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسامون..
واذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الاسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والارادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!
ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الاسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.
كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!
وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الاسلام خطرا عليها.
انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسي وألأقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!
خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلاعن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فاذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
"الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتي ظاهرة عليها"..
ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت لظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:
"الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء، وان أمتيظاهرة عليها".
ثم ضري ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون في ايمان عظيم:
هذا ما وعدنا الله ورسوله.
وصدق الله ورسوله..!!
كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما الى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مداءن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!
وها هو ذا، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية، ثم الى الاسلام..
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!
كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ الى النبأ الباهر الذي يرويه..
[كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها "جي"..
وكان أبي دهقان أرضه.
وكنت من أحب عباد الله اليه..
وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو..
وكان لأبي ضيعة، أرسلني اليها يوما، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمهتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت الى ضيعة أبي، ولا رجعت اليه حتى بعث في أثري...
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام..
وقلت لأبي حين عدت اليه: اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..
فحازرني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..
وأرسلت الى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم اذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم اليها لأرحل الى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم الى الشام..
وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي وأتعلم..
وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، اذ كان يجمع الصدقات من الانس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه.
ثم مات..
وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..
وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه الا رجلا بالموصل..
فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، سألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت اليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
ثم حضرته الوفاة، فقلت له: الى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا.. يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.
وان له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة، اذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم الى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني، وباعوني الى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.
وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو الا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
واني لفي رأس نخلة يوما، وصاحبي جالس تحتها اذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة اهنم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..
فوالله ما أن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟
أقبل على عملك..
فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: انكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به..
ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا..
فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!
ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: اني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله..
وأكل معهم..
قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية..!!
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتلن مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فاذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي..
فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..
ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك"، فكاتبته، وأمر الرسولأصحابه كي يعونوني. وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها. هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.
بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة..
فأي انسان شامخ كان هذا الانسان..؟
أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة، وفرضته ارادته الغلابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟
أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعا مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، ينتقل من أرض الى أرض.. ومن بلد الى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس، والمذاهب والحياة.. ويظل في اصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمون يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!
ماذا نتوقع أن يكون اسلام رجل هذه همته، وهذا صدقه؟
لقد كان اسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده، وفطنته، وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب.
أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.
وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم، وكان نافلة..
فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له..؟ّ
فأجابه سلمان قائلا:
ان لعينك عليك حقا، وان لأهلك عليك حقا، صم وافطر، وصل ونم..
فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
" لقد أشبع سلمان علما ".
وكان الرسول عليه السلام يرى فطنته وعلمه كثيرا، كما كان يطري خلقه ودينه..
ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..
وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".
وانه بهذا الشرف لجدير..
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:
[ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟
أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف].
ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.
ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، اذ جمع أصحابه وقال لهم:
"هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا.
وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.
وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الاسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل الى المدينة فيئا وجزية، فتورّع الانس في صورة أعطيت منتظمة، ومرتبات ثابتة.
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟
افتحوا ابصاركم جيدا..
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
انه سلمان..
انظروه جيدا..
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبته..
انه هو، في جلال مشيبه، وبساطة اهابه.
لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول:
"أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!
ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
ثم ماذا يا شرف الانسانية في كل عصورها وواطنها..؟؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر واخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول:
"ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
ما باله يهرب من الامارة والمنصب، الا أن تكون امارة على سريّة ذاهبة الى الجهاد.. والا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها اكراها، ويمضي اليها باكيا وجلا..؟
ثم ما باله حين يلي على الامارة المفروضة عليه فرضا يأبى أنيأخذ عطاءها الحلال..؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن:
" كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها.."
"وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه..".
ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وه الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة..؟
لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان:
" والله ما أبكي جزعا من الموت، ولاحرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا، فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود"!!
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة، فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد الينا بعهد نأخذه عنك، فقال:
" يا سعد:
اذكر عند الله همّتك اذا هممت..
وعند حكمتك اذا حكمت..
وعند يدك اذا قسمت.."
هذا هو اذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها، ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه والى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ أحدهم منها الا مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل، مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله الا جفنة يأكل فيها، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟
وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الامارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس الا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله، حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه، وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.
واذ هما على الطريق بلغا جماعة من الانس، فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..
وعلى الأمير السلام..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها الأمير..!!
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي، فسقط في يده، وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه، واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
" لا، حتى أبلغك منزلك"..!!
سئل يوما: ما الذي يبغض الامارة الى نفسك.؟
فأجاب: " حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها"..
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته، فاذا هو يعجن، فيسأله:
أين الخادم..؟
فيجيبه قائلا:
" لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."
وحين نقول بيته فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا، سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا، يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. انها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، اذا وقفت فيها أصابت رأسك، واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!
فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".
لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن اليه سلمان لحظة، أو تتعلق به نفسه اثارة، الا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص، ولقد ائتمن عليه زوجته، وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه، ناداها:
"هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!
فجاءت بها، واذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته:
"انضجيه حولي.. فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها:" اجفئي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت اليه، فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق اليه، اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد، وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.
طالب عفو ربي
13-04-2009, 12:35 PM
هذا التابعِيّ الجليل كان مُعاصِرًا لِلخليفة الأمَوِيّ سُلَيمان بن عبد الملك ، الذي يقول عنه المؤرِّخون : إنّهُ خليفة المسلمين ، وأعْظمُ مُلوك الأرض . سُليمان بن عبد الملِك يُؤدِّي فريضة الحجّ ، وهو في بيت الله الحرام حاسِرَ الرأس ، حافِيَ القدَمَيْن ، ليس عليه إلا إزارُهُ ، ورداء ، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين ، ومن خلْفِهِ ولداهُ ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً ، وكأكْمام الورْد نظارةً وطيبًا ، وما إن انتهى خليفة المسلمين ، وأعظمُ مُلوك الأرض من الطَّواف حول البيت العتيق ، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ ، وقال أيْن صاحبكم ؟ الآن الملِكُ يسْأل أحدَ خاصَّتِهِ ؛ أيْن صاحبكم ؟ فقال : إنَّهُ هناك قائمٌ يُصَلِّي ، نحن الآن في البيت العتيق ، في بيت الله الحرام والخليفة يسأل أحد المقرَّبين إليه ؛ أين صاحبكم ؟ وأشار إلى ناحيةٍ غربيَّة من المسجد الحرام ، فاتَّجَهَ الخليفة ، ومن ورائهِ ولداهُ إلى حيثُ أُشير إليه، وهمَّ رِجال الحاشِيَة -كما هي الحال دائمًا - أنْ يتْبعوا الخليفةَ لِيَفْتحوا له الطريق ، ويدْفَعُوا عنه أذى الزِّحام ، فثنّاهم ، وقال : هذا مقامٌ يسْتوي فيه الملوك والسُّوقَةُ ! يسْتوي فيه الحاكمُ والمحكوم ، والقويّ والضعيف ، والفقير والغنيّ ، والآن الإنسان إذا ذهَبَ إلى الحجّ ؛ وكان من أغنى أغنياء الأرض ، وجلسَ في أفْخَر فندقٍ هناك ، فلا يستطيعُ إلا أن يطوفَ مع عامَّة المسلمين ، ولا يستطيع إلا أن يسْعى في المسْعى ، وإلا أن يقف في عرفات ، ويسير إلى مزدلفة، شأْنُ الحجّ وخصائصُهُ تقتضي أن يكون الحُجَّاج سَواسِيَةً مهما علا بعضهم على بعض .
ويقول هذا الخليفة : ولا يفْضُل فيه أحدٌ على أحد إلا بالقَبُول والتَّقوى ، ورُبّ أشْعَثَ أغبر قَبِلَ على الله فتقبَّلَهُ بِمَا لمْ يتقبَّل به المُلوك ، ورُبَّ أشْعثَ أغبر قدم على الله في بيته الحرام ، فقَبِلَهُ اللهُ بما لمْ يتقبّل به الملوك .
ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل ، فوجدَهُ لا يزال في صلاته ، غارقًا في ركوعِهِ وسُجودهِ ، والناس جُلوسٌ وراءهُ ، وعن يمينه وشمالهِ ، فجلسَ الخليفة حيث انتهى به المجلس ، وجلس معه ولداهُ ، وطفِقَ الفتيان القرشِيَّان يتأمَّلان ذلك الرجل الذي قصَدَهُ أمير المؤمنين ، وجلسَ مع عامَّة الناس ينتظرُ فراغهُ من صلاتهِ ! مَن هو هذا الرَّجل ؟! قال : فإذا به شَيْخٌ حبَشِيّ، أسْوَدُ البشَرَة ، مُفَلْفَلُ الشَّعْر ، أفْطَسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد !! مَن هذا الرجل الذي سأل عنه الخليفة ؟ وتوجَّهَ إليه مع ولِيَّيْ العَهْد ؟ رآهُ يُصَلِّي ، فجلَسَ ينتظرُ مع عامَّة الناس ، ولمَّا انتهى الرجل من صلاتهِ مال بِشِقِّه على الجِهَةِ التي فيها الخليفة، فحيَّاهُ سليمان بن عبد الملِك ، فرَدَّ التَّحِيَّة بِمِثلها ، وهنا أقْبَلَ عليه الخليفة ، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ ؛ مَنْسَكًا منْسكًا ، وهو يفيضُ بالإجابة عن كلّ مسْألة ، ويُفصِّلُ القَوْل فيها تفْصيلاً ، لا يدَعُ سبيلاً لِمُسْتزيد، ويُسْنِدُ كلَّ قَوْلٍ يقولهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ولمّا انتهى الخليفة من مُساءلَتِهِ جزَّاهُ خَيْرًا ؛ أيْ قال له : جزاكَ الله خَيْرًا ، وقال لِوَلدَيْه : قومَا فَقامَا ، وقام الثلاثة نحوَ المسْعى ، وفيما هم في طريقهم إلى المسْعى بين الصَّفا والمروَة سمِعَ الفتَيان من يقول : يا معْشَرَ المسْلمين لا يُفْتِي الناسَ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح ، فإن لمْ يوجَد فَعَبْدُ الله بن أبي نجِيح ، فالْتَفَتَ أحدُ الغلامَيْن إلى أبيهِ ، وقال : كيف يأْمُر عامِلُ أمير المؤمنين الناس بِأَن لا يسْتفْتُوا أحدًا إلا عطاء بن أبي رباح وصاحِبِهِ ، ثمَّ جئنَا نحن نسْتفتي هذا الرجل الذي لم يأْبَه للخليفة ، ولمْ يُوَفِّهِ حقَّهُ من التَّعظيم ؟!! الآن اسْتمعوا ما قاله سليمان : فقال سليمان لِوَلدِهِ : هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح ؛ هو نفسهُ ! صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام ووارِث عبد الله بن عبَّاس ، يعني خليفة عبد الله بن عبَّاس ، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم ، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم ، ثمَّ أرْدَفَ يقول : يا بنيّ ، تَعَلّم العِلْم ، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع ، سأُذكِّرُكم بِعَطاء بن رباح ؛ شيْخٌ حبشي ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود !! قال له : يا بنيّ هل رأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه ؟ المُتَكَلِّم خليفة المسلمين، الذي يَحْكمُ ثلث الدنيا ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه ؟ يا بنيّ تَعَلّم العِلْم ، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع ، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك ، ولذلك حينما قِيل : رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب ، ليس في هذا مُبالغة إطلاقًا ، فرُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب ، تعلَّموا العِلم ، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم ، أيْ تَفَوَّقْتُم ، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم ، أيْ أصبحْتُم سادةً ، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم ، أيْ عِشْتُم بالعلم .
مَن هذا التابعيّ الجليل ؛ عطاء بن رباح ؟ قال : كان عَبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهل مكّة ، وهذه حِكمة ، فقد تكون أنت في أدْنى سلّم المجتمع ، في الطبقة الدنيا ، فقيرًا ، لا يعرفك أحد ، الأب مُتَوَفَّى ، والأم فقيرة ، جاهلة ، وأنت في هذا البيت ، فإذا تعلَّمْتَ العِلْم ، وصَلْتَ إلى العَلْياء، كان عطاء بن رباح عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهْل مكَّة ، غير أنَّ الله عزّ وجل أكْرمَ الغُلام الحبشيّ بِأَنْ وضَعَ قدَمَيْه مُنْذ نُعومة أظفارهِ في طريق العِلْم ، وَواللهِ الذي لا إله إلا هو لا أغْبِطُ أحدًا إلا شابًّا صغيرًا نشأ في طاعة الله ! شيءٌ ثمينٌ جدًّا أن تكون في مقْتَبَل العُمر ، تتلقَّى العلْم ، وتُغذِّي عقْلَكَ بالعلم ، وتُغذِّي قلْبكَ بالحبّ ، وتتَّبِعُ منْهجَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فإذا كنتَ شابًّا ، وهذه هي حالُك ، فكيف إذا صِرْتَ شيْخًا ؟ من لمْ تكُن لهُ بِدايةٌ مُحْرقَةٌ ، لمْ تكن لهُ نِهايةٌ مُشْرقة ، والأمر بين أيديكم ، الإله هو الإله ، ربّ محمَّدٍ وأصحاب محمّد هو ربُّنا ، وإلههُم إلهُنا ، فالحقائق واحدة ، والظروف واحدة ، والمعطيات واحدة ، والفرَصُ واحدة ، وبإمكانك أن تكون بطَلاً في أيّ عَصْر ، لا تَكُن خامِلاً ، ولا تكن غير طموحٍ في أمْر الآخرة ، كُنْ طَموحًا بالآخرة ، حبَشِيّ مملوك لامرأة من قريش ، يقفُ أمامهُ خليفة المسلمين ، ويقول له : يا بنيّ ، هل رأيتَ ذلَّنَا بيْن يدَيْك ؟ عبْدٌ حبشي ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفَلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود ! قال له هل : رأيتَ ذلَّنَا بين يديك ؟ هذا هو العلم .
هذا العَبْدُ الأسْود الممْلوك لامرأة من قريش ، قسَّمَ وقْتَهُ ثلاثة أقْسام ، وهذا يهمُّنا كثيرًا ، وأنا أتمنَّى عليكم أنْ تُنظِّموا أوقاتكم ؛ وقْتٌ للعمل مِن أجل أن تأكل ، ووقْتٌ من أجل أن تعبدَ الله عز وجل ، ووقْتٌ من أجل أن تطلبَ العِلم ، ولا تسْمَح لِجانِبٍ من حياتِكَ أن يطْغى على جانبٍ آخر ، وإلا ندمتَ أشَدّ النَّدَم ، ولا تسْمح لِعَمَلِكَ أن يأخذ جلَّ وقْتك ؛ إذًا أنت لا تعيش ، ولم تعرف حقيقة الحياة ، ولا تسْمح لِعَمَلِك أن يحْتَوِيَ كلّ وقْتك ، ولا تسْمح لِعِبادتِكَ أن تُنْسيكَ عملكَ الذي ترْتَزِقُ منه ، وازِنْ بين عبادتك ، وبين عملكَ ، وبين طلبِ العلم ، فيجب أن نُنَظِّمَ أوْقاتنا ، عبْدٌ حبشيّ ، أسْودُ البشَرة ، مُفَلْفَلُ الشَّعر ، أفْطسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود ، ممْلوك لامرأة من قريش نظَّمَ وقْتَهُ ، جعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، ويؤدِّي لها حُقوقها عليه أكْمَلَ ما تؤدَّى الحقوق ، وجَعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِرَبِّه ، يفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ ، أصْفى ما تكون العبادة ، وأخلصَها لله عز وجل ، وجعلَ قِسْمًا ثالثًا لِطَلب العلم ، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ حيًّا من أصْحاب رسول الله ، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة الصافيَة ، فأخذ عن كبار الصحابة كأبي هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم رِضْوان الله تعالى عنهم ، حتى امتلأَ صدره علمًا وفقْهًا وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
مرَّةً ثانيَة ؛ نظِّموا أوْقاتكم ، وقتٌ للعمل ، لا تُلْقوا هُموم العمل إلى البيت ، ووقْتٌ لِعِبادة الله، لا تُشَوِّش هذه العبادة بِهُموم البيت ، ولا بِهُموم العمل ، ووقْتٌ لِطَلب العلم ، وكأنَّك طالبٌ صغير، اِنْسَ كلّ شيءٍ ، اُدْخل إلى بيت الله ، واطْلب العلم ، نظِّم وقْتَكَ ، عَبْدٌ وقفَ أمامهُ ملِكٌ ذليلاً ، ولمَّا رأتْ السيّدة المكيّة أنّ غلامها قد باعَ نفسهُ لله ، ووقفَ حياتهُ على طلب العلم ، تخلَّتْ عن حقِّها فيه ، وأعْتَقَتْ رقبَتَهُ تقَرُّبًا لله عز وجل ، وهذه الحقيقة أيّها الإخوة ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لا تتخلّف أبدًا ، ما معنى هذه الحقيقة ؟ إنَّهُ من طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ ، وهذه الحقيقة جعلَتْ من أبي حنيفة أبَا حنيفة العالم الكبير ! أنا لا أقول لكم : إنَّك إذا طلبْتَ العِلْم تجِدُ المال تحت الوِسادة !! ولكنَّ الله عز وجل يُيَسِّر لك عملاً وقْتُهُ معقول ، ودخْلهُ معقول ، ويسْمحُ لك هذا العمل أن تطلب العلم ، ويستحيل أن تطلب العلم ، ويجعلك الله تحت عملٍ يمتصّ كلّ وقتك ! فمن طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ
[ رواه البخاري ]
وقال أيضا : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ *
[ رواه الدارمي ]
لمَّا يقوم الإنسان وهو بين أهله ويرتدي ثيابهُ ، ويتَّجِهُ إلى بيت الله لِيَطلب العلم ، لا يدري وهو بهذه الحركة أنّه يتحرّك نحو الجنَّة ، وقد سهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنَّة .
حينما أعْتَقَتْهُ سيّدتَهُ اتّخذ عطاءٌ من بيت الله الحرام مُقامًا له ، فجعلَهُ دارهُ التي يأْوي إليها ، ومدرستَهُ التي يتعلَّمُ فيها ، ومُصلاّهُ الذي يتقرَّب إلى الله تعالى فيه ، حتى قال بعض المؤرِّخين : كان المسجد الحرام فِراشَ عطاءِ بن أبي رباح نحْوًا من عشرين عامًا ! أنتَ انظُر أيَّ مكانٍ ترتاح فيه ؟ المؤمن في المسجد كالسَّمَك في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص!! أين ترتاح ؟ المؤمن يرتاح في المسجد ، بيتُ الله تعالى ، العلم القُرْب من الله ، التَّزكِيَة .
وقد بلغَ هذا التابعيّ الجليل منْزلةً من العِلْم فاقَتْ كلَّ تَقْدير ، وسمَا إلى منزلةٍ لمْ يَنَلْها إلا نفرٌ قليل ، فقد رُوِيَ أنَّ عبْد الله بن عمر رضي الله عنهما أمَّ مكَّة معْتَمِرًا ، فأَقْبَلَ الناس عليه يسألونهُ ويسْتفْتونَهُ ، هذا منْ ؟ عبد الله بن عمر ؛ هذا صحابيّ ، وهو ابن عمر بن الخطاب ، فقال : إنِّي لأعْجبُ لكم يا أهْل مكَّةَ ، أتَجْتمِعون عليّ لِتَسْألوني عن أسئلةٍ كثيرة ، وفيكم عطاء بن أبي رباح، صحابيّ يرى أنَّ عطاء بن أبي رباح أشدُّ علْمًا منه .
وصَلَ هذا التابعيّ الجليل إلى ما وصَلَ إليه مِن عُلُوّ في مقامه ، ومن رُتبةٍ عاليَةٍ في علْمِه، بِخَصْلَتَيْن اثْنَتَيْن ؛ الأولى أنَّهُ أحْكَمَ سلْطانهُ على نفْسِهِ ، فلَمْ يدَعْ لها سبيلاً في أنْ ترْتَعَ فيما لا نفْعَ له ، وأنا أعْتقدُ أنَّ إخواننا الكرام ، ورُوَّاد هذا المسجد ، وطُلاَّب العلم الشريف ، يسْتحيلُ أن يُفكِّر الواحد بِعَمَلٍ فيه معْصِيَة ، وهذا حُسْن ظنِّي بكم ، ولكن بَقِيَ كيف تتفاوَتون الآن ؟ في ألاَّ يدعَ أحدُكم وقْتًا يمْضي بلا فائدة ، فَنَحْن نتفاوَت في الاستفادة من كلّ دقيقةٍ من حياتنا ، أحيانًا سهْرة لا طائِلَ منها ، وجلْسة غير مُجْدِيَة ، حديث فارغ ، وموضوع سخيف ، إنَّ الله يُحِبّ مَعالِيَ الأُمور، ويكْرهُ سَفْسافَها ودَنِيَّها ، طبْعًا جميعُ المؤمنين في الأعمّ الأغلب لا يعْصون الله عز وجل ، بلغُوا مرْتبةً أعلى من أنْ يعْصُوا ربَّهم ، تجاوَزُوا هذه المرحلة ، فكيف يتفاوتون الآن؟ وكيف يتمايَزون؟ وكيف يتسابقون ؟ في اسْتغلال أوقات الفراغ ؛ طلبُ علْمٍ ، وقراءة القرآن ، ودعوةٌ إلى الله تعالى ، أمْرٌ بالمعروف ، نهْيٌ عن المنكر ، إصْلاحُ ذات البيْن .
الخصْلة الثانِيَة ؛ أنَّهُ أحْكمَ سُلطانهُ على وقْتِهِ ، فلمْ يهْدرهُ في فضول الكلام والعمل ، أحْكمَ سلطانه على نفسِهِ ، فلمْ يسْمح لها أن تركعَ في المُباح ، وأحكمَ سُلطانهُ على وقتِهِ ، فلمْ يسْمح لِنَفْسِهِ أن يُمضِيَ وقتًا في ما لا طائِلَ منه .
حدّثَ محمَّدُ بنُ سُوقَة جماعةً من زُوَّارِهِ ، قال : ألا سْمِعُكم حديثًا لعلَّهُ ينفعكم كما نفعَني ؟ فقالوا : بلى ، قال : نصَحَني عطاء بن أبي رباح ذاتَ يومٍ ، وقال : يا ابْنَ أخي ، إنَّ الذين من قبلنا كانوا يكرهون فُضول الكلام ، قلْتُ : وما فُضول الكلام عندهم ؟ قال : كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ، وأن يُفْهم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image001.gif
[ سورة المؤمنون ]
قال المفسِّرون : كلّ ما سِوى الله تعالى لَغْوٌ ، فأنت إن جَلسْتَ جلسةً فانْتَبِه ، لأنّ المؤمن الصادق لا يتكلَّم كلمةً إلا إذا كان لها معنى عميق ، يفسِّر آية ، يشْرح حديثًا ، يبيِّنُ حكمًا شرعِيًّا، يبيِّنُ عظمة الله تعالى في الخلْق ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، لا يوجد عندهُ كلام فارغ، الكلام اللَّغو ، والموضوعات السَّخيفة ، والمبتذلة والمسْتهلكة ، واسْتِماعٌ إلى قصَّة لا طائل منها ، وغيبة ، مسْتحيل ، وهذا من صفات المؤمن الصادق ، يضْبطُ لِسانَهُ في أعلى درجات الضَّبْط ، قال : كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ، وأن يُفْهم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يُرْوى أو يُدْرى ، أو أمْرًا بِمَعْروف ، أو نهْيًا عن منكرٍ ، أو علْمًا يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى ، أو أن تتكلَّم بِحاجتِكَ ومعيشتِكَ التي لا بدّ منها ، تبْحث عن زوجة ؛ هذا عمل مشروع ، تبحثُ عن عملٍ ، تؤمِّنُ طعامَ أولادك ، تُزَوِّجُ أولادك ، هذه حاجة أساسيَّة ومشْروعة ، ولك فيها حاجة ، وفيها امْتِثال لِقَول الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image002.gif
[ سورة المائدة ]
هذا محمَّد بنُ سُوقَة الذي نصَحَ جماعةً قد زاروهُ ، وقال لهم : نصحني عطاء بن أبي رباح وقال كذا وكذا ، ثمَّ حدَّق إلى وجهي ، وقال : أَتُنْكِرون قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image003.gif
[ سورة الانفطار ]
الإنسان أحيانًا يَغْفل أنَّ له ملكان يكْتُبان عنه كلّ شيءٍ .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image004.gif
[سورة الانفطار]
أَتُنْكرون قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image005.gif
[ سورة ق ]
ثمَّ قال : أما يسْتحي أحدُنا - هذا الكلام كلامُ عطاء بن أبي رباح - لو نُشِرَتْ عليه صحيفَتُهُ التي أمْلاها صَدْر نهارِهِ ، ووجدَ أكْثرَ ما فيها ليس من أمْرِ دينه ، ولا مِن أمْر دُنياه ، أما يسْتحي ؟! من هؤلاء الذين انتفَعُوا بِعَطاء بن أبي رباح ؟ قال : انْتَفَعَ به أهل العِلم المتخَصِّصون ، وأربابُ الصِّناعة المحترفون ، وأقوامٌ كثيرون غير هؤلاء .
حدَّث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسهِ فقال : - طبْعًا هذه قصَّة قد تسْتغرِبونها ، وأنا أسْتغْربُها معكم ، إلا أنَّها ليْسَت مستحيلة الوُقوع ، لأنَّ الإنسان أحيانًا قد يُتقنُ المعلومات النَّظريَّة، ولكن في حيِّز التطبيق قد يضْطرب - أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة ، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، أي حلاَّق ، والإنسان إذا حجَّ أوَّل مرَّة تجدُه قد قرأ كُتُبًا كثيرة ، واسْتمعَ إلى دروس علْم كثيرة في مناسك الحجّ ، يضطرب وينْسى أن يُهَرْوِل ، ينْسى أن يضطبِع ، يبدأُ من اليسار ، وقد يقعُ في أخطاءٍ كثيرة ، وهذه لا تقدحُ في مكانتِهِ ، لأنَّ النَّظري شيء ، والعملي شيءٌ آخر ، قال أبو حنيفة بن النعمان : أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة ، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، وذلك أنَّني أردْتُ أن أحْلِقَ لأَخْرجَ من الإحرام ، فأتَيْتُ حلاَّقًا ، وقلتُ : بِكَم تحْلق لي رأسي ، فقال الحجَّامُ : هداكَ الله ، النُّسُك لا يُشارطُ عليه ، اِجْلس ثمَّ ادْفع ما تريد ، وكانت هذه مخالفة ، لأنّ النُّسُك لا يُشارط عليه ، ولا يُساوَم ، قال : فَخَجِلْتُ وجلسْتُ ، غير أنَّنِي جلسْتُ منحرفًا عن القِبْلة ، فأَوْمَأ إليّ بِأنْ اسْتقبِلِ القِبْلة ، ففعلْتُ وازْدَدْتُ خجلاً على خجلي ، ثمّ أعْطيتُهُ رأسي من جانبي الأيْسَر لِيَحْلقهُ ، فقال : أدِرْ شِقَّك الأيْمن ، فأَدَرْتُهُ ، وجعَلَ يحْلِقُ رأسي ، وأنا ساكتٌ أنظر إليه ، وأعْجبُ منه ، فقال لي : ما لي أراك ساكتًا ؟! كَبِّرْ ، فجَعَلْتُ أُكبِّر حتى قُمْتُ لأَذْهب ، فقال : أين تريد ؟ فقلتُ : أريد أن أمضي إلى رحلي ، فقال : صلِّ ركْعتين ثمَّ امْضِ إلى حيثُ تشاء .
هذه قصَّة مرْوِيَّة عن أبي حنيفة النّعمان ، فيمْكن أن يتلقَّى المسلم العِلْم عن الحجّ بِشَكلٍ دقيق جدًّا ، ثم يذهب ليحجَّ ، فيقعُ في أخطاءٍ كثيرة جدًّا ، لذلك فإنّ المُمارس كما يقولون سبَقَ الفارس، المعلومات النَّظريَّة شيء ، والعمل شيء آخر .
هناك قِصَص أغْربُ من ذلك ، فقد يظنّ المسلم أحيانًا أنَّهُ بلغَ القِمَّة ، فربُّنا عز وجل بِأُسلوبٍ لطيفٍ يؤدِّبُهُ ، ويُنْسيهِ شيئًا بديهِيًّا ، فمرَّة أحد كبار علماء المسلمين ، ولا أذْكرُ اسْمهُ ، أخطأ خطيئةً في مناسِكِ الحجّ ، فقال له : ألَم تقرأْ قَوْل الإمام فلان ؟ وكان الإمام نفسه الذي غلط! فالإنسان لمَّا يقول أنا ، فمهما علا شأْنُهُ ، هل هناك مَن هوَ أعلى شأنًا من الصَّحابة رضي الله عنهم ؟ صحابةُ رسول الله ، وهم قِمَمٌ في الكمال قالوا كلمة ، ولعلَّهم قالوها في قلوبهم : لن نُغْلَبَ اليوم مِن قِلَّة ، فقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image006.gif
[ سورة التوبة ]
لذلك إذا قال الإنسان : أنا ، ولو كان أحد أكبر علماء المسلمين فقد وقعَ في خطأ فاحشٍ في اخْتِصاصِهِ .
قال : فصلَّيْتُ ركْعتين ، وقلتُ في نفسي : ما ينبغي أن يقعَ مثلُ هذا مِن حجَّام ، ما هذا الحجَّام؟ خمسة أخطاءٍ صحَّحَها لأبي حنيفة ! شيخُ الفقهاء !! قال : لا يقعُ هذا مِن حجَّامٍ إلا إذا كان ذا علْمٍ، فقلْتُ له : مِن أيْنَ لك ما أمرْتني به من المناسك ؟ دقَّة بالغة ، فقال : لله أنت ، لقد رأيْت عطاء بن أبي رباح يفعلُهُ ، فأخذْتُ عنه ، ووجَّهْتُ الناس إليه ، فكان الحجّام تلميذَ عطاء بن أبي رباح .
الحقيقة أنَّ شيئًا في الإسلام عجيبًا ، الحياة تقتضي العمل ، فهذا يعمل في الطعام ؛ خضري، أو سمَّان مثلاً ، وهذا بنَّاء ، وذاك قصَّاب ، إلخ .. لكنَّ رَوعة الإسلام أنَّ أصْحاب الحِرَف إن كان لهم مجْلسُ علْمٍ فهم علماء ، تجد كلامًا دقيقًا ، وحكمًا صحيحًا ، وإدراكًا ، وهذا شيءٌ يُلفِتُ النَّظر ، وهو إنسانٌ عادي له عمل ، ولكن لأنَّ لهُ مجلسَ علْمٍ يتلقَّى العِلْم أسْبوعيًّا أصبح هذا على طريق العلماء ، تجدُ إنسانًا له عمل ، وهو في نظر الناس عادي ، لكن حينما يتكلّم يتكلّم بالحكمة، ويقف الموقف المناسب ، ويتصرَّف بحِكمة بالغة ، وهذه هي آثار مجالس العلم .
أقْبلَت الدنيا على عطاء بن أبي رباح ، فأعْرض عنها أشدّ الإعراض ، وأباها أشدّ الإباء ، وعاش عمرهُ كلَّه يلبسُ قميصًا لا يزيدُ ثمنهُ عن خمسة دراهم ، ولقد دعاهُ الخلفاء إلى مصاحبتهم، فلم يَجِب دعوتهم لِخَشْيَتِهِ على دينِهِ من دُنياهم ، لكنَّهُ مع ذلك كان يَثِبُ عليهم إذا وجدَ في ذلك فائدةً للمسلمين ، أو خيرًا للإسلام ، فإذا اتَّصَل عالمٌ بإنسان له قيمة ، وشأنهُ لِصَالِحِ المسلمين ، فهذا عملٌ صالح ، واللهُ تعالى يتولَّى السرائر ، فعطاء بن أبي رباح أقْبلَت عليه الدنيا أشدّ إقْبال ، لكنَّه أعرض عنها ، ودعاه خلفاء كثيرون إلى مصاحبتهم ، فرفَضَ دعوتهم ، وخَشِيَ على دينِهِ من دُنياهم ، كما قال أبو حنيفة لما عاتبَهُ المنصور ، وقد اجتمع به في أحد دور وُجهاء بغداد ، قال له : يا أبا حنيفة لو تغشَّيتنا ، فقال أبو حنيفة : ولِمَ أتغشَّاكم ، وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه ، وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء ؟ قال له : يا أبا حعفر إنَّك إن قرَّبتني فتَنْتني ، وإنّك إن أبْعدتني أزْريْتني ، وأنا أُمثّل الإسلام !
قال عثمان بنُ عطاء الخرساني : انْطلقْتُ مع أبي نريدُ هِشام بن عبد الملك ، فلمَّا غدونا قريبًا من دمشق ، إذا نحن بِشَيخٍ على حِمار أسْوَد ، عليه قميص صفيق ، وجبَّة ، وقلنْسُوة لاصقة بِرَأسه ، وركابه من خشب ، فضَحِكْتُ منه ، وقلتُ لأبي : مَن هذا ؟! قال : اُسْكُتْ ! هذا سيّد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح ، فلمَّا قرُبَ مِنَّا نزلَ أبي عن بغْلتِهِ ، ونزلَ هو عن حِمارِهِ، فاعْتنقَا ، وتساءلاَ ، ثمَّ عادا فَرَكِبَا ، وانْطلقَا حتَّى وقفَا على باب قصْر هِشام بن عبد الملك ، فلمَّا اسْتقرَّ بهما الجلوس حتى أُذِنَ لهما ، فلمَّا خرج أبي قلتُ له : حدِّثْني بما كان منكما؟ فقال : - الآن عطاء بن أبي رباح سيّد فقهاء الحجاز ، والإنسان المتقشّف ، وصاحب الثِّياب الرخيصة يركب الدابة الرخيصة ، فالبغل غير الحصان ! - بادرَ فأذِنَ له ، وواللهِ ما دخلْت إلا بِسَبَبِهِ ، فلمَّا رآهُ هشام رحَّبَ به ، وقال : مرْحبًا مرْحبًا ، ها هُنا ها هُنا ، أي تعال إلى جنبي ، ولا زال يقول له ها هُنا هَا هُنا حتَّى أجْلسَهُ معهُ على سريرهِ ! وإلى جانبِهِ تمامًا ، ومسَّتْ ركْبتَهُ ركْبته ، وكان في المجْلس أشراف الناس ، وكانوا يتحدَّثون فسَكَتُوا ، ثمّ أقْبلَ عليه هشام فقال : ما حاجتُكَ يا أبا محمَّد ؟ اُطْلُبْ ؟! بعد قليل أذْكر لكم بعض المواقف التي لا ترْضي الله تعالى ، يمكن أن تلتقي مع إنسان بيَدِه الأمر ، وتطلبُ منه حاجةً شَخْصِيَّة ، قال له : يا أبا محمد ما حاجتك ؟ قال: يا أمير المؤمنين ، أهل الحرمين ، أهل الله ، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلّم تُقسِّم عليهم أرزاقهم، وأُعْطِياتهم ، قال : نعم ، يا غلام ؛ اُكْتُب لأهل مكَّة والمدينة بِعَطاياهِم وأرزاقِهِم إلى سنة ، ثمّ قال : هل من حاجة غيرها يا أبا محمد ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل الحجاز ، وأهل مجْدٍ أصْلُ العَرَب ، وقادة الإسلام ترُدّ فيهم فُضول صدقاتهم ، أيْ إذا جنَيت الصدقات منهم، الفضول أَبْقِها في بلادهم ، فقال : نعم ، يا غلام اُكْتُبْ بِأنْ تُردَّ فيهم فُضول صدقاتهم ، قال : هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمّد ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل الثُّغور يقفون في وُجوه عدُوّكم ، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ ، تُجْري عليهم أرزاقًا تدرّها عليهم ، هم بِحاجة إلى مساعدة ، وهم إنْ هلَكوا ضاعت الثّغور ، قال : نعم ، يا غلام اُكْتب بِحَمْل أرزاقهم إليهم ، هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمد ؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين أهل ذِمَّتكم لا يُكلَّفون ما لا يُطيقون ، فإنَّما تَجْبون منهم مَعونةٌ لكم على عدوّكم ، أيْ لا تُكلِّفوا أهل الذمَّة ما لا يُطيقون ، قال: يا غلام ، اُكتبْ لأهْل الذمَّة ألاَّ يُكلَّفوا ما لا يطيقون ، قال : هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمّد ؟ قال : نعم ، اتَّقِ الله في نفْسِكَ يا أمير المؤمنين ، واعْلَم أنَّكَ خُلِقْت وحْدك ، وسوف تموت وحْدك ، وتُحْشرُ وحدك ، وتُحاسَبُ وحْدك ، ولا واللهِ ما معك أحدٌ مِمَّن ترى أمامك ، حينما تموت ، وحينما تُحشَر، وحينما تُحاسب ، فأكَبَّ هِشامٌ ينْكت في الأرض وهو يبْكي ! فقام عطاءٌ فَقُمْتُ معه ، فلمَّا صِرْنا عند الباب إذا رجُلٌ قدْ تَبِعَهُ بِكِيسٍ لا أدري ما فيه ، وقال له : إنَّ أمير المؤمنين بعَثَ لك بِهذا ، فقال : هيْهات ، وما أسألكم عليه من أجْرٍ إنْ أجريَ إلا على ربّ العالمين ! فوالله إنَّهُ دخل على الخليفة ، وخرج من عنده ، ولم يشْرب قطْرةَ ماءٍ ، يمْكن أن تدخل على الخليفة ، اُدْخل على الملك ، فإذا كانت لك مكانةٌ عندهُ ، واطْلُب منه تَلْبِيَة حاجات المسلمين من دون طلب حاجات شخْصِيَّة .
عُمِّرَ عطاء بن أبي رباح حتى بلغَ مائة عامٍ ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[ رواه الترمذي ]
لا يوجد أجْمل من عمْرٍ طويل في طاعة الله ، ولا يوجد أصْعب من عمْرٍ طويل في معصِيَة الله، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-1_files/image007.gif
[ سورة النحل ]
إخواننا الشباب ، أنتم بِطَاعتكم لله ، وفي سِنّ شبابكم ، يُدَّخَر لكم ، وأنتم لا تشعرون ، شَيْخوخة من أرْوع فترات العُمْر ، لأنَّهُ مَن حفِظَ نفسهُ صغيرًا حفظها الله له كبيرًا ، ومن تعلَّمَ القرآن في شبابه متَّعَهُ الله حتى يموت ، أنا أقول لكم وهذه بِشَارة من رسول الله : إنّ الشابّ إذا أقْبَلَ على طلب العلْم ، وامْتلأتْ جوانحه بِحُبّ الله ورسوله ، وضبطَ جوارحهُ ، وسلوكه بالكتاب والسنة ، فهذا الشابّ له خريف عُمُرٍ يتمنَّاهُ الإنسان تَمَنِّيًا ، وقد لا يصِلُهُ ، وكنت قد حدَّثكم أنَّ رجلاً بدأ بِتَعليم أولاد المسلمين في الثامنة عشرة من عُمُره ، وامْتدَّ به العمر حتى الثامنة والتِّسْعين ، وكان إذا رأى شابًّا في الطريق يقول له : يا بنيّ أنت كنت تلميذي قبل أعوام ، وكان أبوك تلميذي ، وكان جدّك تلميذي !! وكان منتصِبَ القامة ، وحادّ البصر ، مرهفَ السَّمع أسنانُهُ في فمِهِ ، وذاكرتُهُ قَوِيَّة ، فكان إذا قيل لهُ : يا سيِّدي ما هذا ؟ يقول : يا بنيّ ، حفظناها في الصِّغر ، فحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ، من عاش تقِيًّا عاش قوِيًّا .
عاش عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام ، ملأها بالعلم والعمل ، وأتْرعها بالبرّ والتقوى، وزكَّاها بالزُّهْد بما في أيدي الناس ، والرغبة بما عند الله ، وللهِ درُّ القائل حين قال :
***
لا تسْألنَّ بُنَيّ آدم حاجــةً وسَل الذي أبوابهُ لا تُغلــقُ
الله يغضبُ إن تركْت سؤالهُ وبنيّ آدم حينما يُسأل يغضبُ
***
الحسن البصري سُئلَ بما نِلْتَ هذا المقام ؟ قال : باسْتغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علْمي ، فلا يليق بالعالم إلا أن يستغني عن دنيا الناس ، وأن يحتاج الناس إلى علْمِهِ ، أما إذا زهِد الناس في علمِهِ ، واحتاج هو إلى دنياهم فالوَيْل له ، وسقط حينئذٍ من أعْيُن الناس ، فإذا أتاه اليقين وجدهُ الموتُ خفيف الحِمْل من أثقال الدنيا ، وكثيرَ الزاد من عمل الآخرة ، ومعه فوق ذلك سبعون حجَّةً ، ووقفَ خلالها سبعين مرَّة على عرفة .
هذا تابعي من التابعين ، عَبْدٌ أسْود ، وحبشي ، ورأسهُ مفلفل ، وأنفه أفطس وقف أمامه أمير المؤمنين ذليلاً ، قال له : يا بنيّ ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه ؟! تعلَّموا العلمَ ، فإنْ كنتم سادةً فُقْتُم ، وإن كنتم وسطًا سُدْتم ، وإن كنتم سوقةً عِشْتم ، ورتبة العلم أعلى الرتب ، والعلم لا يُعْطيك بعضَهُ إلا إذا أعْطيتهُ كلَّكَ ، فإذا أعْطيتهُ بعْضكَ لم يعْطِكَ شيئًا ، وأنا أُقدِّم لكم مِقْياسًا دقيقًا، ابْحث عن صديق من سنِّك لم يطلب العلم ، واجْلِس معه نصف ساعة واسْتَمِع إلى كلامه تجده سخيفًا ، ومزْحَهُ رخيصًا ، ونظراته غير منضبطة ، ولسانه غير مهذَّب ، وتعليمات سخيفة، وآراءه غير صحيحة ، فبين مَن يطلب العلم وينضبطُ عملهُ بالعلم ، وبين من يتفلتُ من العلم وادٍ سحيق ، ومسافة كبيرة ، فالثاني كالدابة الهائمة على وجهها .
عطاء بن أبي رباح نظَّمَ وقْتهُ حينما كان عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من قريش ، فكان ثلث وقتهِ لخِدْمةِ سيِّدته ، والثلُث الثاني لأداء عباداته ، والثلث الثالث لطلب العلم ، ولا تظن أنَّك في سَاعة بالأسبوع تتعلّم منها سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي سَاعةٍ أخرى تتعلَّم فيها السنَّة الشريفة ، وفي سَاعة ثالثة تتعلَّم كتاب الله ، إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم .
admin
13-04-2009, 03:58 PM
ما شاء الله موضوع مميز اخى الحبيب
مسلمة وافتخر
13-04-2009, 04:28 PM
جزاك الله خيرا الموضوع رائع
طالب عفو ربي
14-04-2009, 08:25 PM
سعد بن أبي وقاص
الأسد في براثنه
أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم، والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه لبقود جيوش المسلمين، في معركة فاصلة ضد الفرس.
وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..
ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود، وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه..
وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف، معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والاسلام يعيش أيامه الفاصلة، عمل غير سديد..
وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب، فانتقل مع بعض أهل المدينة الى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف، وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة، وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..
ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي، وعاد يسأل أصحابه:
فمن ترون أن نبعث الى العراق..؟؟
وصمتوا قليلا يفكرون..
ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!
قال عمر: فمن هو..؟
قال عبد الرحمن: "الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."
وأيّد المسلمون هذا الاختيار، وأرسل أمير المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه امارة العراق، وقيادة الجيش..
فمن هو الأسد في براثنه..؟
من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:
"هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله"..!!
انه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف، عم السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لقد عانق الاسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان اسلامه مبكرا، وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
" .. ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الاسلام"..!!
يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا الى الاسلام..
ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول الله مبايعا..
وانّ كتب التارييخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه..
ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه باقناع أبي بكر ايّاهم، وهم عثمان ابن عفان، والزبير ابن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.
ومع هذا لا يمنع سبقه بالاسلام سرا..
وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..
بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، الا بشيئين عظيمين..
أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا..
وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
" ارم سعد فداك أبي وأمي"..
أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين، ويلهج يشكر الله عليهما فيقول:
" والله اني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".
ويقول علي ابن أبي طالب:
" ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي"..
كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..
اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. واذا دعا الله دعاء أجابه..!!
وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له هذه الدعوة المأثورة..
" اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته".
وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد الا مفوّضا الى الله أمره.
من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:
" رأى سعد رجلا يسب عليا، وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينته، فقال له: اذن أدعو عليك، فقال ارجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!
فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم، فاجعله آية وعبرة..
فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس، كأنها تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..
ان هذه الظاهرة، تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق اخلاصه.
وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال، فهو يرفض في اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..
ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه الله الكثير، الحلال، الطيب..
وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاهيها، قدرته في انفاقه في سبيل الله..
في حجة الوداع، كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصابه المرض، وذهب الرسول يعوده، فساله سعد قائلا:
"يا رسول الله، اني ذو مال ولا يرثني الا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
قال النبي: لا.
قلت: فبنصفه؟
قال النبي: لا.
قلت: فبثلثه..؟
قال النبي: نعم، والثلث كثير.. انك ان تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..
ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..
وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.
وكان اذا استمع للرسول يعظهم، ويخطبهم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..
وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..
ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره الى الأفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:
" يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة"..
وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..
وبعد حين قريب، طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى الله من عمل وعبادة، جعله أهل لهذه المثوبة، وهذه البشرى.. فقال له سعد:
" لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".
هذا هو الأسد في براثنه، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..
وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..
كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الاسلام والمسلمين..
انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل الله النصر أعطاه اياه..
زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..
وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..
وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وأخرى، لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور، تلك هي صلابة الايمان..
ان عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..
لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلاك..
كل ذلك وسعد لا يبالي، ولا يبيع ايمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون هذا الشيء حياةأمه..
وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..
وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..
بيد أن ايمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر، وعلى كل لاذ، فاقترب بوجهه من وجه أمه، وصاح بها لتسمعه:
" تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..
فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!
وعدلت أمه عن عزمهت\ا.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد، ويؤيده فيقول:
( وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)..
أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟
اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ، وأدهى دهاتها..
أجل الى هؤلاء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان، وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة..!!
والتقى الجمعان.
ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..
وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية، فانها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:
" يا سعد بن وهيب..
لا يغرّنّك من الله، أن قيل: خال رسول الله وصاحبه، فان الله ليس بينه وبين أحد نسب الا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سوء.. الله ربهم، وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه، فالزمه، فانه الأمر."
ثم يقول له:
" اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟
وأين يكون عدوّكم منكم..
واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!
ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.
وينزل سعد القادسية، ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا، كما لم يتجمعوا من قبل، ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..
ويكتب سعد الى عمر، فيكتب اليه أمير المؤمنين:
" لا يكربنّك ما تسمع منهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله، وتوكل عليه، وابعث اليه رجالا من أهل لنظر والرأي والجلد، يدعونه الى الله.. واكتب اليّ في كل يوم.."
ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:
" ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".
ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..
ان سعد الفارس الذكي المقدام، خال رسول الله، والسابق الى الاسلام، بطل المعارك والغزوات، والذي لا ينبو له سيف، ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى، ويقف وكأنه جندي عادي.. لا غرور القوة، ولا صلف الزعامة، يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد، فيرسل له كل يوم كتابا، ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب، المشورة والرأي...
ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده، ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب، أن يحرم نفسه، ولا أن يحرم جيشه، من بركة الشورى وجدواها، لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..
وينفذ سعد وصية عمر، فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى الله والى الاسلام..
ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس، وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:
" ان الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الحكام الى عدل الاسلام..
فمن قبل ذلك منا، قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله.."
ويسأل رستم: وما وعد الله الذي وعدكم اياه..؟؟
فيجيبه الصحابي:
" الجنة لشهدائنا، والظفر لأحيائنا".
ويعود لبوفد الى قائد المسلمين سعد، ليخبروه أنها الحرب..
وتمتلىء عينا سعد بالدموع..
لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا، أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!
فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم، أولوأنها استأخرت حتى يبل ويشفى، اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن، لا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز، والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة، ولا يعجز أبدا..
عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا، مستهلا خطابه بالآية الكريمة:
(بسم الله الرحمن الرحيم..
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين، ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو، وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..
وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..
دمامله تنبح وتنزف، ولكنه عنها في شغل، فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!
وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل، يجعل من كل جندي فردا، جيشا بأسره..
وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح.ز وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!
وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم، وطاردهم كالجيش المسلم عتى نهاوند.. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه، غنيمة وفيئا..!!
وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..
وكانت موقعة المدائن، بعد موقعة القادسية بقرابة عامين، جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين، حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها، متأهبة لموقف أخير وفاصل..
وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..
هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!
ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر، ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!
وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..
وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العطو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين..
الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابنعمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو..
وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..
ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..
نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..
وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة، ويقول:
" ان الاسلام جديد..
ذلّلت والله لهم البحار، كما ذلّل لهم البرّ..
والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا، كما دخلوه أفواحا"..!!
ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا، خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا، بل لم تضع منهم شكيمة فرس..
ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه، فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء، فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله، ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!
وتصف لنا احدى الروايات التاريخية، روعة المشهد وهم يعبرون دجلة، فتقول:
[أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس وراءه، لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين، ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة، وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كأنهم يتحدون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!
ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق، راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة، وأرسى قواعد الاسلام في البلاد العريضة الواسعة..
وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد، فزعموا زعمهم الضاحك، قالوا:" ان سعدا لا يحسن يصلي"..!!
ويضحك سعد من ملء فاه، ويقول:
"والله اني لأصلي بهم صلاة رسول الله.. أطيل في الركعتين الأوليين، وأقصر في الأخريين"..
ويستدعيه عمر الى المدينة، فلا يغضب، بل يلبي نداءه من فوره..
وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة، فيجيب سعد ضاحكا:
" اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟
ويؤثر البقاء في المدينة..
وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه، اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ستة رجال، ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.
بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة، أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..
فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:
" ان وليها سعد فذاك..
وان وليه غيره فليستعن بسعد".
ويمتد العمر بسعج.. وتجيء الفتنة الكبرى، فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..
وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه، ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويقول له:
يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر.
فيجيبه سعد:
" أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، واذا ضربت به الكافر قطع"..!!
ويدرك ابن أخيه غرضه، ويتركه في عزلته وسلامه..
وحين انتهى الأمر لمعاوية، واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
مالك لم تقاتل معنا..؟؟
فأجابه:
" اني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ .. أخ..
واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."
فقل زعاوية: ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:
(وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فان بغت احداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله).
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
أجابه سعد قائلا:
" ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله: أنت مني بمنزلة هرون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".
وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة، وقد جاوز سعد الثمانين، كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله.
ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:
[ كان رأس أبي في حجري، وهو يقضي، فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟
ان الله لا يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]..!!
ان صلابة ايمانه لا يوهنها حتى رهبة المةت وزلزاله.
ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان..ز واذن ففيم الخوف..؟
[ ان الله لا يعذبتي أبدا، واني من أهل الجنة].
بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها، ثم أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق، ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:
[ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!
اجل، ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا، صادقا شجاعا!!
وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة، ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى الله، ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.
طالب عفو ربي
17-04-2009, 01:38 AM
عامر بن عبد الله التميميّ
أيها الإخوة الكرام ، إنّ الإنسان في هذا الزمان الذي أنبأ به النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ *
[ رواه الترمذي ]
وهذا الحديث معروف عندكم ، وهناك أحاديث كثيرة تُذكِّرُ بِهُبوط الإنسان في آخر الزمان ، يصبح المعروف منكرًا ، والمنكر معروفًا ، يصبحُ المطر قيظًا ، والولد غَيْظًا ، ويفيضُ اللئام فَيْضًا ، ويغيظ الكرام غَيْظًا ، أحاديث لا مجال لِذِكْرها ، ولكنَّها تبيِّنُ أنّ حالة الإنسانيَّة في آخر الزمان في هُبوطٍ أخير ، هناك سُقوط ، وانْهِيارُ قِيَم ، وانْهِيارُ مبادئ ، وانْهيار مُثُل ، واستعار الشَّهوات والفِتَن ، فالإنسان في زحْمة هذه الحياة ، وفي زحْمة هذه الفتن ، حينما يسْتمعُ إلى قصَّة صحابيّ أو تابعيّ ، يرى النُّبْل ، والصِّدق ، ويرى الإخلاص ، والأمانة ، والاندفاع إلى الله عز وجل ، وكأنَّني أُشبِّه الإنسان برجلٍ يمشي في صحراء ؛ الحرّ شديد ، ورِمَال ، ثمّ يرى عن بُعْدٍ واحةً من أشجار نخيل وغدير ماءٍ ! فنحن إذا دخلنا بيت الله ، واسْتمعنا إلى قصّة صحابي أو تابعي ، وعِشْنا ساعةً في هذه القِيَم الرفيعة ، والمُثُل الفائقة ، هذا مِمَّا يَدْعو أن تُنزَّل علينا الرحمة، للقَوْل الذي تعرفونه جميعًا ، "عند ذِكْرِ الصالحين تتنزَّل الرَّحَمَات " ، والإنسان حينما يرى هؤلاء الأبطال ، وهؤلاء الصحابة الكرام ، وهؤلاء التابعين ، يرى بطولاتهم ، ووُضوح الرؤية عندهم ، ويرى انْطلاقًا إلى جنَّة لا يفْنى نعيمها ، هذا يكون لنا دافعًا وباحِثًا ، ومُشَجِّعًا ، إنّهم قُدْوةٌ لنا ، والشيء الخطير أيُّها الإخوة أنَّه كما يُقال : قلْ لي مَنْ قُدْوتُكَ أقُلْ لكَ مَن أنت ، أهل الدنيا قدوتهم مِن جِنْسِهم وعلى شاكلتهم ، فالتاجر قدْوتهُ تاجرٌ أكبر منه ، والصِّناعيّ قدوَتُهُ صِنَاعِيّ أكبر منه ، والمثقَّفُ ثقافةً عِلمانِيَّة قدْوتُهُ علمانيٌّ أكثر ثقافة منه ، والقويّ قُدْوتُهُ قويّ أكبر منه ، ولكنَّ المؤمن قدوتهُ رسول الله وصحابتُهُ الكرام ، الذين سَبَقُوهُ في مجال الإيمان ، لذا فهذه الدروس أيّها الإخوة نعيشُ بها جميعًا ساعةً ، وكأنَّنا في واحةٍ عقِبَ مسيرة في صحراء حارَّة ، لأنَّ الذي يحْصَل أنَّك في الأيَّام كلِّها تسْتمِعُ إلى قِصَصٍ مُؤدَّاها سقوط الإنسان ، ومادِيَّة الإنسان ، وشحّ الإنسان ، ولُؤْمُ الإنسان ، وقَسْوةُ الإنسان ، ونفاقُهُ ، وجهْلُه ، وحياةٌ فيها جهْل وسُقوط وحِقْد ولؤْم ، وفيها أنانيّة وعُدوانٌ وبَغْي ، وفيها تجاوُز ، فإذا انتقلنا إلى هؤلاء الأبطال الذين عاشُوا حياتهم سُعَداء وكانوا مُلوكًا ، مُلوك الدار الآخرة ، وكانوا أبطالاً ، وكانوا أعلامًا ، عشنا حينئذٍ ساعة روعة و شوق .
فعامِرُ بن عبد الله التميميّ كان مِن التابعِين الأجِلاَّء ، وقبل أنْ أدْخل في تفاصيل حياتِهِ ، لفَتَ نظري في هذا التابعيّ الجليل توازنُه في حياته ، فهو في عبادته كأرقى العابدين ، ولكن إذا انتقلْتَ إلى عملهِ في النهار كان أرقى المجاهدين ، وإذا انتقلْت إلى صبْرِهِ كان أشدّ الصابرين ، والحقيقة كما كنت أقول لكم دائمًا : نحن مع التَّفوّق لا مع التَّطرّف ! نحن مع أنْ يَنْمُوَ الإنسان في جوانِبِهِ الثلاثة ، أن ينْمُوَ عَقلهُ ، وأن ينْمُوَ قلبهُ ، وأن ينضبِطَ سُلوكهُ ، ويرقى عملهُ بِشَكْل متوازٍ.
يُقال : كانت البصْرَةُ على حداثتِها من أغنى بلاد المسلمين ، ومن أوْفرها ثرْوةً ، بما كان يتدفَّق عليها من غنائِمِ الحرب ، ولكنَّ الفتى التميميّ عامر بن عبد الله لمْ يكن له أرَبٌ في ذلك كلّه، لقد كان زاهدًا بِمَا في أيدي الناس راغبًا بما عند الله .
أيها الإخوة ، هذه جملة خطيرة جدًّا ، فالمؤمن يزْهدُ بِمَا في أيدي الناس ، ويرْغبُ بما عند الله ، فإذا زهدْتَ بما في أيدي الناس أحبَّكَ الناس ، وإذا رغبتَ بما عند الله أحبَّك الله ، والعكس غير صحيح ، أيْ إذا أحببت ما عند الناس ، وطمعْت في مالهم أبْغضَكَ الناس ، وإذا زهدْتَ بما عند الله أبْغضك الله تعالى .
رجل البصْرة الأوَّل ؛ الصحابيّ الجليل أبو موسى الأشعري كان والِيَ المدينة الزاهرة ، وهو قائد الجيوش فيها ، وإمامُ أهلها ، ومعلِّمُهم ، ومرشدهم إلى الله عز وجل ، لزِمَ عامر بن عبد الله التميميّ أبا موسى الأشعري في سِلْمه وحربِهِ ، نقول : إنهم تابعون ، ومعنى " تابعون" أنَّ هؤلاء اقْتدَوا بالصحابة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، حيث بقيَ عددٌ غيرُ قليل من أصحاب رسول الله رِضْوان الله تعالى عليهم ، فهؤلاء التابعون لَزِموا صحابة رسول الله ، فهذا التابعيّ عامر بن عبد الله التميميّ لَزِمَ أبا موسى الأشعري في سلمه وحربهِ ، وفي حِلِّهِ وترْحالِهِ ، فأخذ عنه كتاب الله طريًّا كما نزل على فؤاد محمَّد صلى الله عليه وسلّم ، لأنّ القرآن يجب أن تتلَقَّاهُ قِراءةً ، وأنْ تتلقَّاهُ فهْمًا ، وأنْ تقْتَدِيَ بِمَن يُطَبِّقُهُ ، وتحضرني كلمة أُعْجَبُ بها ، هي في كتاب العُكْبُري ، يقول عن كتاب الله العزيز : " تؤخذُ ألفاظهُ من حُفَّاظِهِ ، وتؤخذُ معانيهِ مِمَّن يُعانيه"، يجب أن تلْتقي بإنسانٍ يُعاني هذه المعاني ، ويعيشُها ، وشتَّان بين من يتكلَّم عن معاني القرآن ، وهو لا يُعانيها ، وبين من يتكلَّم عن معاني القرآن ، وهو يُعانيها ، وفي الحقيقة عندنا في الأدب مِقياس مِن أرقى المقاييس في رُقِيِّ النصّ الأدبي ، يُسَمِّيه الأدباء والنُّقاد (الصِّدْق الفني) ، ومعْنى الصِّدق الفنيّ أن يصْدر الأديب عن تجربةٍ حيَّة يعيشها ، وعن عاطفةٍ صادقةٍ ، فالإنسان إذا حدّثنا عن حقيقة عاشها أبكانا ، أما إذا حدَّثنا عن مشكلةٍ خياليَّةٍ لم يُبْكِنا إطلاقًا ، فإذا أردْت أن تتأثَّر بأدبٍ ما فابْحَث عن أديبٍ صادقٍ فيما يقول ، صِدْقُهُ فنيّ ، فأنت لو اسْتمعْتَ مِن فقيرٍ يصفُ حالة الفقْر ، ربّما راق له قلبك ، أما لو اسْتَمَعْت إلى غَنِيٍّ مُتْرفٍ يصفُ لك حالة الفقْر ، ربَّما نفرْتَ من كلامه ، لأنَّه لا يعرفُ الشَّوْق إلا من يُكابِدُه ، ولا الصَّبابة إلا من يُعانيها .
فأخذ هذا التابعيّ الجليل عن أبي موسى الأشعري كتاب الله رطبًا طرِيًّا كما نزل على فؤاد محمد صلى الله عليه و سلم ، وروى عنه الحديث صحيحًا مَوْصولاً بالنبي الكريم الله صلى الله عليه وسلّم ، وتفقَّهَ على يدَيْه في دين الله عز وجل ، فلمَّا اكْتَمَلَ له ما أراد من العِلْم جعَلَ حياتهُ أقْسامًا ثلاثة ، ذكرتُ أشياءَ دقيقة ، أنت بِحاجةٍ إلى درس تفسير كتاب الله ، وهل مِن كتابٍ على وجه يمكن أن يكون أهَمّ في حياتك من كتاب الله ؟ هو منْهجك ، وأنت بِحَاجةٍ ماسَّةٍ إلى درْسٍ في الحديث الشريف وشرحه ؛ لأنّ الله عز وجل يقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image001.gif
[ سورة الحشر ]
فمعرفةُ الذي أتانا به النبي أو آتانا إيَّاهُ النبي فرْضُ عَيْنٍ على مسلم ، هذا البند الثاني.
أنت كَزَوْج ، أو موظَّف ، أو طبيب ، أو تاجر ، أو محامي ، أنت في أمسّ الحاجة إلى أن تعرف الأحكام الفقْهيَّة المتعلِّقة بِحِرْفتكَ وحياتك ، فأنت كَزَوْج عليك معرفة حقوق الزوج والزوجة ، وطريق معاملة الأهل كما كان يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي التجارة ، حقوق البيع والشِّراء وشروطهما ، والدَّيْن والحوالة ، والوكالة ، وأنت بِأمسّ الحاجة إلى درسٍ في السيرة ، لأنَّ السيرة إسلامٌ عملي ، وحقيقة مع البرهان عليها ، فلمَّا اكْتملَ لهذا التابعيّ الجليل العلْم جعَلَ حياتَهُ أقسامًا ثلاثة ؛ وهذا ينقلنا إلى تنظيم الحياة .
أيها الإخوة الكرام ، أُناسٌ كثيرون جدًّا يكونون ضَحِيَّة الدنيا ، لا تنظيم في حَياتِهِ ، يأتي بهُموم عملهِ إلى البيت ، فَيَشْقى في بيتِهِ ، وينقل هموم بيتِهِ إلى عملهِ ، فيَشْقى في عمله ، فإذا دَخَلَ إلى بيت الله كانت كلّ مشكلات التجارة في ذهنه في أثناء الصلاة ، لقد صلّّى أحدهم صلَّى وراء الإمام فقال له : أنت صلَّيْت ركعتين فقط في صلاة المغرب ، فقال الإمام : هذا غير معقول! فقال المُصَلِّي : لا ، لأنَّ لي ثلاثة محلاَّت تِجاريَّة ، في كلّ ركعة أَحُلّ مشاكل محلّ ، وبقي المحلّ الثالث ما حللْتُ مشاكله !! يأتي هؤلاء بِهُموم العمل إلى المسجد ، وبهموم البيت إلى العمل ، وبهموم العمل إلى البيت ، ويكون في النهاية ضَحِيَّة عدم تنظيم حياته ، لذا أيها الإخوة نظِّموا أوقاتكم ، وإنّ لله عملاً بالليل لا يقبلهُ بالنهار ، وعملاً بالنهار لا يقبلهُ بالليل ، وقْتٌ لأهلك، ووقْتٌ لأولادك ، ووقْتٌ لعَمَلِك ، وقت لِعِبادتك ، ووقْتٌ لطلب العلم ، فتَنظيم الأوقات هو الذي يجعلكَ تكْسبُ الدنيا ، واللهُ عز وجل قال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image002.gif
[ سورة الانشقاق ]
قرأتُ مرَّةً مقالة في مَجلَّة مفادها أنَّ في حياة الإنسان ثلاثة أشياء ؛ الوقت والصحّة والمال، ومن أجل أن تزهدوا في هذه الدنيا ، ففي مرحلة الشباب الصحَّة متوفِّرة ، وليس عندهُ مشكلة ، قلب ، دساَّمات ، ضَغط ، كولسترول ، شحوم ثلاثيَّة ، أسيد أوريك ، تجده يطحن الحجارة ، وفي أوَّل مرحلة الشباب الوقت وافر والصَّحة وافرة ، ولكن لا يوجد المال ، وفي المرحلة الثانية الصَّحة موفورة ، والمال موفور ، ولكن ليس لديه الوقت لِيَتَنَعَّم بالمال ، من لِقاء إلى لِقاء ، واجْتِماعات ، دوام ، وعمل مضنٍ ، وهموم ، ولو ذهَب إلى نزْهة لوجدتَهُ ساهيًا ! ففي المرحلة الثانية المال موجود والصَّحة موجودة ، ولكن ليس لديه الوقت ، وفي المرحلة الثالثة المال موجود، تقاعَدَ سلَّم أولادهُ زمام الأمور ، والوقت موجود ولكن لا توجد الصحَّة ، في جِسْمِهِ خمسون علَّة ، وهذه هي الحياة ؛ تغرُّ ، وتَضُرّ ، وتمُرّ ، ولكن حياة المؤمن ليست هكذا ، المؤمن عرف هدفهُ من بداية الحياة ، وشكَّل حياتهُ تشْكيلاً إسلاميًّا ، وجعل هدفهُ واضِحًا ، وجنَّدَ طاقاته ونشاطاته ومالهِ ووقتهُ في سبيل هذا الهدف ، لاحِظ إنْ أتَيْتَ بِعَدسة ، ووقفتَ تحت أشعَّة الشَّمس وجعلتَ مِحْرقها تحت ورقة ، فستحترق هذه الورقة ! فالذي حدث أنَّ هذه الأشعّة اجْتمَعت في نقطة فأحْرَقَتْ ، والإنسان إذا تجمَّعَتْ طاقاتهُ في شيءٍ واحد يُحَقِّق المستحيل ، أما أهل الدنيا فهم مبعْثَرون مُشَتَّتون ، أما المؤمن فهو مجموع ، عضلاته وخِبْراته وعلمه ومالهِ وذكاؤه ، وثقافته ، ومطالعته ، وطلاقة لِسانه ؛ يفعل بها المستحيل ، وكلّ ذلك في سبيل الله .
هذا التابعي الجليل قال : شطر في حلقات الذِّكْر يقرأُ فيه الناس القرآن الكريم في مسجد البصرة ، وشطْر في خَلَوات العبادة ينتصبُ فيه قائمًا بين يدي الله عز وجل حتى تَكِلَّ قدَماه ، وشطْرٌ في ساحات الجهاد يسَلّ فيها سيْفًا غازِيًا في سبيل الله ، فهو في الجهاد تارةً ، وفي العبادة تارةً أخرى ، وفي طلب العلم وتعليمه تارةً ثالثة ، ولمْ يتْرك في حياته موضِعًا لشيءٍ غير ذلك ، حتى دُعِيَ بِعَابِدِ البصْرة ، وزاهدها الأوَّل .
أحدُ أبناء البصْرة قال : سافرْتُ في قافلةٍ فيها عامر بن عبد الله التميميّ ، فلمَّا أقْبَلَ علينا الليل نزلْنا بِغَيْضةٍ فجَمَعَ عامرُ متاعَهُ ، وجمعَ فرسَهُ بِشَجَرةٍ ، وطوَّلَ له زِمامهُ ، وجمعَ له مِن حشائش الأرض ما يُشْبعُهُ ، وضرحهُ أمامه ، ثمّ دخل الغَيْضة وأوْغَلَ فيها ، فقلْتُ في نفسي : والله لأتْبعنَّه ، ولأنْظرنَّ ما يصْنعُ في أعماق الغَيْضة في هذه الليلة ، فمضى حتى انتهى إلى رابيةٍ ملْتفَّة الشجر ، مسْتورة عن الأعيُن فاسْتقبل القبلة ، وانتصبَ قائمًا يصلِّي ، فما رأيْتُ أحْسنَ من صلاته ، ولا أكمل ولا أخْشع ، ولما صلى ما شاء أن يصلِّي طفقَ يدْعو ربّه ويُناجيه، فكان ممَّا قال : إلهي قد خلقتني بِأمرك ، وأقمْتني في بلادك بِمَشيئتك ، ثمّ قلت ليَ : اسْتَمْسِك ، فكيف أسْتمسِكُ إن لم تمسِكْني بِلُطفك يا قويّ يا متين .
أيها الإخوة الكرام ، الإنسان لا بدّ أن تكون له مناجاة مع الله تعالى ، وساعة يخْلو بها بِرَبِّه ؛ في سجوده ، وفي صلاته ، وفي ذكره ، هذه شحنة ، أنا مرَّةً مِصباحٌ كهربائي علَّمني درسًا لا أنساهُ ، مصباحٌ يُشْعل بالكهرباء ، كنتُ إذا نسيتُ أن أشْحنهُ ، وأردْتُ أن أسْتعملهُ فجأةً أضْغطُ الزرّ ، فإذا الضوء باهت ضئيل ، أما إذا شحنتُهُ ، وأردتُ أن أستعملهُ أرى له ضوءًا كَضَوء الشمس ، فكذلك المؤمن كلما شحنْتهُ تألَّق ، والشَّحنُ يكون عن طريق العبادة ؛ فالصلاة شَحن ، والذِّكر شحن ، والاستغفار شحن ، والدعاء شَحن ، وتلاوة القرآن شحن ، فبِقَدْر ما تشْحنُ نفْسكَ تتألَّق ، فهكذا كان هذا التابعيّ الجليل .
كان يقول : إلهي إنَّك تعلم أنَّه لو كانت ليَ هذه الدنيا بما فيها ، ثمَّ طُلِبَتْ مِنِّي مرْضاةً لك ، لوَهَبْتُها لِطَالِبِها ، فهَبْ ليَ نفسي يا أرحم الراحمين ، إلهي إنِّي أحْببْتُكَ حُبًّا سهَّلَ عليّ كلّ مصيبة، ورضَّاني بكل قضاء ، فلا أُبالي مع حُبِّي لك ما أصبحت عليه ، وما أمْسيْتُ فيه .
قال الرجل البصري : ثمَّ إنَّهُ غلبني النعاس فأسْلمْتُ جَفْني إلى النوم ، وما زلْتُ أنام وأسْتيقظ وعامر منتَصِبٌ في موقفه ، ماضٍ في صلاته ومناجاته حتى تنفَّس الصبح ! هل يعقل ألاّ ينام الإنسان ؟ نعم معقول ، أحيانًا يسهر شخصان إلى أذان الفجر ، لانْبساطهما ، فهل سرورك بالله عز وجل كَسُرورِكَ بِصَديقك من أهل الدنيا ، تسهر معه حتى الفجر ؟ قال : يا موسى أَتُحِبّ أن أكون جليسك ، فَصُعِقَ ! قال : كيف ذلك يا رب ؟ وكيف أكون جليسك ؟ قال : "يا موسى أما علمتَ أنَّه من ذكرني فقد جالسَني ، أما علمْت أنِّي جليسُ مَن ذكرني ، وحيثما الْتَمَسَني عبدي وجدني "، فلمَّا بدا له الفجر ، فأدَّى المكتوبة ، ثمَّ أقْبلَ يدعو ، ويقول : اللهمّ ها قد أصْبح الصبح ، وطفقَ الناس يغدون ويروحون ، يبتغون من فضلك ، وإنّ لِكُلٍّ منهم حاجة ، وإنّ حاجة عامر عندك أن تغفر له ، اللهمّ فاقْضِ حاجتي وحاجاتهم ، يا أكرم الأكرمين .
ثمّ قال عامر : اللهمّ إنِّي سألتُكَ ثلاثًا ؛ فأعْطَيتني اثْنَتَين ، ومنَعْتني واحدة ، اللهمّ فأعْطِنِيها حتى أعْبدَكَ كما أحبّ وأريد ، ثمّ نهَضَ من مجلسه ، ووقعَ بصَرهُ عليّ ، فَعِلَم بمكاني منه في تلك الليلة ، فجَزِعَ لذلك أشدّ الجزع ، وقال لي في أسًى : أراك كنت ترقبني تلك الليلة يا أخا البصرة؟ قلتُ : نعم ، فقال : اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله .
أحيانا يصلّي الواحد منَّا قيام الليل فيقيم الدنيا ويقعدها ، ويقول : البارحة صلّينا قيام الليل !! هو يعبد الله ، ولا يحِبّ أن يُعْرف بذلك ، لأنَّ أفضل الزهد هو إخفاؤهُ ، لذا قال له : اسْتر ما رأيْت مِنِّي ستَركَ الله ! فقلتُ : واللهِ لَتُحَدِّثني بِهذه الثلاث التي سألت بها ربّك ، أو لأخْبِرَنّ الناس بِما رأيْتُه منك ؟ هو معه سلاح ، فإما أن تحدِّثني بها ، أو لأخبِرَنَّ الناس بما كان من شأنك ، فقال : وَيْحَكَ لا تفعَل ! فقال : قلتُ : هو ما أقولهُ لك ، فلمَّا رأى إصْراري قال : أحدِّثك على أن تعطِيني عهْد الله وميثاقهُ ، ألاّ تُخْبر بهذا أحدًا ! فقلتُ : لكَ عليّ عهْدُ الله وميثاقهُ ألاّ أُفْشِيَ لك سرًّا ما دُمْتُ حيًّا ، فقال : لمْ يكن شيءٌ أخْوفَ على ديني من النِّساء .
واللهِ يا أيها الإخوة هل معظم المسلمين يسرق ؟ غير معقول ، يشرب الخمر ؟ غير معقول، يقتل ؟ غير معقول ، لكنَّ النِّساء كما قال عليه الصلاة والسلام حبائل الشيطان ، إنَّ إبليس طلاَّع رصَّاد ، وما هو من فخوخه بِأوْثَقَ منه بِصَيْدِهِ من النِّساء ، فاتَّقوا الله ، واتَّقوا النِّساء ، فَمَأخذُ الشباب الوحيد هو النساء ، لذلك كلّما بالغْتَ في غَضّ البصر ، وابتعدْتَ عن اللِّقاءات المختلطة، والطرقات الفاسدة ، وعن الأماكن تواجد النساء كلَّما سلِمَ دينكُ ، قال : لمْ يكن شيءٌ أخْوفَ على ديني من النِّساء ، فسألْتُ ربِّي أن ينزع من قلبي حبّهنّ ، حتى صِرْتُ لا أبالي امرأةً رأيْتُ أم جِدارًا !!! وقد يقول أحدكم غضّ البصر صَعب ، وأنا أقول لكم : واللهِ الذي لا إله إلا هو وكما قال عليه الصلاة والسلام : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا *
[رواه أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ]
أنت تصلّي في النهار خمس صلـوات ، فما قولك أنَّه كلّما وقعَتْ عيْنك على امرأة أجْنبيَّة ، وغضضْتَ بصرك لا تخاف أحدًا ، ولا ترجو أحدًا إلا الله ارْتَقَيْت عند الله ، مرَّةً قلتُ لكم : أحيانًا تتوافق القوانين مع الشرائع ، فإذا ترك أحدٌ سرقة المال ، يا تُرى ترك السرقة خوفًا من الله أم خوفًا من العقاب القانوني ؟ الله تعالى أعلم ، ولِحِكمة أرادها الله عز وجل أنَّ بعض أوامر الدِّين ينفرد بها من بين كلّ الشرائع ، فغضّ البصر مثلاً ، لا توجد جهة في الأرض يمكن أن تُحاسبك على نظرك إلى النِّساء ، وهذه العبادة عبادة الإخلاص ، لأنَّه لا توجد جهة تُحاسِب ، وإذا أرادتْ لا تستطيع ، فقد تكون في غرفة نوْمك ، والنافذة مفْتوحة ، والبناء الآخر قريب ، فُتِحَت نافذة ، وأطلَّت امرأة من النافذة ، من يستطيع أن يُحاسبك على نظرك إلى هذه المرأة ؟ لذلك قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image003.gif
[ سورة غافر ]
إذا كنت طبيبًا ، وشَكَتْ لك موضِع ألمٍ من جسمها ، فلك الحقّ أن تنظر إلى هذا الموضع كي تعالجهُ ، ولكن من الذي يكشف أنَّك نظرْت إلى موضعٍ لسْت بحَاجة إليه ؟ نظرة شهوةٍ ، الله هو الذي يعلم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image003.gif
[ سورة غافر ]
لذلك أنا أُردِّد هذا القول كثيرًا : من لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بشيءٍ من عمله .
قال : فقلتُ هذه واحدة فما الثانية ؟ قال : سألتُ ربّي ألاّ أخاف أحدًا غيره ، واللهِ توجد بالأرض ملايين الجهات المخيفة ، وما أكثر المخاوِف ، فإذا ركبْتَ مركبةً فهناك مخاوف ، مجيء سائقٍ غافل ، وإذا دخلت إلى مكان فهناك من يُعَرقل عملك ، ويُعَقِّد عليه القضايا ، فالإنسان تحت أخطار لا يعلمها إلا الله ، قال : سألتُ ربّي ألاّ أخاف أحدًا غيره ، فاسْتجاب لي ، حتى إنِّي واللِه لا أرغب شيئًا في الأرض ولا في السماء سواه ، قال : يا موسى خفْني وخَفْ نفسكَ ، أنا أقول لكم هذه الحقيقة : واللهِ - وهي دقيقة جدًّا - مهما رأيْت جهة قوِيَّة شَرِسةً عُدْوانِيَّة ، فلا تخَفْ منها ، خَفْ من ذنْبٍ تقترفهُ ، فيَسْمحَ الله لهذه الجهة القويَّة أن تصل إليك ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image004.gif
[ سورة الأنعام ]
وقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image005.gif
[ سورة الأنعام ]
تصوَّر إنسانًا واقفًا أمام سبعة وُحوش مخيفة ، وكلّها تريد أكْلهُ ، بِلُقْمة واحدة ، ولكنّ هذه الوحوش مربوطة بِيَد جهةٍ واحدة ، ومربوطة بِأزِمَّة مُحكمةٍ ، وهذه الجهة بصيرة سميعة عليمة حكيمة رحيمة وعادلة ، فأنت علاقتك مَع منْ ؟ مع الوُحوش أم مع الجهة التي تُمسِكُ أزِمَّتها ؟ هذه الجهة لو أَرْخَتْ بعض الأزِمَّة لوصَلَتْ الوحوش إليك ، فإذا منَعَتْها عنك انتهى الأمر ، وهذا معنى قول الله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image006.gif
[ سورة هود ]
هذا معنى قول بعض العارفين :
***
أَطِعْ أمْرنا نرْفع لأجلك حجْبَنا فإنَّا مَنَحْنا بالرضا من أحبَّنا
ولُذْ بِحِمانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــا لِنَحميك ممَّا فيه أشرار خلقنا
***
قلْتُ : فما الثالثة ؟ فقال : سألْتُ ربِّي أن يُذْهِبَ عَنِّي النَّوم حتى أعْبدَهُ بالليل والنهار كما أريد ، فمَنَعَنيها ، فلمَّا سمِعتُ منه ذلك قلتُ له : رِفْقًا بِنَفْسِك فإنَّك تقضي ليلكَ قائمًا ، وتقطعُ نهاركَ صائمًا ، وإنَّ الجنَّة تُدْركُ بأقلَّ ما تصْنع ، وإنَّ النار تُتَّقى بأقلَّ مِمَّا تُعاني ! فقال : إنَّي لأخشى أن أنْدَمَ حيث لا ينفعُ النَّدَم ، والله لأجْتهِدَنَّ في العبادة ما وجدتُ للاجتهاد سبيلاً ، فإنْ نجَوْتُ فَبِرَحْمة الله ، وإن دخلْتُ النار فَبِتَقْصيري .
أيها الإخوة ، هل تعلمون من هو العاقل ؟ هل عندكم تعريفٌ جامعٌ مانِعٌ للعاقل ؟ العاقل هو الذي لا يعملُ عملاً يندمُ عليه ، فأنت الآن تعيش ، ولكن يا ترى لو حان الآن وقتُ مُغادرة الدنيا، ألا تنْدم لِمَ لمْ تُصَلِّ أكثر ، ولِمَ لمْ تتعلَّم أكثر ، ولِمَ لمْ تُنْفِقُ أكثر ، ولذلك فالعاقل هو من يعْملُ عملاً لا ينْدمُ عليه أبدًا ، هذا ما قالهُ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والله : "لو علِمْتُ غدًا أجلي ما قدرْتُ أن أزيد في عملي " .
غير أنَّ عامر بن عبد الله لمْ يكن راهبًا من رهبان الليل فحَسْب ، بل كان فارسًا من فرسان النهار أيضًا ، فما أذَّنَ مؤذِّنُ الجهاد في سبيل الله إلا وكان في طليعة من يُجيب النِّداء ، وكان إذا نهَض لِغَزوة من الغزوات مع المجاهدين وقفَ يتوسَّمُ الناس لِيَختار رِفاقهُ ، واسْمعوا هذه القصَّة: إذا وقعَ على رِفْقةٍ تُوافقُهُ قال لهم - فقبل أن يجاهد يختار رفاقهُ في الجهاد ألا يقولون الرفيق قبل الطريق - : يا هؤلاء ، إنِّي أريد أن أصْحبكم على أن تُعطوني من أنفسكم ثلاث خِلال ، فيقولون ما هنّ ؟ فيقول : أولهنّ أن أكون لكم خادمًا ، فلا يُنازعني أحدٌ منكم في الخدمة أبدًا ، سيِّدُ القوم ، والثانيَة أن أكون لكم مؤذِّنًا فلا يُنازِعَني أحدٌ منكم للنِّداء للصَّلاة ، والثالثة أن أُنفقَ عليكم بِقَدر طاقتي ، لذلك يُعرَف الإنسانُ في السَّفَر ، فإذا قالوا : نعم ، انْضمَّ إليهم ، وإذا نازعه أحدٌ منهم في شيء من ذلك رَحَلَ عنهم إلى غيرهم .
ونزلَ سعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد القادسيّة في إيوان كِسْرى ، وأمرَ عمْرو بن مُقَرٍّ أن يجمعَ الغنائم ، ويُحصيَها ، لِيُرْسِلَ خُمسها إلى بيت مال المسلمين ، ويقسمُ باقيها على المجاهدين ، فاجْتمعَ بين يديه من الأموال والأعلاق والنفائس ما يفوق الوصْف ، ويعزّ على الحصر ، فهنا سِلال كبيرة مختَّمَةٌ بالرصاص ، مملوءة بآنِيَة الذهب والفضَّة ، كان يأكل بها ملوك فارس ، وهناك صناديق من نفيس الخشب كُدِّسَتْ فيها ثيابُ كِسْرى وأوْشحَتُهُ ودُروعُهُ المُحَلاَّة بالجوهر والدرر ، وصناديق مملوءة بِنَفائس الحليّ وروائع المقْتَنَيات ، وتلك أغمادٌ فيها سُيوف ملوك الفرس مَلِكًا بعد ملِك ، وسيوف الملوك والقُوَّاد الذين خضعوا للفرس خلال التاريخ، وفيما كان العمَّال يُحْصون هذه الغنائم على مرأى من المسلمين وعلى مَسْمع أقْبلَ على القوم رجلٌ أشعثُ أغْبر ، ومعه حُقّ كبير الحجم - الحُقُّ هو الوعاء الكبير - ، ثقيل الوزن حملهُ بِيَدَيه كِلْتَيهما ، فتأمَّلوهُ فإذا هو حُقٌّ لم تقع عيونهم على مثله قطّ ، ولا وجدوا فيما جمعوه شيئًا يعدِلُهُ أو يُقاربهُ ، فنظروا في داخله فإذا هو قد مُلئ بِرُوائه الدرّ والجوهر ، فقالوا للرجل : أين أصبْتَ هذا الكنز الثمين ؟ فقال : غنِمْتُهُ في معركة كذا ، في مكان كذا ، فقالوا : وهل أخذت منه شيئًا ؟ فقال: هداكم الله ، والله إنّ هذا الحُقّ وجميع ما مَلَكَتْهُ ملوك فارس لا يعدل قلامة ظفر !! ولولا حَقُّ بيت مال المسلمين فيه ما رفعْتهُ من أرضهِ ، ولا أتَيْتكم به ، فقالوا : من أنت أكرمكَ الله ؟ فقال : واللهِ لا أخبركم لِتَحمدوني ، وما أُخبرُ غيركم لِيُقَرِّضوني ، ولكنَّني أحمدُ الله تعالى وأرجو ثوابهُ ، ثمّ تركهم ومضى ! الآن قطعة الماس ثمنها مئتا ألف ليرة ، فإذا كانت كمّية كبيرة من الماس والذهب والفضّة ، ومُقْتَنَيات كبيرة ، جاء بها وتركها وانْسحَب ، هل أخذتَ منها شيئًا ؟ قال : لا ، والله ، كلّ هذا الحُقّ ، وكلّ كنوز فارس لا تعدل عندي قلامة ظفرٍ واحدة .
ثمّ تركهم ومضى ، فأمروا رجلاً منهم أن يتَّبعهُ ، وأن يأتيهم بِخَبرهِ ، فما زال الرجل يمضي وراءهُ ، وهو لا يعلمُ به ، حتى بلغ أصحابهُ ، فلمَّا سألهم عنه قالوا : ألا تعرفهُ ؟ إنَّهُ زاهِدُ البصْرة ، عامر بن عبد الله التميميّ .
الآن نُنْهي هذه القصَّة بِحادِثٍ مُنَغِّصٍ جرى لهذا التابعيّ الجليل ، فهذا التابعيّ الجليل رأى رجلا من أعوان صاحب شُرطة البصرة قد أمسكَ بِخُنَّاق رجل من أهل الذِّمة ، وجعل يجُرُّهُ جرًّا، والذِمِّيّ يستغيث الناس ، ويقول : أجيروني أجاركم الله ! أجيروا ذِمَّة نبيّكم يا معشر المسلمين ، فأقْبلَ عامر عليه ، وقال : هل أدَّيْتَ جِزْيتَكَ ؟ فقال : نعم أدَّيتها ، فالْتفتَ إلى الرجل الممْسِك بِخُنَّاقه ، وقال : ماذا تريد منه ؟ فقال : أريدهُ أن يذهب معي يكْسحَ حديقة صاحب الشرطة ، يكْسح يعني ينظِّف ، فقال للذِمِّي : أَتَطيبُ نفسك لهذا ؟ فقال الذميّ : كلاَّ ، فذلك يرُدّ قُواي ، ويشغلني عن كسب قوت عيالي ، فالْتفت عامر إلى الرجل وقال : دَعْهُ ، قال : والله لا أدعهُ ، فما كان من عامر إلا أن ألقى رداءهُ على الذميّ ، وقال : والله لا تغفر ذِمَّة محمَّد وأنا حيّ ، ثمّ تجمَّعَ الناس ، وأعانوا عامرًا على الرجل ، وخلَّصوا الذِمِّي من القوَّة ، فما كان من أصحاب أعوان الشّرطة إلا أن اتَّهموا عامرًا بِنَبْذ الطاعة ، ولفَّقوا له تهمةً أنَّه لا يطيعُ أمير المؤمنين ، ورمَوْهُ بالخروج عن أهل السنة والجماعة ، وقالوا : إنَّه امرؤُ لا يتزوَّج النساء ، ولا يأكل لحم الحيوانات، ولا ألبانها ، ويتعالى على غشيان مجالس الولاة ، ورفعوا أمرهُ إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، فأمر الخليفة والِيَهُ على البصرة أن يدعو عامر بن عبد الله إلى مجلسِهِ ، وأن يسألهُ عمّا نُسب إليه لِيَرفعَ له خبرهُ ، فاسْتدعى والي البصرة عامرًا ، وقال : إنَّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءهُ أمرني أن أسألك عن أمور نُسِبَت إليك ، فقال : سَل عمَّا أمر به أمير المؤمنين ، قال : مالكَ تعْزفُ عن سنَّة رسول الله ، وتأبى أن تتزوَّج ؟ فقال : ما تركتُ الزواج عُزوفًا عن سنّة النبي عليه الصلاة والسلام ، فأنا أشْهد أنَّه لا رهْبانيَّة في الإسلام ، وإنَّما أنا امرؤً رأى أنَّ له نفْسًا واحدة ، فجَعَلها لله عز وجل ، وخشِيَ أن تغلبهُ الزوجة عليها ، قال : ما لك لا تأكل اللَّحْم ؟ فقال : آكلهُ إن وجدْتُهُ واشْتهيْتُهُ ، أما إن لم أشْتَهِهِ ، أو لم أجدْهُ فإنِّي لا آكله ، قال : ما لك لا تأكل الجبن ؟ قال : إنَّ بِمَنطقةٍ فيها مجوسٌ يصنعون الجبن ، وهم قومٌ لا يفرِّقون بين الميتة والمذبوحة ، إنِّي أخشى أن تكون المنفحة التي صُنِع منها الجبن من شاةٍ غير مذكَّاة ، فما شهد شاهدان من المسلمين على أنَّه جبْن صُنِعَ بمنفحة شاة مذبوحة أكلته ، قال : ما يمْنعك أن تأتي الولاة ، وتشهد مجالسهم ؟ قال : إنَّ في أبوابكم كثيرًا من طلاَّب الحاجات فادْعوهم إليكم ، واقْضوا حوائجهم لديكم ، واتْركوا مَن لا حاجة له عندكم ، رُفعَت الأقوال إلى أمير المؤمنين فلم يجد فيها شيئًا أو خروجًا عن السنة والجماعة .
هذا التابعي الجليل حينما خرج من البصرة ، رفع يديْه ، وقال : اللَّهمّ مَن وَشى بي ، وكذب عليّ، وكان سببًا في خروجي ، والتفريق بيني وبين صحبي ؛ اللَّهمّ إنِّي صفحْتُ عنه فاصْفحْ عنه، وهَبْ له العافيَة في دينه ودنياه ، وتغمَّدْني وإيَّاه وسائر المسلمين بِرَحمتك وعفوِكَ وإحسانك يا أرحم الراحمين ، ثمَّ وجَّه مَطِيَّتهُ نحو دِيار الشام ، ومضى في سبيله ، واسْتقرَّ في بيت المقدس، ومرِضَ مرَضَ الموت ، فدخَلَ عليه أصحابهُ فوجدوهُ يبكي ، فقالوا له : ما يُبكيك وقد كنتَ وكنت؟ فقال : والله ما أبكي حِرْصًا على الدنيا ، ولا جزعًا من الموت ، وإنَّما أبكي لِطُول السَّفر، وقلَّة الزاد ، ولقد أمْسيْت بين صعود وهبوط ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فلا أدري إلى أيِّهِما أصير ، ثمَّ لفظَ أنفاسَهُ ، ولسانهُ رطْبٌ من ذِكْر الله ، هناك في أولى القبلتين ، وثالث الحرمين ، ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام ، تُوُفِّيَ عامر بن عبد الله التميميّ ، وقبرهُ الآن في بيت المقدس .
هذا تابعيّ جليل وقف هذا الموقف ، واللهُ تعالى امْتحنهُ ، ونجَّاه ، وكان بطلاً في النهار ، وراهبًا في الليل ، وزاهدًا وورِعًا ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image007.gif
[ سورة الصافات ]
وقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-2_files/image008.gif
[ سورة المطففين ]
طالب عفو ربي
19-04-2009, 05:04 PM
عروة بن الزبير
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثالث من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم ورحمهم الله تعالى ، والتابعيّ اليوم عروة بن الزبير ، قال أحدهم : من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنَّة فلْينظر إلى عروة بن الزبير .
بالقرْب من الركن اليماني في الحرم المكيّ جلسَ أربعة فِتيانٍ ، صِباح الوُجوه ، كرام الأحساب ، مُعَطَّرين ، كأنهم بعض حمامات المسجد ، نصاعة أثواب ، وأُلْفة قلوب ، ومنهم عبد الله بن الزبير ، وأخوه مصعب بن الزبير ، وأخوهما عروة بن الزبير ، ومعهم عبد الملك بن مروان ، ولهذا الموقف دلالة كبيرة ، فأحيانًا الطّفل الصغير في مقتبل حياته يحلم بِمُستقبل ما ، يُرْوى عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز أنَّه قال : تاقَتْ نفسي إلى الإمارة ، فلمَّا بلغتُها تاقت نفسي إلى الخلافة ، فلمَّا بلغتها تاقَتْ نفسي إلى الجنّة ، هؤلاء الفتيان الأربعة عبد الله بن الزبير ، ذلك الذي كان مع مجموعة من الأطفال ، وقد مرَّ بهم عمر ، وجميعهم تفرَّقوا إلا هو ، بقيَ واقفًا إلى أن وصَلَ إليه عمر ، فقال: يا غلام لِمَ لمْ تهْرب مع من هرب ؟ قال : أيّها الأمير لسْتُ مُذْنبًا فأخشى عقابك ، ولسْتَ ظالمًا فأخشى ظلمك ، والطريق يسَعُني ويسَعُك !
عبد الله بن الزبير ، وأخوه عروة بن الزبير ، وأخوهما مصعب بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ، هؤلاء الأربعة دار حديث بينهم ، فتيانٌ صغار ، وما لبث أحدهم أن قال : لِيَتَمَنَّ كلّ منَّا ما يحبّ ، فانْطلقَت أخيِلَتُهم ترحّل في عالم الغيب الرَّحل ، ومضَتْ أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر ، ثمَّ قال عبد الله بن الزبير : أمنيَّتي أن أملِكَ الحجاز ، وأن أنال الخلافة، وقال أخوه مصعب : أما أنا فأتمنَّى أن أملِك العراقَيْن ، وألاّ يُنازعني فيهما منازع ، وقال عبد الملك بن مروان : إذا كنتما تقْنعان بذلك ، فأنا لا أقْنعُ إلا أنْ أملكَ الأرض كلّها ! وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان ، مَنْ بقيَ ؟ عروَة بن الزّبير ، وسكت عروة بن الزبير ، فلم يقل شيئًا ، فالْتفتوا إليه ، وقالوا : وأنت ماذا تتمنّى يا عروة ؟ قال : بارك الله لكم فيما تمنَّيْتم من أمر دنياكم، أنا أحيانا أدعو وأقول كما في الدعاء المأثور : اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إليَّ ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني من عبادتك *
(أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الهيثم بن مالك الطائي)
يقول لك : هذه الأرض لا أبيعها بثلاثة وثلاثين مليونًا ، إذْ دَفعوا لي ثلاثينًا ، ولم أقبل ! قرير العين ، إما بأرض ، أو بيت ، أو محلّ تجاري ، أو شركة صِناعِيَّة ، قرير العين بِمُمْتلكاته وأولاده ، كما أقررْت أهل الدنيا بِدُنياهم ، فأقْرِرْ أعْيُنَنا من رِضْوانك ، والمؤمن أيها الإخوة قرير العيْن بما تفضَّل الله عليه بِنِعمة الهدى ، وفي الحديث : من قرأ القرآنَ ثم رأى أن أحدًا أوتِيَ أفضلَ ممّا أوتَي فقد استصغر ما عظمه الله *
(أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر)
كنتُ أقول سابقًا : لو أنَّ أحدًا من المؤمنين آتاه الله الهدى ، والتُّقى ، والعفاف والاستقامة ، وكان ذا دخْلٍ محدود ، وكان له صديق على مقعد الدراسة أعطاهُ الله الدنيا والأموال الطائلة ، فإذا شعرَ الأوّل أنَّه محروم ، لم يعرف حينئذٍ قيمة إيمانه ، ولا قيمة الهدى الذي مَنَّ الله به عليه، إذًا من لوازم الإيمان أن تعرف قيمة هذه النِّعمة ، وألاَّ تتمنَّى الدنيا مع البُعْد والانحراف ، ولِيَتَمَنَّ كلٌّ مِنَّا على الله ما يُحِبّ ، قال أحدهم : أُمنيَتِي أن أملك الحجاز ، وأن تكون لي الخلافة ، وقال أخوه مصعب : أتمنَّى أن أملك العِراقين ، وألاّ ينازعني فيهما منازِع ، وقال عبد الملك بن مروان : إذا كنتما تقْنَعان بِذلك ، فأنا لا أقْنعُ إلا أن أملك الأرض كلَّها ، وأن أنال الخلافة بعد معاويَة ، وسكت عروة بن الزبير ، فلم يقل شيئًا ، فالْتفتوا إليه ، وقالوا : وأنت ماذا تتمنَّى يا عروة ؟ فقال : بارك الله لكم في أمر دنياكم ، أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً يأخذُ الناسُ عنِّي كتابَ ربّهم وسنَّةَ نبيِّهم وأحكامَ دينهم ، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل ، وأن أحظى بِجَنّته ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image001.gif
[ سورة الإسراء ]
والإنسان كلَّما كبُر عقْلهُ يعلو اخْتيارهُ ، ومرَّةً ضربْتُ مثلاً ؛ أنَّ إنسانًا خيَّرناه بين وِعاءٍ بِلَّوْري كبير ، أزرق اللَّون رخيص ، وبين كأس (كريستال) غالٍ جدًّا ، وبين قطعة ألماس ، وقلنا له : اخْتر أيًّا من هذا ؟ فاختارَ الوِعاء الكبير ، هنا نحكم عليه بِضَعف العقل ، قلْ لي ماذا تختار أقُل لك من أنت ، قال : بارك الله لكم في أمر دنياكم ، أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً يأخذوا الناس عنِّي كتاب ربّهم وسنَّة نبيِّهم وأحكام دينهم ، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل ، وأن أحظى بِجَنّته.
حدَّثني صديق في التعليم ، خرج مفتِّشًا ابتدائيًا إلى مدرسة تقع على أطراف البلاد ، قرية حدوديّة متَّصلة بِبَلَدٍ آخر مفتوح ، فسأل المفتِّش أحد طلاَّب الصفّ ، قال : قمْ يا بنيّ ، ما اسمك؟ فقال : اسمي فلان ، ماذا تتمنَّى أن تكون في المستقبل ؟ فقال : أتمنَّى أن أكون مهرِّبًا ! أين الثرى من الثريّا ؟! أحدهم طلب الحجاز ، وآخر طلب العراقين ، وأحدهم طلب الخلافة ، وآخرهم طلب أن يكون عالمًا ، دارت الأيام دورتها ، فإذا بعبد الله بن الزبير يُبايَعُ له بالخلافة عقبَ موت يزيد بن معاوية ، فيحكم الحجاز ومصر واليمن وخراسان والعراق ، ثمَّ يُقتل عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنَّى فيه ما تمنَّى ، وإذا بِمُصعب بن الزبير يتولى إمْرة العراق من قِبَل أخيه عبد الله ، ويُقْتل هو الآخر دون ولايته أيضًا ، وإذا بعبد الله بن مروان تؤول الخلافة إليه بعد موت أبيه ، وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، وأخيه مصْعبٍ على أيدي جنوده ، ثمّ يغدو أعظم ملوك أهل الدنيا في زمانه ، فماذا كان من أمر عروة؟
أُقْسمُ لكم بالله الذي لا إله إلا هو ، إذا طلبْت من الله شيئًا ، وكنت صادقًا في طلبك ، واللهِ لزَوال الكون أهْونُ على الله من ألاّ تصل إلى هدفك ، بين الله وبين عباده كلمتان ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image002.gif
[ سورة الأنعام ]
أيْ يا عبادي منكم الصّدق ومنِّي العدْل ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى لا يتعامل بالأمانيّ ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image003.gif
[ سورة النساء ]
قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image004.gif
[ سورة الإسراء ]
قرأتُ كلمة لأحد الأدباء ، يقول : إنّ القرار الذي يتَّخذهُ الإنسان في شأن مصيرهِ ، قلَّمَا تنقضُهُ الأيَّام إذا كان صادرًا حقًّا عن إرادة وإيمان ، يقولون في بعض الأبيات الشِّعريَّة :
***
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
***
لا لأنَّ الشعب أقوى من القدر ، ولكنَّ القدر لا يعْقل أن يطلب الإنسان هدفًا نبيلاً والقدر لا يستجيب له ، هذا هو المعنى ، والإنسان إذا أراد الإيمان والحقيقة ، فلا بدّ أن يصل إليها ، سمعتم مِنِّي كثيرًا عن زكريَّا الأنصاري ، الذي بدأ بِتَعَلّم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين من عمره ، وتعلّم القرآن الكريم ، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، ومات عن سِتَّة وتسعين عامًا، فالإنسان ما أنت فيه هو صدقك ، وما لسْت فيه هو تمنِّياتك ، فما أنت فيه هو الصِّدق الذي بين جَنْبيْك ، وما لسْت فيه هو التَّمَنِّيات التي تتمنَّاها ، والتَّمَنِّيات لا قيمة لها .
أوَّلاً وُلِدَ عروة بِسَنَةٍ واحدة بقيَت من خلافة الفاروق رضي الله تعالى عنه ، فمَن أبوهُ ؟ الآن اسْمعوا إلى هذا النَّسَب ، وقبل أن أتحدَّث إلى نسب هذا التابعيّ الجليل ، أقول لكم ما هو النَّسب ؟
النَّسَبُ لا قيمة له إطلاقًا ، إذا كان الإنسان كافرًا أو تائهًا أو شاردًا أو عاصِيًا ، نسبهُ لا قيمة له إطلاقًا ، والدليل قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image005.gif
[سورة المسد]
فمن هو أبو لهب ؟ إنه عمُّ النبي عليه الصلاة والسلام ، ودليل آخر : أنا جدّ كلّ تقيّ ، ولو كان عبْدًا حبشِيًّا ! لكن إذا توافرَ الإيمان فالنَّسَب تاجٌ يُتَوِّج الإيمان ، المؤمن يزيدُه النّسب شرفًا ، ورفْعةً ، ويزيدهُ أصالةً ، فلا تعبأ بالنَّسب إذا كنت في معصِيَة الله ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا *
(متفق عليه)
قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image006.gif
[ سورة هود ]
أيها الإخوة الكرام ، النَّسَب مع المعصِيَة لا قيمة له إطلاقًا ، ولكن إذا توافر النَّسب مع الإيمان أصبح تاجًا يُتَوِّج الإيمان ، والآن هذا التابعي الجليل ، ما نسَبُهُ ؟ قال : أبوه هو الزُّبَير بن العوَّام حواريّ رسول الله ، يُرْوى أنَّ مرَّةً عروة بن الزبير أرْسَلَ كتابًا إلى معاوية بن أبي سفيان، قال له : أما بعد ؛ فيا معاوية ! خليفة المسلمين يخاطَب هكذا ، قال له : إنَّ رجالك دخلوا أرضي، فانْهَهُم عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسَّلام ! معاوية بن أبي سفيان كان إلى جنبه ابنهُ يزيد، دفعَ الكتاب إلى ابنه يزيدَ ، وقال : ماذا ترى يا يزيد ؟ فقرأ يزيد الكتاب ، وانفعَلَ أشدَّ الانفعال ؛ تهجُّم وتطاوُل ، ولا أدب ، ألقاب ، ولا احتِرام ، فقال له : أرى أن تُرْسل له جيْشًا أوَّلُه عندهُ ، وآخرهُ عندك ، يأتونك بِرَأسِه ! فتبسَّم معاوية ، وقال له : غير ذلك أفضل ، أمر الكاتب أن يكتب، قال له : اكْتُب أما بعد ؛ فقد وقفْتُ على كتاب ولد حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقد ساءني ما ساءكم ، والدنيا كلّها هيِّنة جنْب رِضاك ، لقد نزلْتُ عن الأرض ومَن فيها ، يأتيه الجواب بعد حين يقول : أما بعد فيا أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءَكَ ، ولا أعدمَكَ الله الرأيَ الذي أحلَّكَ مِن قومِكَ هذا المحلّ ، جاء بابنِهِ يزيد ، وأرسَلَ له الجواب ، ماذا اقْترحْتَ عليّ يا بنيّ ؟ أن أرسلَ له جيشًا أوَّله عنده وآخره عندي ، يأتونني برأسه ، فقال : يا بنيّ مَن عفا ساد ، ومن حلُم عظم ، ومن تجاوَزَ اسْتمال إليه القلوب ، اِقْرأ الجواب ، فأبو عروة الزبير بن العوّام حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وأوَّل من سلَّ سيْفًا في الإسلام ، وأحد العشرة المبشَّرين في الجنَّة ، أُمُّه أسماء بنت أبي بكر ، الملقَّبة بِذات النِّطاقَيْن ، جدُّه لأمِّه سيّدنا أبو بكر الصِّديق ، خليفة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وصاحبه في الغار ، جدَّته لأبيه صفيَّة بنت عبد المطَّلب ، عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم ، خالتهُ أمّ المؤمنين عائشة رضوان الله تعالى عليها ، فما هذا النَّسَب ؟ أبوه الزبير ، وأمّه أسماء ، جدّه أبو بكر ، وجدّته لأبيه صفيّة عمّة النبي عليه الصلاة والسلام ، خالته عائشة ، وعروة بن الزبير نزل إلى قبْر عائشة حينما دُفِنَت بِنَفْسِهِ ، وسوَّى عليها لحْدها بيَدَيْه ، لأنَّها خالته ، أَفَبَعْد هذا النَّسَب نسَب ؟ وبَعْد هذا الحسَب حسبٌ ؟
الآن عروة بن الزبير تمنَّى أُمنِيَةً على الله ، لذا انقطَعَ إلى طلب العلم ، وأكبّ على طلب العلم ، إنسانٌ تجده قد آتاه الله علمًا ، وهو نائمٌ ، تعلَّم !! عشرون أو ثلاثون سنة وهو جالس على ركبتَيْه يحضر مجالس العلم ، ويحضر ويناقش ، ويقرأ ويُتابع ويصبر ، إلى أن يسْمَحَ الله له أن ينطق ، أكبّ على طلب العلم ، وانْقطَعَ له ، واغْتَنَمَ البقيَّة الباقيَة من صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، فَطَفِقَ يؤمُّ بيوتهم ، ويصلِّي خلفهم ، ويتتبّع مجالسهم حتى روى عن علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عباس ، والنعمان بن البشير ، وأخذ كثيرًا عن خالته عائشة أُمّ المؤمنين حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيتهُ كلَّكَ ، ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم ، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهل ، نظام الجامعة ليس فيه تفتيش على المدرِّسين ، كما هو الحال في التعليم الثانوي، لكنّ في الجامعة أسلوب ذكيّ جدًّا ، يستقدمون أستاذًا زائرًا ، وهذا الأستاذ الزائر يلقي محاضرات على طلاَّب الجامعة ، فأُستاذ المادَّة إذا كان مستواه وعلمه قليلاً ؛ من يكْشفُهُ ؟ لذلك هذا نظام متَّبع في الجامعات ، يستقدمون أساتذة في الاختصاص نفسهِ من بقيَّة الجامعات ، لِيُلقوا محاضرات على الطلاب ، فالأستاذ لا بدَّ له من توسيع دائرة معرفته ، ومن المطالعة ، وتجويد محاضرته لكي لا يبدوَ أقلّ مستوًى من الأستاذ الزائر ، مرَّةً جاءنا أستاذٌ زائرٌ من بلاد المغرب العربيّ ، وهو آية في اللّغة ، والنحو الصرف ، وألقى علينا عِدَّة محاضرات ، وجلس في الصَّف الأوَّل عدد من أساتذتنا ، أنا كنتُ أتأمَّلُ في هؤلاء ، بعضهم جاء بِدَفتر وقلم ، وبدأ يكتب بعض الملاحظات ! صدِّقوني الذي كتب بعض الملاحظات من الأستاذ المحاضر كبُر في عَين الجميع ، لأنَّه تعلَّم ، يظلّ المرءُ عالمًا ما طلب العلم ، فإذا ظنَّ أنَّه قد علم فقد جهِل ، فالإنسان يتعلَّم دائمًا.
عمر بن عبد العزيز الخليفة الذي يُعدّ حقيقةً خامس الخلفاء الراشدين ، حين قدم المدينة واليًا عليها من قِبَل الوليد بن عبد الملِك ، جاءهُ الناس فسلَّموا عليه ، فلمَّا صلَّى الظهر دعا عشرةً من فقهاء المدينة ، وعلى رأسهم عروة بن الزبير ، فلمّا صاروا عنده رحَّب بهم ، وأكرم مجلسهم ، ثمّ حمِدَ الله عز وجل ، وأثنى عليه بما هو أهلهُ ، ثمَّ قال : إنِّي دعوْتكم لأمرٍ تؤجرون عليه ، وتكونون لي فيه أعوانًا على الحقّ ، فأنا لا أريد أن أقْطعَ أمْرًا إلا برأْيِكُم أو بِرَأْيِ من حضرَ منكم ، فإذا رأيتُم أحدًا يتعدَّى على أحد ، أو بلَغَكُم عن عامل لي مظلمة ، فأسألكم بالله أن تُبَلِّغوني ذلك ، فدعا له عروة بن الزبير بخير ، ورجا له من الله السداد والرشاد .
وله موقفٌ آخر ، عيَّنَ سيّدنا عمر بن عبد العزيز مرافقًا له اسمهُ عمر بن مزاحم ، قال له: يا عمر ، كُنْ إلى جانبي دائمًا ، إن رأيْتني ظللْتُ فأمسِكْنِي من تلابيبي ، وهُزَّني هزًّا شديدًا ، وقُلْ لي : اتَّق الله يا عمر ، فإنَّك ستَموت ! والإنسان من علامات نجاحهِ تواضُعه ، ومن علامات نجاحه استشارتُه وقبوله للنَّقْد ، فالذي يقبل النَّقْد قد ينْمو ، والذي يرفض النَّقد يسقط ، والإنسان حينما رفض النَّقد ينتهي ، لأنَّ الأشخاص دائمًا ينظرون من زوايا متعدِّدة ، وليس عليهم ضغوط كالتي على من ينتقدونه ، فالإنسان إذا أصغى إلى مَن ينتقدُهُ باحْتِرام وأدبٍ ، والنبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا ، والصحابي الجليل الحباب بن المنذر لمَّا رأى الموقع غير مناسب في معركة بدر ، جاء إلى النبي على اسْتِحياء ، وتكلَّمَ كلامًا يقطر رِقَّةً وأدبًا وحياءً وإخلاصًا ، قال له : يا رسول الله ، هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك ، أم هو الرأي والمشورة ؟ قال : بل هو الرأي والمشورة ، فقال له : يا رسول الله هذا ليس بِمَوقعٍ ، فالنبي بِبَساطة اسْتجاب لهذه النصيحة ، وأمر بِنَقل الجيش إلى الموضع الذي اقترحه الحباب بن المنذر ، فكان لنا قدْوةً صلى الله عليه وسلَّم في سماع النَّصيحة وقَبولها مع التواضع .
لقد جمع عروة العلمَ إلى العمل ، فقد كان قوَّامًا في الهواجر ، في أيام الصيف ، نحن نقول للواحد صُم بالشِّتاء ، فالنهار قصير ، والجو بارد ، ومن دون عطش ، أمّا عروَة فكان صوَّامًا في الهواجر ، قوَّامًا في العتَمَات ، رطْب اللِّسان بذِكْر الله تعالى ، وكان إلى ذلك خَدينًا ، أيْ مُصاحبًا لكتاب الله عز وجل ، عاكفًا على تلاوته ، فكان يقرأ ربْع القرآن كلّ نهارٍ ، نظرًا في المصحف ، ثمّ يقوم به الليل عن ظهر قلب ، ولم يُعْرف أنَّه ترَكَ ذلك منذ صدْر شبابه إلى يوم وفاته ، غير مرَّةٍ واحدة لِخَطبٍ نزل به ، وسيأتي هذا النبأ بعد قليل ، وكان عروة يجد في صلاته راحة نفسه ، وقرَّة عينِهِ ، وجنَّته في الأرض ، وقال أحد العارفين : في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الله ، وقال : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبْعدوني فإبْعادي سياحة ، وإن حبسوني فحَبْسي خلْوَة ، وإن قتلوني فقَتْلي شهادة .
كان عروة يُتقنُ صلاته أتمَّ الإتقان ، ويطيلها غاية الطول ، ورُوِيَ عنه - ودَقِّقوا في هذه القصَّة - أنَّه رأى رجلاً يصلِّي صلاة خفيفة ، فلمَّا فرغ من صلاته دعاه إليه ، وقال له : يا ابن أخي ، أما كانت لك عند ربّك جلّ وعلا حاجة ؟! أبِهذه الطريقة تصلّي ؟ واللهِ إنِّي لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كلّ شيء ، حتى الملح ! وهكذا أخبرنا الله عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّ الله يحبّ الملحِّين في الدعاء *
(الجامع الصغير عن عائشة)
وعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ *
(رواه الترمذي)
قال له : يا ابن أخي أما كانت لك عند ربّك جلّ وعلا حاجة ؟! والله إنِّي لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كلّ شيء حتى الملح ! .
وكان عروة بن الزبير سخِيّ اليد ، سمحًا جوادًا ، والمعروف أنّه لا يجتمع إيمانٌ وبُخل ، كما أنَّه لا يجتمعُ إيمان وحسد ، كما أنَّه لا يجتمع إيمان وجبْنٌ ، مستحيل أن تجد مؤمنًا حسودًا أو بخيلاً أو جبانًا ! ومِمَّا أُثِرَ عن جوده أنَّه كان له بستانٌ من أعظم بساتين المدينة ، عذْب المياه، ظليل الأشجار ، باسق النخيل ، وكان يُسوِّر بستانه طوال العام ، لِحِماية أشجاره من أذى الماشيَة، وعبث الصِّبْيَة ، حتى إذا حان أوان الرّطب ، وأيْنَعَت ثماره ، واشْتهَتْها النفوس ، كسر الحائط في أكثر من جهة لِيُجيز للناس دخول بستانه والأكل من ثماره ، فكان الناس يُلِمُّون به ذاهبين آيِبين ، ويأكلـون من ثمره ما لذَّ لهم الأكل ، ويحملون منه ما طاب لهم الحمل ، وأنا سمعتُ قبل خمسين سنة أنّ منطقة الصالحية كلها كانت بساتين ، وكان هناك مكان اسمه جبن الشاويش ، كانت كلّ أصحاب البساتين يضعون سلّة من الفاكهة من إنتاجهم في الطريق ، وهناك سكِّينُ صغيرة ليأكل المارّ حتى يشبع ، ولكن لا أحد يحمل شيئًا من هذا إلى بيته ، المشمس ، والتفاح ؛ وكلّ شيءٍ ، وقد كنت مرَّةً في قرية جبليَّة فيها فواكه نادرة ، وزرتها اسْتجمامًا لأسبوع، وأنا في الطريق أتنزَّه فإذا بأحد أصحاب البساتين يشير إليّ ، وقال : تفضَّل ، فما فهمْتُ منه شيئًا ، وتوهَّمْت أنه يريد مساعدة في شيء ، فتقدَّمْتُ نحوهُ فأعطاني كمِّيَة فواكه تكفيني أسبوعًا ، فاسْتغربْت ، ولمَّا حدَّثتُ الناس بما جرى لي قالوا لي : هذه عادة أهل البلدة ، كلّما رأَوا ضيْفًا يعطونه من الفواكه ما تكفيه أسبوعًا أو أسبوعين ، فلمَّا بخِل الإنسان بخِلَ اللهُ عليه ، مرَّةً قلت لكم : إنَّ امرأةً صالحة في بيتها شجرة ليمون ، تحمل لها أربعمائة أو خمسمائة ليمونة في السنة ، ولا يوجد إنسان يطرق الباب بحاجة إلى الليمون إلا وأعطتْه ، وكأنّ هذه الشجرة وقفٌ للحيّ كلّه ، وهذه الشجرة أعطَتْ عطاءً لِسَنواتٍ مديدة ؛ عشرين أو ثلاثين سنة ، والحمْل غير طبيعي ، كأنّ تلك الشَّجرة كانت لِتِلك الحارة ، توفَّتْ المرأة الصالحة ، فجاء بعدها من يطلب الليمون فطرده صاحب البيت ، وبعد أسبوع يبُسَت الشجرة وماتَتْ !! وعلى هذا فقِسْ، فإذا كنت كريمًا فالله تعالى أكرم ، قال سيّدنا ابن عوف : ماذا أفعل ؟ إذا كنتُ أُنفق مائة في الصباح فيُؤتيني ألفًا في المساء ! فإذا كنت كريمًا كان الله تعالى أكرم ، وإنْ تبْخل يبْخل الله عليك.
فكان كلّما دخل هذا البستان يتلو قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image007.gif
[ سورة الكهف ]
أنصح إخواننا الكرام : إذا أعطاك الله شيئًا من الدنيا ، ولو كان شيئًا طفيفًا فلا تقل هذا مِلكي ، وحصَّلتُهُ من عرق جبيني ، وهذا نتيجة خِبراتٍ متراكمة ، هذا كلّه كلامُ شرْكٍ ، ولكن قل : ما شاء الله ، لا قوَّة إلا بالله .
الآن دخل طَوْر الامتِحان ، قلتُ لكم سابقًا : المؤمن له ثلاثة أطوار ؛ طور التأديب ، وطَور الابتلاء ، وطور التكريم ، فلا بدَّ من فترة من حياتك تكون للتكريم ، لأنَّ الله عز وجل قال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image008.gif
[ سورة طه ]
قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image009.gif
[ سورة البقرة ]
قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-3_files/image010.gif
[ سورة البقرة ]
لذا هناك طور التأديب ، وطَور الابتلاء ، وطور التكريم , والآن جاء طور الابتلاء ، طبْعًا هذا الابتلاء ربما لا يحتمله معظم الناس ، ولكن الرِّضا بِمَكروه القضاء أرفعُ درجات اليقين ، فهذا الذي كان يطوف حول البيت ويقول : يا ربّ هل أنت راضٍ عنِّي ؟ وكان وراءهُ الإمام الشافعي ، فقال له : يا هذا ، هل أنت راضٍ عنه حتى يرضى عنك ؟ قال له : من أنت يرحمك؟ ما هذا الكلام ؟ كيف أرضى عنه وأنا أتمنَّى رِضاه ؟! قال الإمام الشافعي : إذا كان سرورك بالنِّقْمة كَسُرورِكَ بالنِّعْمة فقد رضيتَ عن الله .
أما امتِحان سيّدنا عروَة فقد كان صعْبًا ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ*
(رواه الترمذي)
والإنسان يُمْتحن على قدْر مكانة دينِهِ ، فالخليفة دعا عروة بن الزبير لزيارته في دمشق ، فلبَّى دعوته ، وصَحِب معه أكبر بنيه ، ولمَّا قدِم على الخليفة رحَّب بِمَقْدَمهِ أعظم ترحيب ، وأكرم وِفادته أوفى إكرام ، وبالغ في الحفاوة به ، ثمَّ شاء سبحانه وتعالى أن يمْتَحِنَهُ ، ذلك أنَّ ابن عروة دخل على إصْطبل الوليد لِيَتَفَرَّج جِياده الصافِنات ، فرَمَحَتْهُ دابَّة رمْحةً قاضِيَةً أوْدَتْ بِحَياتِهِ ! كما أنَّ الآن هناك حوادث سَير ، فكذلك قديمًا هناك حوادث خيل !! ولم يكد الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده حتى أصابتْ إحدى قدَمَيْه الآكلة ، وأصبح معه الموات ، فتورَّمَتْ ساقُه ، وجعل الورم يشتدّ ، ويمْتدّ بِسُرعة مذهلة ، فاسْتدعى الخليفة لِضَيفِهِ الأطباء من كلّ جهة ، وحضَّهم على معالجته بأيَّة وسيلة ، لكنَّ الأطِبَّاء أجمعوا على أنَّه لا منْدوحة لِبَتْر ساقهِ ، و قد صدق القائل حين قال :
***
إنَّ الطبيب له علْم يُدِلّ بــه إن كان للناس في الآجال تأخيرُ
حتى إذا ما انْتهَت أيام رحلته جار الطبيب وخانتْهُ العقاقيــرُ
***
أجمع الأطِبَّاء أنَّه لا مندوحة مِن بَتْر ساق عروَة ، قبل أن يَسْرِيَ الورَم إلى جسَدِهِ كلّه ، ويكون سببًا في القضاء عليه ، ولم يجِد بُدًّا من الإذعان لذلك ، ولمَّا حضر الجرَّاح لِبَتْر الساق أحضَرَ معه المبضع لِشَقّ اللَّحم ، سألْت طبيبًا كيف تفتحون الجمجمة ؟ طبيب جرَّاح جمجمة ، فقال لي : القضيَّة بسيطة جدًّا ! فقلتُ كيف والرأس مغلق ؟! فقال : نخدِّرهُ ، ونأتي بالمبضع ، ونُجري جرْحًا مربَّعًا من ثلاثة أضلاع ، نفتح الفرْوة عن اليمين ، ونربطها عن اليمين ، انكشفت فانكشف العظم ، ثمّ نحفر أربعة ثقوب ونأتي بِخَيط منْشاري غالٍ جدًّا ، نُدْخلهُ من ثقب ، ويخرج من ثقب آخر حتى نقطع أوَّل خطّ ، ثمّ الثاني ، ثمّ الثالث ، فإذا بنا نزعنا المربَّع ، نفتح الأم الجافية ثمّ الأم الحنون ثمّ نصل للدِّماغ ، يُنزعُ الورم غير الخبيث ، لأنّ هناك ورمًا خبيثًا لا نستطيع نزعهُ ، ثمّ نخيط الأم الحنون ، ثمّ الجافيَة ، ثمَّ نأتي بالعظم المربّع نضعها في مكانه ، نحن نحتاج ثقبين ثقبين ، ثقبًا فيها ، وثقبًا على الطرفين ، نربط أربع ربطات ، ونرجع الفرْوة ، ثمّ نخيطها ، وتنتهي العمليّة !! هذه المهارة التي أكرم الله بها الإنسان لِمُعالجة أخيه لِكَرامة الإنسان على ربّه .
فجاء الطبيب بالمَبَاضِع لِشَقّ اللَّحم ، والمناشير لِنَشر العظم ، قال الطبيب لِعُروة : أرى أن نسْقيك جرعةً من مُسْكر لكي لا تشعر بالآلام ، فقال : هيهات ! لا أستعين بِحَرام على ما أرجوهُ مِن عافِيَةٍ ، ما عند الله لا يُنال بِمَعصيَة الله ، هناك أدوِيَة مخالفة للشَّرع ، فقال له : إذًا نسقيك مخدِّرًا ، فقال : لا أحبّ أن أُسلبَ عضْوًا من أعضائي دون أن أشْعرَ بِألمِهِ ، وأحْتسب بذلك ، فلمَّا همَّ الجراح بِقَطع الساق تقدَّم نحو عروة طائفة من الرجال ، فقال : مَن هؤلاء ؟ فقال : جيءَ بهم لِيُمسِكوك ، فربَّما اشْتدّ عليك الألم ، فجذبْت قدمَكَ جذْبةً أضرَّتْ بك ، قال : رُدُّوهم لا حاجة لي بهم ، وإنِّي لأرجو أن أكْفيَكم ذلك بالذِّكْر والتَّسْبيح ، ثمَّ أقبلَ عليه الطبيب ، وقطع اللَّحم بالمِبضَع، ولمَّا بلغَ العظم وضع عليه المنشار ، وطفِقَ ينشرهُ به وعروَة يقول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وما فتىء الجرَّاح ينشر وعروة يكبّر ويُهلِّل حتى بُتِرَتْ الساق بتْرًا ، ثمّ أُغْليَت الزَّيتُ في مغارف الحديد ، وغُمِسَت فيه ساق عروة لإيقاف تدفّق الدِّماء ، وحسْم الجِراح ، وأُغْمِيَ عليه إغماءةً طويلة حالَت دون أن يقرأ حصَّته في كتاب الله ، وكان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم يقرأ فيه القرآن !! وكانت المرَّة الوحيدة التي فاتهُ فيها ذلك الخير ، ولمَّا صحا عروة دعا بقَدَمِهِ المبتورة فناولوه إيَّاها ، اسْمعوا الآن ؛ فجعلَ يُقبِّلُها بيَدِهِ ويقول : أما والذي حملني عليك يا قدمي في عتمات الليل إلى المساجد إنَّه ليعْلمُ أنَّني ما مشْيتُ إلى حرامٍ قطّ ، ثمَّ تمثَّل بأبيات لِمَعن بن أوْس قال :
***
لعَمْركُ ما أهويت كفِّي بريبــةٍ و ما حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعني ولا بصري لها ولا دلّني رأيي عليها و لا عقلي
وأعلم أنِّي لمْ تُصِبني مصيبة من الدَّهر إلا قد أصابتْ فتًى قبـلي
***
وقد شقَّ على الوليد بن عبد الملك ما نزل بِضَيفه الكبير من النوازل ، فقد احْتسَب ابنه ، وفقَدَ ساقهُ في أيَّام معدودات ، فجعل يحتال لِتَعْزيَتِهِ وتصبيره على ما أصابه ، وصادف أن نزلَ بِدَار الخلافة جماعةٌ من بني عبسٍ فيهم رجلٌ ضرير ، فسأله الوليد عن سبب كفّ بصره ، قال : يا أمير المؤمنين كان عمر إذا أصابتْهُ مصيبة قال : الحمد لله ثلاثًا ؛ الحمد لله إذْ لم تكن في ديني، والحمد لله إذْ لمْ تكن أكبر منها ، اسْمعوا الآن الأكبر ، قال : يا أمير المؤمنين لم يكن في بني عبْس رجلٌ أوْفَرَ مِنِّي مالاً ، ولا أكثر أهلاً وولدًا ، واللهُ إذا أعطى أدْهش ، وإذا أخذ أدْهش، نزلْتُ مع مالي وعِيالي في بطْن واد من منازل قومي ، فطرقنا سيْلٌ لم نرَ مثلهُ قطّ ، فذهبَ السَّيل بما كان لي من مالٍ وأهل وولدٍ ، ولم يترك لي غير بعيرٍ واحد وطفلٍ صغير حديث الولادة !! وكان البعير صعبًا فندَّ مِنِّي ، فتركْتُ الصَّبيّ على الأرض ، ولَحِقْت بالبعير ، فلم أُجاوِز مكاني قليلاً حتى سمِعْت صَيْحة الطِّفل فالْتَفَتُّ فإذا رأسهُ في فمِ ذئْبٍ يأكلهُ ، فبادرتُ إليه غير أنَّني لم أستطع إنقاذهُ ، إذْ كان قد أتى عليه ، ولحِقْت بالبعير فلمَّا دَنَوْت منه رماني بِرِجلهِ على وجهي رمْيةً حطَّمَتْ جبيني ، وذهبتْ بِبَصري ، وهكذا وجدْت نفسي في ليلة واحدة من غير أهل ، ولا ولد ، ولا مالٍ ، ولا بصر !!! والإنسان إذا أصابتْهُ مصيبة يتصوَّرِ الأصعب منها فيرْتاح ، كان إذا أصابَت عمر مصيبة قال : الحمد لله ثلاثًا ؛ الحمد لله إذْ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذْ لمْ تكن أكبر منها ، والحمد لله إذْ أُلْهمْتُ الصبر عليها ، فقال الوليد لِحاجِبِه : انْطلق بهذا الرجل إلى ضَيْفنا عروة بن الزبير ، ولْيقصَّ عليه قصَّته لِيَعلمَ أنَّ في الناس من هو أعظمُ منه بلاءً ، والقاعدة النبويَّة ؛ اُنْظر في الدنيا لِمَن هو أدنى منك ، وانْظر في الآخرة لمن هو أرقى منك .
الآن حُمِل عروة إلى المدينة ، وأُدخل على أهله ، ماذا قال ؟ بادرَهم قائلاً : لا يهُولنَّكم ما ترَوْن ! لقد وهبني الله عز وجل أربعةً من البنين ، ثمَّ أخذ منهم واحدًا ، وأبْقى ليَ ثلاثًة ، فله الحمد والشكر ، وأعطاني أربعة أطراف ثمَّ أخذ منها واحدًا ، وأبقى لي منها ثلاثة ، وَايْمُ الله لئن أخذ الله لي قليلاً فقدْ أبقى لي كثيرًا ، ولئن ابتلاني مرَّةً فلطالما عافاني مرَّات ، هل تسمعون ما قال ؟ هكذا المؤمن .
ولمَّا عرف أهل المدينة بِوُصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير ، تسايلوا على بيته لِيُواسوه ويُعَزُّوه ، فكان مِن أحسنِ ما عُزِّيَ به كلمةٌ قالها إبراهيم بن محمّد بن طلحة ، قال له : أبْشِرْ يا أبا عبد الله - هناك كلام لطيف أحلى من العسل ، علْمًا أنَّك تُعَزِّي إنسانًا بِفَقْد رجله وابنه - فقد سبقَكَ عضْوٌ من أعضائك ، وولدٌ من أبنائك إلى الجنَّة ، والكلّ يتْبَعُ البعض إن شاء الله تعالى ، ولقد أبقى الله لنا مِنك ما نحن فقراء إليه ، أبقى لنا منك علمك وفقْهك ورأيَك ، أما الطرف الذي سبقك إلى الجنَّة فاحْتسِبْهُ عند الله ، نفعنا الله وإيَّانا به ، واللهُ ولِيُّ ثوابك ، والضَّمِين بِحُسْن حِسابك ، وظلّ عروة بن الزبير للمسلمين منارَ هدًى ، ودليلَ فلاح ، وداعِيَةَ خير طوال حياته ، واهْتمَّ بِتَربيَة أولاده خاصَّة ، وسائر أولاد المسلمين ، فلم يترك فرْصةً لِتَهذيبهم .
قال : يا بنيّ تعلَّموا العلم ، وابْذُلوا له حقَّه ، فإنّكم إن تكونوا صِغارَ قومٍ فعسى أن يجعلكم العلم كبراء القوم ، واسَوْأتاه هل في الدنيا شيءٌ أقْبحُ من شيءٍ جاهل ؟ العالم شيخٌ ولو كان حدثًا، والجاهل حدث ولو كان شيخًا ، وكان يقول : يا بنيّ لا يَهْدِينَّ أحدكم إلى ربِّه ما يسْتحيي أن يُهْدِيَهُ إلى عزيز قومه ، فإنَّ الله تعالى أعزّ الأعزّاء ، وأكرم الكرام ، وأحقّ من يُختار له ، وكان يقول : يا بنيّ ، إذا رأيْتم من رجلٍ فعلةَ خير رائعة فأمِّلوا به خيرًا ، ولو كان بنَظر الناس رجل سوء ! وهذه قاعدة ؛ إن رأيْت إنسانًا أخلاقيًّا وكريمًا ، وله حياء ، ويحبّ الخير فتأمَّل فيه الخير ، ولو كان بِنَظر الناس قليل الدِّين ، فإنَّ لها عندهُ أخوات ، وإن رأيتم من رجلٍ فِعْلةَ شرّ فضيعةً فاحْذروه ، وإن كان في نظر الناس رجلَ خير ، فإنّ لها عنده أخوات أيضًا ، واعلموا أنَّ الحسنة تدلّ على أخواتها ، وأنَّ السيِّئة تدلّ على أخواتها ، وكان يوصي أولاده بلِين الجانب ، وطيب الكلام ، وبِشْر الوجه ، ويقول : يا بنيّ ؛ مكتوب في الحكمة لِتَكُنْ كلمتُك طيِّبةً ، ووجْهكَ طليقًا تكنْ أحبَّ للناس مِمَّن يبذل لهم العطاء ، وكان إذا رأى الناس يجْنحون إلى الطَّرَف ، ويسْتمرئون النعيم ، يُذكِّرهم بما كان عليه رسول الله من شظف العيش ، وخشونة الحياة .
وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِـدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ *
(متفق عليه)
عاشَ عروة واحدًا وسبعين عامًا مترعةً بالخير ، حافلةً بالبِرّ ، مُكَلَّلَةً بالتُّقى ، فلمَّا جاءه الأجَل المحتوم أدركهُ وهو صائم ، وقد ألحَّ عليه قومه أن يُفْطرَ فأبى ، لقد أبى لأنَّه كان يرجو أن يكون فطْرهُ على شرْبة من نهر الكوثر ، في قوارير من فضَّة ، بأيْدي حور العين .
هذا تابعيّ جليل كان قد ارْتقى ، وارْتقى ، حتى بلغ الكمال الإنساني .
نسيم الورد
19-04-2009, 05:17 PM
ياااااااااالـــــــــــــله مأروع قصص الصحابة والتابعين ,,,,,,,,,,,,الله يجزاك الف خير يا محمد ,,,,,,,,,
,,,,,,,,واثابك الله ,,,,,,,,,,,والله يوفقك في دنياك وأخرتك ,,,,,,,,,,,,,
,,,,,,,,,,,,,ودمت سالم,,,,,,,,,,,
لؤلؤة الغرب
19-04-2009, 05:38 PM
طلحة بن عبيد الله
شهيد يمشي على الأرض
طلحة بن عبيد الله
إنه الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله، قال عنه الرسول (: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض؛ فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" [الترمذي].
وهو أحد العشرة الذين بشرهم الرسول ( بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليكون منهم خليفة المسلمين.
وكان طلحة قد سافر إلى أرض بصرى بالشام في تجارة له، وبينما هو في السوق سمع راهبًا في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ فذهب إليه طلحة، وقال له: نعم أنا، فقال الراهب: هل ظهر أحمد؟ قال طلحة: من أحمد؟ قال الراهب: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة ويباخ (يقصد المدينة المنورة)، فإياك أن تسبق إليه.
فوقع كلام الراهب في قلب طلحة، ورجع سريعًا إلى مكة وسأل أهلها: هل كان من حدث؟ قالوا نعم، محمد الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فذهب طلحة إلى أبي بكر، وأسلم على يده، وأخبره بقصة الراهب.[ابن سعد]، فكان من السابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر.
ورغم ما كان لطلحة من ثراء ومال كثير ومكانة في قريش فقد تعرض لأذى المشركين واضطهادهم مما جعله يهاجر المدينة حين أذن النبي ( للمسلمين بالهجرة، وجاءت غزوة لكنه لم يشهدها، وقيل إن الرسول ( أرسله في مهمة خارج المدينة وحينما عاد ووجد المسلمين قد عادوا من غزوة بدر، حزن طلحة حزنًا شديدًا لما فاته من الأجر والثواب، لكن الرسول ( أخبره أن له من الأجر مثل من جاهد في المعركة، وأعطاه النبي ( سهمًا ونصيبًا من الغنائم مثل المقاتلين تمامًا.
ثم شهد طلحة غزوة أحد وما بعدها من الغزوات، وكان يوم أحد يومًا مشهودًا، أبلى فيه طلحة بلاء حسنًا حتى قال عنه النبي (: "طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض" [ابن عساكر].
وحينما نزل قول الله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [الأحزاب: 23]، قال النبي (: "طلحة ممن قضى نحبه" [الترمذي].
وحينما حدث اضطراب في صفوف المسلمين، وتجمع المشركون حول رسول الله ( كل منهم يريد قتله، وكل منهم يوجه السيوف والسهام والرماح تجاه الرسول ( إذا بطلحة البطل الشجاع يشق صفوف المشركين حتى وصل إلى رسول الله (، وجعل من نفسه حصنًا منيعًا للنبي (، وقد أحزنه ما حدث لرسول الله ( من كسر رباعيته (أي مقدمة أسنانه)، وشج رأسه، فكان يتحمل بجسمه السهام عن رسول الله، ويتقي النبل عنه بيده حتى شلت يده، وشج رأسه، وحمل رسول الله ( على ظهره حتى صعد على صخرة، وأتاه أبو بكر وأبو عبيدة، فقال لهما الرسول: اليوم أوجب طلحة يا أبا بكر"، ثم قال لهما: "عليكما صاحبكما"، فأتيا إلى طلحة فوجداه في حفرة، وبه بضع وسبعون طعنة ورمية وضربة، وقد قطعت إصبعه" [ابن سعد].
وكان أبو بكر الصديق إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، وقد بشره الرسول ( بالجنة.
وقد بلغ طلحة مبلغًا عظيمًا في الجود والكرم حتى سمى بطلحة الخير، وطلحة الجواد، وطلحة الفياض، ويحكى أن طلحة اشترى بئر ماء في غزوة ذي قرد، ثم تصدق بها، فقال رسول الله (: "أنت طلحة الفياض" [الطبراني]، ومن يومها قيل له طلحة الفياض.
وقد أتاه مال من حضرموت بلغ سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: مالك؟ فقال: تفكرت منذ الليلة، فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته، فأشارت عليه أن يقسم هذا المال على أصحابه وإخوانه، فسرَّ من رأيها وأعجب به، وفي الصباح، قسم كل ما عنده بين المهاجرين والأنصار، وهكذا عاش حياته كلها كريمًا سخيًّا شجاعًا.
واشترك في باقي الغزوات مع النبي ( ومع أبي بكر وعمر وعثمان، وحزن حزنًا شديدًا حينما رأى مقتل عثمان بن عفان رضي الله واستشهاده، واشترك في موقعة الجمل مطالبًا بدم عثمان وبالقصاص ممن قتله، وعلم أن الحق في جانب علي، فترك قتاله وانسحب من ساحة المعركة وفي أثناء ذلك أصيب بسم فمات.
وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة وال**ير ممن قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
وتزوج طلحة -رضي الله عنه- أربع ن***، كل واحدة منهن أخت لزوجة من زوجات النبي (، وهن: أم كلثوم بنت أبي بكر، أخت عائشة، وحمنة بنت جحش أخت زينب، والفارعة بنت أبي سفيان أخت أم حبيبة، ورقية بنت أبي أمية أخت أم سلمة.
وقد ترك طلحة تسعة أولاد ذكور وبنتًا واحدة، وروي عن النبي ( أكثر من ثلاثين حديثًا.
م ن
طالب عفو ربي
19-04-2009, 10:55 PM
اشكر كل من تفاعل مع السيرة العطرة للتابعين واشكر الاخت لؤلؤالغرب وجزاكم الله خير الدنيا والاخرة
لؤلؤة الغرب
20-04-2009, 11:19 PM
قاهر قيصر
عبد الله بن حذافة
إنه عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي -رضي الله عنه-، أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وأرسله النبي ( برسالة إلى كسرى.
وذات يوم سمعه النبي ( وهو يرفع صوته بقراءة القرآن، فقال له: (يابن حذافة، لا تُسَمِّعْنِي وَسَمِّعِ الله) [ابن سعد].
وكان عبد الله رجلا يحب المرح، فقد بعثه النبي ( في سرية، وجعل عليهم علقمة بن مجزر، فاستأذنت طائفة منهم في الطريق، فأذن لهم علقمة، وأمَّر عليهم عبد الله بن حذافة، وبينما هم في الطريق، أوقد القوم نارًا ليتدفئوا، ويصنعوا عليها طعامًا، فقال لهم عبد الله: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها، قال: أمسكوا إنما كنت أضحك معكم، فلما قدموا على النبي ( ذكروا ذلك له، فقال: (من أمركم بمعصية فلا تطيعوه) [أحمد وابن ماجه وابن خزيمة].
وفي خلافة عمر، خرج عبد الله مع جيش المسلمين المتجه إلى الشام لقتال الروم، فأسره الروم ومعه بعض المسلمين، ، وذهبوا به إلى قيصر، فقال له قيصر: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. فقال قيصر: إذًا أقتلك، فقال عبد الله: أنت وذاك. فقال القيصر للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وأخذ يعرض عليه المسيحية وعبد الله يأبى، فقال القيصر: أنزلوه، ودعا بوعاء كبير فصبَّ فيه ماء، وأشعل تحته النار، ودعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقى فيها، فاستشهد وهو ثابت على دينه، فبكى عبد الله، فقيل للملك: إنه بكى. فظن الملك أنه جزع.
فقال الملك: ردوه. ثم سأله: ما أبكاك؟ فقال عبد الله: قلت هي نفس واحدة، تلقى الساعة، فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في سبيل الله. فقال الملك: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال عبد الله: وعن جميع الأسرى؟ فقال الملك: نعم، فقبل عبد الله رأسه، وأخذ عبد الله جميع الأسرى، وقدم بهم إلى عمر، فأخبره بما حدث، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه. [ابن عساكر]. وانتقل عبد الله إلى مصر مع جيش عمرو، واستقر فيها حتى مات في خلافة عثمان.
م ن
عبدالله نبيل
21-04-2009, 12:29 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
جهد مبارك اخي الكريم : محمد صيام
والاخت : لؤلؤة الغرب
بارك الله فيكما لكن لفت انتباهي شئ صغير هو :
اسم الموضوع ومتن الموضوع
فالاسم عن سيرة التابعين وبالداخل وجدت مقتطفات من سير بعض الصحابة رضوان الله عليهم اجميعن
فالاخ محمد صيام : قدم لنا عن سيرة سلمان الفارسي ، وسعد بن ابي وقاص وهما من الصحابة رضي الله عنهما
والاخت لؤلؤة الغرب : قدمت لنا عن طلحة بن عبيد الله , وعبدالله بن حذافة رضي الله عنهما وهما ايضا من الصحابة
فالصحابة هم من شاهدوا النبي ولهم معه صحبة ورواية
اما التابعون فهم من جاؤا بعد موت النبي صلي الله عليه وسلم ورووا عن الصحابة رضوان الله عليهم
ولهذا ارجوا من سيادتكم تغيير اسم الموضوع الي سير التابعين والصحابة رضوان الله عليهم
وشكرا علي مجهودك الكريم اخي الكريم الفاضل :
محمد صيام
والاخت لؤلؤة الغرب
بارك الله فيكما وجزاكما كل خير
تقبلوا مروري واحترامي وتقديري وشكري
طالب عفو ربي
22-04-2009, 07:07 PM
الاخ الفاضل عبدالله
جزاك الله كل خير علي التصحيح وتمنياتي .. منك المزيد ولا تبخل علينا بتوجهاتك وان شاء الله سوف يتم التعديل
جزاك الله خير الدنيا والاخرة
طالب عفو ربي
22-04-2009, 07:24 PM
سعيد بن المسيب
سيرة سيد التابعين (سعيد بن المسيب) يمكن أن نجد الكثير من معالم الطريق المنشود والعديد من المبادئ التى لابد أن نقوم بها إن أردنا بصدق أن يعود لنا المجد المفقود.
العلم الركيزة الأساسية للرقى
أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره فى تحصيل العلم يقول فى ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالى فى طلب الحديث الواحد) وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافى فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابى أبى هريرة رضى الله عنه المنحة الربانية التى هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحى حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضى الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها قال أبو طالب قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟
ومع طول المثابرة فى تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقى بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول (ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله ? ولا أبو بكر ولا عمر منى) وقال عنه قتادة: ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب وعن مكحول قال طفت الأرض كلها فى طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد وسأل رجل القاسم بن محمد عن شئ فقال أسألت أحدا غيرى قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وروى الربيع عن الشافعى أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقال الإمام أحمد هى صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين وقال على بن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندى أجل التابعين وقال أبو حاتم: ليس فى التابعين أنبل منه.
ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا فى الفقه أو التفسير أو الحديث التى كتبت فى عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة فى ثنايا مباحثها قال عمر بن العزيز (إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتينى بعلمه) وبالإضافة إلى تميزه فى العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين فى علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضى الله عنهم وتُروى فى براعته فى التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إنى رأيت رؤيا قال ما هى؟ قال: رأيت كأنى أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت فى ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرنى قال: ابن الزبير رآها وهو بعثنى إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوى فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألنى عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لى بقضاء دينى وأصبت منه خيرا.
وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إنى أرانى أبول فى يدى فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إنى أرى فى النوم كأنى أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوى: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف.
واليوم وفى عصر الفضائيات وثورة المعلومات لابد لنا أن لا نغفل حقيقة هامة هى أن العلم الذى رفع ابن المسيب إلى سماء المجد بل ورفع أى أمة عبر الزمان لابد أن يكون اللبنة الأولى فى صرح تقدمنا المنشود وأن لا نرضى بغيره بدلا لأن أى رقى بدون علم وهم وسراب سرعان ما يزول تاركا مرارة ومذلة فى حياة أصحابه لا يعلم قدرها إلا الله.
لا … لا … يا قيود الأرض
كان ابن المسيب آية فى الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التى لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها يقول ابن كثير (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس فى فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا فى الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إنى كرهت أن أحدثك عن رسول الله ? وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودى للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد فى المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة).
ولقد بلغ حب العبادة شغاف قلبه فلم يفتر عنها لا فى سراء ولا ضراء فيقول رحمه الله (ما فاتتنى التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل فى الصلاة منذ خمسين سنة) وعن بشر بن عاصم قال: قلت لسعيد يا عمى ألا تخرج فتأكل الثوم مع قومك؟ فقال معاذ الله يا ابن أخى أن أدع خمسا وعشرين صلاة خمس صلوات وقد سمعت كعبا يقول وددت أن هذا اللبن عاد قطرانا اتبعت قريش أذناب الإبل فى هذه الشعاب إن الشيطان مع الشاذ وهو من الاثنين أبعد. واشتكى يوما عينه فقالوا له لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفه قال فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح.
وها هو العابد حتى فى أحلك المواقف فعن أبى حازم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد أحد من خلق الله غيرى وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون وما يأتى وقت صلاة إلا سمعت أذانا فى القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما فى المسجد أحد غيرى ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب (براهب قريش) وكان يكثر من قول (اللهم سلم سلم) فإذا دخل الليل خاطب نفسه قائلاً (قومى يا مأوى كل شر والله لأدعنك تزحفين زحف البعير) فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه (بذا أمرت ولذا خلقت) ومع ذلك لم تكن العبادة عنده مرادفة للقيام والقعود فعن مالك بن أنس قال: قال برد – مولى ابن المسيب – لسعيد بن المسيب ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء قال سعيد وما يصنعون؟ قال يصلى أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلى حتى العصر فقال سعيد ويحك يا برد! أما والله ما هى بالعبادة تدرى ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر فى أمر الله والكف عن محارم الله. كما كان رحمه الله يكره كثرة الضحك ويصوم الدهر ولا يفطر إلا فى أيام التشريق بالمدينة.
ومن مواقفه المضيئة أنه أدركه رجلاً من قريش ومعه مصباح فى ليلة مطيرة فسلم عليه وقال كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال أحمد الله فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال نبعث معك بالمصباح قال لا حاجة لى بنورك نور الله أحب إلى من نورك وكان يقول رحمه الله (لا تقولن مصيحيف ولا مسيجيد ولكن عظموا ما عظم الله فكل ما عظم الله فهو عظيم حسن) ويقول (ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل بمعصية الله وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله)
أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها فى الزيت ويقول عن هذا المال (اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهى عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فىّ وفيهم وأصل منه رحمى وأؤدى منه الحقوق التى فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار) وكان له فى بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول (لا حاجة لى فيها حتى يحكم الله بينى وبين بنى مروان) وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد فى الطبقات عن طلحة الخزاعى قال (كان فى رمضان يؤتى بالأشربة فى مسجد النبى ? فليس أحد يطمع أن يأتى سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشئ لم يشرب شيئا حتى ينصرف) أما طعامه فهو بسيط يشمل فى الغالب خبزا وزيتا ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا (لا تعودى لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالى فأحتاج إلى ما فى أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظرى إلى القوت الذى كنت آكل فى بيتى فابعثى إلى به).
ومن أقواله الرائعة (من استغنى بالله افتقر الناس إليه) وقوله (الدنيا نذلة وهى إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها فى غير سبيلها).
إن هذه المعانى الغالية لهى خير دواء لهذه المادية التى خيمت على كل شئ فى حياتنا وأردت الكثيرين منا وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها.
لا تأخذك فى الحق لومه لائم
تجلت هذه القاعدة فى حياة سيد التابعين فى أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله فى كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذى لا يحابى فى الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه فى الله كما قال عمران بن عبد الله (أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه فى ذات الله من نفس ذباب)
ومن مواقفه الشهيرة فى ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لأبنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذى ناله ولكنه لم يزد على كلمة (لا) وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتى فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد هل أحدثت امرأة غيرها قال يرحمك الله ومن يزوجنى وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة: فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلى وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائى لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت من هذا فقال سعيد ففكرت فى كل إنسان إسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلى فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرنى قال رأيتك رجلا عزبا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هى قائمة خلفه فى طوله ثم دفعها فى الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءونى وقالوا ما شأنك قلت زوجنى سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هى فى الدار فنزلوا إليها وبلغ أمى فجاءت وقالت وجهى من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هى من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله ? وأعرفهم بحق الزوج.
وكان رحمه الله يقول (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم) وعن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فوالله لا يسلمنى الله ما أخذت بحقوقه.
وعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى المدينة وعامله يومئذ عليها هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا وأبى سعيد أن يبايع لهما وقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر قال والله لا يقتدى بى أحد من الناس فضربه هشام ستين سوطا وطاف به فى تبان من شعر وسجنه فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول سعيد ! كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه.
وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك قال والله ما أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصل صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفا من حصى فحصبته بها زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة.
وفى سنة 91هـ حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عزوجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال نحن أحق بالسعى إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين.
نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس فى آذانهم قائلين (تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة فى الدنيا والآخرة).
طالب عفو ربي
22-04-2009, 07:30 PM
سعيد بن المسيب
سيرة سيد التابعين (سعيد بن المسيب) يمكن أن نجد الكثير من معالم الطريق المنشود والعديد من المبادئ التى لابد أن نقوم بها إن أردنا بصدق أن يعود لنا المجد المفقود.
العلم الركيزة الأساسية للرقى
أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره فى تحصيل العلم يقول فى ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالى فى طلب الحديث الواحد) وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافى فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابى أبى هريرة رضى الله عنه المنحة الربانية التى هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحى حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضى الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها قال أبو طالب قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟
ومع طول المثابرة فى تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقى بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول (ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله ? ولا أبو بكر ولا عمر منى) وقال عنه قتادة: ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب وعن مكحول قال طفت الأرض كلها فى طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد وسأل رجل القاسم بن محمد عن شئ فقال أسألت أحدا غيرى قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وروى الربيع عن الشافعى أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقال الإمام أحمد هى صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين وقال على بن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندى أجل التابعين وقال أبو حاتم: ليس فى التابعين أنبل منه.
ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا فى الفقه أو التفسير أو الحديث التى كتبت فى عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة فى ثنايا مباحثها قال عمر بن العزيز (إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتينى بعلمه) وبالإضافة إلى تميزه فى العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين فى علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضى الله عنهم وتُروى فى براعته فى التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إنى رأيت رؤيا قال ما هى؟ قال: رأيت كأنى أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت فى ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرنى قال: ابن الزبير رآها وهو بعثنى إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوى فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألنى عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لى بقضاء دينى وأصبت منه خيرا.
وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إنى أرانى أبول فى يدى فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إنى أرى فى النوم كأنى أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوى: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف.
واليوم وفى عصر الفضائيات وثورة المعلومات لابد لنا أن لا نغفل حقيقة هامة هى أن العلم الذى رفع ابن المسيب إلى سماء المجد بل ورفع أى أمة عبر الزمان لابد أن يكون اللبنة الأولى فى صرح تقدمنا المنشود وأن لا نرضى بغيره بدلا لأن أى رقى بدون علم وهم وسراب سرعان ما يزول تاركا مرارة ومذلة فى حياة أصحابه لا يعلم قدرها إلا الله.
لا … لا … يا قيود الأرض
كان ابن المسيب آية فى الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التى لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها يقول ابن كثير (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس فى فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا فى الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إنى كرهت أن أحدثك عن رسول الله ? وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودى للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد فى المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة).
ولقد بلغ حب العبادة شغاف قلبه فلم يفتر عنها لا فى سراء ولا ضراء فيقول رحمه الله (ما فاتتنى التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل فى الصلاة منذ خمسين سنة) وعن بشر بن عاصم قال: قلت لسعيد يا عمى ألا تخرج فتأكل الثوم مع قومك؟ فقال معاذ الله يا ابن أخى أن أدع خمسا وعشرين صلاة خمس صلوات وقد سمعت كعبا يقول وددت أن هذا اللبن عاد قطرانا اتبعت قريش أذناب الإبل فى هذه الشعاب إن الشيطان مع الشاذ وهو من الاثنين أبعد. واشتكى يوما عينه فقالوا له لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفه قال فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح.
وها هو العابد حتى فى أحلك المواقف فعن أبى حازم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد أحد من خلق الله غيرى وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون وما يأتى وقت صلاة إلا سمعت أذانا فى القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما فى المسجد أحد غيرى ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب (براهب قريش) وكان يكثر من قول (اللهم سلم سلم) فإذا دخل الليل خاطب نفسه قائلاً (قومى يا مأوى كل شر والله لأدعنك تزحفين زحف البعير) فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه (بذا أمرت ولذا خلقت) ومع ذلك لم تكن العبادة عنده مرادفة للقيام والقعود فعن مالك بن أنس قال: قال برد – مولى ابن المسيب – لسعيد بن المسيب ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء قال سعيد وما يصنعون؟ قال يصلى أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلى حتى العصر فقال سعيد ويحك يا برد! أما والله ما هى بالعبادة تدرى ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر فى أمر الله والكف عن محارم الله. كما كان رحمه الله يكره كثرة الضحك ويصوم الدهر ولا يفطر إلا فى أيام التشريق بالمدينة.
ومن مواقفه المضيئة أنه أدركه رجلاً من قريش ومعه مصباح فى ليلة مطيرة فسلم عليه وقال كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال أحمد الله فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال نبعث معك بالمصباح قال لا حاجة لى بنورك نور الله أحب إلى من نورك وكان يقول رحمه الله (لا تقولن مصيحيف ولا مسيجيد ولكن عظموا ما عظم الله فكل ما عظم الله فهو عظيم حسن) ويقول (ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل بمعصية الله وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله)
أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها فى الزيت ويقول عن هذا المال (اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهى عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فىّ وفيهم وأصل منه رحمى وأؤدى منه الحقوق التى فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار) وكان له فى بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول (لا حاجة لى فيها حتى يحكم الله بينى وبين بنى مروان) وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد فى الطبقات عن طلحة الخزاعى قال (كان فى رمضان يؤتى بالأشربة فى مسجد النبى ? فليس أحد يطمع أن يأتى سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشئ لم يشرب شيئا حتى ينصرف) أما طعامه فهو بسيط يشمل فى الغالب خبزا وزيتا ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا (لا تعودى لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالى فأحتاج إلى ما فى أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظرى إلى القوت الذى كنت آكل فى بيتى فابعثى إلى به).
ومن أقواله الرائعة (من استغنى بالله افتقر الناس إليه) وقوله (الدنيا نذلة وهى إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها فى غير سبيلها).
إن هذه المعانى الغالية لهى خير دواء لهذه المادية التى خيمت على كل شئ فى حياتنا وأردت الكثيرين منا وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها.
لا تأخذك فى الحق لومه لائم
تجلت هذه القاعدة فى حياة سيد التابعين فى أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله فى كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذى لا يحابى فى الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه فى الله كما قال عمران بن عبد الله (أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه فى ذات الله من نفس ذباب)
ومن مواقفه الشهيرة فى ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لأبنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذى ناله ولكنه لم يزد على كلمة (لا) وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتى فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد هل أحدثت امرأة غيرها قال يرحمك الله ومن يزوجنى وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة: فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلى وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائى لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت من هذا فقال سعيد ففكرت فى كل إنسان إسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلى فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرنى قال رأيتك رجلا عزبا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هى قائمة خلفه فى طوله ثم دفعها فى الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءونى وقالوا ما شأنك قلت زوجنى سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هى فى الدار فنزلوا إليها وبلغ أمى فجاءت وقالت وجهى من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هى من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله ? وأعرفهم بحق الزوج.
وكان رحمه الله يقول (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم) وعن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فوالله لا يسلمنى الله ما أخذت بحقوقه.
وعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى المدينة وعامله يومئذ عليها هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا وأبى سعيد أن يبايع لهما وقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر قال والله لا يقتدى بى أحد من الناس فضربه هشام ستين سوطا وطاف به فى تبان من شعر وسجنه فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول سعيد ! كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه.
وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك قال والله ما أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصل صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفا من حصى فحصبته بها زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة.
وفى سنة 91هـ حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عزوجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال نحن أحق بالسعى إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين.
نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس فى آذانهم قائلين (تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة فى الدنيا والآخرة).
لؤلؤة الغرب
23-04-2009, 09:26 PM
خـبـيـب بـن عـدي...
خبيب بن عديّ - بطل.. فوق الصليب..!!
والآن..
افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..
وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..
تعالوا، خفاقا وثقالا..
تعاولوا مسرعين، وخاشعين..
وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!
تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟
أجل كانت دروسا..
وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..
ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..
أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير..
الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..
الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..
وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء..
تعالوا بغروركم..!
تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء..
وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!!
أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟
انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الانسان...!
هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الاستاذ..
اسمه خبيب بن عديّ.
احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.
واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل انسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل جنس، وفي كل زمان..!!
**
انه من أوس المدينة وأنصارها.
تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليههم، وآمن بالله رب العالمين.
كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير.
كان كما وصفه حسّان بن ثابت:
صقرا توسّط في الأنصار منصبه
سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب
ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما.
وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.
وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!
**
وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..
وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين..
هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين..
**
وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.
وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم..
وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه:
" انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..
وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..
وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..
واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار..
ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.
والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
وانتظروا بما يأمر..
فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..
اللهم أخبر عنا نبيك"..
وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا..
ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا.
فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..
واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها..
ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..
واستشهد حيث أراد..
وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!
وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام.
وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها..
ودوّى في الآذان اسم خبيب..
وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد.
وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.
وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!!
وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..
**
أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين.
وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول.
كان الله معه.. وكان هو مع الله..
كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..!
دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا..
" والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..
وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..
ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!
أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت:
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..
قال يا مريم أنّى لك هذا
قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)..
**
وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.
ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته.
وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!
أجل، كان ايما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا..
كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..
واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..
وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..
وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...
وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي..
ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:
" والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!!
ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:
" اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا"..
ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع
ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..
ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.
وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!!
لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.
وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه.
وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:
" أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟
وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه:
" والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"..
نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!
**
كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية..
وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..
ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.
وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا..
لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!
مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة.
وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..
وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!!
كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:
" اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..
واستجاب الله دعاءه..
فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..
وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..
ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، وال**ير بن العوّام..
فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا.
وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.
ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.
ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!!
م ن
لؤلؤة الغرب
24-04-2009, 07:30 PM
مؤذن الرسول
بلال بن رباح
إنه بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وكان بلال قد بدأ يسمع عن الرسول الذي جاء بدين جديد، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ويحث على المساواة بين البشر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وبدأ يصغي إلى أحاديث زعماء قريش وهم يتحدثون عن محمد. سمعهم وهم يتحدثون عن أمانته، ووفائه، وعن رجولته، ورجاحة عقله، سمعهم وهم يقولون: ما كان محمد يومًا كاذبًا، ولا ساحرًا، ولا مجنونًا، وأخيرًا سمعهم وهم يتحدثون عن أسباب عداوتهم لمحمد (.
فذهب بلال إلى رسول الله ( ليسلم لله رب العالمين، وينتشر خبر إسلام بلال في أنحاء مكة، ويعلم سيده أمية بن خلف فيغضب غضبًا شديدًا، وأخذ يعذب بلالا بنفسه؛ لقد كانوا يخرجون به إلى الصحراء في وقت الظهيرة، ذلك الوقت التي تصير فيه الصحراء كأنها قطعة من نار، ثم يطرحونه عاريًا على الرمال الملتهبة، ويأتون بالحجارة الكبيرة، ويضعونها فوق جسده، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، ويظل بلال صابرًا مصممًا على التمسك بدينه، فيقول له أمية بن خلف: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال: أحد.. أحد!!
لقد هانت على بلال نفسه بعدما ذاق طعم الإيمان، فلم يعد يهتم بما يحدث له في سبيل الله، ثم أمر زعماء قريش صبيانهم أن يطوفوا به في شعاب مكة وشوارعها ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتبع محمدًا، وبلال لا ينطق إلا كلمة واحدة، هي: أحد.. أحد، فيغتاظ أمية ويتفجر غمًّا وحزنًا، ويزداد عذابه لبلال.
وذات يوم، كان أمية بن خلف يضرب بلالاً بالسوط، فمرَّ عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال له: يا أمية ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متى ستظل تعذبه هكذا؟ فقال أمية لأبي بكر: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، وواصل أمية ضربه لبلال، وقد يئس منه، فطلب أبو بكر شراءه، وأعطى أمية ثلاث أواق من الذهب نظير أن يترك بلالا، فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها، وانطلق أبو بكر ببلال إلى رسول الله ( يبشره بتحريره.
وبعد هجرة النبي ( والمسلمين إلى المدينة واستقرارهم بها، وقع اختيار الرسول ( على بلال ليكون أول مؤذن للإسلام، ولم يقتصر دور بلال على الأذان فحسب، بل كان يشارك النبي ( في كل الغزوات، ففي غزوة بدر أول لقاء بين المسلمين وقريش دفعت قريش بفلذات أكبادها، ودارت حرب عنيفة قاسية انتصر فيها المسلمون
انتصارًا عظيمًا.
وفي أثناء المعركة لمح بلال أمية بن خلف، فيصيح قائلاً: رأس الكفر
أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، وكانت نهاية هذا الكافر على يد بلال، تلك اليد التي كثيرًا ما طوقها أمية بالسلاسل من قبل، وأوجع صاحبها ضربًا بالسوط.
وعاش بلال مع رسول الله ( يؤذن للصلاة، ويحيي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن رقِّ العبودية إلى الحرية، وكل يوم يزداد بلال قربًا من قلب رسول الله ( الذي كان يصفه بأنه رجل من أهل الجنة، ومع كل هذا، ظل بلال كما هو كريمًا متواضعًا لا يرى لنفسه ميزة على أصحابه.
وذات يوم ذهب بلال يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين، فقال لأبيهما: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما، وكان بلال -رضي الله عنه- عابدًا لله، ورعًا، كثير الصلاة، قال له النبي ( ذات يوم بعد صلاة الصبح: (حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فأني قد سمعت الليلة خشفة نعليك (صوت نعليك) بين يدي في الجنة)، فقال بلال:
ما عملت عملا أرجى من أني لم أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي. [البخاري].
وحزن بلال حزنًا شديدًا لوفاة النبي (، ولم يستطع أن يعيش في المدينة بعدها، فاستأذن من الخليفة أبي بكر في الخروج إلى الشام ليجاهد في سبيل الله، وذكر له حديث رسول الله (: (أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله) [الطبراني]. وذهب بلال إلى الشام، وظل يجاهد بها حتى
توفي -رضي الله عنه-.منقول
طالب عفو ربي
24-04-2009, 09:56 PM
تابــــع
بلال بن رباح
مكانته وفضله
روى مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته عندك في الإسلام منفعة فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة" قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي ان أصلي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال...
وروى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان عمر يقول: "أبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا يعني بلالًا"
وروى ابن عساكر... عن امرأة بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها فسلم فقال: " أثمَّ بلال" فقالت: لا. فقال: " لعلك غضبى على بلال " فقالت: إنه يجئني كثيرا فيقول: قال رسول الله. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حدثك عني فقد صدقك، بلال لا يكذب، لا تغضبي بلالا فلا يقبل منك عمل ما غضب عليك بلال".
روى مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه".
وكان بلال رضي الله عنه أول من أذن للصلاة وهو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير السودان ثلاثة لقمان وبلال ومهجع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم". المستدرك
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المرء بلال هو سيد المؤذنين ولا يتبعه إلا مؤذن والمؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" المستدرك
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: انطلقت أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعوده فحضرت الصلاة فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح قال: فأنكرنا ذلك عليه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" سنن أبي داود
لقد تربى بلال رضي الله عنه وتعلم في مدرسة النبوة، ورافق النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا مماكان له الأثر الكبير في شخصيته رضي الله عنه، ولقد اكتشف النبي صلى الله عليه وسلم موهبته ومهارته وصوته الندي فأمره أن يؤذن فكان أول مؤذن في الإسلام...
أهم ملامح شخصيته
الصبر والثبات والتحمّل في سبيل الله:
قال عبد الله بن مسعود: كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوا أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد...
ولأنه رضي الله أول من أسلم من العبيد، كان من أشد المسلمين تعذيبا في مكة، وممن يعذب في الله عز وجل فيصبر على العذاب وكان أبو جهل يبطحه على وجهه في الشمس ويضع الرحا عليه حتى تصهره الشمس ويقال: أكفر برب محمد فيقول: أحد أحد؛ فاجتاز به ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد؛ فقال: يا بلال أحد أحد والله لئن متّ على هذا لأتخذن قبرك حنانا أي بركة...
وكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى أبو داود بسنده عن عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما كان له شيء كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي وكان إذا أتاه الإنسان مسلما فرآه عاريا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار فلما أن رآني قال: يا حبشي قلت يا لباه فتجهمني وقال لي قولا غليظا وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر قال: قلت: قريب قال: إنما بينك وبينه أربع فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي وهو فاضحي فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر فقد جاءك الله بقضائك" ثم قال: "ألم تر الركائب المناخات الأربع" فقلت: بلى فقال: "إن لك رقابهن وما عليهن فإن عليهن كسوة وطعاما أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك" ففعلت فذكر الحديث ثم انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد فسلمت عليه فقال: "ما فعل ما قبلك" قلت: قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء قال: "أفضل شيء؟" قلت: نعم قال: "انظر أن تريحني منه فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه" فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك" قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث حتى إذا صلى العتمة يعني من الغد دعاني قال: "ما فعل الذي قبلك" قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه.
الرسول يزوّجُ بلالًا:
حدث زيد بن أسلم أن بني أبي البكير جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: زوج أختنا فلانا فقال لهم: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكح أختنا فلانا فقال: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح أختنا فلانا فقال: " أين أنتم عن بلال أين أنتم عن رجل من أهل الجنة! " قال: فأنكَحُوه.
مرافق للنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح:
عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال سمعتها تقول حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا.
قصة الأذان:
قال محمد بن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أي المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة بحين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجعل بوقا كبوق اليهود الذي يدعون به لصلواتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين إلى الصلاة فبينما هم على ذلك أرى عبد الله بن زيد بن عبد ربه أخو الحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس فقال وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة فقال ألا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله أشهد أن محمد رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ثم استأخر غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وترا إلا قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فلما خبرتها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقاها عليه فإنه أندى صوت منك فلما أذن بلال سمع عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد فذاك أثبت.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان؛ بلال وابن أم مكتوم الأعمى.
وعن ابن أبي مليكة... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن يوم الفتح على ظهر الكعبة فأذن على ظهرها والحارث بن هشام وصفوان بن أمية قاعدان فقال أحدهما للآخر أنظر إلى هذا الحبشي فقال الآخر إن يكرهه الله يغيّره.
وكان بلال رضي الله عنه مرافقًا في غالب أحواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام: هذا من أهل النار فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى النار فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحًا شديدًا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالًا فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
وروى البخاري بسنده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم لو عرست بنا يا رسول الله قال أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال: "يا بلال أين ما قلت" قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة" فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى.
وعن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله قال لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.
وروى مسلم بسنده أن بلالًا جاء بتمر برني - أ ي جيد - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين هذا فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله عند ذلك أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به.
عن أبي سعيد الخدري عن بلال رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال ألق الله فقيرا ولا تلقه غنيا قال قلت وكيف لي بذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رزقت فلا تخبأ وإذا سئلت فلا تمنع قال قلت وكيف لي بذلك يا رسول الله قال هو ذاك وإلا فالنار. المستدرك
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أبي بكر وعمر بن الخطاب:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق فقال له يا خليفة رسول الله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله فقال أبو بكر فما تشاء يا بلال قال أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت فقال أبو بكر أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي فقد كبرت وضعفت واقترب أجلي فأقام بلال مع أبي بكر حتى توفي أبو بكر فلما توفي أبو بكر جاء بلال إلى عمر بن الخطاب فقال له كما قال لأبي بكر فرد عليه عمر كما رد عليه أبو بكر فأبى بلال عليه فقال عمر فإلى من ترى أن أجعل النداء فقال إلى سعد فإنه قد أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر سعدا فجعل الأذان إليه وإلى عقبه من بعده...
وعن سهل رضي الله عنه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء بلال أبا بكر رضي الله عنهما فقال حبس النبي صلى الله عليه وسلم فتؤم الناس قال نعم إن شئتم فأقام بلال الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فصلى فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس بالتصفيح قال سهل هل تدرون ما التصفيح هو التصفيق وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته فلما أكثروا التفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في الصف فأشار إليه مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقري وراءه وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
مع ابن عمر:
روى مسلم بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقها عليه ثم مكث فيها قال ابن عمر فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى.
مع عبد الرحمن بن عوف في بدر وأسيره أمية بن خلف:
روى البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة - الصاغية ما يخص المرء من أهل ومال ومتاع - فلما ذكرت الرحمن قال لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية فكاتبته عبد عمرو فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال أمية بن خلف لا نجوتُ إن نجا أمية فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلا ثقيلا فلما أدركونا قلت له ابرك فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب:
وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذب بلالًا ويوالي عليه العذاب والمكروه فكان من قدر الله تعالى أن قتله بلال يوم بدر على حسب ما أتى من ذلك في السير فقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبياتا:
هنيئًا زادك الرحمن خيرًا فقد أدركت ثأرَك يا بلال
مع أبي ذر:
روى البخاري بسنده عن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلًا - هو بلال رضي الله عنه - فعيّرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيّرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَالٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلَالًا فَقَالَ: صَلَّى فِيهِ فَقُلْتُ: فِي أَيٍّ قَالَ: بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى.
وروى ابن ماجة بسنده عن بلال بن رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداةَ جمعٍ يا بلال أسكت الناس أو أنصت الناس ثم قال إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل ادفعوا باسم الله.
وعن بلال رضي الله عنه قال: " أذنت في غداة باردة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير في المسجد أحدا فقال: " أين الناس " فقلت: حبسهم القر فقال: " اللهم أذهب عنهم البرد " قال: فلقد رأيتهم يتروحون في الصلاة".
أثره في الآخرين:
روى عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة أسامة بن زيد والبراء بن عازب، وطارق بن شهاب بن عبد شمس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وكعب بن عجرة، ووهب بن عبد الله، وممن روى عنه من التابعين الأسود بن يزيد بن قيس، وشهر بن حوشب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم...
بعض كلماته:
روى البخاري بسنده عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيـلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَـنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ."
وروى الحصين بن نمير أن بلالا خطب على أخيه خالد فقال: أنا بلال وهذا أخي كنا رقيقين فأعتقنا الله وكنا عائلين فأغنانا الله وكنا ضالين فهدانا الله فإن تنكحونا فالحمد لله وإن تردونا فلا إله إلا الله فأنكحوه وكانت المرأة عربية من كندة.
وكان رضي الله عنه يقول عن نفسه تواضعًا: "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
وعن هند امرأة بلال قالت كان بلال إذا أخذ مضجعه قال اللهم تجاوز عن سيئاتي واعذرني بعلاتي.
رؤيا الحبيب صلى الله عليه وسلم:
رأى بلالٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول: "ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورنا" فانتبه حزينًا فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر فعلا سطح المسجد فلما قال: " الله أكبر الله أكبر " ارتجت المدينة فلما قال: " أشهد أن لا إله إلا الله " زادت رجتها فلما قال: " أشهد أن محمدا رسول الله " خرج النساء من خدورهن فما رُئي يوم أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم.
وفاته:
لما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته: و احزاناه!
فقال: واطرباه! غدا ألقى الأحبة محمدًا و حزبَه
طالب عفو ربي
24-04-2009, 10:00 PM
زيد بن ثابت
هو زيد بن ثابت بن الضحّاك الأنصاري من بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كان يتيمـاً يوم قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمدينـة (توفي والده يوم بُعاث ) و سنه لا يتجاوز إحدى عشرة سنة، وأسلـم مع أهلـه وباركه الرسول الكريم بالدعاء...
جهاده:
صحبه آباؤه معهم إلى غزوة بدر، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رده لصغر سنه وجسمه، وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-يرجون أن يضمهم للمجاهدين وأهلهم كانوا يرجون أكثر منهم، ونظر إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاكرا وكأنه يريد الاعتذار، ولكن ( رافع بن خديج ) وهو أحدهم تقدم إلى الرسول الكريم وهو يحمل حربة ويستعرض بها قائل: ( إني كما ترى، أجيد الرمي فأذن لي )...فأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- له، وتقدم ( سمرة بن جندب ) وقال بعض أهله للرسول:( إن سمرة يصرع رافعا )...فحياه الرسول وأذن له...
وبقي ستة من الأشبال منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، بذلوا جهدهم بالرجاء والدمع واستعراض العضلات، لكن أعمارهم صغيرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة، وهكذا بدأ زيد مع إخوانه دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق، سنة خمس من الهجرة.
قال زيد بن ثابت كانت وقعة بعاث وأنا بن ست سنين وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا بن إحدى عشرة سنة وأتي بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا غلام من الخزرج قد قرأ ست عشرة سورة فلم أجز في بدر ولا أحد وأجزت في الخندق
وكانت مع زيد -رضي الله عنه- راية بني النجار يوم تبوك، وكانت أولاً مع عُمارة بن حزم، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فدفعها لزيد بن ثابت فقال عُمارة:( يا رسول الله! بلغكَ عنّي شيءٌ؟)...قال الرسول:( ل، ولكن القرآن مقدَّم، وزيد أكثر أخذا منك للقرآن )...
علمه:
عن عامر قال كان فداء أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية فمن لم يكن عنده علم عشرة من المسلمين الكتابة فكان زيد بن ثابت ممن علم، لقد كان t مثقفًا متنوع المزاي، يتابع القرآن حفظ، ويكتب الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرته، أمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فتعلمها في وقت وجيز...يقول زيـد:( أُتيَ بيَ النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- مَقْدَمه المدينة، فقيل:( هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة )...فقرأت عليه فأعجبه ذلك، فقال:( تعلّمْ كتاب يهـود، فإنّي ما آمنهم على كتابي )...ففعلتُ، فما مضى لي نصف شهـر حتى حَذِقْتُـهُ، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأتُ له )... وعن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحسن السريانية قلت لا قال فتعلمها فإنه تأتينا كتب قال فتعلمتها في سبعة عشر يوما قال الأعمش كانت تأتيه كتب لا يشتهى ان يطلع عليها الا من يثق به، من هنا أطلق عليه لقب ( ترجمان الرسول صلى الله عليه وسلم )..
حفظه للقرآن:
منذ بدأت الدعوة وخلال إحدى وعشرين سنة تقريبا كان الوحي يتنزل، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو، وكان هناك ثلة مباركة تحفظ ما تستطيع، والبعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآيات مسطورة، وكان منهم علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين...وبعد أن تم النزول كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه على المسلمين مرتبا حسب سوره وآياته...
وقد قرأ زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت لأنه كتبها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرأها عليه، وشَهِدَ العرضة الأخيرة، وكان يُقرىء الناس بها حتى مات...
بداية جمع القرآن:
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- شغل المسلمون بحروب الردة، وفي معركة اليمامة كان عدد الشهداء من حفظة القرآن كبير، فما أن هدأت نار الفتنة حتى فزع عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبو بكر الصديق راغبا في أن يجمع القرآن قبل أن يدرك الموت والشهادة بقية القراء والحفاظ...واستخار الخليفة ربه، وشاور صحبه ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:( إنك شاب عاقل لانتهمك )...وأمره أن يبدأ جمع القرآن مستعينا بذوي الخبرة...
ونهض زيد -رضي الله عنه- بالمهمة وأبلى بلاء عظيما فيه، يقابل ويعارض ويتحرى حتى جمع القرآن مرتبا منسقا...وقال زيد في عظم المسئولية:( والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن )...كما قال:( فكنتُ أتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال )...وأنجز المهمة على أكمل وجه وجمع القرآن في أكثر من مصحف0
المرحلة الثانية في جمع القرآن:
في خلافة عثمان بن عفان كان الإسلام يستقبل كل يوم أناسًا جدد عليه، مما أصبح جليا ما يمكن أن يفضي إليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين، فقرر عثمان والصحابة وعلى رأسهم حذيفة بن اليمان ضرورة توحيد المصحف، فقال عثمان:( مَنْ أكتب الناس؟)...قالو:( كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت )...قال:( فأي الناس أعربُ؟)...قالو:( سعيد بن العاص )...وكان سعيد بن العاص أشبه لهجة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عثمان:( فليُملِ سعيد وليكتب زيدٌ )...
واستنجدوا بزيـد بن ثابت، فجمع زيد أصحابه وأعوانه وجاءوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر -رضي الله عنها- وباشروا مهمتهم الجليلة، وكانوا دوما يجعلون كلمة زيد هي الحجة والفيصل...رحمهم الله أجمعين...حتى قال عنه ابن عباس ت رضي الله عنهما : " لقد علم المحفظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم ".
فضله رضي الله عنه:
تألقت شخصية زيد وتبوأ في المجتمع مكانا عالي، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم...فقد ذهب زيد ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال له زيد:( تنح يا ابن عم رسول الله )...فأجابه ابن عباس:( ل، فهكذا نصنع بعلمائنا )... كما قال ( ثابت بن عبيد ) عن زيد بن ثابت:( ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد )...
في يوم السقيفـة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منا قال فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك فقام زيد بن ثابت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وإن الإمام يكون من المهاجرين ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار وثبت قائلكم ثم قال أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال هذا صاحبكم فبايعوه ثم انطلقو.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستخلفه إذا حجّ على المدينة، وزيد -رضي الله عنه-، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، وهو أحد أصحاب الفَتْوى الستة: عمر وعلي وابن مسعود وأبيّ وأبو موسى وزيد بن ثابت، فما كان عمر ولا عثمان يقدّمان على زيد أحداً في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة،
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأفرضهم - أي أعلمهم بالفرائض - زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وان لكل امة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وقد استعمله عمر على القضاء وفرض له رزقاً...
قال ابن سيرين:( غلب زيد بن ثابت الناس بخصلتين، بالقرآن والفرائض )...
وفاته:
توفي -رضي الله عنه- سنة ( 45 هـ ) في عهد معاوية...
ولما مات رثاه حسان بقوله:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت
و عن يحيى بن سعيد قال: لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات اليوم حبر هذه الأمة، ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلف
طالب عفو ربي
25-04-2009, 08:15 PM
الربيع بن الخثيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين ، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا ، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الرابع من حياة التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم ، وتابعيّ اليوم هو الربيع بن خثَيم .
قال هلال لضيفه منذر الثوري : ألا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ ، لعلَّنا نؤمن ساعة ؟ نقف عند هذا القول قليلاً .
كلّ شيءٍ له منابعُهُ ، وكلّ شيءٍ له معدنهُ ، فإن أردْت العلم فعليك بِدُور العلم ، وإن أردت التجارة فعليك بالأسواق ، وإن أردت السِّياحة فعليك بالمتنزَّهات ، فالذي يريد العلم الشَّرعي ، أو يريد القرب من الله عز وجل فلا بدّ أن يجلس مع أهل العلم ، ولا بدّ أن يرتاد المساجد ، ألم يقل أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأخيه : اجْلس بنا نؤمن ساعة ؟! بلى فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ يُرَغِّبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلَام *
(رواه أحمد)
أيها الإخوة ، عند أهل الأذواق ما من ساعة أمْتعُ على وجه الإطلاق من مُذاكرة العلم ، أو من طلب العلم ، أو من تعليم العلم ، إذا كان هناك معلِّم ومُتَعلِّم فهذا تعليم ، إذا هناك متعلِّم ومعلِّم فهذا تعلّم ، وإذا كان هناك مؤمنون بِمُستوى واحدة نقول : مذاكرة العِلم ، لكنَّ الذي أريد أن أقوله لكم : لا يوجد مَن ليس له جَلسات ، الإنسان له عمل ، وله وقت فراغ ، وإن كان وقت الفراغ يقِلّ مع عِظَم التَّبِعات ، وقِلَّة الموارد ، ولا أريد أن أخرج عن مضمون الدرس ، فالذي ليس عنده وقت فراغ لا يَحيا ، وإذا أُلغِيَ وقت فراغ الإنسان فقد أُلْغِيَت حياته ، لأنّ الإنسان يحيا بِمَبادئه ، ويحْيا باتِّجاهاته ، ويحيى بِتَأْدِيَة رسالتهِ ، فإذا ألغَيْنا في الإنسان وقْت الفراغ فقد ألغيْنا الوقت الذي يُمضيهِ كما يحبّ ، فالوقت الذي تكسب به المال ربما لا تحِبّه ، وهذا عمل رتيب ، وعمل ربما لا يكون ممْتِعًا ، ولكنَّ الوقت الذي تسْعدُ به هو الوقت الذي تنفقهُ فيما تُحبّ ، فالمؤمن - ولا أُبالغ - أثْمنُ شيءٍ في حياتهِ هو وقت الفراغ ، لأنَّه في هذا الوقت يطلب فيه العلم ، وفي وقت الفراغ يلتقي مع أهل العلم ، ويدعو إلى الله ، ويُحَقِّق رسالته ، ويؤكِّد ذاته ، ويصِلُ إلى ربِّه ، وقد يكسبُ جنَّة الآخرة ، المشكلة الآن أنَّ الإنسان يبحث عن عملٍ إضافي ، وأنا معكم في هذا ، ولكن هذا العمل الإضافي إذا امْتصَّ كلّ وقت فراغك ، وتمكَّنْت أن تُضاعف دَخْلكَ ، وتُنْفق هذا الدخل الزائد على ما زاد عن حاجتك فوالله لأنت الخاسر ، أنا أقول كلامًا ، وأعني ما أقول : حينما يُلغى وقت الفراغ في حياة الإنسان فقد أُلغِيَ وُجودهُ الإنساني ، وبقيَ وُجودهُ الحيواني ، كائنٌ يتحرَّك ويكسب المال ، ويأكل ويستريح ، ويستيقظ ، ويعمل ويكسب المال ، ثم يستريح إلى أن يأتيَهُ الأجَل ، ولكن لا بدّ من وقتِ فراغٍ تحضرُ فيه مجالس العلم ، أو تُعلِّم ، أو تلتقي مع من تُحبّ ، أو تدعو إلى الله ، أو تُطالع .
أيها الإخوة الكرام ، المقصود من هذا الكلام أنَّه إذا كان لك دخْلٌ يكفيك ، أو يكفيك مع بعض المشقَّة ، وبإمكانك أن تُمضي وقتًا طويلاً في معرفة الله ، والعمل الصالح ، فإيَّاك أن تتورَّط في إلغاء وقت فراغك ، لأنَّ هناك أُناسًا كثيرين يقولون : واللهِ لا يوجد وقت ! فنحن ندخل إلى بيوتنا بعد نوم أولادنا ، ونخرج من بيوتنا قبل اسْتيقاظ أولادنا !! وهو يظنّ أنَّه يُحْسنُ صُنعًا، وهو في الحقيقة ألغى وُجودهُ الإنساني ، ودقِّقُوا في هذا الكلمة : الذي يُلغي وقت فراغه يُلغي وُجوده الإنساني ، لا ترضى بِعَملٍ يشتريك به صاحبُ العمل من شروق الشمس إلى نصف الليل ! لو أعطاك مائة ألف بالشَّهر فأنت الخاسر الأكبر ، ولا تقبل عملاً يُلغي وقْت فراغك ، إنَّ الآخرة تحتاج إلى وقتٍ ، وبالمناسبة أجْمل ما قرأتُ عن الصلاة ، وأنّ الصلاة فيها من كلّ أنواع العبادات ، الصلاة فيها من الحجّ التَّوَجُّهُ إلى القبلة ، وفيها من الصِّيام ترْكُ الطَّعام والشَّراب ، وترْكُ الكلام فيما هو بعيد عن الصلاة ، وفي الصلاة معنى الزكاة ، لأنَّ أصْل كسْب المال هو الوقت ، وأنت تقْتطعُ منه لِتُصَلِّي ، وفي الصَّلاة معنى التَّشهّد ، صيام ، وزكاة ، وحج، وتشهّد ، الأركان الأرْبَعُة للإسلام تدخل في الصَّلاة ، ولذلك هي الفرْض المتكَرِّر الذي لا يُلغى بِحَال .
قال له : أنا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ لعلَّنا نؤمن ؟ قال منذر : بلى ، فوالله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم ، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه .
نسأل الله أن يجمعنا مع أهل الحق ، فالإنسان المؤمن الصادق المُتَّصِل والصافي والمخلص، اللِّقاء معه جميل ، وجنَّة الله في الأرض أن تلتقي مع أهل الإيمان ، هؤلاء كما قيل عنهم كالكبريت الأحمر ؛ نادر ، قال له : فوالله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم ، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه ، ولكن هل اسْتأذنْت لنا عليه ؟ فقد قيل لي : إنَّهُ منذ أُصيب بالفالج لزِمَ بيتهُ ، وانْصرفَ إلى ربّه ، وعزفَ عن لقاء الناس !
تصوّر إنسانًا أُصيب بالفالج ، فهو بعيدٌ عن الله تعالى ، وقد ينتحر ، وقد ينهار ، وتصوَّر إنسانًا مؤمنًا أُصيب بالفالج ، وهو قريب من الله ، لقد صار هذا المرض خَلْوَةً له ، وهذا ما قاله أحد العارفين : ما يصْنعُ أعدائي بي ؟ جنَّتي في صدري ، إن أبْعَدوني فإبعادي سِياحة ، وإن قتلوني فقتْلي شهادة ، وإن حبسُوني فحَبْسي خلوة ، أجْمَلُ ما في حياة المؤمن أنَّ سعادتهُ تنْبعُ من داخلهِ ، ولا يأخذها من الخارج ، ولكنَّ عامَّة الناس سعادتهُ من بيتهِ ، فإذا حُرِمَ بيتهُ اخْتلَّ توازنهُ، وسعادتهُ من مرْكبته ، وسعادتهُ من زوجته ، ومن أولاده ، ومن مكانتهِ ، فإذا حُرمَ هذه الشروط انْهارَ نفْسِيًّا ، والمؤمن سعادتهُ من داخلهِ ، أيْنمَا ذهبْت به يسْتغني عن أيِّ شرْط مادِّيٍ لِسعادته .
قال هلال : إنّه لكذلك منذ عرفَتْهُ الكوفة ، لم يُغيِّر منه المرض شيئًا ، الذَّهَب ذهَب ، فأنا هذه الحقيقة أعرفها ، ولكنَّني ما شعرْتُ بها ، مرَّةً قرأْتُ مقالة : عثَرُوا على باخرة غرقَتْ في عام 1910 ، وكانت تحْمل كمِّيَة كبيرة جدًّا من الذَّهَب من أمريكا إلى بريطانيا ، أو العكس ، غرقَت في عرْض المحيط الأطلسي ، والآن هناك شركات تبْحث في التاريخ القديم عن غرَق هذه البواخر العِملاقة التي تحمل من الثَّرَوات ما لا سبيل إلى وصْفه ، وكوَّنوا فريق بحث عن طريق غوَّاصات مُسطَّحة ووصَلوا إلى قاع المحيط ، وعَثَروا على هذه السفينة ، ورأيْتُ في المجلَّة صُوَرًا لِسَبائِكِ الذَّهَب اللاَّمِعَة التي اسْتُخْرِجَت من المحيط ، طبْعًا الفكرة واضحةٌ سابقًا ، ولكن أنا عِشْتُ هذه الحقيقة فالذَّهَب ذهَب ، وكانت تلك السبائك بِمَنظرها ، وكأنَّها صُبَّتْ قبل ساعة ، بقِيَت في أعمـاق المحيط منذ 1910، واسْتُخْرِجَتْ قبـل سنة ، أيْ بقيَتْ ثمانين عامًا في المياه المالحة والعوامل الطبيعية ، فالذَّهَب يبقى ذهَبًا ، ولن يتغيَّر اللَّمَعان والبريق والصَّفار ، فلذلك المؤمن ذهب أربعة وعشرين ، وهناك ثمانية عشر ، وهناك ستَّة عشر ، وهناك من هو مَطليٌّ بالذَّهَب ، أما المؤمن الصادق فلن يتغيَّر .
قال له : لا بأس ، ولكِنَّك تعلم أنَّ لِهَؤلاء الأشياخ أمْزِجَةً رقيقة ، فهَلْ ترى أن نُبادِر الشَّيْخ فنسْألهُ عمَّا نريد ؟ أم نلْتزمُ الصَّمْت فنَسْمعُ منه ما يريد ؟ والحقيقة كلّ شخْصٍ يُعاني هذه المشكلة، إذا زارَ أخًا يُحبُّه ويثقُ به ، يا ترى يسأل أم يسْمع ؟ والله كلاهما خير ، فإذا أنْصَتَ فأنا متأكِّد أنَّك إذا ذهبْت إلى رجلٍ تثق بِدِينه وإخلاصِهِ وعلمه ، فإذا صمَتَّ فالله تعالى إكرامًا لإخلاصك لطلب العلم ، وإكرامًا لإخلاصهِ في تعليم العِلْم يُلْهِمُه ما أنت بِحاجةٍ إليه ، وإذا سألْتهُ فلا مانع ، فَمِفتاح العلم السؤال ، كلاهما جائز ، فإما أن تسأل ، وإما أن تستمع .
فقال هلال : لكنَّ هذا الشيخ لو جلسْتَ معه عامًا بأكملهِ فإنَّه لا يُكلِّمك إذا لم تكلِّمْه ، حضرني حديث وردَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ *
[رواه أحمد]
هناك مؤمن يميل إلى الصَّمت ، ومؤمن يميل إلى الكلام ، وهناك من يميل إلى اللِّقاء مع الناس ، منْفتح ، ومؤمن يميل إلى الخَلْوَة ، كلّهم على العَين والرأس ، وهناك مؤمن يعتني بِمَظهره كثيرًا ، ومؤمن أقلّ اعْتِناءً بِمَظهره من الآخر ، فهذه طِباع تختلف من مؤمن لآخر ، وهناك من هو هادئ الطَّبع ، وآخر حادّ الطَّبْع ، وهناك إنسان كالحمامة ، وآخر كالصَّخرة ، أو بالتعبير الإسلامي هناك إنسان عُمَري ، وإنسان بَكْري ، كسَيِّدنا الصدّيق ، هذه الطِّباع كلّها مقبولة، يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلا خيانة والكذب ، فإذا فعلهما فليس مؤمنًا ، لماذا الربيع بن خثيم لا يُكلِّمُكَ إلا إذا كلَّمْتهُ ، ولا يُبادِرُك إلا أن تسْألهُ ، فهو قد جعل كلامه ذِكْرًا ، وصَمْتهُ فِكْرًا ، ومن أدقّ الأحاديث الشريفة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ربِّي بِتِسْع ؛ خشيَة الله في السرّ والعلانِيَّة ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصِلَ من قطعني ، وأن أعْفُوَ عمَّن ظلمني ، وأن أُعْطِيَ مَن حرمني ، وأن يكون صمتي فكْرًا ، ونطقي ذِكْرًا ونظري عبرةً " .
واللهِ مرَّةً مصباح كهربائي علَّمني درسًا لا أنساه ، هذا المصباح يُشْحن بالكهرباء ، لمَّا أنسى شحنه ، وأضطرّ لاستعماله أجد الضوء خافتًا ، ومرَّةً نسيتهُ في الشَّحن يومين دون أن أنتبه، فلمَّا استعملتهُ كان كالشَّمس وهكذا المؤمـن ، كلَّمـا اعتنى بِشَحْنِهِ كلَّما تألَّق ، وكلّما أهْمل شَحْنهُ عن طريق الذِّكر والعبادة وتلاوة القرآن كلَّما خَفَتَ ضوءُه ، فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : أُمرتُ أن يكون صمتي فِكْرًا ، ونطقي ذِكْرًا ، ونظَري عِبْرةً .
قال : فلْنَمْضِ إذًا على بركة الله تعالى ، ثمَّ مضيَا إلى الشيخ ، فلمَّا صارا عنده سلَّمَا ، وقالا : كيف أصْبحَ الشيخ ؟ الآن هيِّئوا أنفسكم إلى كلام ربما لا تقبلونه ، ولكنَّ التواضع هكذا ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ - وهو أحدُ التابعين - : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ *
(رواه البخاري)
والإنسان كلّما ارْتقى يتَّهِمُ نفسهُ ، قال الإمام الشافعي :
***
أُحبّ الصالحين ولسْتُ منهم لعلِّي أن أنال بهم شفاعـة
وكرهُ من بضاعتهُ المعاصي ولو كنَّا سواءً في البضاعة
***
واللهِ هو منهم ، ونحن لسْنا منهم ، هو من الصالحين ، وبضاعته الطاعات ، ولولا كان كذلك لما أكرمه الله بهذه المنزلة .
قال : كيف أصبح الشيخ ؟ قال : أصبح ضَعيفًا مذْنبًا ، يأكل رزقهُ ، وينتظر أجله ، فقال هلال : لقد نزل بالكوفة طبيبٌ حاذق ، أفتأذنُ بأَن أدْعُوَهُ إليك ؟ فقال : يا هلال ، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حق ، تداوَوْا عباد الله ، وكل إنسان يدع الدواء يقع في المعصِيَة ، بل إنَّ الحكم الفقهي إذا غلبَ على يقينك أنَّ هناك مرضًا يحتاج إلى دواء ، وهذا المرض يؤثِّر تأثيرًا بليغًا على جسمك ، فعدَمُ أخْذ الدواء معْصِيَة ، والمبادرة إلى المعالجة فرْضٌ ، وأبلغُ من واجب ، لأنّ هذا الجسم له قوانين ، أنت حينما تُنفِّذ تعليمات الطبيب المؤمن الحاذق الورِع ، فأنت تنفِّذُ تعليمات الصانع ، لأنَّ الطبيب عرف قواعد هذا الجسْم ، قال : يا هلال ، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حقّ ، ولكنِّي تأمَّلتُ عادًا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونًا بين ذلك كثيرًا ، ورأيت حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم في متاعها ، وقد كانوا أشدَّ منَّا بأْسًا ، وأعظمَ قدرةً ، وقد كان فيهم أطبَّاء ومرضى ، فلا بقِيَ المُداوي ولا المُدَاوَى ، ثمَّ تنهَّدَ تنْهيدةً عميقةً ، وقال : ولو كان هذا هو الداء لتداوَيْنا منه ، فاسْتأذن منذر ، وقال : فما الداء إذًا يا سيّدي الشيخ ؟ قال : الداء الذنوب ، قال منذر : وما الدواء ؟ قال : الاستغفار ، قال منذر : وكيف يكون الشفاء ؟ قال : بأن تتوب ، ثمّ لا تعود ! فالداء هي الذنوب والدواء الاستغفار والشفاء ألاَّ تعود ، وهذا كلامٌ واضح كالشمس .
أيها الإخوة ، في الأثر الموقوف عن علي بن أبي طالب قال : "عليكم بخمس ؛ لو رحلتم فيهن المطي لأنضيتموهن قبل أن تدركوا مثلهن ؛ لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافنّ إلا ذنبه ، ولا يستحيى من لا يعلم أن يتعلم ، ولا يستحيى عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم ، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان "
(كنز العمال)
فلا تخف إذا ذنبك .
وهذه الفقرة من القصّة ذكَّرتني بكتاب قرأته ، واسمه (قصص العرب) ، وهو من أمْتع الكتب ، قصصٌ واقعيـّة من أربعة أجزاء ، فلمَّا أنْهَيتُ قراءة هذا الكتاب شعرْت أنَّ كلَّ مَن في الكتاب على وجه الإطلاق كبارًا وصِغارًا ، أقوياء وضعفاء ، أصِحَّاء ومرضى ، أذكياء وحمْقى، ظلاَّمًا ومظلومين ، وحكَّامًا ومحكومين ؛ كلُّهم الآن تحت أطباق الثَّرى ، وهذه موعظة ، فهذا المجلس بعد مائة عام ليس منَّا واحد إطلاقًا على وجه الأرض ، كلّنا موزَّعون في الثُّرى التي حول دمشق ، هذا في باب الصغير ، وذاك في قاسيون ، وذاك توُفِّيَ ، وقد مضى عليه خمسون سنة ، رحمه الله ، وكان يفعل كذا وكذا ، وما دامت الحياة ظلاًّ فيوشكُ أن ينقضي ، إذًا لا بدّ من عملٍ صالح ، والدنيا ساعة فاجْعلْها طاعة .
قال : ثمَّ حدَّق فينا ، وقال : السرائر السرائر !! عليكم بالسرائر التي تخفى على الناس ، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ ؛ واضحة ، كلّ واحد له سرّ ، وله قلب ، فقد نتشابه ، كلّنا في مسجدٍ واحد ، وكلّنا يصلِّي ، وكلّنا يدفعُ زكاة ماله ، وكلّنا يحجّ ، ولكنّ هذه السرائر تتفاوُتُ فيما بينها ، فالإخلاصَ الإخلاصَ ، وعليكم بالسرائر التي تخفى على الناس ، وهنّ على الله تعالى بَوادٍ ، أي ظاهرة ، الْتَمِسوا دواءهنّ ، فقال منذر : وما دواؤهنّ ؟ الشيخ والتوبة النصوح ، ثمَّ بكى حتى بلَّلَتْ دُموعه لِحْيتهُ ، وهذا هو الإخلاص ، وفي الحديث : ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط *
(الجامع الصغير عن أنس)
وعن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : أوصني ، قال : أخلص دينك يكفك القليل من العمل *
(الجامع الصغير للسيوطي)
درهمٌ أُنفِقَ في إخلاص خير من ألف مائة درهم أُنفقتْ في رياء ، والإخلاص محصِّلة العلم، وبرأيِ الاقتصاديِّين سِعر العُملة هو محصِّلة القومي ، الاقتصاد بأكملهِ ، الميزان التجاري ، القدرة على الإنتاج والقدرة على الاستهلاك ، والاستيراد والتصدير ، كلّ هذه العوامل الضَّخمة في اقتصاد الأمَّة مُؤدَّاها سِعْر العملة ، مُحصِّلة كلّ إيمانك هو الإخلاص ، فكلمَّا ارْتقى إيمانك ارتقى إخلاصك ، الأدقّ من ذلك كلّما ارتقى توحيدك ارتقى إخلاصك ، فالإخلاص مرتبط بالتوحيد ، فالأكثر توحيدًا هو الأكثر إخلاصًا ، والأقلّ توحيدًا هو الأقلّ إخلاصًا .
ثمّ قال له منذر : أَتبكي وأنت أنت ؟ قال : هيهات لِمَ لا أبكي ، وقد أدْركتُ قومًا نحن في جنبهم لُصوص ! فإذا شعر الواحد منَّا أنَّه متميِّز على المجتمع لا تميّز كِبْر ولكن تميّز طاعة ، فهو يرى معظم الناس يمتّعون أبصارهم في النساء ، وهو يغضّ بصره ، ومعظم الناس يأكلون مالاً حرامًا ، وهو ورعٌ جدًّا ، فلا يقبض القرش إلا إذا كان حلالاً ، وبيته إسلامي ، وزوجته محجَّبة ، صادق وأمين ، فالواحد في هذا الزمان مع الفسق والفجور وشُيوع الفِتَن والشهوات والملذّات ، فالذي يستقيم في هذه الحالة يشعر بِعِزَّة الاستقامة ، ولكن نحن وُجِدنا في ظرْف عمَّ فيه الفسق ، والمستقيم برز وتفوَّق ، ولكنَّنا لو وجدنا في مجتمع آخر كمُجتمع التابعين لكنَّا مع المقصِّرين جدًّا ، إن لم نقل مع المنافقين ، تمامًا لو جئت بِطَالبٍ وسط ، وتضعهُ في شعبة ضعيفة يصبح المتفوّقَ الأوَّلَ ، هذه يعرفها وتلك يعرفها... ولكنَّك لو وضعته مع المتفوِّقين يصبح آخِرَ واحد ، فنحن لعلَّ الله سبحانه وتعالى رحِمَنا إذْ جعلنا في آخر الزمان ، لو كنَّا مع الرعيل الأوّل من أصحاب رسول الله لما كان لنا ذِكْرٌ إطلاقًا .
قال له : لقد أدركْت قومًا نحن في جَنبِهم لُصوص ، يريد الصحابة رضوان الله عليهم ، امرأة رأَتْ أباها مقتولا في أحد ، وبعد قليل رأتْ أخاها مقتولا ، ثم رأت زوجها مقتولا ، ثم ابنها !! وتقول : ما فعلَ رسول الله ؟ إلى أن بحثتْ عنه ، واطْمأنَّت على سلامته ، فقالت يا رسول : كلّ مصيبة بعدك جلَل !! نحن في هذا الزمان لا يوجد عندنا نساء بهذا المستوى ، فإذا كان هناك ثلاثة جرْحى ، وثلاثة آخرون على وشَكِ الموت ، والجريح يتمنَّى قطْرة ماء بِمِليون ليرة ، هذا الجريح يطلب الماء ، فيأتي الساقي ليَسْقيَهُ ، فيكون أخوه الذي إلى جنبه يئنّ ، فقال : أعْطِ أخي ! فلمَّا قُدِّم الماء لأخيه أنَّ الثالث ، فقال الثاني أعطِ الماء لأخي ، فلما ذهب ليُعطِيَه وجده فارق الحياة ، وذهب إلى الثاني فوجدهُ فارق الحياة ، وكذا الثالث !!!! هل عندنا مثل هذا النوع ؟! نحن بالحج في المطار مائتا مقعد لمائتي راكب ، لو تقف بعد مائتي متر ، ويدخل كلّهم الطائرة لوجدت مكانك ، لكنَّك تجدهم يتقاتلون من أجل الأمكنة ، شيء عجيب !! هناك فرق نوعي ، أنا مرَّةً في الحجَّة الثانيَة التي أكرمني الله بها بقيتُ بِمَكَّة عشرة أيام بعد انتهاء الحجّ ، وآخر يوم تمنَّيْت أن أُقبِّل الحجر الأسود ، وجئتُ في وقت لا تحتمل فيه الحرارة ، فقد بلغتْ ستًّا وخمسين درجة !! ومعي مظلّة ، ووجدْتُ خمسين شخْصًا يزمعون تقبيل الحجر ، واللهِ لو وقفوا بانتظام لقبَّلوه جميعًا في عَشْر دقائق ، رأيتُ الضَّرب والشدّ والدَّفْع ، هؤلاء المسلمون الذي سيفْتحون العالم ؟!! أين النظام ؟ أمَا قال له : أدْركتُ قومًا نحن بِجَنبهم لُصوص ! فانظرْ إلى تدافع الناس على المركبة ، وهم حجاج ، وطائرة ، ولكلٍّ مكانه ، لكنْ لا بدّ أن نتدافع ، ونشاتم ويشدّ بعضنا ثياب بعض لشيءٍ لا قيمة له إطلاقًا .
قال : وإذْ نحن كذلك دخل علينا ابن الشيخ فحَيَّانا وقال : يا أبتِ إنَّ أمِّي قد صنَعَت لك خبيصًا وجوَّدَتهُ ، نوعٌ من الحلْوَة ، وإنَّه ليَجْبر قلبها أن تأكل منه ، فهل آتيك به ؟ فقال : هاتِهِ ، فلمَّا خرج لِيُحضرهُ طرق سائلٌ فقال : أدْخلوه ، ولمَّا صار بِصَحن الدار : نظرتُ إليه ، فإذا هو رجل كهْلٌ مُمَزَّق الثِّياب ، قد سال لُعابهُ على ذقنه ، وبدا من ملامح وجهه أنَّه معتوه ، فما كِدْتُ أرفعُ بصري عنه حتى أقبل ابن الشيخ ومعه الخبيص ، فأشار إليه أبوه أن ضَعها بين يدي السائل، مَعتوه ، لُعابهُ على لحيته ، مُمَزَّق الثياب ، وهذا الطعام صنَعَتْهُ الزَّوجة ليأكل زوجها منه، فوضَعَه بين يديه ، فأقبل عليها الرجل ، وجعل يلتهم ما فيها الْتِهامًا ، ولعابهُ يسيل فوقها ، فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصَّحفة كلّها ، فقال له ابنه : رحمك الله يا أبي ، لقد تكلَّفَت أُمِّي ، وصنعت لك هذا الخبيص ، فأطْعمْتَهُ هذا الرجل الذي لا يدري ما أكل ، اسمعوا الجواب ، قال له : يا بنيّ ، إذا كان هو لا يدري ما أكل فإنّ الله يدري ماذا أكل ؟ وهذه ذكَّرتني بِرَسول جاء من معركة نهاوند إلى سيّدنا عمر ، قال له : حدّثني عما جرى في هذه المعركة ، فقال : فلان قُتِل ، وفلان قتل ، قال له تابع : فقال هناك أناسٌ لا تعرفهم بأسمائهم ، بل تعرفهم بوُجوههم؟ فبكى عمر ، وقال : ما ضرَّهم إذْ أنّي لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ، إنسان كريم جواد أعطى امرأة فقيرةً عطاءً كبيرًا ، قال له مَن كان جنبَه : لقد كان يرضيها القليل ، وهي لا تعرفك ، فأجاب وقال : إنْ كان يرضيها القليل ، فأنا لا أرضى إلا بالكثير ، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي ، لذلك أيها الإخوة اصْنَع المعروف مع أهله ، ومع غير أهله ، فإن أصبْت أهلَهُ فقد أصبْت أهله ، وإن لم تصِب أهله فأنت أهله ، هذا هو الإخلاص ، فالمخلص لا يعنيه إطلاقًا ردُّ الفعل ، قدّر الفعل ، أو لم يقدّره ، أساء أو ، لم يسئْ ، فأنت تعاملت مع الله ، وما عرف من أتى له بالهديّة ، كلّ هذا غير مهمّ ، وما عرف من دفع المبلغ ، المهم أنّ الله علِم مَن دفع ، وهذا هو الإخلاص ، وكلَّما نما توحيدك نما إخلاصك ، لذا غير المخلص يقع في مطبّ مزْعج ، يستجدي المديح ، لأنّ إخلاصه ضعيف ، حتى يُعَوِّض عن الجهد الذي بذَلَه ، فإذا أقام وليمة قال: ربّما لم يعْجبكم الأكل ! فيقولون : لا ، والله ، لقد قال هذا من أجل أن يسْمع المديح ، فاسْتجداء المديح دليل ضعف الإخلاص ، وكلّما نما توحيدك نما إخلاصك .
قال له : يا بنيّ ، إذا كان لا يدري ماذا يأكل فإنَّ الله يدري ماذا يأكل ، ثمَّ تلا قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image001.gif
[ سورة آل عمران ]
سمعتُ قصَّة أُسرة سامحها الله ، عندهم خادمة في البيت ، وعندهم وليمة ، والطعام مِمَّا يسيل له اللُّعاب ، مِن أعلى درجة ، فربَّة البيت عندها عدّة صحون قديمة في الثلاجة ، وألْزَمَت هذه الخادمة أن تأكل هذه الأطعمة التي مضى عليها أيّام ، وحرمتها أن تأكل لُقْمة من الطعام الجديد ! قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image001.gif
[ سورة آل عمران ]
وفيما هو كذلك إذْ دخل عليه رجل من ذوي قُرْبة ، وقال : يا أبا يزيد قُتِلَ الحُسَيْن بن عليّ كرّم الله وجهه ، وابن فاطمة عليها وعليه السلام ، فقال الربيع : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثمّ تلا قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image002.gif
[ سورة الزمر ]
ولكنَّ الرجل لم يشْفه كلامه ، فقال له : ما تقول في قتله ؟ قال : أقول إلى الله إِيّابهم ، وعلى الله حسابهم ! أنا أُرِيحُكُم من أشياء كثيرة ، تقييمُ الأشخاص ليس من شأن البشر ، ولكنه من شأن خالق البشر ، ولا يعلم الحقائق إلا الله ، والماضي كلّه تغطِّيه آية :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image003.gif
[ سورة البقرة ]
الْغِ التاريخ بآية واحدة ، والْغِ عِبء تقييم الأشخاص بكلمة واحدة ، وأنا قبل يومين كنت في تعْزِيَة ، والمُتَوَفَّى أعرفهُ ، وهو إنسانٌ صالح ، ولا أزكِّي على الله أحدًا ، ولكن قيل عنه كلامٌ قطعي ؛ إنَّه من أهل الجنَّة ! هذا كلام قطعي ، فذكرْتُ قَول النبي عليه الصلاة والسلام أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا *
[رواه البخاري]
لذا نحن نقول : ونرجو الله أن يكرمهُ ، ونرجو الله أن يُدخلهُ فسيح جنانه ، فإذا قلت : نرجو، فلا إشكال عليك إطلاقًا ، أما إذا قلتَ : هو من أهل الجنَّة فهذا تألٍّ على الله تعالى ، ولا يدخل الجنَّة فيما نعلم على وجْه اليقين إلا العشرة المبشَّرين بالجنَّة ، وما سواهم نرجو لهم دخول الجنة، لأنَّ تقييم الأشخاص ليس من شأن البشر ، بل هو من شأن خالق البشر ، قال تعالى:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image004.gif
[ سورة الغاشية ]
قال : ثمَّ إنِّي رأيتُ وقتَ الظهر قد اقترب ، فقلتُ للشيخ : أوْصِني ، قال : لا يَغُرَّنَك يا هلال كثرةُ ثناء الناس عليك ، فإنَّ الناس لا يعلمون منك إلا ظاهرك ، واعْلم أنَّك صائرٌ إلى عملك ، وأنَّ كلّ عملٍ لا يُبْتغى به وجْهُ الله يضْمحِلّ ، فقال المنذر : وأوْصني أنا أيضًا جُزيت خيرًا ؟ قال: يا منذر اتَّق الله فيما علمْت ، وما اسْتأثر عليك بعلمه فَكِلْهُ إلى عالمه ، لا تقل فيما لا تعلم ، يا منذر ، لا يقل أحدكم : اللهمّ إني أتوب إليك ، ثمّ لا يتوب ، ثمّ تكون كِذْبة ، ولكن قلْ: اللهمّ تُب عليّ ، فيكون دُعاءً ، اللهمّ تُبْ عليّ ؛ هذا دعاء ، أمّا : إنِّي تبْتُ إليك ، وما فعلت، فهذا كذب ، فاجْعل التوبة دعاءً ولا تجعلها خبرًا ، واعْلم يا منذر أنَّه لا خَير في كلامٍ إلا في تهليل الله ، أي التوحيد ، وتحميد الله ، أي الحمْد ، وتسبيح الله ، أيْ التنزيه ، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرّ ، وأمرِكَ بالمعروف ، ونَهْيِكَ عن المنكر وقراءة القرآن ، فقال المنذر : قد جالسْناك فما سمعناك تتمثَّل بالشِّعر ، وقد رأينا بعض أصحابك يتمثَّلون به ؟ فقال : ما من شيءٍ تقوله هناك إلا كتِبَ ، وقُرِئ عليك هناك يوم القيامة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال شطر بيت فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ :
*** أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ***
وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ
[متفق عليه]
أما الشطر الثاني من البيت فغلط ، قال فيه لبيد :
*** وَكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ ***
فنعيم أهل الجنَّة لا يزول ، لذلك لم يذكُره النبي صلى الله عليه وسلم ، أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ :
*** أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ***
ولا يكْمل الكلام ، أما الواحد منَّا فتجِدُه يروي مائة كلمة كلها غلط ، ونحن مُحاسبون بما نقول .
قال : فأنا أكرهُ أن أجد في كتابي بيت شِعْر يُقرأُ عليَّ يوم يقوم الحساب ، ثمّ الْتفتَ إلينا جميعًا ، وقال : أكْثروا من ذِكْر الموت ، فهو غائبكم المُرتقب ، وإنّ الغائب إذا طالتْ غَيبَتُه أوْشكَتْ أوْبَتُه! ثمَّ اسْتعْبَر أيْ بكى ، وقـال : ماذا نصْنعُ غدًا إذا دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا ، وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا ، وجيء يومئذٍ بِجَهَنَّم ؟ قال هلال : وما كاد الربيع أن ينتهي من كلامه حتى أُذِّن للظُّهر ، فأقْبل إلى ابنه ، وقال : هيَّا نُجِبْ داعيَ الله ؟ فقال ابنهُ : أعينوني على حَمْلهِ إلى المسجد جُزيتُم خيرًا ؟ فرفعناهُ ووضعَ يمناهُ على كتف ابنه ، ويُسْراه على كتفي ، وجعل يتهادى بيننا ، فقال المنذر : يا أبا يزيد لقد رخَّص الله لك ، فلو صلَّيْت في بيتك ! فقال : إنَّه كما تقول : ولكنَّني سمعتُ المنادي ينادي حيّ على الفلاح ، فمَن سَمِع منكم المنادي ينادي إلى الفلاح فلْيُجِبْهُ ولو حَبْوًا ، قال عليه الصلاة والسلام : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا *
(رواه ابن ماجة وأحمد)
أي زحفًا ، من شدَّة الخير الذي في صلاة الفجر .
الربيع بن خثيم عَلَمٌ من أعلام التابعين ، وأحدُ الثمانيَة الذين انتهى إليهم الزهد في عصره ، عربيّ الأصل ، مُضَرِيّ الأرومة ، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جدَّيْه ، ونشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله ، وفطم نفسه منذ حداثته على تقواه ، وكانت أُمّه تنام في الليل ، ثمَّ تصْحو فَتجِدُ ابنها اليافع ما زال صافًّا في محرابه ، سابحًا في مناجاته ، مُستغرقًا في صلاته ، فتقول له : يا ربيع ألا تنام ؟ فيقول : كيف يستطيعُ النوم من جنَّ عليه الليلُ ، وهو يخشى البيات؟! مَن لم تكن له بدايةٌ محْرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة ، فتتحدَّر الدموع على خدَّي الشيخة العجوز ، وتدعو له بالخير ، ولمَّا شبّ الربيع ونما ، شبَّ معه ورعُه ، ونمَت بِنُمُوِّه خشيتُهُ من الله تعالى ، ولقد أرَّق أمَّهُ كثرةُ تضرّعه ، وشدَّةُ نحيبه في عتمات الليل ، والناسُ نيام ، حتى ظنَّت به الظنون ، وكانت تقول له : يا بنيّ ما الذي أصابك ؟ لعلَّك أتَيْتَ جُرْمًا ، لعلَّك قتلْت نفسًا، دقِّقوا ! فذنب المؤمن كأنَّه جبلٌ جاثِم على صدره ، وذنب المنافق كأنَّه ذبابة لا يعبأ ، فقال: يا أُمَاهُ لقد قتلت نفسًا !! فقالت في لهْفة : ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسْعَون إلى أهله حتى نجعل أهله يعفون عنك ، واللِه لو علم أهلُ القتيل ما تعانين من البكاء ، وما تُكابدين من السَّهر لرحِموِك، فقال : لا تكلِّمي أحدًا ، فإنَّما قتلتُ نفسي !! لقد قتلتها بالذنوب !!
ولقد تتَلْمذَ الربيع بن خثيم على عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأقرب الصحابة هدْيًا وسمْتًا من النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد تعلَّق الربيع بأُستاذه تعلّق الوليد بأُمِّه ، وأحبّ الأستاذُ تلميذَه حُبَّ الأب لوحيده .
قال أحدهم : بتُّ عند الربيع ليلةً ، فلمَّا أيْقن أنِّي دخلتُ في النوم قام يُصلِّي فقرأ قوله جلّ وعزَّ :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image005.gif
[ سورة الجاثية ]
فمكثَ ليلته يُصلِّي بها ، يبدؤها ويعيدها ، حتى طلع عليه الفجر ، وعَيناه تسُحَّان بالدُّموع سحًّا ، وقال بعض أصحابه : خرجنا يومًا لصُحبة عبد الله بن مسعود ، ومعنا الربيعُ بن خثيم ، فلمَّا صرنا على شاطئ الفرات مررْنا بأتون كبير قد صُعِّرَت نارهُ ، فتطايَر شررها ، وتصاعدَت ألسنةُ لهيبها ، وسُمِعَ زفيرها ، وقد ألقي في الأتون الحجارة لتَحْترِق حتى تصبحَ كلْسا ، فلمَّا رأى الربيعُ النارَ توقَّف في مكانه وعَرتْهُ رِعدةٌ شديدةٌ ، وتلا قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image006.gif
[ سورة الفرقان ]
ثمّ سقط مغشِيًّا عليه ، فربطْنا معه حتى أفاق من خشْيتِهِ ، ومِلْنَا به إلى بيته .
الشيء الذي لفتُ النظر في حياة الربيع أنَّه يذكر الموت كلّ يوم اسْتعدادًا له ، والمؤمن العاقل لا تغيب عنه هذه الساعة التي لا بدَّ منها ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ كلّ يوم يقول : ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ *
[رواه الترمذي]
أيْ سمَحَ لي أن أعيشَ يومًا جديدًا.
فلمَّا احْتضرَ جعَلَت ابنتهُ تبكي ، فقال لها : ما يُبْكيكِ يا بنيّتي ، وقد أقبلَ على أبيكِ الخيرُ ؟! ثمَّ أسْلم روحهُ إلى بارئها .
يولد الطفلُ وكلّ من حوله يضحك ، إلا هو فيبكي ، وحينما يموت الإنسان كلّ من حوله يبكي ، فإذا كان بطلاً عندها فلْيَضْحكْ ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ قَالَتْ فَاطِمَةُ وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *
[رواه ابن ماجه]
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت عمار بن ياسر بصفين في اليوم الذي مات فيه وهو ينادي : إني لقيتُ الجبار ، وتزوجتُ الحور العين ، اليوم نلقى الأحبة ؛ محمداً وحِزبه ، عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ آخر زادك من الدنيا ضباحٌ من لَبَن *
[رواه الطبراني في الأوسط]
لقد أعطانا ربُّنا ميزانًا دقيقًا ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-4_files/image007.gif
[ سورة الجمعة ]
إذا لاح للإنسان شبح الموت ، وارْتعدَت فرائسُه ، فهذه علامة خطيرة ، أما إذا لاح له شبح الموت ، وقال : مرحبًا بلِقاء الله ، فهذه علامة على أنَّه محِبّ لله ، ومستقيم على أمره ، وهذا مقياس المؤمن ، والحمد لله رب العالمين .
لؤلؤة الغرب
25-04-2009, 10:37 PM
مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام
هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.
غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..
ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
**
كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...
أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
**
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
**
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
**
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
**
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..
**
السلام عليك يا مصعب..
السلام عليكم يا معشر الشهداء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طالب عفو ربي
25-04-2009, 10:43 PM
جزاك الله خير الدنيا والاخرة
حقا متميزة اخت لؤلؤ
لؤلؤة الغرب
26-04-2009, 05:50 PM
[quote=محمد صيام;16377]جزاك الله خير الدنيا والاخرة
حقا متميزة اخت لؤلؤ[/quote
شكرا اخى محمد و بارك الله فيك
لؤلؤة الغرب
26-04-2009, 05:51 PM
عكرمة بن أبي جهلّ!!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه " مرحباً بالراكب المهاجر " حديث شريف عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشيّ المخزومي وكنيته أبو عثمان ، أسلم بعد الفتح ، فقد كان هارباً الى اليمن وعند عودته قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( مرحباً بالراكب المهاجر )000وقد حسُنَ إسلامه ، وشارك في حروب الردة000
الهروب تحولت إلي عكرمة رئاسة بني مخزوم بعد مقتل أبيه ( أبو جهل ) في غزوة بدر ، وكان من رؤوس الكفر والغلاة فيه ، فرزقه الله الإسلام000 فقد عهد رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم ، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عكرمة بن أبي جهل ، فركب عكرمة البحر ، فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة لمن في السفينة :( أخلصوا ، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا )000فقال عكرمة :( لئن لم يُنجّني في البحر إلا الإخلاص ما يُنجّيني في البرّ غيره ، اللهم إنّ لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أني آتي محمداً حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنّه عفواً كريماً )000 الأمان وأسلمت زوجته ( أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ) يوم الفتح ، فقالت :( يا رسول الله ، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن ، وخاف أن تقتله فآمنهُ )000فقال رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- :( هو آمن )000فخرجت في طلبه ، فأدركته باليمن ، فجعلت تلمح إليه وتقول :( يا ابن عم ، جئتُك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك )000فوقف لها حتى أدركته فقالت :( إني قد استأمنتُ لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- )000قال :( أنتِ فعلتِ ؟)000قالت :( نعم ، أنا كلمتُهُ فأمّنَك )000فرجع معها000 الإسلام قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً ، فلا تسبّوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحي ، ولا تبلغ الميت )000 فلمّا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمناً على دمه قال له :( مرحباً بالراكب المهاجر أو المسافر )000فوقف بين يديه ومعه زوجته متنقبة فقال :( يا محمد ، إنّ هذه أخبرتني أنك أمّنتني ؟!)000فقال رسول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- :( صدقتْ ، فأنت آمن )000قال عكرمة :( فإلام تدعو ؟)000قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:( أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل )000حتى عدّ خصال الإسلام000فقال عكرمة :( واللـه ما دعوت إلا إلى الحـق ، وأمر حسن جميل ، قد كنت واللـه فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنتَ أصدقنا حديثاً ، وأبرّنا أمانة )000ثم قال عكرمة :( فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )000 فسُرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم قال :( يا رسول الله ، علّمني خير شيءٍ أقوله )000 قال :( تقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله )000ثم قال :( ثم ماذا ؟)000 قال :( تقول : اللهم إني أشهدك أنّي مهاجر مجاهد )000فقال عكرمة ذلك000 ثم قال النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- :( ما أنتَ سائلي شيئاً أعطيه أحداً من الناس إلا أعطيتك )000فقال :( أمّا إني لا أسألك مالاً ، إني أكثر قريش مالاً ، ولكن أسألك أن تستغفر لي )000وقال :( كل نفقة أنفقتُها لأصدّ بها عن سبيل اللـه ، فوالله لئن طالت بي حياة لأضعفنّ ذلك كله )000فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( اللهم اغفر له كلّ عداوةٍ عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك ، واغفر له ما نال مني ومن عرضٍ في وجهي أو أنا غائب عنه )000فقال عكرمة :( رضيتُ يا رسول الله )000 وكان إسلام عكرمة سنة ثمان من الهجرة ، فأسلم وكان محمود البلاء في الإسلام ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال :( لا والذي نجّاني يوم بدر )000 المنام وقيل أن رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- قد رأى في منامه أنه دخل الجنة ، فرأى فيها عذقاً مذللاً فأعجبه فقيل :( لمن هذا ؟)000فقيل :( لأبي جهل )000فشقّ ذلك عليه وقال :( ما لأبي جهل والجنة ؟ والله لا يدخلها أبداً )000فلمّا رأى عكرمة أتاه مسلماً تأوّل ذلك العذق عكرمة بن أبي جهل000 الأحياء والأموات وقدم عكرمة المدينة ، فجعل كلّما مر بمجلس من مجالس الأنصار قالوا :( هذا ابن أبي جهل )000فيسبّون أبا جهل ، فشكا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال الرسول الكريم :( لا تُؤذوا الأحياء بسبب الأموات )000وكان عكرمة يضع المصحف على وجهه ويقول :( كلامُ ربي )000 جهاده استعمله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على عُمان حين ارتدوا ، فقاتلهم وأظفره الله بهم ، ولما ندب أبو بكر النّاس لغزو الروم ، وقدم الناس فعسكروا بالجُرْفِ -موضع من المدينة نحو الشام- خرج أبو بكر يطوف في معسكرهم ، ويقوي الضعيف منهم ، فبصر بخباءٍ عظيم ، حوله المرابط ، ثمانية أفراس ورماح وعـدّة ظاهرة ، فانتهى إلى الخبـاء ، فإذا خباءُ عكرمة فسلّم عليـه ، وجزاه أبو بكر خيـراً ، وعرض عليه المعونة ، فقال له عكرمة :( أنا غني عنها ، معي ألفا دينار ، فاصرِفْ معونتك إلى غيري )000فدعا له أبو بكر بخير000 الشام والشهادة استشهد عكرمة بن أبي جهل في عام 13 هـ في خلافة أبو بكر الصديق يوم ( مرج الصُّفَّر )000وقيل في اليرموك سنة ( 15 هـ ) في خلافة عمر ، ولم يُعقِب000 فلمّا كان يوم اليرموك نزل فترجّل فقاتل قتالاً شديداً ، ولمّا ترجل قال له خالد بن الوليد :( لا تفعل ، فإنّ قتلك على المسلمين شديد )000فقال :( خلّ عني يا خالد ، فإنه قد كان لك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سابقة ، وإني وأبي كنّا مع أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)000فمشى حتى قُتِل ، فوجدوا به بضعةً وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية000 وقيل أنه قال يوم اليرموك :( قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن ، وأفر منكم اليوم ؟!)000ثم نادى :( مَنْ يُبايع على الموت ؟)000فبايعه الحارث بن هشام في أربع مائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا حتى أثبتوا جميعاً جراحةً وقُتِلوا إلا من نبأ
م ن
طالب عفو ربي
26-04-2009, 10:01 PM
الحسن البصري
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس السابع من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم ، والتابعيّ في هذا الدرس هو سيدنا الحسن البصري ، وهو علَم من أعلام التابعين ، وفي قصَّته موعظة بليغة جدًّا .
أيها الإخوة الكرام ؛ يقول اللهُ عزوجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image001.gif
[سورة يوسف]
ويقول تعالى في موضع آخر :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image002.gif
[سورة هود]
أي إنَّ القصة لها دور في التربية والتعليم يفوق حدَّ التَّصوُّر ، لماذا ؟ لأن القصة حقيقة مع البرهان عليها ، فأنت حينما تتلقَّى الحقائق بشكل مجرَّد قد تقنعك ، ولكنها لا تهزُّك ، وثَمَّة فرقٌ بين إحداث القناعة ، وبين إحداث الموقف ، القصةُ تنطوي على حقيقة ، لكنها مجسَّدة في شخص مِن جلدتك وعلى شاكلتك ، يشعر بما تشعر ، و يتألَّم بما تتألَّم ، ويتحمَّل الضغوط نفسها ، وتغريه الشهوات نفسها ، ويقف هذا الموقف الكامل ، هذا من شأنه أن يحدث فيك موقفا ، وشتَّان بين القناعة وبين الموقف ، القناعة تستقرُّ في الدماغ ، ولكن الموقف يتغلغل إلى كيان الإنسان ، كم من طبيب مقتنع أشدَّ القناعة أنّ الدخان حرام ، أو أنّ الدخان مُؤْذٍ وضار ، ومع ذلك يدخِّن ، ولكن حينما يقف أمام غرفة العمليات ، ويرى بأمِّ عينه إنسانا شابًّا سويًّا قويًّا متينا ، في أوجِّ نجاحه وعطاءه ، مُصاب بسرطان في الرئة ، هذا المنظر يحدث في الطبيب موقفا ، فيدَع بسببه الدخان ، أما المقالات فتحدث له قناعة فحسب ، والقناعة شيء ، والموقف شيء آخر ، فإذا قنعت فربَّما كان تصرُّفُك بعيدا عن قناعتك ، لكنك إذا تأثَّرت هذا التأثُّر يحدث موقفا ، وهذا التأثر يتغلغل في كيانك كله حتى يسهم في إحداث موقف ، لذلك نحن نتمنى المواقف لا القناعات، والقناعات متوافرة ، فما من مسلم إلا وهو قناعة أن دينه حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، لكن لماذا المعصية ؟ ولماذا الانحراف ؟ ولماذا التقصير ؟ لأن القناعات متوفرة ، لكن التأثير ضعيف ، لذلك أردتُ أن يكون هذا الدرسُ درس قصة إسلامية حتى تروا إنسانا يشترك معك في كل شيء ، وتشترك معه في كل شيء ، ومع ذلك كان في أعلى علِّيِّين .
أيها الإخوة ؛ البشير هو الذي يبشِّر ، جاء البشيرُ يبشِّر زوج النبي أمِّ سلمة رضي الله عنها بأن مولاتها خيرة قد وضعت حملها ، وولدت غلاما ، فغمرت الفرحةُ فؤادَ أم المؤمنين رضوان الله عليها ، وطفحَت البشرى على محيَّاها النبيل الوقور ، جارية عند أم سلمة اسمُها خيرة ، أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة و السلام ، ولها خصائص وميزات تنفرد بها ، وبادرت فأرسلت رسولا ليحمل إليها الوالدة ومولودها ، لتقضيَ فترة النفاس في بيتها ، في بيت أم سلمة ، فسيدنا الحسن البصري هو هذا الغلام ، أين نشأ ؟ في بيت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة و السلام ، فقد كانت خيرة أثيرة عند أم سلمة حبيبةً إلى قلبها ، ولسنا في معرض الدخول في موضوع العبيد والجواري ، فقد ولَّى الزمنُ الذي كان فيه العبيد و الجواري ، ولكن من أجل أن تعلَموا أن زيد بن ثابت حينما وصل إليه أهله ، وكان عند النبي وخيَّره النبيُّ بين أن يذهب مع أهله وبين أن يبقى عنده ، فاختار النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، ولكم أن تفهموا من هذه القصة كلَّ شيء ، لماذا اختار زيدُ بن ثابت أن يبقى عند النبي ؟ لشدَّة الرحمة والعطف الذي وجدهما في بيت النبي، و على كلٍّ فهذه الجارية المولاة لأم سلمة لا تقلُّ عن ابنتها حبًّا وعطفا ورحمة ، فلما ولدت غلاما دعت الأمَّ ومولودها لتقبع في بيت أم سلمة ، وكان بها لهفة وتشوَّقٌ لرؤية وليدها البكر .
أيها الإخوة ؛ النظام الإسلامي أو المنهج الربَّاني يجعل حياة المؤمن كلَّها سعادة ، فحينما يتزوَّج يسعد بزوجته ، وبعد حين يسعد بأولاده ، وبعد حين آخر يسعد بأولاد أولاده ، وكلُّ طور من أطوار المؤمن فيه نوع من السعادة ينفرد بها هذا الطَّورُ ، لكن حياة الانحراف ما دامت هذه الفتاة شابَّةً نضرة لها من يطلبها ، فإذا سلكت طريقَ الحرام ، وزوى جمالُها ، وكبرت سنُّها أُلقيت في الطريق كما تُلقى الفأرة الميَّتة ، وازِن الآن بين فتاة تزوَّجت ، وأنجبت ، وأصبحت أمًّا، ثم أصبحت جدَّةً ، وازنْ بين مكانتها الرفيعة ، الجدة لها مكانة كبرى في أيِّ أسرة ، وازنْ بين مكانتها كامرأة ذات خبرة وعلم ومكانة ، وبين امرأة ملقاةٍ في قارعة الطريق ، لأنها سلكت في أيام شبابها طريق الحرام ، فلما زوى جمالُها أُلقيت في الطريق ، ولذلك أنا أعرف أنّ ما مِن امرأةٍ منحرفةٍ ترى فتاةً تحمل وليدها إلا وتذوب كما تذوب الشَّمعةُ ، تمنِّيًا أن يكون مثلها ، فتطبيقُ منهج الله عزوجل يمنح الإنسانَ سعادة ما بعادها سعادة ، والعوام يقولون كلمة : "ما فيه أغلى من الولد إلا ولد الولد " ، الشباب يسمعون هذه الكلمة ، ولكن لا يستوعبونها ، أما إذا أنجبتَ أولادا ، وأنجب أولادك أولادا تعرف قيمة هذه الكلمة ، وحياة الإنسان كل سن له متعة ينفرد به ، و ما هو إلا قليل حتى جاءت خيرةُ تحمل طفلها على يديها ، فلما وقعت عينا أمِّ سلمة على الطفل امتلأت نفسُها أُنْسًا به وارتياحا له ، ثم إنك إذا تأمَّلت حكمة الله عزوجل ، فما حكمة الله أن هذا الطفل الصغير محبَّبٌ إلى القلوب يتميَّز بصفات نفسية نادرة ، الصفاء ، الذاتية ، العفوية ، وبالتعبير الشائع " السُّوَيعاتية " ، هذا الطفل لو أحزنته و لو أبكيته فبعد ثانية ينسى ويضحك ، ليس عنده حقد ، ولو أن كل طفل حقد على أمه وأبيه إذا أدَّبوه فالقضية كبيرة جدا ، ذاتية على صفاء ، على لطف ، على فطرة سليمة ، فالأولادُ يملؤون البيت بهجة وسرورا ، فإذا الإنسان رزقه اللهُ الأولادَ فهذه نعمة ، فلا يضجر ، لأنّ هناك من يضجر ، هذه نعمة كبرى خصَّك الله بها ، أنت عليك أن تعتنيَ بهؤلاء الأولاد كي يكونوا استمرارًا لك .
كان هذا الوليدُ الصغيرُ قسيمًا وسيمًا - أي جميلا حسن الوجه - بهيَّ الطلعة ، تامَّ الخِلقة ، يملأ عينَ الناظر إليه ، ويأسر فؤادَ رائيه ، ثم التفت إلى وملاتها ، و قالت :" أسمَّيتِ غلامك يا خيرة ؟ قالت : كلا يا أمَّاه ، لقد تركتُ ذلك لك لتختاري له من الأسماء ما تشائين ، فقالت نسمِّيه على بركة الله الحسن ، ثم رفعت يديها ، ودعت له بصالح الدعاء " ، والنبي علَّمنا أنّ على الإنسان أنْ يسمِّيَ قبل أن يقارب أهله ، فإذا جاءه مولودٌ يأتي هذا المولودٌ بعيدا عن نزغات الشيطان ، وهذا من السنة ، فمن والده ؟ الفرحة بهذا المولود لم تقتصر على بيت أم سلمة أم المؤمنين ، وإنما شاركها بيتٌ آخر من بيوت المدينة ، هو بيتُ الصحابي الجليل زيدِ بنِ ثابتٍ كاتبِ وحيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن يسارًا والدَ الصبي كان مولًى له أيضا ، فالوالد مولى لسيدنا زيد بن ثابت ، والوالدة كانت مولاة لسيدتنا أم سلمة زوج النبي عليها رضوان الله ، وكان من آثر الناس عنده ، وأحبِّهم إليه ، بصراحة أقول لإخواننا الذين عندهم محلاَّت تجارية : هذا الموظَّف ، أو بالتعبير القديم " الصانع" هذا أحد أولادك ، هكذا الإيمان ، أي باللطف والإحسان والمودَّة والعطف والمحبَّة ، هكذا الإسلام ، ليس هناك تفرقة ، أنا أقول لكم كلمة اعتبروها شطحةً : واللهِ إنْ لم تعاملْ مَن عندك كما تعامل ابنَك فلن ترقى عند الله ، فالقضية دقيقة جدا ، والإيمان مرتبة عالية فالإسلام كمال ، والإسلام عدالة ورحمة ، وخلُق ، و عطاء ، وليس أخذا ، يقولون كلمة بالتعبير الحديث " استراتيجية " أنا أقول : استراتيجية المؤمن مبنية على العطاء ، واستراتيجية الكافر على الأخذ ، حتى إنه قيل : انظُر ما الذي يسعدك ، أن تعطي أو أنْ تأخذ ، فإن كان الذي يسعدك أن تعطي فأنت من أهل الآخرة ، وإن كان الذي يسعدك أنْ تأخذ فأنت من أهل الدنيا ، هذه علامة .
درجَ الحسنُ بن يسار الذي عُرف فيما بعد بالحسن البصري في بيت من بيوت رسول اله صلى الله عليه و سلم ، ورُبِّيَ في حجر زوجةٍ من زوجات النبي ، هي هند بنت سٌهيل ، المعروفة بأم سلمة ، وأمُّ سلمة إنْ كنتَ لا تعلم أيها الأخ الكريم كانت من أكمل نساء العرب عقلا ، وأوفرهن فضلا ، وأشدهن حزما ، حزم على عقل ، على فضل ، وكانت من أوسع زوجات رسول الله صلى الله عليه سلم علما وأكثرهن رواية عنه ، إذْ روت عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم ثلاثمائة وسبعة و ثمانين حديثا ، كانت راويةً لحديث عن رسول الله ، ولا يوجد أروع من العلم مع الخُلق ، فالذي يرفعك إلى أعلى عليِّين أن تكون أخلاقيا بقدر ما أنت عالم ، وأنت عالم بقدر ما أنت أخلاقي ، هذان الخطَّان إذا ارتقيتَ فيهما فأنت في أعلى عليِّين ، و كانت إلى ذلك كلِّه من النساء القليلات النادرات اللواتي يكتبن في الجاهلية ؛ وإنما امتدَّت إلى أبعدَ من ذلك ، فكثيرا ما كانت خيرة أمُّ الحسن تخرج من البيت لقضاء بعض حاجات أم المؤمنين ، فكان الطفلُ الرضيع يبكي من جوعه ، ويشتدُّ بكاؤه ، فتأخذه أمُّ سلمة إلى حجرها ، وتلقمه ثديها لتصبِّره ، وتعلِّله عن غياب أمه ، إذًا هذا التابعيُّ الجليل رضع من زوجة رسول الله ، فكأن النبيَّ أبوه من الرضاعة ، وكانت لشدَّة حبِّها إياه يدرُّ ثديُها لبنا سائغا في فمه فيرضعه الصبيُّ ، ويسكت عليه ، وبذلك غدت أمُّ سلمة أمًّا للحسن من جهتين ؛ فهي أمُّه بوصفه أحد المؤمنين ، لأنها أمُّ المؤمنين ، وهي أمُّه من الرضاعة أيضا ، ولقد أتاحت الصِّلاتُ الواشجة بين أمهات المؤمنين وقرب بيوت بعضهن ببعض بالغلام السعيد أن يتردَّد على هذه البيوت كلها ، وبالمناسبة و هذا من فضل الله علينا ، لقد شاء حكمةُ اللهِ عزوجل أن تولد في بلد إسلامي ، فيه مساجد ، وفيه مجالس علم ، وفيه أهل ، وفيه بقيّةُ حياء ، وبقية أخلاق ، وبقية انضباط ، نقول : بقية ، ولو أن الإنسان وُلد في " شيكاغو" الأمريكية مثلا ، أو في "نيس" الفرنسية ، ففي هذه المدن الفاسقة الفاجرة عصابات للخمور والزنا و اللواط ، واللهِ هذه نعمة كبرى ، أن الله عزوجل سمح لك أن تكون في بلد سلامي ، وسمح لك أن يسمعك الحقَّ ، هذه بشارة أيها الإخوة ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image003.gif
[سورة الأنفال]
أحيانا لا يعرف الإنسانُ قيمة هذه المجالس إلا إذا سافر ، فيشعر بوحشة و ضيق ، فلا يعرف قيمة هذه المجالس إلا مَن ابتعد عن بلاد المسلمين ، ومَن أقام في بلاد المشركين من دون ضرورة فقد برئت منه ذمَّة الله .
تردَّد الحسنُ البصري على بيوت رسول الله ، وتخلَّق بأخلاق ربَّاتها جميعا ، و اهتدى بهديهم ، وقد كان كما يحدِّث عن نفسه يملأ هذه البيوت بحركته الدائبة ، و يُترعها بلعبه النشيط، حتى إنه كان ينال سقوف بيوت أمهات المؤمنين بيديه ، وهو يقفز فيها قفزا ، فالذي عنده ابنٌ عفريت - بالتعبير الشائع - لا يتألَّم كثيرا ، ورد في بعض الأحاديث : كثرة العُرام في الصغر دليل حصافة العقل في الكبر" ، كان طفلا شيطانا ، و بتعبير العوام " جني شاقق الأرض " ، هذا قد يكون في مستقبله الكبير إنسانا عظيما ، حيويته شديدة جدا ، وطاقته مخزونة ، أحيانا هناك إنسان بليد سكوني " سلاتيك" ، وليس ديناميكيًا ، فكثرة العرام في الصغر دليل حصافة العقل في الكبر .
ظلَّ الحسن يتقلَّب في هذه الأجواء العبِقة بطيوب النبوة ، المتألَّقة بسناها ، نحن ما أتيح لنا أن نلتقيَ بنبيٍّ ، لكن أنا أتصوَّر أن الإنسان لو التقى بنبيٍّ فهذا شيء كبير وعظيم ، وكان أحدُ الصحابة اسمه ربيعة يخدم النبيَّ ، فلما يأتي وقتُ نوم النبيِّ يقول له : انصرف ، انتهى ، أين ينام هذا الصحابي ؟ على طرف باب بيت النبي ، من شدة تعلُّقه به ، فكمالُ الإنسان إذا كان في أَوَّجِّه لا يُصدَّق ، أنا أتصوَّر أن الصحابة الكرام أحبُّوا النبيَّ حبًّا فات حدَّ الخيال ، هل هناك امرأة تتحمَّل نبأَ موت زوجها ، ثم موت أخيها ، ثم موت أبيها ، زوج ، وأخ ، وابن ، وأب ، وراء بعضهم ؟ فعن سعد بن أبي وقاص قال : مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فلما نعوا لها، قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ؛ قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ؟ قال : فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ! تريد صغيرة *
[سيرة ابن هشام]
لا قيمة لها ، هكذا أحبَّ الصحابةُ رسولَ الله .
إخواننا الكرام الإسلام كلُّه حبٌّ ، فإذا كان القلبُ لا يخفق بالحبِّ فهو مثل وردة بلاستيك ، كبيرة وحمراء ، ولكنَّ النفس لا تهفو إليها ، أما الوردة الطبيعية فشيء جميل جدًّا ، فلا إيمان لمن لا محبَّة له ، وإذا لمْ تحب الله عزوجل فلن تدمع هذه العينُ أبدا ؟ تقرأ القرآن وكأنه كتاب عادي ، وتصلِّي وكأنك في حركات رياضية ، أين الحبُّ ، وأين المناجاة ؟ و أين أنت من قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image004.gif
[سورة الأنفال]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image004.gif
[سورة السجدة]
أين هذه ؟ أين :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image005.gif
[سورة الذاريات]
أين هذه ؟
هذا التابعي الجليل تتلمذ على أيدي كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن عثمانَ بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وغيرهم ، لكنه أُولِع أكثر ما أولع بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والإنسان الذي لا قدوة له ما هذا الإنسان ؟ إنسان ليس له منهلٌ علمي ؟ إنسان ليس له مسجد يؤمُّه ، ليس له إخوان يستأنس بهم ، يعيش تائها شاردا ، على هامش الحياة .
إخواننا الكرام ***ة رحمة ، والفرقة عذاب ، ولزوم ***ة من فرائض الدين ، فعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ أَيْنَ مَسْكَنُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : فِي قَرْيَةٍ دُونَ حِمْصَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ فَلَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَوَاتُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ *
[رواه أحمد]
قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image006.gif
[سورة التوبة]
وقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image007.gif
[سورة الكهف]
راعه من هذا الصحابي الجليل صلابتُه في دينه - سيدنا علي - وإحسانه لعبادته ، وزهادته في زينة الدنيا ، وغلبه بيانُه المشرِق ، وحكمته البالغة ، وأقواله الجامعة ، وعظاته التي تهزُّ القلوبَ ، وتخلَّق في أخلاقه بالتقى والعبادة ، ونسج على منواله في البيان والفصاحة ، ولما بلغ الحسنُ أربعة عشر ربيعا من عمره ، ودخل في مداخل الرجال ، انتقل مع أبويه إلى البصرة ، واستقرَّ فيها مع أسرته ، ومِن هنا نُسِب الحسنُ إلى البصرة ، وعُرِف بين الناس بالحسن البصري، والبصرة كانت يومئذ قلعةً من أكبر قلاع العلم في عالَم المسلمين ، وكان مسجدُها العظيم يموج بمَن ارتحل إليها من كبار الصحابة ، وجلَّة التابعين ، وكانت حلقاتُ العلم على اختلاف ألوانها تعمر باحات المسجد ومُصَلاَّه ، والآن مع تخلُّف المسلمين صار المسجد للصلوات فقط ، وأحيانا تجد مسجدا طويلا عريضا ، يُصَلَّى الظهر فيه بنصف صف ، وفي الصبح بثمانية أشخاص ، ويكون ضمن أبنية ، وكل بناية اثنا عشر طابقا ، و كل طابق أربع شقق ، فلو أَمَّتْ بناية واحدة هذا المسجد لملأته عن آخرِه ، قال تعالى:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image008.gif
[سورة مريم]
إنّ الأبلغ من ذلك أنّ المسجد كان له دور خطير ، فكان المسجد موطِنًا للقضاء ، وموطنًا للعلم ، الآن أنا أتمنى أن يعود للمسجد دوره الخطير ، يخرِّج علماءَ ، و يخرِّج دعاةً ، ويخرِّج حفَّاظ القرآن الكريم ، وأنْ تُحلَّ المشكلات فيه ، ويكون له رسالة واسعة جدًّا .
لزم الحسنُ البصري المسجد ، وانقطع إلى حلقة عبد الله بن عباس حبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عنه التفسير ، والحديث ، والقراءات ، كما أخذ عنه وعن غيره الفقهَ واللغةَ والأدب وغيرها ، حتى غدا عالما جامعا فقيها ثقةً ، فأقبل الناسُ عليه ينهلون من علمه الغزير .
أيضا إخواننا الكرام ، تعلَّموا قبل أن ترأسوا ، فإن ترأستم فلن تعلَّموا ، سمعتُ عن أحد العلماء الذين عاشوا في القرن الرابع عشر جلس يدرِّس العلم ، فأخطأ خطيئة واحدة ، أو غلطة واحدة ، فاعتكف سبع سنين في بيته ، غلطة واحدة ، تعلموا قبل أن ترأسوا ، لأنكم إن ترأستم فلن تعلَّموا ، واحد روى حديثا ضعيفا ، بأدب قال له : يا سيدي هذا حديث ضعيف ، قال : ما دمتُ قد قلتُه فهو صحيح ، ما هذا الكبر ؟ ما دمت قد قلته فهو صحيح ، وانتهى الأمرُ ، إنكم إن ترأستم فلن تعلَّموا ، تكبر نفسك كثيرا ، فإذا أراد الواحدُ أن يكون داعيةً إلى الله عزوجل فلْيَطلب العلم بشكل كثيف جدا ، حتى إذا أُتيح له أن يعلِّم يكون قد نضج ، ولا يوجد شيء يُزري بالإنسان كالجهل ، فالتفَّ الناسُ حول الحسن البصري يسيخون إلى مواعظه التي تستلين القلوبَ، وتستدرُّ الدموعَ ، ويَعُونَ حكمته التي تخلب الألباب ، ويتأسَّون بسيرته التي كانت أطيبَ مِن نَشر المسك ، وقد انتشر أمرُ الحسن البصري في البلاد ، وفشا ذكرُه بين العباد .
دقَّق أيها الأخ الكريم في قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image009.gif
[سورة الشرح]
لا يوجد إنسان يطلب العلم بإخلاص إلا رفعه الله عزوجل ، أحيانا تجد أسماءً متألِّقة ، أسماء علماء متألِّقين جدا ، هذا كان دولاتيًّا ، وهذا كان لحَّامًا ، وهذا كان نجَّارا ، لا يخطر ببالك أن يُذكر العالِم مليون مرة أنه كان نجَّارا ، وصار أكبر بكثير من أن يكون نجَّارا ، صار عالما ، لأنّ رتبة العلم أعلى الرتب ، ولما يطلب الإنسانُ العلمَ بإخلاص يرفع اللهُ شأنَه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image010.gif
[سورة الشرح]
إنّ كلَّ آية يختصُّ بها النبيُّ عليه الصلاة والسلام فللمؤمن منها نصيب ، انتشر أمرُ الحسن في البلاد ، وفشل ذكرُه بين العباد ، فجعل الخلفاءُ والأمراءُ يتساءلون عنه ، ويساقطون أخبارَه .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image010.gif
[سورة الشرح]
حدَّث خالد بن صفوان فقال : لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة فقال لي : أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة ، فإني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير ؛ أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم ، قال : أنا جارُه في بيته ، وجليسه في مجلسه ، و أعلم أهل البصرة به ، قال : هاتِ ما عندك - هل هناك ثروة أعظم من أن يكون لك أخبار طيِّبة بين الناس ، وسمعة عطرة ، هل هناك ما هو أعظم من أن يثنيَ عليك الناسُ في غيبتك ، أمّا في حضرتكف المديح لا قيمة له ، لأن هناك من يخافك ، وهناك من يطمع في عطائك ، فيكيل لك المديح جُزافا ، لكن البطولة أَنْ يمدحك الناسُ في غيبتك ، هذا هو المدح الحقيقي ، وأنت غائب ، مرة سمعتُ عن رجلٍ استلم وظيفة ، طبعا شديد وقوي ، بحضرته يحترمونه أشدَّ الاحترام ، فإذا غاب " أبو بريز " مثلا ، البطولة ما يُقال في غيبتك ، لا ما يقال في حضرتك ، في غيبتك ، أما في حضرتك فنفاق في نفاق ، قد يقول قائل كلاما ليس مقتنعا به ، وقد يقول قائل كلاما مبنيًّا على خوف ، أو على طمع ، قال : هاتِ ما عندك - الآن اسمعوا الوصفَ - قلتُ : إنه امرؤٌ - و اللهِ هذه الكلمات تُكتب بماء الذهب - قلتُ إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته - لا توجد ازدواجية ، موقف معلَن ، وموقف حقيقي ، شيء يقال ، وشيء لا يقال ، شيء نفعله في العلن ، ونفعل عكسه في السرِّ ، هذه الازدواجية المقيتة ، وهذا النفاق الحسنُ البصري بريء منه - قال له : إنه امرؤ سريرته كعلانيته - واحدة - و قوله كفعله ، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له ، ولقد رأيتُه مستغنيا عن الناس ، زاهدا بما في أيديهم ، ورأيت الناس محتاجين إليه ، طالبين ما عنده " فقال مسلمةُ : حسبُك يا خالد كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا " ، احفظوها سريرته كعلانيته ، قولُه كفعله ، إذا أمر بمعروف كان أعملَ الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أتْركَ الناس له ، يستغني عن دنيا الناس ، ويحتاج الناس علمَه ، سأله واحد : بِمَ نِلتَ هذا المقام ؟ قال : باستغنائي عن دنيا الناس ، وحاجتهم إلى علمي "، فكيف إذا كان العكسُ ؟ الناسُ مستغنون عن علمه ، وهو محتاج إليهم ، واللهِ هذا شأنُ بعضِ مَن لم يُوفَّق في دعوته إلى الله عزوجل ، الناسُ مستغنون عن علمه ، وهو في أشدِّ الحاجة إلى أموالهم ، وإلى قوتهم .
ولما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ ، وطغى في ولايته وتجبَّر ، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه ، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه ، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام ، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه ، وهو يتميَّز من الغيظ ، وقال لجلاَّسه : تبًّا لكم ، سُحقا ، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ، و يقول فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يردُّه ، أو ينكر عليه ، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع - إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع ، والنطع قطعة قماش كبيرة ، أو قطعة جلد ، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه ، لا يلوِّث الدمُ الأثاث ، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر ، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه ، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده ، وأمرهم أن يأتوا به ، ويقطعوا رأسه ، وانتهى الأمرُ ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ ، ووجفت عليه القلوبُ ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه ، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلالُ المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقارُ الداعية إلى الله ، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة ، وقال له : ها هنا يا أبا سعيد ، تعالَ اجلس هنا ، فما زال يوسع له و يقول : ها هنا ، والناس لا يصدَّقون ما يرون ، طبعا طُلب ليقتل ، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز ، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه ، فكيف يستقبله الحجَّاج ، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد ، حتى أجلسَه على فراشه ، ووضَعَه جنبه ، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين ، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت ، وبيان ساحر ، وعلم واسع ، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد ، ثم دعا بغالية - نوع من أنواع الطيب - وطيَّب له بها لحيته ، وودَّعه ، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج ، وقال له : يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك ، دعاك ليقتلك ، والذي حدث أنه أكرمك ، وإني رأيتك عندما أقبلت ، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك ، فماذا قلت ؟ فقال الحسن : لقد قلت : يا وليَ نعمتي ، وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image011.gif
[سورة النمل]
لقد علَّمنا اللهُ في القرآن شيئًا أصعب من قطع الرأس ؛ أنْ يكون الإنسان في بطن حوت ، وفي الليل ، وفي البحر ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-7_files/image012.gif
[سورة الأنبياء]
إخواننا الكرام ؛ مَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء ، ومَن لم يهب اللهَ أهابه اللهُ مِن كل شيء ، حتى يصبح خائفًا من ظله .
مِن هذه المواقف البطولية أنه بعد أن انتقل الخليفةُ الزاهد عمر بن عبد العزيز إلى جوار ربِّه، وآلت الخلافةُ إلى يزيد بن عبد الملك ، ولَّى على العراق عمر بن هبيرة الفزاري ، ثم زاده بسطةً في السلطان ،فأضاف إليه خراسان أيضا ، وسار يزيد سيرةً غير سيرة سلفه العظيم ، يزيد لم يكن على سيرة عمر بن عبد العزيز ، فكان يرسل إلى عمر بن هبيرة بكتاب تلوَ الكتاب يأمره بإنفاذ ما فيه ، ولو كان مجافيا للحقِّ ، أحيانا يزيد يرسل كتبا وأوامرَ وتوجيهات لواليه على البصرة و خراسان ، هذه الأوامر مجافيةٌ للحق ، أي فيها ظلم ، فدعا عمرُ بن هبيرة كلاًّ من الحسن البصري وعامر بن شرحبيل ، المعروف بالشعبي ، وقال لهما : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه اللهُ على عباده ، وأوجب طاعته على الناس ، وقد ولَّاني ما ترون من أمر العراق ، ثم زادني فولاَّني فارسا ، وهو يرسل إليَّ أحيانا كتبا يأمرني فيها بإنفاذ ما لا أطمئن إلى عدالته ، فهل تجدان لي في متابعتي إياه ، وإنفاذ أمره مخرجا في الدين ؟ أي هل هناك فتوى ؟ فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة ، ومسايرة لل- يا ابن هبيرة خفِ اللهَ في يزيد ، ولا تخف يزيدَ في الله ، واعلم أنّ الله جلَّ وعزَّ يمنعك من يزيَد ، وأنّ يزيدَ لا يمنعك من الله ، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملكُ غليظ شديد ، لا يعصي اللهَ ما أمره ، فيزيلُك عن سريرك ، وينقلك من سَعة قصرك إلى ضيق قبرك ، حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنما تجد عملك الذي خالفتَ فيه ربَّ يزيد ، يا ابن هبيرة إنك إن تكُنْ مع الله تعالى في طاعته يكفِك ضائقةَ يزيد في الدنيا والآخرة ، وإنْ تكُن مع يزيد في معصية الله تعالى فإنّ الله يكِلُك إلى يزيد ، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والي ، والحسن ساكت ، فالتفت عمرُ بن هبيرة إلى الحسن ، وقال : وما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : يا ابن هبيرة - واللهِ هذا كلام يُكتب بماء الذهب اسمعوا " فبكى ابن هبيرة حتى بلَّت دموعُه لحيته ، ومال عن الشعبي - تركه - إلى الحسن ، وبالغ في إعظامه و إكرامه ، فلما خرجا من عنده - الشعبي والحسن - توجَّها إلى المسجد ، فاجتمع الناسُ عليهما ، وجعلوا يسألونهما عن خبرَيْهِما مع أمير العراقين - مثل الآن العراق وإيران ، والي العراق وإيران ، هذا ملِك - فالتفت الشعبي إليهم وقال : - كذلك الشعبي منصِف - أيها الناسُ من استطاع منكم أن يؤثر اللهَ عزوجل على خلقه في كل مقام فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسنُ لعمر بن هبيرة قولا أجهله - الذي تحدَّث به أعرفه أنا - و لكنني أردتُ فيما قلت وجهَ ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجهَ الله ، أنا سايرتُ ، ولكني أردتُ فيما قلته وجهَ ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجهَ الله ، فأقصاني اللهُ من ابن هبيرة و أدناه منه و حبَّبه إليه " ، فمَن أرضى الناسَ بسخط الله سخِط عنه اللهُ ، وأسخطَ عنه الناسَ ، ومَن أرضى اللهَ بسخط الناس رضيَ عنه اللهُ ، وأرضى عنه الناسَ .
ومن أقوال الحسن :"إن مثل الدنيا والآخرة كمثل المشرق والمغرب ، متى ازدَدْتَ من أحدهما قربا ازدَدْتَ من الآخرة بعدا " ، وقال له أحدُهم : صِف لي هذه الدارَ - دار الدنيا - قال : ماذا أصف لك من دارٍ أولها عناء ، وآخرها فناء ، وفي حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، مَن استغنى فيها فُتِن ، ومَن افتقر فيها حزن " ، وسأله آخر أيضا : ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ قال : لقد أهزلنا ديننا ، وسمَّنا دنيانا ، وأخلقنا أخلاقنا ، وجدَّدنا فرشَنا وثيابنا ، يتَّكئُ أحدنا على شماله ، ويأكل من مالٍ غير ماله ، طعامه غصبٌ ، و خدمته سُخرة ، يدعو بحلوٍ بعد حامض ، وبحارٍّ بعد بارد ، وبرطبٍ بعد يابس ، حتى إذا أخذته القِظَّةُ تجشَّأ من البشم ، ثم قال : يا غلام هات هضوما - أي " كازوزا " - يهضم الطعام ، يا أُحَيْمق واللهِ لن تهضم إلا دينك ، أين جارُك المحتاج ؟ أين يتيمُ قومك الجائع ؟ أين مسكينُك الذي ينظر إليك ؟ أين ما وصَّاك به اللهُ عزوجل؟ ليتك تعلم أنك عددٌ ، وأنه كلما غابت عنك شمسٌ نقص شيءٌ من عددك ، ومضى بعضُه معك ".
في ليلة الجمعة من غُرَّة رجب سنة (110هـ ) لبَّى الحسنُ البصري نداءَ ربِّه ، فلما أصبح الناسُ ، وشاع الخبرُ فيهم ارتجَّت البصرةُ بموته رجًّا ، فغُسِّل وكُفِّن و صُلِّيَ عليه بعد الجمعة ، في الجامع الذي قضى في رحابِه حياتَه عالما ومعلِّما و داعيا إلى الله ، ثم تبِع الناسُ جميعا جنازته ، فلم تُقَمْ صلاةُ العصر في ذلك اليوم بجامع البصرة ، لأنه لم يبق فيها أحدٌ يقيم الصلاة ، ولا إنسان ، وقد قيل : ولا يعلم الناسُ أن الصلاة عُطِّلت في جامع البصرة منذ أن بُنِيَ إلى ذلك اليوم ، يوم انتقال الحسن البصري إلى جوارِ ربِّه .
هذا أحد التابعين ، فإذا سمعتم الحسنَ البصري فهذا هو الحسن البصري ، طبعا هذه بعضُ قصصه ، وله قصص أخرى
لؤلؤة الغرب
27-04-2009, 01:09 AM
خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام
ان أمره لعجيب..!!
هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!
ألا فلنأت على قصته من البداية..
ولكن أية بداية..؟؟
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..
فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..
لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:
" والله لقد استقام المنسم....
وان الرجل لرسول..
فحتى متى..؟؟
أذهب والله، فأسلم"..
ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،
قلنا: وبك..
قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..
قلت: يا رسول الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...
أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟
ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!
أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟؟
لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..
لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..
ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
هذه البقيّة هي:
" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".
فمن كان هذا البطل..؟
لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..
ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:
" خذ اللواء يا أبا سليمان"...
ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..
أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!
هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:
" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".
ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟
قالوا: نعم..
واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..
في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..
ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..
ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..
ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..
ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..
وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..
مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!
كيف تمّت المعجزة..؟
أي تفسير لهذا الذي حدث؟
لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:
(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!
ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!
ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..
ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.
وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!
ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!
عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..
وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:
" الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..
ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..
وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..
ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..
والتقى الجيشان:
وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!
وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..
ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:
" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..
وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!
لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..
وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..
وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..
وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!
هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
" بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..
يلام على من اتبع الهدى
أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم
من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا
اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!
وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..
وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:
" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.
ترى هل سمع الروم في الشام..؟
وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟
أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!
كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..
فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..
وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.
وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..
وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
" ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...
هذا يوم من أيام الله..
ما أروعها من بداية..!!
لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغممن أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..
اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..
لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
" خالد لها".!!
وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".
فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!
عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
كا انسحاب تنبأ به فعلوه..
وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..
وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...
من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
" من يولّي هاربا فاقتلنه"..
وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"
" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..
فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!
وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:
" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!
ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
" الله أكبر"
" هبّي رياح الجنة"..
كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
ودار قتال ليس لضراوته نظير..
وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
فيجيب أبو عبيدة:
" نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
وهذا عكرمة بن أبي جهل..
أجل ابن أبي جهل..
ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..
فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،
فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره. فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره..
وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!
أجل..
لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:
" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.
واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".
مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
ولكن أي عجب؟؟
أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟
وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟
وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
أليس ذلك، كذلك..؟
اذن، هبي رياح النصر...
هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...
لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.
وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:
" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟
قال خالد: لا..
قال الرجل:
فبم سميّت يبف الله"؟
قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..
فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".
قال القائد الرومي: والام تدعون..؟
قال خالد:
الى توحيد الله، والى الاسلام.
قال:
هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟
قال خالد: نعم وأفضل..
قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
قال خالد:
لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..
أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:
علمني الاسلام يا خالد"".!!!
وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!
وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..
ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..
وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..
ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...
فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..
وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..
ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..
لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..
ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:
" ان في سيف خالد رهقا"
أي خفة وحدّة وتسرّع..
فأجابه الصدّيق قائلا:
" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..
وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..
فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..
ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..
وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:
" يا رسول الله..
استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..
والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..
وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:
" اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:
" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".
ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..
ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك
اني رأيت الله قد أهانك"..!!
ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..
ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..
والا.." كفرانك لا سبحانك..
اني رأيت الله قد أهانك"..!!
على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:
" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.
نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..
أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟
أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..
ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..
وأنه ليقول:
" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..
من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...
هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...
أميرا يحملشظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:
" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..
ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..
أتجرون الى من أوصى..؟
الى عمر بن الخطاب ذاته..!!
أتدرون ما تركته..؟
فرسه وسلاحه..!!
ثم ماذا؟؟
لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!
ذلك أنه لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..
سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:
" ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".
وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال
وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:
" صدقت..
والله ان كان لكذلك".
وثوى البطل في مرقده..
ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..
واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...
وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!
ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!
لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..
ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟
وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟
ايه يا بطل كل نصر..
ويا فجر كل ليلة..
لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:
" عند الصباح يحمد القوم السرى"..
حتى ذهبت عنك مثلا..
وهأنتذا، قد أتممت مسراك..
فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!
ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!
ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
" رحم الله أبا سليمان
ما عند الله خير مما كان فيه
ولقد عاش حميدا
ومات سعيدا
طالب عفو ربي
27-04-2009, 08:27 PM
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سير التابعين رحمهم الله تعالى ، والتابعيُّ اليوم هو عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز .
أيها الإخوة الكرام ؛ في هذه القصة دلالات كثيرة ، وتُعدُّ هذه القصة نموذجا من النماذج التي يمكن أن تُّعدَّ منهجا للمؤمنين ، فما كاد التابعيُّ الجليل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض ترابَ قبر سلفه سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية ، وقد توفِّي ودُفن ، وما إن نفض عمرُ بن عبد العزيز يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك حتى سمع للأرض من حولـه رجَّة، فقال : ما هذه ؟ قالوا : هذه مراكبُ الخلافة يا أمير المؤمنين ، هو الذي جاء بعد سليمان ، هذه مراكب الخلافة ، قد أُعِدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّج الذي نهكه التعبُ ، وأذبله السَّهرُ : مالي ولها ، طبعا هذا ماذا يعني ؟ هناك حقائق ، وهناك مظاهر ، والحقائق أهمُّ من المظاهر ، الحقائق أن يُرضيَ الإنسانُ ربَّه ، وأن يكون في طاعة الله، ولكن المظاهر لا نهاية لها ، وهذه المظاهر تنتهي عند الموت ، ماذا تنفع صاحبها ، لذلك أولئك الذين يتعلَّقون بالمظاهر هؤلاء خاسرون ، لأن الموت ينهي تلك المظاهر، ويواجهون عملهم إمَّا الذي فيه تقصير ، وإما الذي فيه إساءة ، أي الذي فيه عدوان ، ولو أن أهل الأرض جميعا من دون استثناء أثنوا عليك ، ولم يكن اللهُ راضيًا عنك فأنت أكبر خاسر ، ولو أن أهل الأرض جميعا سخطوا عليك وأنت في مرضاة الله فأنت الرابح ، لذلك ابتغوا الرِّفعة عند الله ، لقد رأى مظاهر فخمة جدًّا ، ولكنه قال ببساطة : مالي و لها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
الحقيقة أيها الإخوة أنّ الإنسان بحاجة إلى السعادة ، شاء أم أبى ، إما أن يستقيها من خارجه، وإما أن تنبع من داخله ، فحينما يكون في مرضات الله عزوجل تنبع من داخله ، وحينما لا يكون في مرضات الله يبحث عنها من خارجه ، يبحث عنها في الطعام ، وفي البيت الفخم وفي المركبة الفارهة ، وفي الجاه العريض ، وفي مُتع الأرض ، لكن حينما يكون في مرضات الله فهذه السعادة تنبع من ذاته ، لذلك لا يعبأ المخلِصُ كثيرا بهذه المباهج ، ولا تلك المظاهر ، إنها لا تعني عنده شيئا ، ولا تقدِّم ولا تؤخَّر ، أنت بين الحقائق وبين المظاهر ، من قُذِف في قلبه بنور ربَّاني يرى بهذا النور الحقائق ، فلا ينخدع بتلك المظاهر ، نحن ما الذي يهلكنا ؟ المظاهر، فلو دخلت إلى البيوت ما الذي يجعل الخلاف بين الزوجين ؟ المظاهر ، هي تريد المظاهر ، ودخله لا يسمح له بذلك ، لقد دقَّت المظاهرُ رقابَ الرجال ، و أحيانا لا أقول : افعلوا هذا ، لكن تجلس في بيت بسيط جدا ، على الأرض ، هناك أثاث لغرفة الضيف يكلَّف أربعمائة ألف ، وأحيانا أجلس في غرفة ضيوف فيها فُرش من الإسفنج ، لا يزيد سمكُها عن أربعة سنتيمتر ، مغلَّفة بقماش رخيص ، فإذا هناك السرور ، و هناك المحبَّة لله ، وهناك الشعور بالقرب من الله ، ومهما كان الأثاثُ بسيطا فإنّه يسعدُك ، و في حالة البعد عن الله عزوجل مهما كان البيتُ فخما و الأثاث وفيرا فلا يسعدك ، فهنيئا لمن عرف الحقائق ، وهنيئا لمن وضع يده على سرِّ السعادة ، وهنيئا لمن وضع يده على حقيقة حياة الإنسان .
في الدنيا مظاهر وحقائق ، فتعليقي على هذا الكلمة ، قال : ما هذا ؟ قالوا : إنها مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين ، قد أُعدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّجِ الذي نهَكه التعبُ وأذبَله السَّهرُ : ما لي ولها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
ذكرتُ هذه القصَّة مراتٍ عديدة ، وسمعتُ أن قريةً من قرى غوطةِ دمشقَ اتَّفق وجهاؤُها على أن الخاطب لا يُكلَّف إلا بخاتم وساعة ، كلُّ هذه المظاهر تحتَ أقدامهم ، فيسَّروا بذلك الزواجَ ، والآن ما الذي يقف عقبةً أمام زواجِ الشباب ؟ إنها المظاهرُ ، طلباتُ الأهل : بيتٌ مساحته كذا ، بالموقع الفلاني ، وغرفةُ الضيوف من النوع كذا ، غرفةُ النوم من النوع كذا ، ويجب أن يُلبِس مخطوبتَه كذا وكذا وكذا ، فتكلَّف الخاطب ثلاثةِ ملايين ، اتركوا ابنتكم عندكم ، ومَن الذي أشقى البيوتَ ؟ المظاهر ، لو أخلصنا لله عزوجل ، واتَّصلنا به لنبعت السعادةُ من داخلنا ، هذا الينبوع من السعادة يغنينا ويزهِّدنا بمصادر اللذة الخارجية ، قال : نحُّوها عني بارك الله عليكم ، وقرِّبوا لي بغلتي ، فإن لي فيها بلاغا ، ثم إنه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحبُ الشُّرَط ليمشي بين يديه ، ومعه ثُلةٌ من رجاله اصطفُّوا عن يمينه وعن شماله ، وفي أيديهم حِرابهم اللاَّمعة ، فالتفت إليه ، وقال : مالي بك وبهم حاجة ، صاحب الشُّرطة ورجاله والأسلحة البيضاء اللمَّاعة ، اصطفَّ هؤلاء في نسقٍ بهيج ، قال : ما لي بك وبهم حاجة ، فما أنا إلا رجل من المسلمين ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ *
[رواه ابن ماجه]
قال : فما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون .
سأقول لكم هذه الحقيقة أيها الإخوة ، إذا كان الإنسانُ بسيطا متواضعا طبيعيا من دون تكلُّف، ومن دون أُبَّهة ، ومن دون عظمة ، ومن دون كهنوت ، ومن دون هيئة ، ومن دون موكب ضخم ، هل تقلُّ محبُّتُه في قلوب الناس ؟ لا واللهِ ، بل ربما زادت ، قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون ، ثم سار وسار الناسُ معه حتى دخل المسجدَ، ونودِي للصلاة ؛ الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة ، فتسايل الناسُ على المسجد من كل ناحية ، فلما اكتملت جموعُهم قام فيهم خطيبا ، سيدنا عمر بن عبد العزيز قام في هؤلاء الجموع خطيبا ، وهم في المسجد الجامع ، فحمد اللهَ ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر- ماذا رآه ؟ بلاءً ، تذكرون أن سيدنا عمر بن الخطاب كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصَّته ، وقال : إني قد أمرتُ الناسَ بكذا ، و نهيتهم عن كذا ، و الناسُ كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايمُ اللهِ لا أوتينَّ بواحد وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني " - فصارت القرابةُ من عمر مصيبةً ، وهذا التابعي الجليل خامس الخلفاء الراشدين يقول :" أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر " ألم يقل سيدنا عمر:" و الله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني اللهُ عنها ، لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر ، على غير رأيٍ مني ، ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين" ، يبدو أن سليمان بن عبد الملك الذي كان قبله خليفة أوصى له بالخلافة ، فقال : هذا الأمر لم يكن لي رأيٌ فيه ، ولم أطلبه ، ولا كان على مشورة من المسلمين ، وإني خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه " ، ليس عن مشورة ، ولا عن طلب ، ولا عن رأي ، إنما جاء هذا في وصية سليمان بن عبد الملك ، إذًا أنا خلعتُ هذه الخلافة من عنقي ، وأنتم أحرار في اختيار خليفتكم ، فصاح الناسُ صيحةً واحدة : قد اخترناك يا أمير المؤمنين ، ورضينا بك ، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة ، أي تولَّ أمرنا باليُمن والبركة ، فلما رأى أن الأصوات قد هدأت ، والقلوب قد اطمأنت ، حمد اللهَ كرَّة أخرى ، وأثنى على محمد بن عبد الله عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وطفِق يحضُّ الناسَ على التقوى ، ويزهِّدهم في الدنيا ، ويرغِّبهم في الآخرة ، ويذكِّرهم بالموت بلهجة تستلين القلوب القاسية ، وتستدرُّ الدموع العاصية ، و تجرح من فؤاد صاحبها ، فتستقرُّ في أفئدة السامعين .
إخواننا الكرام ؛ إذا أحبَّ اللهُ عبدَه ألقى حبَّه في قلوب الناس ، لذلك الناسُ عندهم حاسَّة سادسة ، يعرفون بفطرتهم الصادق من الكاذب ، والمخلص من الخائن ، والورِع من المتفلِّت ، والذي ينفعهم مِن الذي يضرُّهم ، يعرفون هذا بفطرتهم ، لذلك أجمع الناسُ أن يختاروا سيدَنا عمر بن عبد العزيز خليفةً للمسلمين عن بيعة ، لا عن وصيَّة ، بعد سليمان بن عبد الملك ، ثم رفع صوتَه المتعَب حتى أسمع الناسَ جميعا ، وقال : أيها الناس من أطاع اللهَ وجبتْ طاعتُه ، ومَن عصى اللهَ فلا طاعة له على أحد ، أيها الناسُ كما قال الصدِّق : أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم ، ثم نزل من المنبر ، واتَّجه إلى بيته ، وأوى إلى حجرته ، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد ذلك الجُهد الجهيد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة .
الآن انتهينا من سيدنا عمر بن عبد العزيز ، لأن الموضوع ليس عنه ، بل الموضوع عن ابنه عبد الملك ، وشيء رائع جدا ، بل شيء لا يُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان عظيما بدينه ، وعلمه، وورعه ، وأن يكون ابنُه على شاكلته ، فمِن سعادة المرء أن يشبه الابنُ أباه .
الآن دقِّقوا في القصة التالية ؛ سيدنا عمر بن عبد العزيز ما كاد يسلم جنبَه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنُه عبد الملك ، وكان يومئذ يتَّجه نحو السابعة عشرة من عمره ، وقال : ما تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟
والآن هناك نقطة دقيقة ، يقول الناسُ : أزهد الناس بالعالم أهلُه وجيرانه ، يكون للإنسان شأن كبير ، ولكن في بيته يُنادى باسمه ، ولكن هذا الخليفة العظيم ربَّى أولادَه تربية عالية ، حيث إنّ ابنه إذا أراد أن يخاطبه في البيت يقول له : يا أمير المؤمنين ، وهذا من الأدب ، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام رأى شابا يمشي أمام شيخ فنهاه ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام ، فقال للغلام : مَنْ هَذَا ؟ قال : أبي ، قال : فَلا تَمْشِ أمامَهُ ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَهُ ، وَلا تَدْعُهُ باسْمِهِ *
قال النوويّ : قلت : معنى لا تَسْتَسِبَّ له : أيْ لا تفعل فعلاً يتعرّض فيه لأن يسبّك أبوك زجراً لك وتأديباً على فعلك القبيح .
[ذكره النووي في الأذكار]
قال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أيْ بنيَّ أريد أن أغفُوَ قليلا ، فلم تبقَ في جسدي طاقة ، يقال لك : عُصرت عصرا ، هل هناك شيء خلاف الأصول ؟ إنسان يومان أو أكثر في عمل مستمر وشاق ، أراد أن يغفو قليلا ، فقال ابنُه : أتغفو قبل أن تردَّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني قد سهرتُ البارحة في عمِّك سليمان ، وإني إذا حان الظهرُ صليتُ بالناس ، ورددتُ المظالم إلى أهلها إن شاء الله ، قال ابنُه : ومَن لك يا أمير المؤمنين أن تعيش إلى الظهر ؟ هل أنت ضامن ؟ يكون الواحد معلَّق في رقبته آلاف الحقوق ، ومع ذلك يشخر و ينام ، آلاف الحقوق ، آلاف الذمم ، قال له : وهل تضمن أن تعيش إلى الظهر ؟ فألهبت هذه الكلمات عزيمةَ عمر ، وأطارت النومَ من عينيه ، وبعثت القوةَ والعزم في جسده المتعب ، وقال : أُدنُ مني يا بني ، فدنا منه فضمَّه إليه ، وقبَّل ما بين عينيه ، وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يُعِينُنِي على ديني " .
واللهِ أيها الإخوة ، الذي عنده زوجة توقظه للصلاة ، لا بدَّ أن يذوب شكرا لله عزوجل ، والذي عنده ابنٌ فيه ورع ، عنده ورع على أخواته ، لا يحب المعصية ، هذا من سعادة المرء ، تأثَّر تأثرا لأن ابنه لم يسمح له أن ينام ساعة ، قبل أن يردَّ المظالم إلى أهلها ، ثم قام وأمر أن ينادى في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها "
الآن بدأنا في القصة الثانية ؛ فمَن عبد الملك هذا ؟ وما خبرُ هذا الفتى الذي قال عنه الناسُ: إنه هو الذي أدخل أباه في العبادة ، و سلكه مسلك الزهادة " ؟ تعالوا أيها الإخوة نلمَّ بقصة هذا الفتى الصالح من أولها .
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، لي قريب ذهب إلى أمريكا عند أخيه ، قال لي: البيتُ المقابل ؛ الفيلا المقابلة فيها شُرفة ، وفيها ألبسة أطفال موضوعة على الشرفة ، فيبدوا بعد حين ، أن هناك صداقة وعلاقة بين الجارين ، فزار هذا الضيفُ من سورية جارَ أخيه ، ومن حديث إلى حديث سأله : كم ولدا عندك ؟ فقال : ليس عندي أولاد ، فقال له : عجيب ، إني رأيت بعيني ألبسة أولاد صغار في الشرفة ، قال : هذه ألبسة الكلاب ، ليس عندي أولاد ، سبحان الله ، الابن في هذه البلاد عبءٌ على أبيه ، لأن هذا الابن ليس لأبيه ، أما طريق المنهج الإسلامي فأقرب شيء إلى الأب ابنُه ، لذلك ربُّنا عزوجل ينتظر من المؤمن بعد عرفات أن يذكر كما يذكر أباه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image001.gif
[سورة البقرة]
والعرب في الجاهلية إذا أرادوا أن يسبُّوا إنسانا يقولون : لا أبا لك ، قال الشاعر زهير بن أبي سُلمى :
***
سئمت تكاليف الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حولاً لا أبَا لك يسأمِ
***
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، فيهم ثلاث بنات ، وكانوا جميعا على حظٍّ موفور من التقى ، ومقام كبير من الصلاح ، لكنَّ عبد الملك كان واسطة العقد ، و كوكبة إخوته، فقد كان أديبا ، وكان أريبا ذكيا ، له سنُّ الفتيان ، وعقلُ الكهول ، وأروع ما في الشاب عقلُه الكبير ، وأروع ما في الشاب ورعُه ، وأروع ما في الشاب معرفتُه ، وأروع ما في الشاب أدبُه، وأروع ما في الشاب عفَّته ، وأروع ما في الشاب توبتُه ، وأروع ما في الشاب حبُّه لله عزوجل، وربُّنا عزوجل يعجب لهذا فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
[رواه أحمد]
يعجب ربُّنا عزوجل ، إن الله يباهي الملائكة بالشاب المؤمن ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ *
[رواه أحمد]
ثم إنه نشأ في طاعة الله جل وعزَّ ، منذ نعومة أظفاره ، فكان أقربَ الناس سمتًا إلى آل الخَطَّاب عامة ، وأشبههم بعبد الله بن عمر ، خاصة في تقواه لله ، وتخوُّفه من معاصيه ، وتقرُّبه إليه بالطاعة ، حدَّث ابنُ عمَّه عاصمٌ فقال : وفدتُ على دمشق ، فنزلتُ على ابن عمي عبد الملك ، وهو عازِب ، فصلينا العشاء ، و أوى كلٌّ منا إلى فراشه ، فقام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه ، وأسلم كلٌّ منا جفنيه إلى الكرى ، ثم إني استيقظتُ في الليل ، فإذا عبد الملك قائم يصلِّي في العتمة ، وهو يقرأ قوله جل و علا - و اللهِ الآية دقيقة جدا - قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image002.gif
[سورة الشعراء]
بالمناسبة ؛ في سورة الأعراف فيما ما أذكر بعد أن تكلَّم ربُّنا عزوجل عن قصص الأنبياء، وكيف أن أقوامهم كذَّبوهم ، وكيف أن الله أهلكهم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image003.gif
[سورة الأعراف]
هذه الآية تفيد أن ربنا عزوجل أوَّلاً : يرسل الرسول ، وثانيا : يسوق الشدائد و ثالثا : يبدِّل السيئة بالحسنة ، ورابعا : يقصم ، وهذا قانون ، أولا : دعوة سلمية فإذا لم يستجِبْ للحسنى صبَّ عليه الشدائد ، وإذا ما تضرَّع فتح عليه بالخيرات ، فإذا لم يشكر قصَمه بإهلاك وعذاب ، هذا قانون ، وهذا القانون ينطبق على الأمم ، و الشعوب ، وعلى الأفراد ، واللهُ عزوجل يسوق إليك مَن يسمعك الحقَّ ، فإن استجبت انتهى كلُّ شيء ، وإن لم تستجب أتَت الشدائد ، وإن تضرَعت نجوت من الشدائد ، وإن لم تتضرع أتى الرخاءُ الاستدراجي ، وإن لم تشكر أتى القصمُ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image002.gif
[سورة الشعراء]
قال ابنُ عمه عاصم : فراعني منه أنه كان يردِّد الآيةَ ، وينشج نشيجا مكبوتا يقطِّع نِياطَ القلوب ، والحقيقة أنّ صلاة الليل صلاة الإخلاص ، أنت قد تؤدِّي الفرائض خوفا من الله عزوجل، ولكنك لا تؤدِّي النوافل إلا حبًّا لله عزوجل ، تماما كالذي يؤدِّي الضريبة خوفا من المضاعفة أو العقاب ، لكن الذي يتبرَّع هذا دليل محبَّة ، وتأدية الضريبة دليل خوف ، لكن التبرُّع دليل محبَّة ، فأداء الزكاة دليل خوف ، وأداء الصدقة دليل محبة ، وأداء الصلوات الخمس دليل خوف ، وصلاة الليل دليل محبة ، قال : وكان كلما فرغ من الآية عاد إليها حتى قلتُ : سيقتله البكاءُ ، فلما رأيتُ ذلك قلتُ : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، كما يفعله المستيقظ من النوم، لأقطع عليه البكاءَ ، فلما سمعني سكتَ ، فلم أسمع له حسًّا "
تتلمذ هذا الفتى العمري على أكابر علماء عصره ، حتى تملَّى من كتاب الله ، و تضلَّع بحديث رسول الله ، وتفقَّه في الدين ، فغدا على حداثة سنِّه يزاحم الطبقةَ الأولى من فقهاء أهل الشام في زمانه ، فقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز - الآن أحد النقاط المضيئة في حياة هذا التابعي الجليل - فقدْ رُوي أن عمر بن عبد العزيز جمع قرَّاءَ الشام وفقهائها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي ، فما ترون فيها ؟ هو تسلَّم الخلافة قبل أيام ، وهناك مظالم سابقة ، فاستعان بالفقهاء والعلماء ، وبالمناسبة كان سيدنا عمر بن عبد العزيز له مستشار ومرافق اسمُه عمر بن مزاحم ، اختاره من بين العلماء الكبار ، قال : يا عمر كن معي دائما فإن رأيتني ضللتُ فهُزَّني هزًّا شديدا و خذُ بتلابيبي و قل لي : اتَّقِ اللهَ يا عمر فإنك ستموت ، جمع فقهاءَ الشام وقرَّاءها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي فما ترون فيها ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إن ذلك أمر كان في غير ولايتك ، ليس لك علاقة ، قضية سابقة ، وأن وزرَ هذه المظالم على من غصبها ، فطرة سليمة ، فلم يرتح إلى ما قالوا ، أحيانا الإنسان يسمع أول فتوى لصالحه ، وثاني فتوى ، وثالث فتوى ، ورابع فتوى ، وخامس فتوى ، ويقول : لستُ مرتاحا ، ما هو الدليل ؟ فطرة نقيَّة طاهرة ، فعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ فَقُلْتُ أَنَا وَابِصَةُ دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ فَقَالَ لِي ادْنُ يَا وَابِصَةُ ادْنُ يَا وَابِصَةُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَقَالَ يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي قَالَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ قُلْتُ نَعَمْ فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ قَالَ سُفْيَانُ وَأَفْتَوْكَ *
[رواه الترمذي]
اسمعوا هذه الكلمة أيها الإخوة : لو استطعتَ أن تنتزع من فم النبيِّ عليه الصلاة و السلام فتوى لصالحك ، ولم تكن محِقًّا فلن تنجَو من عذاب الله ، والدليل ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا *
[رواه البخاري]
لو أن القاضي الذي حكم لك هو رسولُ الله ، ولم تكن محقًّا فلن تنجوَ من عذاب الله ، فالتفتَ إليه أحدُهم ممّن كان يرى غيرَ رأيهم ، وقال : يا أميرَ المؤمنين ابعث إلى عبد الملك - ابنُه - فإنه ليس دونَ من دعوتَ علمًا أو فقها أو عقلا ، أي هؤلاء الذين دعوتهم علماء وفقهاء ، ولكن ابنَك ليس أقلَّ منهم فقها ولا علما ولا عقلا ، طبعا دُعِي ، فلما دخل عليه عبدُ الملك قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمِّنا من الناس ظلما ، وقد حضر أصحابُها وجعلوا يطلبونها ، وقد عرفنا حقَّهم فيها ؟ فقال عبد الملك لأبيه : أرى أن تردَّها إلى أصحابها ما دمتَ قد عرفت أمرها - هذا هو الحكم - وإنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " هذا كلام عبد الملك ، " أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها ، و إنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " فانبسطتْ أساريرُ عمر ، و ارتاحت نفسُه ، وزال عنه همُّه ، ولقد آثر الفتى العمري المرابطة على الثغور ، و الإقامة في إحدى المدن القريبة منها على البقاء في بلاد الشام .
الآن مشهد جديد في القصة ؛ عبد الملك بن عبد العزيز آثر أن يبقى على الثغور - على الحدود - في قرية على حدود البلاد ، عن أن يبقى في بلاد الشام ، فمضى إليها ، وخلَّف وراءه دمشق ذات الرياض النظرة ، والظلال الظليلة ، والأنهار السبعة ، وكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه خائفًا عليه من نزعات الشيطان ، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب ، حريصا على أن يعلم من أمره كل ما يجوز له أن يعلم ، وكان لا يغفل عن ذلك أبدا ، ولا يهمله .
حدَّث ميمونُ بن مهران وزيرُ عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره فقال : دخلتُ على عمر بن عبد العزيز ، فوجدتُه يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك ، يعظُه فيها ، وينصحه ، ويبصِّره ، ويحذِّره ، وينذره ، ويبشِّره ، موعظة ونصيحة و تبصير وتحذير وإنذار وتبشير ، وكان مما جاء فيها قولُه : أما بعد ؛ فإنّ أحقَّ مَن وَعَى عنِّي وفَهِم قولي لأنت - أحسن أولاده - وإنّ اللهَ وله الحمدُ قد أحسن إلينا في صغير الأمر و كبيره ، فاذكُر يا بنيَّ فضلَ الله عليك وعلى والديك ، وإياك و الكِبر والعظمة ، فإنها من عمل الشيطان ، وهو للمؤمنين عدوٌّ مبين ، واعلم أني لم أبعث إليك بكتابي هذا لأمرٍ بلغني عنك ، فما عرفتُ من أمرك إلا خيرا ، غير أنه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بنفسك ، ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلى ما أكره لرأيتَ مني ما تكره " ، رسالة شديدة عميقة ، من أبٍ عدْلٍ ورِعٍ إلى ابنه ، قال ميمونُ : ثم التفت إليَّ عمرُ وقال : يا ميمون إن ابني عبد الملك قد زُيِّن في عيني ، وإني أتَّهم نفسي في ذلك ، وأخاف أن يكون حبِّي له قد غلب على علمي به - يا لطيف - كلمات تُكتب بماء الذهب ، " أخاف أن يكون حبي له قد غلب على علمي به ، و أدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أبناءهم " يخاف هذا الخليفة الراشد أن يغلب حبُّه لابنه على علمه به ، ويخاف أن يكون كبقيَّة الآباء الذين يغفلون عن عيوب أولادهم ، قال له : فَسِرْ إليه واسبِرْ غورَه ، وانظُر هل ترى فيه ما يشبه الكبرَ و الفخر فإنه غلام حدَثٌ و لا آمنُ عليه الشيطان " رغم كل هذا الصلاح والتقوى والورع وإيصال المظالم إلى أهلها ، رغم كل ذلك لم ترتَح نفسُه ، أراد أنْ يرسل مبعوثَه الشخصي ليقف على أمر ابنه في الثغور ، قال ميمون : فشددتُ الرحالَ إلى عبد الملك حتى قدمتُ عليه فاستأذنتُ ، ودخلتُ، فإنه غلام في مقتبل العمر ، رَيَّانُ الشباب ، بهيُّ الطَّلعة ، جمُّ التواضع ، قد جلس على حاشية بيضاء فوق بساط من شَعر ، فرحَّب بي ثم قال : قد سمعتُ أبي يذكرك بما أنت أهلٌ له من الخير ، و إني لأرجو أن ينفع اللهُ بك ، فقلتٌ له : كيف تجدك ؟ فقال : بخير من الله عزوجل و نعمة ، غير أني أخشى أن يكون غرَّني حسنُ ظن والدي بي ، وأنا لم أبلغ من الفضل كل ما يظنُّ ، وإني لأخـاف أن يكون حبُّه لي قد غلبه على معرفته بي فأكون آفةً عليه ، فعجبتُ من اتِّفاقهما – خواطر متواردة – كيف حالك يا ابني ؟ قال له : أنا أخاف أن تكون محبة أبي أغلبَ من علمه بي فأكون آفة عليه ، فعجبت من اتِّفاقهما ، ثم قلتُ له : أعلمني من أين معيشتُك ؟ من أين تأكل ؟ سؤال غريب ، ابنُ خليفة المسلمين ، من أين تأكل ، قال : من غلَّة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه ، و دفعتُ ثمنها من مالٍ لا شبهة فيه ، فاستغنيتُ بذلك عن فيء المسلمين " عن الراتب الرسمي قال : فما طعامُك ؟ مكلَّف بمهمة ، تحقيق ، قال: ليليةً لحمٌ ، وليلةً عدسٌ وزيت ، وليلة خلٌّ وزيت ، ثلاث مستويات ، المستوى الراقي ، والمستوى الوسط ، والمستوى المتدنِّي ، وفي هذا بلاغ ، قلت له : أما تعجبك نفسُك ؟ قال : قد كان فيَّ شيء من ذلك ، فلما وعظني أبي بصَّرني بحقيقة نفسي ، وصغَّرها عندي ، وحطَّ من قدرها في عيني ، فنفعني اللهُ عزوجل بذلك ، فجزاه اللهُ من والدٍ خيرا ، فقعدتُ ساعة أحدِّثه ، وأستمتع بمنطقه ، فلم أرَ فتًى كان أجمل وجهًا ، ولا أكمل عقلا ، ولا أحسن أدبا منه على حداثة سنِّه ، وقلَّة تجربته ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلامٌ فقال : - هنا دخلنا في عتبه - ميمون جالسٌ ، ولا توجد مشكلة ، تواضع على تقشُّف على دخل حلال على أكل معتدل ، على عقل ، على ورع ، و لا مشكلة موجودة ، رجل متَّعظ بكلام والده و مستفيد ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلام و قال : أصلحك اللهُ قد فرغنا ، فسكت ، فقلت : ما هذا الذي فرغوا منه ؟ قال : الحمام ، قلتُ : و كيف، قال : أخلوه لي ، من الناس طبعا ابن خليفة ، أفرغوه ، قلتُ : لقد كنت وقعت من نفسي موقعا عظيما ، حتى سمعت هذا الآن ، فذُعِر و استرجع و قال : و ما في ذلك يا عمُّ - يرحمك الله - ماذا فعلت ؟ قلت : الحمام لك ؟ قال : لا ، قلت : فما دعاك أن تخرج الناسَ منه ؟ كأنك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم ، وأن تجعل لها قدرًا يعلو على أقدارهم ؟ من أنت حتى يخرج الناسُ من الحمام من أجلك ؟ ثم إنك تؤذي صاحبَ الحمام ، في غلَّة يومه ، و تُرجع من أتى حمَّامه خائبا ، الحمَّام يسع مثلا عشرين شخصا ، دخلت وحدك أنت ، الغلة قلَّت ، أحدهم أتى قاصدا الحمام ، ثم هو مغلق محجوز ، كلام دقيق ، قال : أما صاحب الحمام فأنا أرضيه ، وأعطيه غلَّة يومه كلَّها ، لا مشكلة ، قلتُ : هذه نفقة سرف خالطها كِبرٌ ، و ما يمنعك أن تدخل الحمام مه الناس وأنت كأحدهم ؟ قال : يمنعني من ذلك أن طائفة من رعاع الناس بغير أُزُر فأكره رؤيةَ عوراتهم ، وأكره أن أجبرهم على وضع الأُزر فيأخذون ذلك عليَّ على أنه اقتدارٌ مني عليهم بسلطان الذي أسأل الله أن يخلِّصنا منه كفافا لا لنا ولا علينا ، فعِظني رحمك الله عظةً أنتفع بها"، ماذا أفعل ؟ واجعلْ لي مخرجا من هذا الأمر ، قلت : انتظِر حتى يخرج الناسُ من الحمام ليلا و يعودوا إلى بيوتهم ثم ادخله وحدك ، قال : لا جرم ، لا أدخله نهارا بعد اليوم ، ولولا شدَّة برد هذه البلاد ما دخلته أبدا " ، لكن اضطرب وشعر أنه هناك غلطة كُشِفت ، ثم أطرق قليلا كأنه يفكِّر في أمر ، ثم رفع راسه إليَّ ، وقال : أقسمتُ عليك لتطوِينَّ هذا الخبرَ عن أبي ، إني أكره أن يظلَّ ساخطا عليَّ " يمكن ألاّ تبلِّغ والدي هذا الموضوع ، وإني لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه " ، قال ميمون : فأردتُ بعد ذلك أن أسْبِر عقلَه فقلت له : إن سألني أميرُ المؤمنين ، هل رأيتَ منه شيئا فهل ترضى ليَ أن أكذب عليه ؟ قال : لا ، معاذ الله ، و لكن قل له : رأيتُ منه شيئا فوعظتُه و كبَّرتُه في عينه فسارع في الرجوع عنه ، فإن أبي لا يسألك عن كشف ما لم تظهره له ، قل له : هناك موضوع شاهدته ووعظته واستفاد ، وانتهى الأمر ، أرأيتم إلى هذا الخوف الشديد ، لأنه حجز حمَّاما له وحده في النهار ، قال : لأن الله جل وعز قد أعاذه من البحث عما استتر ، قال ميمون: فلم أرَ والدا قط ولا ولدا مثلهما يرحمهما اللهُ عزوجل".
هذا هو عبد الملك بن عبد العزيز ، وإن كانت قصَّةً قصيرة إلا أن فيها دلالات كثيرة ، والعبرة أن تربَّي ابنَك على طاعة الله ، وعلى التواضع ، وعلى خفض الجناح للمؤمنين ، ألم يقل الله عزوجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image004.gif
[سورة الشعراء]
طالب عفو ربي
27-04-2009, 08:54 PM
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سير التابعين رحمهم الله تعالى ، والتابعيُّ اليوم هو عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز .
أيها الإخوة الكرام ؛ في هذه القصة دلالات كثيرة ، وتُعدُّ هذه القصة نموذجا من النماذج التي يمكن أن تُّعدَّ منهجا للمؤمنين ، فما كاد التابعيُّ الجليل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض ترابَ قبر سلفه سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية ، وقد توفِّي ودُفن ، وما إن نفض عمرُ بن عبد العزيز يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك حتى سمع للأرض من حولـه رجَّة، فقال : ما هذه ؟ قالوا : هذه مراكبُ الخلافة يا أمير المؤمنين ، هو الذي جاء بعد سليمان ، هذه مراكب الخلافة ، قد أُعِدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّج الذي نهكه التعبُ ، وأذبله السَّهرُ : مالي ولها ، طبعا هذا ماذا يعني ؟ هناك حقائق ، وهناك مظاهر ، والحقائق أهمُّ من المظاهر ، الحقائق أن يُرضيَ الإنسانُ ربَّه ، وأن يكون في طاعة الله، ولكن المظاهر لا نهاية لها ، وهذه المظاهر تنتهي عند الموت ، ماذا تنفع صاحبها ، لذلك أولئك الذين يتعلَّقون بالمظاهر هؤلاء خاسرون ، لأن الموت ينهي تلك المظاهر، ويواجهون عملهم إمَّا الذي فيه تقصير ، وإما الذي فيه إساءة ، أي الذي فيه عدوان ، ولو أن أهل الأرض جميعا من دون استثناء أثنوا عليك ، ولم يكن اللهُ راضيًا عنك فأنت أكبر خاسر ، ولو أن أهل الأرض جميعا سخطوا عليك وأنت في مرضاة الله فأنت الرابح ، لذلك ابتغوا الرِّفعة عند الله ، لقد رأى مظاهر فخمة جدًّا ، ولكنه قال ببساطة : مالي و لها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
الحقيقة أيها الإخوة أنّ الإنسان بحاجة إلى السعادة ، شاء أم أبى ، إما أن يستقيها من خارجه، وإما أن تنبع من داخله ، فحينما يكون في مرضات الله عزوجل تنبع من داخله ، وحينما لا يكون في مرضات الله يبحث عنها من خارجه ، يبحث عنها في الطعام ، وفي البيت الفخم وفي المركبة الفارهة ، وفي الجاه العريض ، وفي مُتع الأرض ، لكن حينما يكون في مرضات الله فهذه السعادة تنبع من ذاته ، لذلك لا يعبأ المخلِصُ كثيرا بهذه المباهج ، ولا تلك المظاهر ، إنها لا تعني عنده شيئا ، ولا تقدِّم ولا تؤخَّر ، أنت بين الحقائق وبين المظاهر ، من قُذِف في قلبه بنور ربَّاني يرى بهذا النور الحقائق ، فلا ينخدع بتلك المظاهر ، نحن ما الذي يهلكنا ؟ المظاهر، فلو دخلت إلى البيوت ما الذي يجعل الخلاف بين الزوجين ؟ المظاهر ، هي تريد المظاهر ، ودخله لا يسمح له بذلك ، لقد دقَّت المظاهرُ رقابَ الرجال ، و أحيانا لا أقول : افعلوا هذا ، لكن تجلس في بيت بسيط جدا ، على الأرض ، هناك أثاث لغرفة الضيف يكلَّف أربعمائة ألف ، وأحيانا أجلس في غرفة ضيوف فيها فُرش من الإسفنج ، لا يزيد سمكُها عن أربعة سنتيمتر ، مغلَّفة بقماش رخيص ، فإذا هناك السرور ، و هناك المحبَّة لله ، وهناك الشعور بالقرب من الله ، ومهما كان الأثاثُ بسيطا فإنّه يسعدُك ، و في حالة البعد عن الله عزوجل مهما كان البيتُ فخما و الأثاث وفيرا فلا يسعدك ، فهنيئا لمن عرف الحقائق ، وهنيئا لمن وضع يده على سرِّ السعادة ، وهنيئا لمن وضع يده على حقيقة حياة الإنسان .
في الدنيا مظاهر وحقائق ، فتعليقي على هذا الكلمة ، قال : ما هذا ؟ قالوا : إنها مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين ، قد أُعدَّت لك لتركبها ، فنظر إليها عمرُ بطرف عينيه ، وقال بصوته المتهدِّجِ الذي نهَكه التعبُ وأذبَله السَّهرُ : ما لي ولها ، نحُّوها عني بارك الله عليكم .
ذكرتُ هذه القصَّة مراتٍ عديدة ، وسمعتُ أن قريةً من قرى غوطةِ دمشقَ اتَّفق وجهاؤُها على أن الخاطب لا يُكلَّف إلا بخاتم وساعة ، كلُّ هذه المظاهر تحتَ أقدامهم ، فيسَّروا بذلك الزواجَ ، والآن ما الذي يقف عقبةً أمام زواجِ الشباب ؟ إنها المظاهرُ ، طلباتُ الأهل : بيتٌ مساحته كذا ، بالموقع الفلاني ، وغرفةُ الضيوف من النوع كذا ، غرفةُ النوم من النوع كذا ، ويجب أن يُلبِس مخطوبتَه كذا وكذا وكذا ، فتكلَّف الخاطب ثلاثةِ ملايين ، اتركوا ابنتكم عندكم ، ومَن الذي أشقى البيوتَ ؟ المظاهر ، لو أخلصنا لله عزوجل ، واتَّصلنا به لنبعت السعادةُ من داخلنا ، هذا الينبوع من السعادة يغنينا ويزهِّدنا بمصادر اللذة الخارجية ، قال : نحُّوها عني بارك الله عليكم ، وقرِّبوا لي بغلتي ، فإن لي فيها بلاغا ، ثم إنه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحبُ الشُّرَط ليمشي بين يديه ، ومعه ثُلةٌ من رجاله اصطفُّوا عن يمينه وعن شماله ، وفي أيديهم حِرابهم اللاَّمعة ، فالتفت إليه ، وقال : مالي بك وبهم حاجة ، صاحب الشُّرطة ورجاله والأسلحة البيضاء اللمَّاعة ، اصطفَّ هؤلاء في نسقٍ بهيج ، قال : ما لي بك وبهم حاجة ، فما أنا إلا رجل من المسلمين ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ *
[رواه ابن ماجه]
قال : فما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون .
سأقول لكم هذه الحقيقة أيها الإخوة ، إذا كان الإنسانُ بسيطا متواضعا طبيعيا من دون تكلُّف، ومن دون أُبَّهة ، ومن دون عظمة ، ومن دون كهنوت ، ومن دون هيئة ، ومن دون موكب ضخم ، هل تقلُّ محبُّتُه في قلوب الناس ؟ لا واللهِ ، بل ربما زادت ، قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين ، أغدو كما يغدون ، وأروح كما يروحون ، ثم سار وسار الناسُ معه حتى دخل المسجدَ، ونودِي للصلاة ؛ الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة ، فتسايل الناسُ على المسجد من كل ناحية ، فلما اكتملت جموعُهم قام فيهم خطيبا ، سيدنا عمر بن عبد العزيز قام في هؤلاء الجموع خطيبا ، وهم في المسجد الجامع ، فحمد اللهَ ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر- ماذا رآه ؟ بلاءً ، تذكرون أن سيدنا عمر بن الخطاب كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصَّته ، وقال : إني قد أمرتُ الناسَ بكذا ، و نهيتهم عن كذا ، و الناسُ كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايمُ اللهِ لا أوتينَّ بواحد وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني " - فصارت القرابةُ من عمر مصيبةً ، وهذا التابعي الجليل خامس الخلفاء الراشدين يقول :" أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر " ألم يقل سيدنا عمر:" و الله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني اللهُ عنها ، لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ أيها الناس إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر ، على غير رأيٍ مني ، ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين" ، يبدو أن سليمان بن عبد الملك الذي كان قبله خليفة أوصى له بالخلافة ، فقال : هذا الأمر لم يكن لي رأيٌ فيه ، ولم أطلبه ، ولا كان على مشورة من المسلمين ، وإني خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه " ، ليس عن مشورة ، ولا عن طلب ، ولا عن رأي ، إنما جاء هذا في وصية سليمان بن عبد الملك ، إذًا أنا خلعتُ هذه الخلافة من عنقي ، وأنتم أحرار في اختيار خليفتكم ، فصاح الناسُ صيحةً واحدة : قد اخترناك يا أمير المؤمنين ، ورضينا بك ، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة ، أي تولَّ أمرنا باليُمن والبركة ، فلما رأى أن الأصوات قد هدأت ، والقلوب قد اطمأنت ، حمد اللهَ كرَّة أخرى ، وأثنى على محمد بن عبد الله عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وطفِق يحضُّ الناسَ على التقوى ، ويزهِّدهم في الدنيا ، ويرغِّبهم في الآخرة ، ويذكِّرهم بالموت بلهجة تستلين القلوب القاسية ، وتستدرُّ الدموع العاصية ، و تجرح من فؤاد صاحبها ، فتستقرُّ في أفئدة السامعين .
إخواننا الكرام ؛ إذا أحبَّ اللهُ عبدَه ألقى حبَّه في قلوب الناس ، لذلك الناسُ عندهم حاسَّة سادسة ، يعرفون بفطرتهم الصادق من الكاذب ، والمخلص من الخائن ، والورِع من المتفلِّت ، والذي ينفعهم مِن الذي يضرُّهم ، يعرفون هذا بفطرتهم ، لذلك أجمع الناسُ أن يختاروا سيدَنا عمر بن عبد العزيز خليفةً للمسلمين عن بيعة ، لا عن وصيَّة ، بعد سليمان بن عبد الملك ، ثم رفع صوتَه المتعَب حتى أسمع الناسَ جميعا ، وقال : أيها الناس من أطاع اللهَ وجبتْ طاعتُه ، ومَن عصى اللهَ فلا طاعة له على أحد ، أيها الناسُ كما قال الصدِّق : أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم ، ثم نزل من المنبر ، واتَّجه إلى بيته ، وأوى إلى حجرته ، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد ذلك الجُهد الجهيد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة .
الآن انتهينا من سيدنا عمر بن عبد العزيز ، لأن الموضوع ليس عنه ، بل الموضوع عن ابنه عبد الملك ، وشيء رائع جدا ، بل شيء لا يُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان عظيما بدينه ، وعلمه، وورعه ، وأن يكون ابنُه على شاكلته ، فمِن سعادة المرء أن يشبه الابنُ أباه .
الآن دقِّقوا في القصة التالية ؛ سيدنا عمر بن عبد العزيز ما كاد يسلم جنبَه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنُه عبد الملك ، وكان يومئذ يتَّجه نحو السابعة عشرة من عمره ، وقال : ما تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟
والآن هناك نقطة دقيقة ، يقول الناسُ : أزهد الناس بالعالم أهلُه وجيرانه ، يكون للإنسان شأن كبير ، ولكن في بيته يُنادى باسمه ، ولكن هذا الخليفة العظيم ربَّى أولادَه تربية عالية ، حيث إنّ ابنه إذا أراد أن يخاطبه في البيت يقول له : يا أمير المؤمنين ، وهذا من الأدب ، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام رأى شابا يمشي أمام شيخ فنهاه ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام ، فقال للغلام : مَنْ هَذَا ؟ قال : أبي ، قال : فَلا تَمْشِ أمامَهُ ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَهُ ، وَلا تَدْعُهُ باسْمِهِ *
قال النوويّ : قلت : معنى لا تَسْتَسِبَّ له : أيْ لا تفعل فعلاً يتعرّض فيه لأن يسبّك أبوك زجراً لك وتأديباً على فعلك القبيح .
[ذكره النووي في الأذكار]
قال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أيْ بنيَّ أريد أن أغفُوَ قليلا ، فلم تبقَ في جسدي طاقة ، يقال لك : عُصرت عصرا ، هل هناك شيء خلاف الأصول ؟ إنسان يومان أو أكثر في عمل مستمر وشاق ، أراد أن يغفو قليلا ، فقال ابنُه : أتغفو قبل أن تردَّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني قد سهرتُ البارحة في عمِّك سليمان ، وإني إذا حان الظهرُ صليتُ بالناس ، ورددتُ المظالم إلى أهلها إن شاء الله ، قال ابنُه : ومَن لك يا أمير المؤمنين أن تعيش إلى الظهر ؟ هل أنت ضامن ؟ يكون الواحد معلَّق في رقبته آلاف الحقوق ، ومع ذلك يشخر و ينام ، آلاف الحقوق ، آلاف الذمم ، قال له : وهل تضمن أن تعيش إلى الظهر ؟ فألهبت هذه الكلمات عزيمةَ عمر ، وأطارت النومَ من عينيه ، وبعثت القوةَ والعزم في جسده المتعب ، وقال : أُدنُ مني يا بني ، فدنا منه فضمَّه إليه ، وقبَّل ما بين عينيه ، وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يُعِينُنِي على ديني " .
واللهِ أيها الإخوة ، الذي عنده زوجة توقظه للصلاة ، لا بدَّ أن يذوب شكرا لله عزوجل ، والذي عنده ابنٌ فيه ورع ، عنده ورع على أخواته ، لا يحب المعصية ، هذا من سعادة المرء ، تأثَّر تأثرا لأن ابنه لم يسمح له أن ينام ساعة ، قبل أن يردَّ المظالم إلى أهلها ، ثم قام وأمر أن ينادى في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها "
الآن بدأنا في القصة الثانية ؛ فمَن عبد الملك هذا ؟ وما خبرُ هذا الفتى الذي قال عنه الناسُ: إنه هو الذي أدخل أباه في العبادة ، و سلكه مسلك الزهادة " ؟ تعالوا أيها الإخوة نلمَّ بقصة هذا الفتى الصالح من أولها .
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، لي قريب ذهب إلى أمريكا عند أخيه ، قال لي: البيتُ المقابل ؛ الفيلا المقابلة فيها شُرفة ، وفيها ألبسة أطفال موضوعة على الشرفة ، فيبدوا بعد حين ، أن هناك صداقة وعلاقة بين الجارين ، فزار هذا الضيفُ من سورية جارَ أخيه ، ومن حديث إلى حديث سأله : كم ولدا عندك ؟ فقال : ليس عندي أولاد ، فقال له : عجيب ، إني رأيت بعيني ألبسة أولاد صغار في الشرفة ، قال : هذه ألبسة الكلاب ، ليس عندي أولاد ، سبحان الله ، الابن في هذه البلاد عبءٌ على أبيه ، لأن هذا الابن ليس لأبيه ، أما طريق المنهج الإسلامي فأقرب شيء إلى الأب ابنُه ، لذلك ربُّنا عزوجل ينتظر من المؤمن بعد عرفات أن يذكر كما يذكر أباه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image001.gif
[سورة البقرة]
والعرب في الجاهلية إذا أرادوا أن يسبُّوا إنسانا يقولون : لا أبا لك ، قال الشاعر زهير بن أبي سُلمى :
***
سئمت تكاليف الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حولاً لا أبَا لك يسأمِ
***
كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشر ولدا ، فيهم ثلاث بنات ، وكانوا جميعا على حظٍّ موفور من التقى ، ومقام كبير من الصلاح ، لكنَّ عبد الملك كان واسطة العقد ، و كوكبة إخوته، فقد كان أديبا ، وكان أريبا ذكيا ، له سنُّ الفتيان ، وعقلُ الكهول ، وأروع ما في الشاب عقلُه الكبير ، وأروع ما في الشاب ورعُه ، وأروع ما في الشاب معرفتُه ، وأروع ما في الشاب أدبُه، وأروع ما في الشاب عفَّته ، وأروع ما في الشاب توبتُه ، وأروع ما في الشاب حبُّه لله عزوجل، وربُّنا عزوجل يعجب لهذا فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
[رواه أحمد]
يعجب ربُّنا عزوجل ، إن الله يباهي الملائكة بالشاب المؤمن ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ *
[رواه أحمد]
ثم إنه نشأ في طاعة الله جل وعزَّ ، منذ نعومة أظفاره ، فكان أقربَ الناس سمتًا إلى آل الخَطَّاب عامة ، وأشبههم بعبد الله بن عمر ، خاصة في تقواه لله ، وتخوُّفه من معاصيه ، وتقرُّبه إليه بالطاعة ، حدَّث ابنُ عمَّه عاصمٌ فقال : وفدتُ على دمشق ، فنزلتُ على ابن عمي عبد الملك ، وهو عازِب ، فصلينا العشاء ، و أوى كلٌّ منا إلى فراشه ، فقام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه ، وأسلم كلٌّ منا جفنيه إلى الكرى ، ثم إني استيقظتُ في الليل ، فإذا عبد الملك قائم يصلِّي في العتمة ، وهو يقرأ قوله جل و علا - و اللهِ الآية دقيقة جدا - قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image002.gif
[سورة الشعراء]
بالمناسبة ؛ في سورة الأعراف فيما ما أذكر بعد أن تكلَّم ربُّنا عزوجل عن قصص الأنبياء، وكيف أن أقوامهم كذَّبوهم ، وكيف أن الله أهلكهم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image003.gif
[سورة الأعراف]
هذه الآية تفيد أن ربنا عزوجل أوَّلاً : يرسل الرسول ، وثانيا : يسوق الشدائد و ثالثا : يبدِّل السيئة بالحسنة ، ورابعا : يقصم ، وهذا قانون ، أولا : دعوة سلمية فإذا لم يستجِبْ للحسنى صبَّ عليه الشدائد ، وإذا ما تضرَّع فتح عليه بالخيرات ، فإذا لم يشكر قصَمه بإهلاك وعذاب ، هذا قانون ، وهذا القانون ينطبق على الأمم ، و الشعوب ، وعلى الأفراد ، واللهُ عزوجل يسوق إليك مَن يسمعك الحقَّ ، فإن استجبت انتهى كلُّ شيء ، وإن لم تستجب أتَت الشدائد ، وإن تضرَعت نجوت من الشدائد ، وإن لم تتضرع أتى الرخاءُ الاستدراجي ، وإن لم تشكر أتى القصمُ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image002.gif
[سورة الشعراء]
قال ابنُ عمه عاصم : فراعني منه أنه كان يردِّد الآيةَ ، وينشج نشيجا مكبوتا يقطِّع نِياطَ القلوب ، والحقيقة أنّ صلاة الليل صلاة الإخلاص ، أنت قد تؤدِّي الفرائض خوفا من الله عزوجل، ولكنك لا تؤدِّي النوافل إلا حبًّا لله عزوجل ، تماما كالذي يؤدِّي الضريبة خوفا من المضاعفة أو العقاب ، لكن الذي يتبرَّع هذا دليل محبَّة ، وتأدية الضريبة دليل خوف ، لكن التبرُّع دليل محبَّة ، فأداء الزكاة دليل خوف ، وأداء الصدقة دليل محبة ، وأداء الصلوات الخمس دليل خوف ، وصلاة الليل دليل محبة ، قال : وكان كلما فرغ من الآية عاد إليها حتى قلتُ : سيقتله البكاءُ ، فلما رأيتُ ذلك قلتُ : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، كما يفعله المستيقظ من النوم، لأقطع عليه البكاءَ ، فلما سمعني سكتَ ، فلم أسمع له حسًّا "
تتلمذ هذا الفتى العمري على أكابر علماء عصره ، حتى تملَّى من كتاب الله ، و تضلَّع بحديث رسول الله ، وتفقَّه في الدين ، فغدا على حداثة سنِّه يزاحم الطبقةَ الأولى من فقهاء أهل الشام في زمانه ، فقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز - الآن أحد النقاط المضيئة في حياة هذا التابعي الجليل - فقدْ رُوي أن عمر بن عبد العزيز جمع قرَّاءَ الشام وفقهائها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي ، فما ترون فيها ؟ هو تسلَّم الخلافة قبل أيام ، وهناك مظالم سابقة ، فاستعان بالفقهاء والعلماء ، وبالمناسبة كان سيدنا عمر بن عبد العزيز له مستشار ومرافق اسمُه عمر بن مزاحم ، اختاره من بين العلماء الكبار ، قال : يا عمر كن معي دائما فإن رأيتني ضللتُ فهُزَّني هزًّا شديدا و خذُ بتلابيبي و قل لي : اتَّقِ اللهَ يا عمر فإنك ستموت ، جمع فقهاءَ الشام وقرَّاءها ، وقال : إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي فما ترون فيها ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إن ذلك أمر كان في غير ولايتك ، ليس لك علاقة ، قضية سابقة ، وأن وزرَ هذه المظالم على من غصبها ، فطرة سليمة ، فلم يرتح إلى ما قالوا ، أحيانا الإنسان يسمع أول فتوى لصالحه ، وثاني فتوى ، وثالث فتوى ، ورابع فتوى ، وخامس فتوى ، ويقول : لستُ مرتاحا ، ما هو الدليل ؟ فطرة نقيَّة طاهرة ، فعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْعٌ فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ فَقُلْتُ أَنَا وَابِصَةُ دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ فَقَالَ لِي ادْنُ يَا وَابِصَةُ ادْنُ يَا وَابِصَةُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَقَالَ يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي قَالَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ قُلْتُ نَعَمْ فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ قَالَ سُفْيَانُ وَأَفْتَوْكَ *
[رواه الترمذي]
اسمعوا هذه الكلمة أيها الإخوة : لو استطعتَ أن تنتزع من فم النبيِّ عليه الصلاة و السلام فتوى لصالحك ، ولم تكن محِقًّا فلن تنجَو من عذاب الله ، والدليل ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا *
[رواه البخاري]
لو أن القاضي الذي حكم لك هو رسولُ الله ، ولم تكن محقًّا فلن تنجوَ من عذاب الله ، فالتفتَ إليه أحدُهم ممّن كان يرى غيرَ رأيهم ، وقال : يا أميرَ المؤمنين ابعث إلى عبد الملك - ابنُه - فإنه ليس دونَ من دعوتَ علمًا أو فقها أو عقلا ، أي هؤلاء الذين دعوتهم علماء وفقهاء ، ولكن ابنَك ليس أقلَّ منهم فقها ولا علما ولا عقلا ، طبعا دُعِي ، فلما دخل عليه عبدُ الملك قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمِّنا من الناس ظلما ، وقد حضر أصحابُها وجعلوا يطلبونها ، وقد عرفنا حقَّهم فيها ؟ فقال عبد الملك لأبيه : أرى أن تردَّها إلى أصحابها ما دمتَ قد عرفت أمرها - هذا هو الحكم - وإنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " هذا كلام عبد الملك ، " أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها ، و إنك إن لم تفعل كنتَ شريكا للذين أخذوها ظلما " فانبسطتْ أساريرُ عمر ، و ارتاحت نفسُه ، وزال عنه همُّه ، ولقد آثر الفتى العمري المرابطة على الثغور ، و الإقامة في إحدى المدن القريبة منها على البقاء في بلاد الشام .
الآن مشهد جديد في القصة ؛ عبد الملك بن عبد العزيز آثر أن يبقى على الثغور - على الحدود - في قرية على حدود البلاد ، عن أن يبقى في بلاد الشام ، فمضى إليها ، وخلَّف وراءه دمشق ذات الرياض النظرة ، والظلال الظليلة ، والأنهار السبعة ، وكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه خائفًا عليه من نزعات الشيطان ، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب ، حريصا على أن يعلم من أمره كل ما يجوز له أن يعلم ، وكان لا يغفل عن ذلك أبدا ، ولا يهمله .
حدَّث ميمونُ بن مهران وزيرُ عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره فقال : دخلتُ على عمر بن عبد العزيز ، فوجدتُه يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك ، يعظُه فيها ، وينصحه ، ويبصِّره ، ويحذِّره ، وينذره ، ويبشِّره ، موعظة ونصيحة و تبصير وتحذير وإنذار وتبشير ، وكان مما جاء فيها قولُه : أما بعد ؛ فإنّ أحقَّ مَن وَعَى عنِّي وفَهِم قولي لأنت - أحسن أولاده - وإنّ اللهَ وله الحمدُ قد أحسن إلينا في صغير الأمر و كبيره ، فاذكُر يا بنيَّ فضلَ الله عليك وعلى والديك ، وإياك و الكِبر والعظمة ، فإنها من عمل الشيطان ، وهو للمؤمنين عدوٌّ مبين ، واعلم أني لم أبعث إليك بكتابي هذا لأمرٍ بلغني عنك ، فما عرفتُ من أمرك إلا خيرا ، غير أنه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بنفسك ، ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلى ما أكره لرأيتَ مني ما تكره " ، رسالة شديدة عميقة ، من أبٍ عدْلٍ ورِعٍ إلى ابنه ، قال ميمونُ : ثم التفت إليَّ عمرُ وقال : يا ميمون إن ابني عبد الملك قد زُيِّن في عيني ، وإني أتَّهم نفسي في ذلك ، وأخاف أن يكون حبِّي له قد غلب على علمي به - يا لطيف - كلمات تُكتب بماء الذهب ، " أخاف أن يكون حبي له قد غلب على علمي به ، و أدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أبناءهم " يخاف هذا الخليفة الراشد أن يغلب حبُّه لابنه على علمه به ، ويخاف أن يكون كبقيَّة الآباء الذين يغفلون عن عيوب أولادهم ، قال له : فَسِرْ إليه واسبِرْ غورَه ، وانظُر هل ترى فيه ما يشبه الكبرَ و الفخر فإنه غلام حدَثٌ و لا آمنُ عليه الشيطان " رغم كل هذا الصلاح والتقوى والورع وإيصال المظالم إلى أهلها ، رغم كل ذلك لم ترتَح نفسُه ، أراد أنْ يرسل مبعوثَه الشخصي ليقف على أمر ابنه في الثغور ، قال ميمون : فشددتُ الرحالَ إلى عبد الملك حتى قدمتُ عليه فاستأذنتُ ، ودخلتُ، فإنه غلام في مقتبل العمر ، رَيَّانُ الشباب ، بهيُّ الطَّلعة ، جمُّ التواضع ، قد جلس على حاشية بيضاء فوق بساط من شَعر ، فرحَّب بي ثم قال : قد سمعتُ أبي يذكرك بما أنت أهلٌ له من الخير ، و إني لأرجو أن ينفع اللهُ بك ، فقلتٌ له : كيف تجدك ؟ فقال : بخير من الله عزوجل و نعمة ، غير أني أخشى أن يكون غرَّني حسنُ ظن والدي بي ، وأنا لم أبلغ من الفضل كل ما يظنُّ ، وإني لأخـاف أن يكون حبُّه لي قد غلبه على معرفته بي فأكون آفةً عليه ، فعجبتُ من اتِّفاقهما – خواطر متواردة – كيف حالك يا ابني ؟ قال له : أنا أخاف أن تكون محبة أبي أغلبَ من علمه بي فأكون آفة عليه ، فعجبت من اتِّفاقهما ، ثم قلتُ له : أعلمني من أين معيشتُك ؟ من أين تأكل ؟ سؤال غريب ، ابنُ خليفة المسلمين ، من أين تأكل ، قال : من غلَّة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه ، و دفعتُ ثمنها من مالٍ لا شبهة فيه ، فاستغنيتُ بذلك عن فيء المسلمين " عن الراتب الرسمي قال : فما طعامُك ؟ مكلَّف بمهمة ، تحقيق ، قال: ليليةً لحمٌ ، وليلةً عدسٌ وزيت ، وليلة خلٌّ وزيت ، ثلاث مستويات ، المستوى الراقي ، والمستوى الوسط ، والمستوى المتدنِّي ، وفي هذا بلاغ ، قلت له : أما تعجبك نفسُك ؟ قال : قد كان فيَّ شيء من ذلك ، فلما وعظني أبي بصَّرني بحقيقة نفسي ، وصغَّرها عندي ، وحطَّ من قدرها في عيني ، فنفعني اللهُ عزوجل بذلك ، فجزاه اللهُ من والدٍ خيرا ، فقعدتُ ساعة أحدِّثه ، وأستمتع بمنطقه ، فلم أرَ فتًى كان أجمل وجهًا ، ولا أكمل عقلا ، ولا أحسن أدبا منه على حداثة سنِّه ، وقلَّة تجربته ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلامٌ فقال : - هنا دخلنا في عتبه - ميمون جالسٌ ، ولا توجد مشكلة ، تواضع على تقشُّف على دخل حلال على أكل معتدل ، على عقل ، على ورع ، و لا مشكلة موجودة ، رجل متَّعظ بكلام والده و مستفيد ، فلما كان آخرُ النهار أتاه غلام و قال : أصلحك اللهُ قد فرغنا ، فسكت ، فقلت : ما هذا الذي فرغوا منه ؟ قال : الحمام ، قلتُ : و كيف، قال : أخلوه لي ، من الناس طبعا ابن خليفة ، أفرغوه ، قلتُ : لقد كنت وقعت من نفسي موقعا عظيما ، حتى سمعت هذا الآن ، فذُعِر و استرجع و قال : و ما في ذلك يا عمُّ - يرحمك الله - ماذا فعلت ؟ قلت : الحمام لك ؟ قال : لا ، قلت : فما دعاك أن تخرج الناسَ منه ؟ كأنك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم ، وأن تجعل لها قدرًا يعلو على أقدارهم ؟ من أنت حتى يخرج الناسُ من الحمام من أجلك ؟ ثم إنك تؤذي صاحبَ الحمام ، في غلَّة يومه ، و تُرجع من أتى حمَّامه خائبا ، الحمَّام يسع مثلا عشرين شخصا ، دخلت وحدك أنت ، الغلة قلَّت ، أحدهم أتى قاصدا الحمام ، ثم هو مغلق محجوز ، كلام دقيق ، قال : أما صاحب الحمام فأنا أرضيه ، وأعطيه غلَّة يومه كلَّها ، لا مشكلة ، قلتُ : هذه نفقة سرف خالطها كِبرٌ ، و ما يمنعك أن تدخل الحمام مه الناس وأنت كأحدهم ؟ قال : يمنعني من ذلك أن طائفة من رعاع الناس بغير أُزُر فأكره رؤيةَ عوراتهم ، وأكره أن أجبرهم على وضع الأُزر فيأخذون ذلك عليَّ على أنه اقتدارٌ مني عليهم بسلطان الذي أسأل الله أن يخلِّصنا منه كفافا لا لنا ولا علينا ، فعِظني رحمك الله عظةً أنتفع بها"، ماذا أفعل ؟ واجعلْ لي مخرجا من هذا الأمر ، قلت : انتظِر حتى يخرج الناسُ من الحمام ليلا و يعودوا إلى بيوتهم ثم ادخله وحدك ، قال : لا جرم ، لا أدخله نهارا بعد اليوم ، ولولا شدَّة برد هذه البلاد ما دخلته أبدا " ، لكن اضطرب وشعر أنه هناك غلطة كُشِفت ، ثم أطرق قليلا كأنه يفكِّر في أمر ، ثم رفع راسه إليَّ ، وقال : أقسمتُ عليك لتطوِينَّ هذا الخبرَ عن أبي ، إني أكره أن يظلَّ ساخطا عليَّ " يمكن ألاّ تبلِّغ والدي هذا الموضوع ، وإني لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه " ، قال ميمون : فأردتُ بعد ذلك أن أسْبِر عقلَه فقلت له : إن سألني أميرُ المؤمنين ، هل رأيتَ منه شيئا فهل ترضى ليَ أن أكذب عليه ؟ قال : لا ، معاذ الله ، و لكن قل له : رأيتُ منه شيئا فوعظتُه و كبَّرتُه في عينه فسارع في الرجوع عنه ، فإن أبي لا يسألك عن كشف ما لم تظهره له ، قل له : هناك موضوع شاهدته ووعظته واستفاد ، وانتهى الأمر ، أرأيتم إلى هذا الخوف الشديد ، لأنه حجز حمَّاما له وحده في النهار ، قال : لأن الله جل وعز قد أعاذه من البحث عما استتر ، قال ميمون: فلم أرَ والدا قط ولا ولدا مثلهما يرحمهما اللهُ عزوجل".
هذا هو عبد الملك بن عبد العزيز ، وإن كانت قصَّةً قصيرة إلا أن فيها دلالات كثيرة ، والعبرة أن تربَّي ابنَك على طاعة الله ، وعلى التواضع ، وعلى خفض الجناح للمؤمنين ، ألم يقل الله عزوجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-6_files/image004.gif
[سورة الشعراء]
طالب عفو ربي
27-04-2009, 08:59 PM
الجزء الاول
عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثالث عشر من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، والتابعيّ اليوم هو سيدنا عمر بن عبد العزيز ، الذي عدَّه المؤرخون من أهل العلم العاملين ، ومن الخلفاء الراشدين ، وما أروعها أن تلتقي الخصائص الدينية بالخصائص الزمنية كما يقولون ، وما أروع الإنسان أن يكون عالماً ، وأن يكون عاملاً ، وأن يتفوق في الدنيا ، وأن يتفوق في الآخرة .
يقول هذا الخليفة العظيم : تاقت نفسي للإمارة ، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة ، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة .
معنى ذلك : أن ليس في حياة المؤمن إثنينية ، أعماله ، مناصبه ، تجارته ، بيته ، دخله ، إنفاقه ، طاقاته ، أفكاره ، أدبه ، قلمه ، مطالعاته ، ثقافته ، لهوه ، كلها تَصُبُّ في هدف واحد ، "تاقت نفسي للإمارة ، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة ، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة " ، يغلب على الظن أنه تاقت نفسه للإمارة ليصل بها إلى الجنة ، وتاقت نفسه للخلافة ليصل بها إلى الجنة ، والدنيا مطيّة المؤمن ، يتخذها وسيلة للتقرب من الله عز وجل .
بالمناسبة هذه الحظوظ التي أتحدث عنها كثيراً ، كلما نِلْتَ منها قسطاً أوفر اتَّسعتْ قدرتُك على العمل الصالح ، واتَّسعتْ بالتالي مسؤوليتُك .
أوضِّح هذا الكلام بمثال ، مخروط ، فكلما صعدت إلى مستوى من الجبل اتسعت دائرة النظر، نحن إذا صعدنا إلى جبل قاسيون نرى الشام ، لكن حينما نركب طائرة ، وترتفع الطائرة أربعين ألف قدم ترى مسافة تزيد عن مائتي كيلو متر بنظرة واحدة ، ورواد الفضاء الذين ركبوا مركبتهم رأوا الأرض بأكملها من هناك ، هذه قاعدة .
كلما ارتفعت في مستوى الحظ الذي منحك الله إياه ، ازدادتْ قدرتك على العمل الصالح ، وازدادتْ مسؤوليتك ، فأحياناً الإنسان القوي بتوقيع يلغي منكرًا ، وبتوقيع يقيم المعروف ، بتوقيع واحد .
تصور معلمَ مدرسةٍ ، أو مدير مدرسة ، أو مدير تربية ، أو وزير تربية ، كلما ارتفعت السلطة اتَّسعت القدرة على الخير ، وبالتالي ازدادت المسؤولية ، فالإنسان الغني بإمكانه أن يحلّ مشاكل عدد كبير من الفقراء ، وكل فقير يرقى به ، فالمال حينما تمتلكه بإمكانك أن تصل به إلى الجنة ، لكن بالمقابل أنت مسؤول عن هذا المال الوفير ، ومسؤولية الغنيِّ أشدُّ من مسؤولية الفقير، وهذا حظ المال .
أمّا حظ السلطة ، فكلما ازددتَ قوةً ازدادتْ قدرتُك على خدمة الخلق ، وازدادتْ بالتالي مسؤوليتك .
العلم : كلما ازداد علمُك ، ازدادتْ قدرتُك على إقناع الناس الدين ، فإن قصَّرتَ ازدادتْ مسؤوليتُك .
العلم قوة ، والمال قوة ، والسلطة قوة ، هذه القُوى الثلاث في الأرض .
عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ *
[ أخرجه مسلم ]
أنـت حينما تتفوق في جانب من جوانب الحياة ، إّما في العلم ، وإمّا في السلطة ، وإمّا في المال ، تزداد قدرتك على العمل الصالح في أشياء غير متاحة لك ، لأنه قد أُتيح لك شيء لا ينافسك عليه أحد ، وهو العلم ، يمكن أنْ يكون كسب المال صعبًا ، ففي الظروف صعبة ليتك تحصل على قوت يومك ، وبالمقابل .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه *
[ رواه أبو يعلى والبزار وزاد : وحسن الخلق ]
ربما كان تحصيل المال شيئًا صعبًا ، وربما كان الوصول إلى مركز قوي صعبًا أيضًا ، أما الشيء المتاح أنْ تطلب العلم ، ولا تنسوا أيها الإخوة أنّ قوة العلم هي أقوى قوة ، والدليل : أقوى أقوياء العالم لا يتحركون إلا باستشارة الخبراء ، ليس هناك إنسان قوي في العالم يتخذ قرارًا إلا بعدما يأخذ رأي الخبراء ، فالذين يحكمون في الحقيقة هم الخبراء ، لذلك الإمام الشافعي حينما فسر قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-13_files/image001.gif
( سورة النساء : 59 ) .
قال : أولي الأمر هم الأمراء والعلماء ، العلماء يعرفون الأمر ، والأمراء ينفذِّون الأمر ، فأن تجمع بين التفوق في الدنيا والتفوق في الدين شيءٌ رائع جداً ، والتفوق في الدنيا ليس للدنيا إطلاقاً، بل من أجل أن تزداد قدرتك على العمل الصالح.
العوام يقولون : ضربة المعلم بألف لو شلفها شلف ، يعني أنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ آلاف مؤلفة من الشقاء ، وأنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ الضالين ، وحينما تكون غنيًّا بإمكانك أن تمسح دموع البائسين ، وحينما تكون قوياً بإمكانك أن تنصف المظلومين ، فشيء جميل جداً أنك بإمكانك أن تنصف المظلوم ، إذا قنعت به ، لذلك علوُّ الهمة من الإيمان ، وباب العلم مفتوح على مصراعيه .
وقد قال بعض خلفاء أمية ينصح أولاده ، قال لهم :
يا أبنائي تعلموا العلم ، فإن كنتم سادة ، في الأصل ، فقتم ، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم ، وإن كنتم سوقةً عِشْتم " ، من السوقة ، أيْ من عامة الناس تعيش بالعلم ، من الطبقة الوسطى تصبح سيداً، وإن كنت في الأصل سيداً تصبح متفوقاً .
أيها الإخوة : العلم أساس أيِّ تقدم ، والحديث عن هذا الخليفة الذي يعد من أهل العلم ، مَن يشبهه ؟ سيدنا صلاح الدين الأيوبي ، كان من العلماء العاملين ، عامل عالم قبل أن يكون قائدًا ، وفاتحً ، وردَّ الصليبيين ، إنه عالم فقيه ، يقرأ القرآن ، ويفهم تفسيره ، ويقرأ الحديث ، وله باع طويل في العلم ، فالحديث عن هذا الخليفة الزاهد خامس الخلفاء الراشدين حديث أطيب من نشر المسك ، وأزهى من قطع الروض ، وسيرته الفذَّة واحة معطارة ، أينما حللت منها ألْفَيْتَ نبتاً طريا ، وزهراً بهيا ، وثمراً جنيا ، وإذا لم يكن في وسعنا أن نستوعب الآن تلك السيرة التي ازدان بها التاريخ ، فإنّ هذا لا يمنعنا أن نقطف من روضها زهرة ، وأن نقبس من نورها ومضة، ذلك لأنه : ما لا يُدرَك كلُّه لا يُتْرَك بعضُه .
هناك صور ثلاثة منتزعة من حياة هذه الخليفة الراشد .
أول صورة : رواها لنا سلمة بن دينار، عالم المدينة ، وقاضيها ، وشيخها ، قال : قدمتُ على خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، وهو بقرية من أعمال حلب ، وكانت قد تقدّمتْ بيَ السنُّ، وبَعُد بيني وبيـن لقائه العهدُ ، يعني منذ أمد طويل لم يره ، فوجدتُه في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه ، لتغيُّر حاله عما عهدتُه عليه يوم كان والياً على المدينة "، ما عرفه لتغيُّر حاله.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام : لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا ، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا ، ولا دخلتم بيتا تستظلون به ، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم وتبكون على أنفسكم *
(الجامع الصغير)
أحيانًا الإنسان يقال له : تعال إلينا بعد يومين ، لنسألك عن بعض الموضوعات ، لا ينام الليل ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، إنسان سيسألك ، وأنت بريء ، ولم تقترف إثماً ، ولم ترتكب جرماً ، ولك صفحة بيضاء ناصعة جداً ، ومع ذلك لا تنام الليل ، ولا تأكل ، تقول : ماذا يريدون مني ، يا ترى ما السؤال ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا ، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا ، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم وتبكون على أنفسكم *
(الجامع الصغير)
أيها الإخوة : قال : قدمت على خليفة المسلمين وهو بقرية من أعمال حلب ، وكانت قد تقدمت بي السن ، وبَعُدَ بيني وبين لقائه العهدُ ، فوجدته في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه لتغيُّر حاله عما عهدته عليه ، يوم كان والياً على المدينة ، فرحّب بي ، وقال : أدنُ مني يا أبا حازم ، فلما دنوتُ منه قلت : ألستَ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، قال بلى ، هذا يعني أنّه تَغَيَّر تغيُّرًا شديدًا ، وهذا أيها الإخوة الحزن المقدس ، وهذا هو القلق المقدس ، وهذا هو الخوف المقدس ، هناك قلق على الدنيا ، وخوف من الفقر ، وخوف من زوال بعض النعم ، وحزن على ما فات من الدنيا .
سيدنا الصديق رَضِي اللَّه عَنْه قرأت عنه كلمة لا أنساها : ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلِّمنا من خلال بعض أدعيته ، أن الدنيا لا قيمة لها ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ *
(رواه الترمذي)
ماذا دعا ؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ *
(رواه الترمذي)
يعني بالنهاية زوجته ليست كما يريد ، وبيته ليس كما يريد ، ودخله ليس كما يريد ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ، الدنيا مشغلة ، ومجبنة ، ومبخلة ، فربما لا تدري أن هذا الوضع المتوسط هو أنسب وضع لك أيها المؤمن ، وأن هذه المشكلة هي التي دفعتك إلى الله ، وأن هذه المصيبة هي التي حفزتك إلى باب الله ، فلذلك أنا متأثر جداً بقول الإمام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، فحينما أُخِذَ عليه هذا القولُ فَسَّره بعضهم وقال : أيْ ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني .
ألست أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ؟ قال : بلى ، فقلت : ما الذي حل بك ، ألم يكن وجهك بهيًّا ؟ وإهابك طريًّا ؟ وعيشك رخيا ؟ قال : بلى ، أنت خليفة الآن ، كنتَ واليًّا وكان وجهك بهيًّا ، وجلدك طريًّا ، وعيشك رخيًّا ، فما بالك ؟ يروون أنّ زوجتك مرة دخلت عليه ، وإنْ شاء آتيكم بالنص الكامل في وقت آخر ، فرأته يبكي ، استغربت !! أمير المؤمنين يبكي ! وهو في مصلاه ، سألته فلم يجب ، فلما ألَّحت عليه ، قال : يا فلانة إنَّ الله ولاّني أمر هذه الأمة، نظرت في الفقير الجائع ، وفي ابن السبيل الضائع ، وفي المقهور ، وفي الذليل ، والشيخ الكبير ، وصاحب العيال الكثيرة ، والدخل القليل ، ذكر أصناف من المعذبين ، فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً ، وأن حجيجي يوم القيامة هو رسول الله ، فلهذا أبكي ، لقد أدرك عظم المسئولية .
أحيانًا هناك كلمات فَقَدت مدلولها ، يقال : فلان مسؤول كبير ، يظن أنّ هذا مدح مسؤول كبير ، أيْ سوف يُسْأَل .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-13_files/image002.gif
( سورة الصافات : 24 ) .
فقلت فما الذي غيَّر ما بك بعد أن غدوتَ تملك الأصفر والأبيض ، وأصبحتَ أمير المؤمنين، فقال : وما الذي تغيّر بي يا أبا حازم ، لم شعر ، فقلت : جسمك الذي نحل ، وجلدك الذي اخشوشن ، ووجهك الذي اصفر ، وعيناك اللتان خبتا ، أو خبا وميضهما ، فبكى ، وقال : فكيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث ، وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وتفسخ بطني وتشقّق ، وانطلق الدود يرتع في بدني ، إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم لكنتَ أشدَّ إنكاراً لي من يومك هذا .
أحد الإخوة الأكارم ، رويَ أن له صديقاً حميمًا ، من أقرب الناس إليه ، وكان غنياً منعماً، ويعيش حياةً تفوق حدَّ الخيال ، توفِّي له زوجتان ، وبعدها بأيام نُمِيَ إلى بعض السلطات أنه مات مسموماً ، فلا بد من فتح القبر ، وأخذ عينة من معدته ، ليتأكد المحققون من صحة هذه الدعوى ، يقول هذا الصديق : فلما فُتِح القبر ، فإذا المنظر لا يصدق ، منتفخ ، فلما بقر بطنه صدر صوت رهيب ، منتفخ ، مسود أزرق على أسود ، يقول : واللهِ بقيت أسبوعين ، وقد عزفتْ نفسي عن الطعام ، لهول هذا المنظر .
قال له : كيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث ، وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وتفسخ بطني وتشقق ، وانطلق الدود يرتع في بدني ، إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم لكنتَ أشدَّ إنكاراً لي من يومك هذا ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لا أغبط أحداً في الدنيا إلا رجلاً عرف ربَّه فجهد في طاعته ، والعمل الصالح ، هذا الذي أراه ذكياً ، وأراه عاقلاً ، وأراه يستحق الإعجاب والتقدير ، بل هذا الذي عرف حقيقة الدنيا ، وتفاهتها ، وعمل للساعة الحرجة التي لا بد منها ، لساعة نزول القبر.
ورد في بعض الآثار أنه أول ليلة يدفن فيها الإنسان في قبره يقول الله عز وجل : عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
ثم رفع بصره إلي ، وقال : أما تذكر حديثاً كنت حدَّثتَني به في المدينة يا أبا حازم ؟ فقلت : لقد حدَّثتُك بأحاديث كثيرة يا أمير المؤمنين ، فأيها تقصد ؟ فقال : إنه حديث رواه أبو ذر ، فقلت: نعم أذكره يا أمير المؤمنين ، فقال أعده علي ، فإني أريد أن أسمعه منك ، فقلت :
عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر إن أمامك عقبة كؤودا لا يقطعها إلا كل مخف قال: يا رسول الله أمنهم أنا ؟ قال : إن لم يكن عندك قوت ثلاثة فأنت منهم*
[ الجامع الصغير ] .
فبكى عمر بكاءً شديداً ، خشيتُ معه أن تنشق مرارته ، ثم كفكف دموعه والتفت إلي ، وقال : فهل تلومني يا أبا حازم ، إذا أنا أهزلت نفسي لتلك العقبة رجاء أن أنجو بها ، وما أظنني ناجٍ ، هذا الخوف المقدس ، هذا القلق المقدس ، هذا الحزن المقدس ، هذا أرقى أنواع الحزن ، أن تبقى خائفاً من الله ، قلقاً على مصيرك الأخروي ، هذه الصورة الأولى .
الصورة الثانية : من صور حياة عمر بن عبد العزيز ، يرويها الطبري عن الطفيل بن مرداس ، يقول : إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة كتب إلى سليمان بن أبي السري واليه على الصغد كتاباً قال فيه : اتخذْ في بلادك فنادقَ لاستضافة المسلمين ، فإذا مرَّ بها أحد منهم فاستضيفوه يوماً وليلة ، مجاناً ، وأصلحوا شأنه ، وتعهدوا دوابه ، فإذا كان يشكو نصباً ، السبب أنه في عهد هذا الخليفة العظيم جمعت أموال الزكاة ، وكأن الفقر قد انتهى ، لذلك لم يجد هذا الخليفة مصرفاً للزكاة ، فبدا له أن يفيَ عن الغارمين دَيْنَهم ، ثم أمر بهذه المرافق الحيوية كي تكون في خدمة المسلمين ، فإذا كان يشكو نصباً فاستضيفوه يومين وليلتين ، وواسوه ، فإذا كان منقطعاً لا مؤنة عنده ، ولا دابة تحمله ، فأعطوه ما يسدّ حاجته ، وأوصلوه إلى بلده ، فصدع الوالي بأمر أمير المؤمنين ، وأقام الفنادق التي أمره بإعدادها ، فَسَرَتْ أخبارُها في كل مكان ، وطفِق الناسُ في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها يتحدثون عنها ، ويشيدون بعدل الخليفة وتقواه.
فما كان من وجوه أهل سمرقند - هذه البلاد الآن تابعة للجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي - فما كان من وجوه أهل سمرقند إلا أن وفدوا على واليها ، سليمان بن أبي السري ، وقالوا : - الآن دققوا - إن سلفك قتيبة بن مسلم الباهلي قد دهم بلادنا ، من غير إنذار ، ولم يسلك في حربنا ما تسلكونه معشر المسلمين ، فقد عرفنا أنكم تدعون أعداءكم إلى الدخول في الإسلام ، فإن أبوا دعوتموهم إلى دفع الجزية ، فإن أبوا أعلنتم عليهم القتال ، هؤلاء أهل سمرقند بَلَغهم أن هذه هي الطريقة الشرعية لفتح البلاد ، أمّا هم فلم يُعرَض عليهم الإسلام ، ولم يُدعَوا إلى دفع الجزية ، بل حوربوا مباشرة ، فاشتكوا إلى الوالي الذي كان عليهم ، اشتكوا سلفه الذي داهم بلادهم ، وهو قتيبة بن مسلم الباهلي ، يقولون : وإنا قد رأينا من عدل خليفتكم وتقواه ما أغرانا بشكوى جيشكم إليه ، فقدَّم أهل سمرقند شكوى ، والاستنصار بكم على ما أنزله بنا قائد من قوادكم ، فأْذَنْ أيها الأمير لوفد منا بأن يَفِد على خليفتكم ، وأن يرفع ظلامتنا إليه ، اسمح لنا أن نرسل وفدًا إلى دمشق نرفع ظلامتنا على قتيبة بن مسلم الباهلي الذي داهمنا ، ولم يسلك الطريقة التي شرعها نبيُّكم ، فإذا كان لنا حق أعطيناه ، وإن لم يكن لنا حق عدنا من حيث ذهبنا ، فأذن سليمان لوفد منهم بالقدوم على الخلفية في دمشق ، فلما صاروا في دار الخلافة ، رفعوا أمرهم إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، فكتب الخليفةُ كتاباً إلى واليه سليمان بن أبي السري ، يقول فيه : أما بعد ؛ فإذا جاءك كتابي هذا فأجلِسْ إلى أهل سمرقند قاضياً ينظر في شكواهم ، يكفي قاضٍ من عندك ، فإن قضى لهم ، فأمر جيش المسلمين بأنْ يغادر مدينتهم ، وادعُ المسلمين المقيمين بينهم إلى النزوح عنهم ، وعودوا كما كنتم ، ويعودون كانوا قبل أن يدخل ديارهم قتيبةُ بن مسلم الباهلي .
بلدة فتحت عن طريق الحرب ، ويعلم أهلها أن هذا الفتح فيه خلل شرعي ، يذهب وفدٌ منهم إلى خليفة المسلمين ، وبكل بساطة يقول للوالي عليهم : أَجلِسْ إليهم قاضياً يحكم بينهم وبين طريقة فتح بلادهم ، فإن كانوا على حق فأْمر جيشك أن يخرج من بلدتهم ، وأْمر المسلمين المقيمين بأن ينزحوا عنهم ، وعودوا كما كنتم قبل فتح البلدة ، تلك التي فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي ، وهناك تفصيلات أدق من ذلك ، لقد أعطاهم كتاباً على شكل قصاصة صغيرة ، فما صدقوه ، هل هذا معقول ؟! جيش بكامله ينسحب بهذه القصاصة أو بهذه الكلمة !! .
فلما قدم الوُفد على سليمان بن أبي السري ، ودفع إليه كتاب أمير المؤمنين ، بادر ، أَجْلَسَ إليهم قاضي القضاة جميع بن حاضر الناجي قاضي القضاة ، أعلى قاض ، فنظر في شكواهم ، واستقصى أخبارهم ، واستمع إلى شهادة طائفة من جند المسلمين وقادتهم ، فاستبان له صحة دعواهم ، وقضى لهم عند ذلك ، الآن صدر قرار مِن قاضٍ مسلم يحكم على جيش إسلامي بالخروج من سمرقند ، لأن فتحها لم يكن شرعياً ، عند ذلك أمر الوالي جندَ المسلمين أن يُخلُوا لهم ديارهم ، وأن يعودوا إلى معسكراتهم ، وأن ينابذوهم كرّة أخرى ، فإما أن يدخلوا بلادهم صلحاً بالجزية ، وإما أن يظفروا بها حرباً ، وإما ألاّ يكتب لهم الفتح لو انهزموا ، لم يصدَّقْ أهل سمرقند لما جرى ، فما سمع وجوه القوم حكمَ قاضي القضاة لهم ، حتى قال بعضهم لبعض : وَيْحَكُم ، لقد خالطتُم هؤلاء القوم ، وأقمتم معهم ، ورأيتموهم من سيرتهم ، وعدلهم ، وصدقهم ما رأيتم فاسْتَبْقوهم عندكم ، وطِيبُوا بمعاشرتهم نفساً ، وقرُّوا بصحبتهم عيناً .
أذكر لكم قصة هامشية ربما ذكرتها مرة ، أنّ فلاحًا أعطوه أرض عشرين دُنُمًا ، حسب الأنظمة الإقطاعية النافذة سابقاً ، ففرح بها ، وسأل شيخه ، فقال له : يا بني هذا حرام ، هذا المال ليس لك ، لا بد أن تشتري هذه الأرض ، فقال له : ليس معي ثمنها ، قال له : أَعْرِضْ هذا على صاحب الأرض ، على أن يأخذ ثمنها منك تقسيطاً ، فذهب إليه ، يا سيدي : أنا أعطوني أرضًا من أراضيك الواسعة ، وسألت شيخي ، فأجاب بأنه لا أنْ أشتريها منك ، فما العمل ؟ وعندي هذا المبلغ اليسير ، ويعني أساورَ زوجته ، فقال له هذا الإقطاعي : واللهِ أنا ذهب مني أربعمائة دُنُمٍ فما رأيت واحدًا جاءني بهذه المقولة إلا أنت ، فهذه الدُّنُمات هي لك عن طيب نفس مني ، هدية لك فتمَلَّكْها ، وازرعها ، وانتفع بها ، وبارك الله لك فيها .
إنها قضية ورع ، ف ***ة رأوا من عدلهم ، ورحمتهم ، وإنصافهم فقالوا : ما لنا ولإخراجهم ، طيبوا بهم نفساً ، وقروا بهم عيناً ، هذه الصورة الثانية .
الصورة الثالثة من صورة حياة هذا الخليفة العظيم يرويها لنا ابن عبد الحكم ، في كتابه النفيس المسمى (سيرة عمر بن عبد العزيز) ، فيقول : لما حضرت عمرَ الوفاةُ ، دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ، وقال : إنك يا أمير المؤمنين قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال ، فحبذا لو أوصيت بهم إليك ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك ، فلما انتهى من كلامه قال عمر : أجلسوني، فأجلسوه ، فقال : قد سمعتُ مقالتك يا مسلمة ، أمَا إنّ قولك : قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال ، فإني واللهِ ما منعتهم حقاً هو لهم ، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم ، أما قولك : لو أوصيت بهم إلي ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك ، فإنما وصيي وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق ، وهو يتولى الصالحين ، واعلمْ يا مسلمة أن أبنائي أحدُ رجلين ؛ إما رجل صالح متقن فسيغنيه الله من فضله ويجعل له من أمره مخرجا ، وإما رجل طالح مكبٌّ على المعاصي فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى ، ثم قال ادعوا لي بنيّ ، موقف مؤثر جداً، أولاد سيدنا عمر ، ما أعطاهم شيئاً ، فدعوهم وهم بعضة عشر ولداً ، فلما رآهم ترقرقت عيناه ، وقلتُ - القائل مسلمة - في نفسي : فتية تركهم عالة لا شيء لهم ، وهو خليفة ، وبكى بكاءً صامتاً ، ثم التفت إليهم ، وقال أي بنيّ إني لقد تركت لكم خيراً كثيراً ، فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين ، أو أهل ذمتهم ، إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً ، هذه السمعة الطيبة ، كيفما مشى ابن الرجل الصالح يقال له : رحمة الله على والدك ، هذه ثروة كبيرة جداً ، قال : إنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم ، إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً ، يا بنيّ إن أمامكم خياراً بين أمرين ، فإما أن تستغنوا ، أي أن تصبحوا أغنياء ، ويدخل أبوكم النار ، وإمّا أن تفتقروا ويدخل الجنة ، ولا أحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى ، كذلك ربّاهم تربية عالية ، ربّاهم على محبته ، ومحبة الحق ، ثم نظر إليهم في رفق وقال : قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله، مسلمة ، يعني شيء أحد قواد بني أمية الكبار ، فالتفت إليه مسلمة ، وقال : عندي يا أمير المؤمنين ما هو خير من ذلك فقال : وما هو ؟ قال لدي ثلاثمائة ألف دينار - من ماله الشخصي - لدي ثلاثمائة ألف دينار ، وإني أهبها لك ففرِّقها عليهم ، أو تصدّق بها إذا شئت، فقال له عمر: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة ؟! قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال تردُّها لمن أخذتها منه ، أنى لك بهذا المبلغ الضخم ؟ تردّها إلى من أخذتها منه ، فإنها ليست لك بحق ، فترقرقت عينا مسلمة، وقال : رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً ، فقد ألَنْتَ منا قلوباً قاسية، وذكّرتها ، وقد كانت ناسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا ، ثم تتبع الناسُ أخبارَ أبناء عمر من بعده ، فرأوا أنه ما احتاج أحد منهم ولا افتقر ، وصدق الله العظيم إذ يقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-13_files/image003.gif
( سورة النساء : 9 ) .
ورد في الأثر أن الله سبحانه وتعالى يسأل عبداً أعطاه مالاً وفيراً يوم القيامة ، يقول له : عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ، يقول يا رب لم أنفق منه شيئاً على أحد مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، فيقول الله عز وجل : ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين ، إن الذي خشيت على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم ، أي جعلتهم فقراء ، ويسأل عبداً آخر فيقول : عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ، يقول : يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً ،وأنت أرحم الراحمين ، فيقول الله عز وجل : عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك .
يعني موضوع مستقبل أولادك منوط باستقامتك أنت ، ولو تركت لهم مئات الملايين ربما أصبحوا متسولين ، ربما أتلف المال كله ، ربما أنفق المال كله على المعاصي ، فلذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز وقف هذا الموقف ، فهذه ثلاث صور .
أول صورة : نحوله وشدة خوفه من الله .
الصورة الثانية : موضوع سمرقند ، والشيء الذي لا يصدَّق .
الصورة الثالثة : كيف أنه لم يبق لأحد من أولاده شيئاً ، لكن الله أغناهم من فضله .
ومن الطُّرَف التي كانت تُرْوَى أن رجلاً من بني أمية بعدما توفي سيدنا عمر بن عبد العزيز قال له للخليفة الذي من بعده : إن جدك قد أقطعني أرضاً ، وإن عمر رحمه الله تعالى قد أخذها مني فعجب هذا الخليفة ، وقال له : الذي أقطعك الأرض لم تترحم عليه ، أما الذي أخذها منك ترحمت عليه !
كن مع الله ولا تبالي ، من أرضَى الله بسخط الناس رضي اللهُ عنه و أرضى عنه الناسَ .
هذه السيرة تعني أنْ تكون وقافاً عند كتاب الله ، تكون مع الحق ، صورة معاكسة ، شاب توفي أبوه منذ يومين ، فرأوه متجهاً إلى مكان لا يليق به ، إلى ملهى ، إلى أين ؟ فقال : أريد أن أشرب الخمر على روح والدي ، فإذا كان الإنسان قد ترك أموالاً طائلة ، ولم يعلِّم أولاده ، فكل هذا المال الذي ينفقه الأولاد في المعاصي يتحمل الأبُ إثمَه ، لذلك أندمُ الناس يوم القيامة رجلان - استمعوا - غنيٌّ دخل أولادُه بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار ، جمعه من حرام فورِثه أولاده، الذين لو عرفوا الله لأنفقوه في طاعته ، فدخلوا بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار ، وعالم دخل الناسُ بعلمه الجنة ، ودخل هو بعلمه النار ، لذلك الدعاء : اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، إنها مصيبة كبيرة أن توضِّح حديثًا ، أن توضح آية ، ثم يأتي إنسان فيفهمها ، ويعقلها ، ويطبقها ، فيسعد بها ، ويرقى بها ، والذي علَّمها لا يستفيد منها ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك وألتمس به أحد سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيء يشينني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ، فلا يكن الإنسان قصةً ، فإذا عصى وطغى ، وبغى ، عاقبه اللهُ عقابًا أليمًا ، وصار قصة يتناقلها الناس في مجالسهم ، وفي ندواتهم ، ولقاءاتهم ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ، الله قال:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-13_files/image004.gif
( سورة المؤمنون : 44 ) .
صاروا قصصًا وعِبرًا .
أيها الإخوة الكرام : دققوا في هذه السِّيَر ، هؤلاء التابعون مِن الذين ذكر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ *
(متفق عليه)
فهُم من القرن الذي تلا قرن النبي عليه الصلاة والسلام .
طالب عفو ربي
27-04-2009, 09:03 PM
الجزء الثاني
عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين ، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا ، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس التاسع عشر من سِيَر التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وتابعيّ اليوم هو سيّدنا عمر بن عبد العزيز ، ولعلَّه الموضوع الثاني عن هذا الخليفة ، الذي عُدَّ بحَقٍّ خامس الخلفاء الراشدين ، فالحديث عن هذا التابعيّ الجليل عمر بن عبد العزيز حديث ذو شُجون ، فأنت لا تكاد تُلِمّ بِصُورة من صُوَر حياته الفذَّة حتى تُسْلمك إلى أخرى أكثر بهاءً .
مرَّةً كنتُ في تَشْيِيع جنازة ، دخلنا إلى المسجد لِنُصلِّي على الجنازة ، وقام أحد العلماء يريد أن يؤبِّن المُتَوفَّى ، الذي لا أنساهُ أبدًا ؛ قال : كان أخوكم مؤذِّنًا ترحَّموا عليه ، وانتهى التَّأْبين ! وأنا أعرف المُتوفَّى رحمه الله تعالى إنسانًا حياتهُ غنِيَّة مُتْرفةٌ ، وفي بيته ما لذَّ وطاب ، له دخْلٌ كبير ، وجالَ في أوروبا كلَّها ، مُتمتِّع بالحياة في أعلى درجة ، ولكن اسْتوْقفَتْني كلمة المؤبِّن أنَّه ما استطاع أن يقول مِن كلمتين ، كان أخوكم مؤذِّنًا ، ترحَّموا عليه فقلتُ في نفسي ؛ الإنسان عليه أن يدَعَ أعمالاً صالحةً يتحدَّث الناس عنه خمس دقائق أقلّ شيء ، عشر دقائق ، فكلَّما عظم الإنسان يصبح الحديــث عنه ذا شُجون ، يمكن أن نتحدَّث عن الصحابة الكرام سنوات ، وعن التابعين سنوات ، وتؤلَّف الكتب والمجلَّدات ، وتُحلَّلُ الشَّخصِيات ، تُدْرس المواقف، وتوصف الملامح ، فالإنسانُ العظيم هناك مَن يتحدّث عنه إلى أمدٍ طويل .
فهذا الخليفة الراشد ، كتُبٌ مؤلَّفة عن حياته ، وتحليلات لِشَخصِيَّاته ، ووصْفٌ لبيانه ، فالإنسان سيَمْضي ، بقيَت بطولته أن يدعَ أثرًا في الحياة ، والدليل قول الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-19_files/image001.gif
[ سورة يس ]
أيها الأخ الكريم ، دقِّقْ في حياتك الدنيا ، الحديث عن بيْتك لا يُقال عند الموت ؛ عن مساحته وتَزْييناته ، الحديث عن دَخلَك ، والحديث عن ملاذَّك ، وهذا كلّه لا يمكن يُقال عند الموت ، لا يُقال عند الموت إلا الأعمال الطيّبة التي تركتها ، الآثار الإيجابيّة التي حقَّقْتها ، الخدمات الجلّة التي قدَّمتها للإنسانيَّة ، وهذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له *
[رواه مسلم]
فالمؤمن العاقل يبحث ، ويسعى لِتَرْك أثرٍ يُخلِّدُه بعد الموت ، ومَن ترك أثرًا طيِّبًا إيجابيًّا كأّنه ما مات .
قبل حين تُوفِّيَ أحد علماء دمشق ، وكانت التَّعزيَة في الجامع الأموي ، وأذكر أنَّ وزير الأوقاف وقتها قدَّمَ بِشارة للمُعزِّين ، أنَّ ابن هذا العالم عُيِّن خطيبًا لهذا المسجد ، فلمّا ألقى ابنهُ كلمةً ، قلتُ : واللهِ ، الأب ما مات ! ما دام قد تركَ عالمًا ، وخطيبًا ، وداعِيَةً إلى الله عز وجل ، معنى ذلك أنّ الأب لم يمُت ، فأنت أيها الأخ الكريم إذا تركْت عملاً طيِّبًا فما مِتَّ ، ولا تموت ، يقول سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه : يا بنيّ ماتَ خُدَّام المال وهم أحياء ! التخطيط جيّد ، والقلب جيّد والبسَّامات جيِّدة ، والعضلات والأسيد أوريك ، والنِّسَب من أعلى النِّسَب ، قال : مات خزَّان المال، وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقيَ الدَّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في الثلوب موجودة، معنى ذلك أنَّ الإنسان عليه أن يدَعَ أثرًا في حياته .
نحن بعد أربعةً عشرة قرْنًا نتحدَّث عن هذا الخليفة العظيم بكلّ طيبٍ ، إذًا هو لمْ يمُتْ ، مرَّةً سألتُ طُلاَّبي عن اسم تاجرٍ عاش سنة ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين في دمشق ، وله عندي علامة تامَّة ؟ فما تذكَّر أحد إطلاقًا ! فقلت لهم : وأنا معكم لا أعرف !! العلماء باقون ما بقي الدَّهر ، القوَّاد العظام ، والفاتحون ، والذين تركوا بصماتٍ على الإنسانيّة ، هؤلاء ما ماتوا ، لذلك اِجْهَدوا أن تعملوا عملاً يُخلِّدُكم إلى أبد الآبدين ، وما من عملٍ أعظم من أن تضع علمًا نافعًا ، أو ولدًا صالحًا ، أو صدقةً جاريَة .
هناك ثلاث صُوَرٍ عن هذا الخليفة العظيم ؛ الأولى يَرْويها دُكَيْم بن سعيد الدارمي أحد الشعراء الرجاز البداة ، وهذا شاعر تعامل مع هذا الخليفة يروي هذه القصَّة ، قال : امْتدَحْتُ عمر بن عبد العزيز يوم كان واليًا على المدينة ، فأمر لي بِخَمس عشرة ناقةً من كرائم الإبل ، فلمَّا صِرْن في يدي تأمَّلْتهنّ فراعني منظرهنّ ، وكرهْتُ أن أمْضي بهنّ وحدي في فِجاج الأرض خوْفًا عليهِنّ ، ولم تَطِبْ نفسي بِبَيْعِهِنّ ، مدحَ هذا الشاعر سيّدنا عمر بن عبد العزيز بِقَصيدة رائعة أعطاهُ عليها خمس عشرة ناقة من كرائم الإبل ، قال : ، فلمَّا صِرْن في يدي تأمَّلْتهنّ فراعني منظرهنّ ، وكرهْتُ أن أمْضي بهنّ وحدي في فِجاج الأرض خوْفًا عليهِنّ ، ولم تَطِبْ نفسي بِبَيْعِهِنّ ، وفيما أنا كذلك قدِمَت علينا رُفْقةٌ تبتغي السَّفر نحْوَ دِيارنا في نَجد ، فسألتهم صحبةً ، فقالوا : مرحبًا بك، ونحن نخرج الليلة فأعِدَّ نفسك للخروج معنا ، فمَضَيْت إلى عمر بن عبد العزيز مُوَدِّعًا ، فألْفَيْتُ في مجلسهِ شيخَين لا أعرفهما ، فلمَّا هَمَمْتُ بالانصراف ، الْتفتَ إليّ ، وقال : يا دُكَين : إنَّ لِيَ نفسًا توَّاقة ، فإذا عرفْت أنِّي بلغت أكثر مِمَّا أنا فيه الآن فأْتِني ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، إن عرفت أنَّني سأصلُ إلى مرتبةٍ أعلى فأتنِي ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، نفسهُ توَّاقة وطموحة .
أيها الإخوة الكرام ، أتظنّ أنّ المؤمن غير طَموح ؟ والله الذي لا إله إلا هو لطموح المؤمن الواحد يعْدل طموح ملايين من أهل الدنيا ، لأنَّ أهل الدنيا يطْمحون إلى الدنيا ، والدنيا زائلة ، ولكنَّ المؤمن يطْمحُ لِحَياةٍ أبدِيَّة بعد الموت ، فأيُّهما أشدُّ طموحًا ؟ المؤمن مُتَوَقِّتْ ، كالمِرْجَل ، نفسهُ توَّاقة وطموحة ، وهِمَّتُهُ عالِيَة ، وعزيمتهُ صلبة ، المؤمن لا يشيخُ أبدًا ؛ شابّ دائمًا ، ولو بلغَ من الكِبَر عِتِيًّا ، نفسهُ شابَّة ؛ لأنَّ هدفهُ كبير ، وطموحهُ كبير ، ونفسيَّتُهُ عالِيَة جدًّا ، لِدَرجة أنَّه لا يرضى بالأكل والشرب فقط كعامَّة الناس ، يريد أن يُحقِّق مبدأً ، ويعيشُ لِهَدفٍ نبيل ، له رسالة يحملها سيّدنا عمر بن عبد العزيز ، قال له : إنَّ لِيَ نفسًا توَّاقة ، فإذا عرفْت أنِّي بلغت أكثر مِمَّا أنا فيه الآن فأْتِني ، ولك منِّي البرّ والإحسان ، فقلتُ : أشْهِدْ لي بذلك أيها الأمير ؟ يبْدو أنَّ الشاعر كان ذا دُعابة ؛ أيْ طلب منه أن يحضر شاهدًا لأنَّ العرْض خطير جدًّا ، فأنت الآن والي ، وما الذي هو فوق الولاية ؟ أن تكون خليفة ، فإذا أشْهَدْت لي من يقول هذا الكلام وقْتَها فلي منك العطاء الكثير ، فقلتُ : أشْهِدْ لي بذلك أيها الأمير ؟ فقال : أُشْهِدُ الله تعالى على ذلك ، أيْ إذا أتَيْتني وأنا في مرتبةٍ أعلى من هذه المرتبة لك مِنِّي البرّ والإحسان ، هذا الكلام كان لمَّا كان واليًا، فقلتُ : من خلقهِ ؟ أيْ أريد شاهدًا من خلْقه ، فقال : هذين الشَّيْخَين ، فأقْبلْتُ على أحدهما ، وقلتُ: بأبي أنت وأمِّي : قلْ لي ما اسْمك حتى أعْرفك ؟ فقال : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب ! فالْتَفَتُّ إلى الأميــر ، وقلتُ : لقد اسْتسْمَنْتُ الشاهد !! أي هذا الشاهد جيّد ، ثمَّ نظرْتُ إلى الشيخ الآخر وقلتُ : ومن أنت جُعِلْتُ فداك ؟ فقال : أبو يحيى مولى الأمير ، فقلْت: وهذا شاهدٌ من أهله، كان شاعرًا ذو دعابة .
قال : ثمَّ حيَّيْت ، وانْصرفْتُ بالنُّوق إلى ديار قومي في نَجْد ، إذًا سيّدنا عمر نفسهُ توَّاقة، فهل هذا منْقصَةٌ في حقّ المؤمن ؟ لا ، كُنْ توَّاقًا ، إلا أنَّ المؤمن طموحهُ يتَّصِل إلى الآخرة ، ولكنَّ طموح أهل الدنيا ينتهي عند الدنيا ، طموح المؤمن يسْتمرّ إلى الآخرة .
قال : فرمى الله فيهنّ البرَكة حتى اقْتَنَيْتُ من نِتاجهنّ الإبل والعبيد ، أي هذه الخمس عشرة ناقة طرحَ الله فيهنّ البرَكة ، ثمَّ دارَت الأيَّام دوْرتها ، فبَين أنا بِصَحراء ثلجٍ من أرض اليَمامة في نجْد ، إذْ ناعٍ ينعي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك - الذي قبل سيّدنا عمر - فقلْتُ للناعي : ومَن الخليفة الذي قام بعدَهُ ؟ فقال : عمر بن عبد العزيز ، - تحقَّق طموحه - فما إن سمعْتُ مقالتهُ حتَّى شدَدْتُ رحالي نحو بلاد الشام ، فلمَّا بلغْتُ دمشق لقيتُ جريرًا منْصرفًا عند الخليفة فحيَّيْتُهُ ، وقلــتُ : من أين يا أبا حمزة ؟ فقال : من عند خليفة يعطي الفقراء ، ويمنعُ الشعراء ! اِرْجِعْ من حيث أتَيْتَ فذلك خير لك ، فقلتُ : ليَ شأنٌ غير شأنِكم ، أنا لي وضْع خاصّ، لي معه شاهدين ، وعهْد ، فقال : أنت وما تريد ! فانطلقتُ حتى بلغتُ دار الخليفة ، فإذا هو في باحة الدار، وقد أحاط به اليتامى والأرامل وأصحاب الظلمات ، فلم أجِد سبيلاً إليه من تزاحمهم عليه فرفعْتُ صوتي مرتفعًا :
يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم
الدسائع جمعُ دسيعة ، وهي الجفنة العظيمة ، والقدر الذي يُقدَّم فيه الطعام .
قال :
إنِّي امرؤٌ من قطنٍ من دار طلبْتُ دَيني من أخي المكارم
فنَظَرَ إليّ مَولاه أبو يَحيى نظْرة طويلة ، ثمَّ الْتفتَ إليه وقال : يا أمير المؤمنين : إنَّ عندي لهذا البدويّ شهادةً عليك ! كان أحد شهوده مولاه أبو يحيى ، فقال : أعرفها ! ثمَّ الْتفتَ إليّ وقال : اُدْنُ مِنِّي يا دُكَين ، فلمّا صِرْت بين يديه مال عليّ وقال : أتَذْكرُ ما قلتهُ لك في المدينة من أنَّ نفسي ما نالَت شيئًا قطّ ، إلا أنَّها تاقَتْ إلى ما هو أعلى منه ؟ فقلتُ : نعم ، يا أمير المؤمنين ! فقال : وهذا أنا ذا نِلْتُ غايَةَ ما في الدنيا ، وهو المُلك ، فنَفْسي الآن تتُوقُ إلى غايَة ما في الآخرة، وهي الجنَّة!
ومرَّةً قال : تاقَت نفسي إلى الإمارة فلمَّا بلغْتُها ، تاقَت نفسي إلى الخلافة ، فلمَّا بلغتها تاقَت نفسي إلى الجنَّة ، وتسعى إلى الفَوْز بِرِضْوان الله عز وجل ، ولئن كان الملوكُ يجعلون الملك سبيلاً لِبُلوغ عزِّ الدنيا ، فلأجْعلنَّهُ - أي المُلك - سبيلاً إلى بلوغ عزّ الآخرة ! هؤلاء حجَّة على من سِواهم ، يمكن أن تكون ملكًا ، ويمكنُ أن ترقى إلى الجنَّة ، الجنَّة لا تغلقُ أمام أحد ، ولو كان ملكًا.
ثمَّ قال : يا دُكَين ، إنّي والله ما رزأْتُ - أخذْتُ - المسلمين في أموالهم درهمًا ولا دينارًا منذ وُليتُ هذا الأمر ، وإنِّي لا أملكُ إلا ألف درهمٍ فَخُذْ نصفها ، واتْرُك ليَ نصْفها ! فأخذْتُ المال الذي أعْطانيه ، فوالله ما رأيْتُ أعظمَ منه بركةً ! هذه أوَّل صورة ، شاعر أعْطاه يوم كان أميرًا خمس عشرة ناقة ، فلمَّا صار خليفةً أعطاه خمسمئة دينار من ماله الشَّخصي ، وهو يُقسمُ أنَّه ما أخذ دينارًا واحدًا من مسلمٍ من رعِيَّتِهِ .
سيّدنا عمر بن الخطّاب قال هذا ، قال : أيّها الناس ، لكم عليّ خمسُ خِصال خُذوني بهنّ ؛ لكم عليّ أن لا آخذ من أموالكم شيئًا إلا بِحَقِّها ، ولكم عليّ أن لا أنفقَ هذا المال إلا بِحَقِّه ، وإذا غِبْتُ في البعوث ، فأنا أبو العيال حتى ترجعوا ، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ أن لا أُجمِّركم في البعوث .
الصورة الثانيَة يرْويها قاضي الموصِل يحيى بن يحيى الغسَّاني ، يقول : بينما عمر يطوف ذات يومٍ في أسواق حمص يتفقَّد الباعة ، ولِيَتَعَرَّف على الأسعار - سيّدنا عمر بن الخطَّاب ما اسْتقْدمَ واليًا إلا وسألهُ كيف الأسعار عندكم ؟ - إذْ قام إليه رجلٌ عليه برْدان أحمران قطريَّان وقال: يا أمير المؤمنين ، لقد سمعتُ أنَّك أمرْت من كان مظلومًا أن يأتِيَك ؟ فقال : نعم ، وها أنا قد أتَيْتُكَ ، وها قد أتاك رجل مظلومٌ بعيد الدار ، فقال عمر : وأين أهلك ؟ فقال : في عَدَن ، جاءه من عدن إلى حمص ، فقال عمر : إنَّ مكانك من مكان عمر لبعيدٌ ، ثمَّ نزل عن دابَّتِهِ ووقفَ أمامه وقال : وما ظلامتُكَ ؟ فقال : ضَيْعَةٌ لي - بستان - وثَبَ عليها رجل مِمَّن يلوذون بك ، وانْتَزَعَها مِنِّي ، فكتَبَ عمر كتبًا إلى عروة بن محمَّد واليه على عَدَن يقول فيه : أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا فاسْمَع بيِّنَة حامِلِه فإن ثبتَ له حقّ فادْفَعْ له حقَّه ، ثمَّ ختَمَ الكتاب ، وناولَهُ الرجل، فلمَّا همَّ الرَّجل بالانصراف قال له عمر : على رِسْلِك ، إنَّك قد أتَيْتنا من بلدٍ بعيد ، ولا ريْبَ في أنَّك اسْتنفذْتَ في رحلتك هذه زادًا كثيرًا ، وأخلقْتَ ثيابًا جديدة ، ولعلَّه نفقَت لك الدابة ، ثمَّ حسب ذلك كلَّه فبلغَ ذلك أحدَ عشر دينارًا ! مبلغٌ ضخمٌ جدًّا ، فدَفَعَها إليه ، وقال : أَشِعْ هذا في الناس ، قلْ للناس : إنّ عمر أعطاني نفقة السَّفَر ، حتى لا يتثاقلَ مظلومٌ عن رفْعِ ظُلامتِهِ بعد اليوم مهما كان بعيد الدار.
النقطة أنَّه مظلوم ، وسوف يأخذ حقَّهُ ، ولكن أراد أنَّ المظلوم الذي يقْبع في أماكن نائيَة ، يُشَجِّعه لأن يأتي إلى الخليفة ، ويعرض عليه ظلامته ، ويأخذ نفقَة السَّفَر ، حتى لا يتثاقلَ المظلوم في أن يأتي إلى عمر ، هذه الصورة الثانيَة التي نقلها أحد القضاة .
وأما الصورة الثالثة ، هذه الصـورة يرويها العابد الزاهد زِياد بن ميْسَرَة المخزومي بِالولاء ، فيقول : أرسلني موْلاي عبد الله بن عياش من المدينة إلى دمشق للِقاء أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في حوائج له ، وكانت بيني وبين عمر صِلَةٌ قديمة ترجعُ إلى عهْد ولايتِهِ على المدينة ، فدخلْت عليه فإذا عندهُ كاتبٌ يكتب له ، فلمَّا صرْتُ في عتبة الحجرة قلْتُ : السلام عليكم، فقال : وعليكــم السلام ورحمة الله يا زِياد ! ثمَّ مضَيْتُ نحْوهُ خَجِلاً ، لأنّي لم أُسلِّمْ عليه بإمرة المؤمنين ، هو أمير المؤمنين الخليفة ، وقال له : السلام عليكم ! فلمَّا انْتَهيْتُ إليه قلتُ : السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى وبركاته ، عدَّلَ ! فقال : يا زِياد إنَّني لمْ أُنْكرْ عليك السَّلام الأوّل ، فما الحاجة إلى الثاني ؟! المؤمن يتعلَّق بالحقائق ، وبِجَوْهر الحياة .
أيها الإخوة الكرام ، المؤمن إذا أحْكم اتِّصالهُ بالله عز وجل يسْتغني عن ثناء الناس ، وعن تعظيمهم ، وعن تبْجيلهم ، وعن توْقيرهم ، لا يتعلَّق بهذا إلا من أقصى قلبه من الاتّصال بالله عز وجل ، وأساسًا أكبر نقطة ضَعْف في الإنسان اسْتِجداء المديح ، طبْعًا فقْرُهُ الداخلي يحملُهُ على اسْتِجداء المديح ، لو أنَّه وصلَ إلى شيءٍ من الله عز وجل ، إلى السكينة التي أخبر الله عنها ، إلى الصَّلوات التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-19_files/image002.gif
[ سورة التوبة ]
لو أنَّ الإنسان أشْرقَت نفسهُ بِنُور الله عز وجل لا يهتمّ بهذه الشَّكْليَّات ، ولا بهذه العبارات ، فهي عندهُ لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، فقال : يا زِياد إنَّني لمْ أُنْكرْ عليك السَّلام الأوّل ، فما الحاجة إلى الثاني؟! فكان كاتبُهُ إذْ ذاك يقرأُ عليه مظالمَ جاءتْهُ من البصرة مع البريد ، فقال لي : اِجْلسْ يا زياد حتَّى نفْرغَ لك ، فجلسْتُ على خشبة الباب ! بالمناسبة الإنساني العظيم طبيعي ، والإنسان الصغير إذا عظُمَ فجأةً يتكلَّف ! فلو جلسْت مع النبي صلى الله عليه وسلَّم ، دخل عليه أحدهم فأصابتْه رعدة : فقال : إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة " ، كلَّما الْتقيْت مع العظماء رأيتهم قريبين منك ، حتى إنَّه قيل : ما من أحدٍ خالَطَ النبي صلى الله عليه وسلَّم إلا ظنَّ أنَّهُ أقربُ الناس إليه ! وهذه من عظمة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل عنه : ما رآهُ أحدٌ بديهةً إلا هابهُ، وما خالطهُ إلا أحبَّه ، لكنَّك إذا خالطتَهُ ترى نفسكَ قريبةً منه جدًّا ، وتراه قريبًا منك ، فالتَّكَلُّف ليس من صفات المؤمنين، لا تتكلَّف التَّصنّع والكهنوت !! هذا ليس من صفات المؤمنين ، ويتناقض مع الفطرة السليمة ، فأنت عظيمٌ جدًّا إذا كنت طبيعيًّا .
فقال لي : اِجْلسْ يا زياد حتَّى نفْرغَ لك ، فجلسْتُ على خشبة الباب ! والكاتب يقرأ عليه ، وعمر يتنفَّس الصُّعداء من الهمّ ، فلمَّا فرغَ كاتبهُ من قراءة الرِّقاع التي معه ، وانطلقَ إلى شأنه ، قام عمر من مجلسِهِ ومشى إليه ، حتى جلسَ بين يديّ عند الباب ، ووضعَ يديْه على ركبتي ، ثمَّ يقوم سيّدنا عمر بن عبد العزيز بنفسه عند هذا المولى الذي جاءهُ من المدينة ، وقد أرجأهُ قليلاً لِيَحلّ قضايا المظالم ، يبدو أنَّه غفل ، فقال لِزِياد : هنيئًا لك يا زياد ، لقد اسْتدفأْتَ بِمَدْرعتِكَ ، واسْترحْتَ مِمَّا نحن فيه ! الخلافة كانتْ عبئًا ، سيّدنا عمر قال : لسْتُ خيرًا من أحدكم ، ولكنَّني أثقلكم حِمْلاً ، والله لو تعثَّرَتْ بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها ، لِمَ لمْ تفْسِح لها الطريق ياعمر؟!!!
مرَّةً حرمَ نفسهُ أكلَ اللَّحْم مدّةً طويلة ، فأصبحَ في بطنهِ صوتًا ، فقال : قَرْقِرْ أيُّها البطْن أو لا تُقَرْقِرْ ، فوالله لن تذوق اللَّحْم حتى يشبعَ منه صِبْيَة المؤمنين !!!.
قال : لقد اسْتدفأْتَ بِمَدْرعتِكَ ، واسْترحْتَ مِمَّا نحن فيه ! مرَّةً دخلتْ عليه زوجتهُ فاطمة ، فرأتْهُ يبكي في مُصلاَّه ، قالتْ له : ما لكَ تبكي ، فقال : دعيني وشأني ، فلمَّا ألحَّتْ عليه ، قال : إنِّي وُلِّيتُ هذا الأمْر ، فذكَرْتُ الفقير الجائع ، والضَّعيف ، وذو الحاجة ، والأسير ، والمظلوم ، وذا العِيال فعَلِمْتُ أنَّ الله سيُحاسبني عن هؤلاء جميعًا ، وأنّ حجيجَهـم دوني رسولُ الله ، فلهذا أبكي ، دعيني وشأني !
وكانت عليَّ مدْرعة صوف ، ثمَّ طفقَ يسألني عن صُلَحاء أهل المدينة ؛ رِجالهم ونسائهم واحدًا واحدًا ، فما ترك منهم واحدًا إلا وسألني عنه ، ثمّ سألني عن أشياء كان أمرَ بها في المدينة حينما كان واليًا عليها ، فأخبرتهُ عن كلّ ما سأل ، ثمَّ تنهَّد وقال : يا زياد ألا ترى إلى ما وقع فيه عمر ؟ فقلتُ : إنِّي أرجو لك في ذلك خيرًا وأجْرًا ، فقال : هيهات ! ثمَّ بكى حتى رثَيْتُ له ، وقلتُ: اِرْفِق بِنَفسك يا أمير المؤمنين فإنِّي لأرجو لك خيرًا كثيرًا فقال : ما أبْعَدَ ما ترْجوهُ يا زياد!.
الآن اِسْمع أيها الكريم كيف يصِفُ مَنْصِبَ الخلافة ؟ قال: لقد أصْبح في وُسعي أن أشْتِمَ ولا أُشْتَم ، وأن أضْربَ ولا أُضرَب ، وأن أوذِيَ الناس ولا أوذَى بأحد ، مَن بإمكان مجابهة الملك؟ ومن بإمكانه أن يضربهُ ؟ منْصب الملك أعلى منصب ، قال له : لقد أصْبح في وُسعي أن أشْتِمَ ولا أُشْتَم وأن أضْربَ ولا أُضرب ، وأن أوذِيَ الناس ولا أوذَى بأحد ، ثمَّ بكى ، انظروا الخوف من الله عز وجل !! قال : ثمَّ بكى كرَّةً أخرى حتى جعلتُ أرثي له ، ولقد أقمْت عندهُ أيامًا ثلاثة حتى قضى ما أرسلني به مولاي ، فلمَّا هممْتُ بالانصراف زوَّدني بِكتابٍ إلى سيّدي يسألهُ فيه أن يبيعني منه ، ثمَّ أخرج من تحت فراشه عشرين دينارًا ، وقال : اسْتَعِن بهذا المال على دنياك ، ولو كان لك حقّ في الفيء لأعْطَيناك ، فأبيْتُ أن آخذ المال منه ، فقال : خُذْهُ فما هو من مال المسلمين إنَّما هو من نفقتي ، فامْتنعْتُ عن أخذه ، ولكنَّه ما زال بي حتى أخذتهُ منه ، ومضَيْتُ ، فلمَّا بلغْت المدينة دفعْت بكتاب أمير المؤمنين إلى مولاي ، ففضَّه ، وقال : إنَّما سألني أن أبيعك له لِيُعْتِقَكَ ! فلِمَ لا أكون أنا المُعْتِقُ لك ؟ ثمّ أعْتقَهُ .
أيها الإخوة الكرام ، هذا نموذج وهو أنَّه ما من عملٍ على وجه الأرض إلا ويمكن أن يكون طريقًا إلى الجنَّة ، وهذه عظمة الإسلام ، وقد قلتُ لكم سابقًا : الإنسان في عمله ومهنته ، وحرفته ، ووظيفته ، ومنصبهُ ، كرسيّه في الجامعة ، منصبه في الطب ، والتدريس ، تجارته ، صناعته ، العمل الذي ترتزق منه إذا كان في الأصل مشروعًا ، وسلكْت به الأساليب المشروعة التي بيَّنها الله ، أيْ لم تكذب ، ولك تغشّ ، ولم تُدلِّسْ ، ولك تظلِم ، ولم تحْتكِر ، ولم تستغلّ ، إذا كان العمل في الأصل مشروعًا وسلكْت به الأساليب المشروعة ، ولم يشْغلْك عن فريضة أو واجبٍ أو طلب علْم ، وأردْت به كفاية نفسك وأهلك ، وخدمة المسلمين انقلب العمل إلى عبادة ، فهذا الخليفة العظيم جعل من هذا المنصب العالي طريقًا إلى الجنَّة ، وكلّ واحد من سعادته أن يجعل ممَّا أقامه الله فيه ، الله أقامك تاجرًا أو موظَّفًا ، مدرِّسًا ، طبيبًا ، بائعًا ، أيّ عملٍ أقامك الله به بإمكانك أن تجعلهُ طريقًا إلى الجنَّة ، والحياة محدودة ، وقصيرة ، وهذه الحياة مزرعة الآخرة فانتَبِهوا أيّها الإخوة .
أيها الإخوة ، العادات إذا رافقتْها النوايا الطَّيِّبَة انقلبَت إلى عبادات ، فكلّنا نأكل ، ونشرب، وننام ، ونسكن في بيت ، ولنا عمل ، ونتنزَّه أحيانًا ، والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن تكون نزهتك مع أولادك عبادة ، إذا نوَيْتَ أن تُكْرمهم ، وأن تمكِّن علاقتهم بك ، وأن تضعَ اللّقمة في فم زوجتك هي لك صدقة ، أن تجلس مع أهلك تؤْنسهم بِحَديثك هو لك صدقة ، فالإنسان إذا عرف الله عز وجل فكلّ ذلك محْسوم ، كلّ شيءٌ يعمله هو عملٌ صالح يرقى به ، فالعِبرة أن تعرف الله تعالى أوَّلاً ، وأن تعرف سرّ وجودك ثانيًا ، وغاية وجودك ، الآن كلّ حركاتك وسكناتك أعمال صالحة ، حتى الأعمال التي تظنّها عاديّة ، أن تشتري بيتًا لابنك ، أطْعم أهله ، ودعا إخوانه إلى طعام ، أخذ أهله إلى نزهة ، ارتدى ثيابًا جديدة ، بصفته مسلمًا ، فالظهور بمظهر أنيق واجب ، فالأعمال العاديّة بالنوايا الطَّيّبة تنتقل إلى عبادات ، والأعمال الجليلة تنقلب إلى عبادات ، خليفة المسلمين قال : الناس يتَّخذون الملك ليكون طريقًا إلى الدنيا ، وأنا أتَّخذه طريقًا إلى الآخرة ، فيمكن لأيّ عملٍ على الإطلاق ، طبعًا إذا كان مشروعًا ، أن يكون لك طريقًا إلى الجنَّة ، فعلى الإنسان مراجعة حساباته ، ويجتهد في معرفة الله ، ومعرفة كتابه ومنهجه ، حتَّى تنقلب حياته إلى مغانمَ لا إلى مغارم ، فهناك مَن يموت ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-19_files/image003.gif
[ سورة الكهف ]
وهناك من أَلْفُهُ كأُفّ ! العبرة أن تعرف ربّك ، وأن تعرف منهجه ، وبها تصير حركاتك كلّها صالحة ، عملك ، وبيتك ، وتربية أولادك ، إطعامك لأهلك ، نشاطك الاجتماعي كلّه في سجلاّت الأعمال الصالحة ، فهذا الدرس عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز ثلاثة صور ؛ الصورة الأولى والثانية والثالثة تؤكِّد أوَّلاً نفسًا توَّاقة ، فالمؤمن طموح لأعلى درجة ، ولكن طموح المؤمن لا ينتهي عند الدنيا ، بل ينتهي إلى الآخرة ، فالدنيا مَطِيَّة، والحياة جميلة ، لكن لمَن عرف الله ، يقول أحد العارفين بالله تعالى : مساكين أهل الدنيا ، جاؤوا إلى الدنيا ، وغادروها ، ولم يعرفوا أجْمل ما فيها ! يقول أحد العارفين بالله : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري إن حبسوني فحَبسي خَلوَة ، وإن أبعدوني فإبعادي سِياحة ، وإن قتلوني فقتْلي شهادة ، فماذا يصْنعُ أعدائي ؟!! وهذه دعوة لطيفة من الله عز وجل ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-19_files/image004.gif
[ سورة النحل ]
أنت بِمَعرفة الله تجعل حياتك ذات معنى ، لذلك حياة العظماء عظيمة جدًّا ، هل تصدِّقون أنَّ الله سبحانه وتعالى أقْسمَ بماذا ؟ بِعُمُر النبي ! قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-19_files/image005.gif
[ سورة النحل ]
خالق الكون يُقْسمُ بِعُمُر النبي ، فالعُمْر قد يكون قصيرًا جدًّا ، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاء الدنيا ، وعاش فيها ثلاث وستِّين سنة ، قلبَ وجْه الأرض ، وعمَّت الفضيلة في القارَّات الخمْس ، سمعتُ البارحة عشرة ملايين مسلم في أمريكا ، الآن بفرنسا الدِّين الثاني هو الإسلام ، فأيّ طالب في التعليم من حقِّه أستاذ دِيانة إسلامي ! فالنبي خلال ثلاث وستِّين سنة عمَّ الهدى الأرض ، والإسلام في توسّع ، لذلك الإنسان إذا أراد أن يتْرك شيئًا في الحياة الله عز وجل يعينه على ذلك ، ويكرمه ، فما علينا إلا أن نتحرَّك ، والله معنا والعوام يقولون كلمة أحبّها : عبْدي قُم أقمْ معك ! أنت تحرَّك ؛ اُتْرك عملاً صالحًا ، وأثرًا ، اُدْعُ إلى الله ، دُلَّ الناس على الله ، أتْقِن عملك ، وانْصح المسلمين ، أما الإنسان الذي لا عمل له ، فلا شيء له عند الله تعالى ، فحجْم الإنسان عند الله بِحَجم عمله الصالح .
لؤلؤة الغرب
28-04-2009, 06:15 PM
أبيّ بن كعب - ليهنك العلم، أبا المنذر
سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:
" يا أبا المنذر..؟
أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟
فأجاب قائلا:
الله ورسوله أعلم..
وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:
أبا المنذر..؟؟
أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟
وأجاب أبيّ:
الله لا اله الا هو الحيّ القيّوم..
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده، وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:
ليهنك العلم أبا المنذر"...
**
ان أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..
هو أنصاري من الخزرج، شهد العقبة، وبدرا، وبقية المشاهد..
وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، ومكانا عاليا، حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:
" أبيّ سيّد المسلمين"..
وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي، ويكتبون الرسائل..
وكان في حفظه القرآن الكريم، وترتيله اياه، وفهمه آياته،من المتفوقين..
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:
" يا أبيّ بن كعب..
اني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..
وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يتلقى أوامره من الوحي..
هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:
" يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك بأسمي"..؟؟
فأجاب الرسزل:
" نعم..
باسمك، ونسبك، في الملأ الأعلى"..!!
وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..
وطوال سنوات الصحبة، وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..
وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته، وفي قوة دينه، وخلقه..
وكان دائما نذيرا في قومه..
يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماكانوا عليه من عهد، وسلوك وزهد..
ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:
" لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..
فلما فارقنا، اختلفت جوهنا يمينا وشمالا"..
**
ولقد ظل مستمسكا بالتقوى، معتصما بالزهد، فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..
ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..
فمهما يعيش المرء، ومهما يتقلب في المناعم والطيبات، فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء، ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير، أو ما عمل من سوء..
وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:
" ان طعام ني آدم، قد ضرب للدنيا مثلا..
فان ملّحه، وقذحه، فانظر الى ماذا يصير"..؟؟
**
وكان أبيّ اذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق واصغاء..
ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..
وحين اتسعت بلاد الاسلام، ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق، وقف يرسل كلماته المنذرة:
" هلكوا ورب الكعبة..
هلكوا وأهلكوا..
أما اني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".
**
وكان على كثرة ورعه وتقاه، يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.
وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها، أ، يسنعها، تهه وتهز كل كيانه..
وعلىأن آية من تلك الآيات الكريمة، كان اذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..
تلك هي:
( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..
كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمو أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..
وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..
ولقي ربه مؤمنا، وآمنا ومثابا..
طالب عفو ربي
28-04-2009, 07:00 PM
تابــــــع أبي بن كعب
هو أُبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي، له كنيتان: أبو المنذر؛ كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو الطفيل؛ كناه بها عمر بن الخطاب بابنه الطفيل، وأمه صهيلة بنت النجار وهي عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان أُبيّ رضي الله عنه أبيض الرأس واللحية لا يخضب.
إسلامه:
كان رضي الله عنه ممن أسلم مبكرًا، وقد شهد بيعة العقبة الثانية، وبعد الهجرة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال ما هؤلاء فقيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصابوا ونعم ما صنعوا"، وكانت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة الدافع الذي جعل أُبي رضي الله عنه أحد المجتهدين وأحد علماء الصحابة وقرّائهم، ومع اجتهاده إلا أنه كان دائما يستأذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على بلى وعذرة وجميع بني سعد بن هديم من قضاعة قال: فصدقتهم حتى مررت برجل منهم وكان منزله وبلده من أقرب منازلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قال: فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض قال: فقلت له: أد ابنة مخاض فإنها صدقتك فقال: ذاك مالا لبن فيه ولا ظهر وإيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسول له قبلك وما كنت لأقرض الله من مالي مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن خذ هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإما أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبله وإن رد عليك رده قال: فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسول له قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما على فيه ابنة مخاض وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة سمينة ليأخذها فأبى علي وهاهي ذه قد جئتك بها يا رسول الله فخذها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي عليك وإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك، قال: فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.
وكان دائما ما يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما جزاء الحمى قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق قال أبي: اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجا في سبيلك ولا خروجا إلى بيتك ولا مسجد نبيك قال: فلم يمس أبي قط إلا وبه حمى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب في صدره فيفيض عرقًا:
روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلقُ كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
الرسول يعلمه:
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي ولم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام: "ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك" فقال يا رسول الله: إني كنت في الصلاة قال: "أفلم تجد فيما أوحي إلي (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)" قال: بلى ولا أعود إن شاء الله...
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" قلت: بلى قال: "فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت معه فأخذ بيدي فجعل يحدثني حتى بلغ قرب الباب قال فذكرته فقلت: يا رسول الله السورة التي قلت لي، قال "فكيف تقرأ إذا قمت تصلي" فقرأ بفاتحة الكتاب قال: "هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُ بعد"
أهم ملامح شخصيته: عميد قرّاء الصحابة وأحد علمائهم:
الله عز وجل يأمر رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن على أبي بن كعب:
روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ "لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" قَالَ: وَسَمَّانِي قَالَ: "نَعَمْ" فَبَكَى.
فكان رضي الله ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري بسنده عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرأ الأمة فعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وإن لكل أمة أمينا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"
بل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يستقرأوا القرآن عليه ففي البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل قال لا أدري بدأ بأبي أو بمعاذ بن جبل.
وعند الإمام أحمد بسنده عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْفَجْرِ فَتَرَكَ آيَةً فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: "أَفِي الْقَوْمِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ" قَالَ أُبَيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ: نُسِخَتْ آيَةُ كَذَا وَكَذَا أَوْ نُسِّيتَهَا قَالَ: "نُسِّيتُهَا"
ويشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعة علمه:
ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: الله ورسوله أعلم قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر".
قال النووي في شرح مسلم: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لِأُبَيِّ بْن كَعْب لِيَهْنِكَ الْعِلْم أَبَا الْمُنْذِر ) فِيهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِأُبَيٍّ وَدَلِيل عَلَى كَثْرَة عِلْمه. وَفِيهِ تَبْجِيل الْعَالِم فُضَلَاء أَصْحَابه وَتَكْنِيَتهمْ ، وَجَوَاز مَدْح الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَة ، وَلَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ إِعْجَاب وَنَحْوه ; لِكَمَالِ نَفْسه وَرُسُوخه فِي التَّقْوَى.
وقد أخذ عن أُبي قراءة القرآن ابنُ عباس وأبو هريرة وعبدُ الله بن السائب وعبدُ الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي، وحدث عنه سويد بن غفلة وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون...
فقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا له حقه، وأنزلوه المنزلة التي يستحقها وعرفوا له علمه وفضله، وكان يسألونه عما لا يعرفون، روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
ويكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة أبي بن كعب وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان قال: وكان أبي إذا لم يحضر دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فكتب.
وعن زرّ بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال: رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
وكان رضي الله عنه أول من أمّ الناس في صلاة التراويح فعن عبد الرحمن بن عبد القارىء أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.
وعن أبي بن كعب قال: أما أنا فأقرأ القرآن في ثماني ليال.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أتى على هذه الآية "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ" فأتى أبي بن كعب فسأله: أينا لم يظلم؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إنما ذاك الشرك أما سمعت قول لقمان لابنه: "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".
المستدرك...الحاكم
إلى بيته يُؤتى الحكم:
عن ابن سيرين قال: اختصم عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء فحكما أبي بن كعب فأتياه فقال عمر بن الخطاب إلى بيته يؤتى الحكم فقضى على عمر باليمين فحلف ثم وهبها له معاذ.
جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت له:إني وضعت بعد وفاة زوجي قبل انقضاء العدة فقال عمر: أنت لآخر الأجلين، فمرت بأبي بن كعب فقال لها: من أين جئت؟ فذكرت له وأخبرته بما قال عمر فقال: اذهبي إلى عمر وقولي له إن أبي بن كعب يقول قد حللت فإن التمستيني فإني ها هنا فذهبت إلى عمر فأخبرته فقال: ادعيه فجاءته فوجدته يصلي فلم يعجل عن صلاته حتى فرغ منها ثم انصرف معها إليه فقال له عمر: ما تقول هذه؟ فقال أبي: أنا قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم"وأولات الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن" فالحامل المتوفى عنها زوجها أن تضع حملها فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم نعم فقال عمر للمرأة: اسمعي ما تسمعين.
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازنا. المستدرك للحاكم
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم: روى البخاري بسنده عن سويد بن غفلة قال لقيت أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: أخذت صرة مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثا فقال احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت فلقيته بعد بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا.
الرسول وأُبي وابن صياد:
في البخاري بسنده أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبي بن كعب قبل ابن صياد فحدث به في نخل فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وابن صياد في قطيفة له فيها رمرمة فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا صاف هذا محمد فوثب ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو تركته بَيَّنَ"
ويصاب يوم الأحزاب فيعالجه النبي صلى الله عليه وسلم:
في صحيح مسلم بسنده و حدثني بشر بن خالد حدثنا محمد يعني ابن جعفر عن شعبة قال سمعت سليمان قال سمعت أبا سفيان قال سمعت جابر بن عبد الله قال رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله - هو عرق في وسط الذراع - فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن جابر بن عبد الله قال جاء أبي بن كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كان مني الليلة شيء في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك قال: فصليت بهن ثماني ركعات ثم أوترت قال:
فكان شبه الرضا ولم يقل شيئا. صحيح ابن حبان
وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله يا أيها الناس اذكروا الله يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه فقال أبي بن كعب: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك منها؟ قال ما شئت قال: الربع قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال: النصف قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال: الثلثين قال: ما شئت وإن زدت فهو خير قال: يا رسول الله أجعلها كلها لك قال: إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك. قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة: مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا قال: فخرجنا فكنت أنا و أبي بن كعب في مؤخرة الناس فهاجت سحابة فقال أبي: اللهم اصرف عنا أذاها، فلحقناهم وقد ابتلت رجالهم فقال عمر: ما أصابكم الذي أصابنا؟ قلت: إن أبا المنذر دعا الله أن يصرف عنا أذاها فقال عمر: ألا دعوتم لنا معكم؟
وعن ابن عباس قال: كان للعباس دار إلى جنب المسجد وفي المسجد ضيق فأراد عمر أن يدخلها في المسجد فأبى فقال: اجعل بيني وبينك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا بينهما أبي بن كعب فقضى للعباس على عمر فقال عمر: ما أحد من أصحاب محمد أجرأ علي منك فقال أبي: أو أنصح لك مني قال: يا أمير المؤمنين أما بلغك حديث داود أن الله عز وجل أمره ببناء بيت المقدس فأدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها فلما بلغ حجز الرجال منعه الله بناءه قال داود: يا رب منعتني بناءه فاجعله في عقبي فقال العباس: أليس قد صارت لي وقضى لها بها؟ قال: فإني أشهدك أني قد جعلتها لله عز وجل.
وعن ابن سيرين قال: تسلف أبي بن كعب من عمر بن الخطاب مالا قال: أحسبه عشرة آلاف ثم إن أبيا أهدى له بعد ذلك من تمرته وكانت تبكر وكان من أطيب أهل المدينة تمرة فردها عليه عمر فقال أبي: ابعث بمالك فلا حاجة لي في شيء منعك طيب تمرتي، فقبلها، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسىء.
مع أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف فقال أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع قال أبي وما ذاك قال استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا فقال أبي بن كعب فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا
مع أبي ذر:
في سنن ابن ماجة بسنده عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الآن فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أبي".
مع سعد بن الربيع:
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه؟ فقال أبي بن كعب: أنا وذكر الخبر وفيه: أقرأ على قومي السلام وقل لهم: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فوالله مالكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، وقال أبي: فلم أبرح حتى مات فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا.
مع جندب بن عبد الله البجلي:
وعن جندب قال: أتيت المدينة لأتعلم العلم فلما دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الناس فيه حلق يتحدثون قال: فجعلت أمضي حتى انتهيت إلى حلقة فيها رجل شاحب عليه ثوبان كأنما قدم من سفر فسمعته يقول: هلك أصحاب العقد ورب الكعبة ولا آسي عليهم يقولها ثلاثا هلك أصحاب العقد ورب الكعبة هلك أصحاب العقد ورب الكعبة هلك أصحاب العقد ورب الكعبة قال: فجلست إليه فتحدث ما قضي له ثم قام فسألت عنه فقالوا: هذا سيد الناس أبي بن كعب قال: فتبعته حتى أتى منزله فإذا هو رث المنزل رث الكسوة رث الهيئة يشبه أمره بعضه بعضا، فسلمت عليه فرد علي السلام قال: ثم سألني: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق قال: أكثر شيء سؤلا وغضب قال: فاستقبلت القبلة ثم جثوت على ركبتي ورفعت يدي هكذا ومد ذراعيه فقلت: اللهم إنا نشكوهم إليك، إنا ننفق نفقاتنا وننصب أبداننا ونرحل مطايانا ابتغاء العلم فإذا لقيناهم تجهموا لنا وقالوا لنا قال: فبكى أبي وجعل يترضاني ويقول: ويحك أني لم أذهب هناك ثم قال أبي: أعاهدك لأن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلمن بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخاف فيه لومة لائم قال: ثم انصرفت عنه وجعلت أنتظر يوم الجمعة فلما كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا الطرق مملوءة من الناس لا آخذ في سكة إلا استقبلني الناس، قال، فقلت ما شأن الناس؟ قالوا: إنا نحسبك غريبا قال: قلت أجل قالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب قال: فلقيت أبا موسى بالعراق فحدثته فقال: هلا كان يبقى حتى تبلغنا مقالته؟ قال في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
موقفه مع الجني:
عن أبي بن كعب: أنه كان له جرن فيه تمر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بداية شبه الغلام المحتلم قال: فسلمت فرد السلام فقلت: ما أنت جني أم إنسي؟ قال: جني قلت: ناولني يدك فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشد مني قلت ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم؟ قال هذه الآية آية الكرسي التي في سورة البقرة من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي - فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "صدق الخبيث" فتح القدير للشوكاني
أثره في الآخرين: روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
وكان رضي الله ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري بسنده عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
وقد أخذ عن أُبي قراءة القرآن ابنُ عباس وأبو هريرة وعبدُ الله بن السائب وعبدُ الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي، وحدث عنه سويد بن غفلة وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون...
وعن زرّ بن حبيش قال:سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال: رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
وعن أسلم المنقري قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يحدث عن أبيه قال: لما وقع الناس في أمر عثمان رضي الله عنه قلت لأبي بن كعب: أبا المنذر ما المخرج من هذا الأمر؟ قال: كتاب الله وسنة نبيه ما استبان لكم فاعملوا به وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه.
بعض ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود عن عن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح فقال " أشاهد فلان؟ " قالوا لا قال " أشاهد فلان؟ " قالوا لا قال " إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على الركب وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل وحسّنه الألباني
وعنه رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم أحدا من الناس ممن يصلي القبلة من أهل المدينة أبعد منزلا من المسجد من ذلك الرجل وكان لا تخطئه صلاة في المسجد فقلت لو اشتريت حمارا تركبه في الرمضاء والظلمة فقال ما أحب أن منزلي إلى جنب المسجد فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن قوله ذلك فقال أردت يا رسول الله أن يكتب لي إقبالي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي إذا رجعت فقال " أعطاك الله ذلك كله أعطاك الله جل وعز ما احتسبت كله أجمع. قال الألباني: صحيح
عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال "سبحان الملك القدوس" قال الألباني: صحيح
بعض كلماته:
من أقواله رضي الله عنه: تعلموا العربية كما تعلمون حفظ القرآن.
وقوله: لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن قوله تعالى: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقوله رضي الله عنه: الشهداء في قباب من رياض بفناء الجنة يبعث لهم حوت وثور يعتركان فيلهون بهما فإذا اشتهوا الغداء عقر أحدهما صاحبه فأكلوا من لحمه يجدون في لحمه طعم كل طعام في الجنة وفي لحم الحوت طعم كل شراب.
وقوله رضي الله عنه: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
وقوله رضي الله عنه: ما ترك عبد شيئا لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به فأخذه من حيث لا ينبغي له إلا أتاه الله بما هو أشد عليه.
وقال رضي الله عنه: إن مطعم ابن آدم ضرب للدنيا مثلا وإن قزحه وملحه فقد علم إلى ما يصير
وعن أبي العالية قال: قال رجل لأبي بن كعب: أوصني قال: اتخذ كتاب الله إماما وأرض به حكما وقاضيا؛ فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.
وفاته رضي الله عنه:
ثبت عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من المسلمين قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا فيها؟ قال: كفارات فقال أبي بن كعب: يا رسول الله وإن قَلّت؟ قال: وإن شوكة فما فوقها، فدعا أبي ألا يفارقه الوعك حتى يموت، وألا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صلاة مكتوبة في جماعة، قال: فما مس إنسان جسده إلا وجد حره حتى مات.
عن جندب قال: أتيت المدينة... خرجت لبعض حاجتي فإذا الطرق مملوءة من الناس لا آخذ في سكة إلا استقبلني الناس، قال، فقلت ما شأن الناس؟ قالوا: إنا نحسبك غريبا قال: قلت أجل قالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب.
وقد اختلف في سنة وفاته رضي الله عنه وأرضاه فقيل توفي في خلافة عمر سنة تسع عشرة وقيل سنة عشرين وقيل سنة اثنتين وعشرين، وقيل إنه مات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، قال في المستدرك: وهذا أثبت الأقاويل لأن عثمان أمره بأن يجمع القرآن.
طالب عفو ربي
29-04-2009, 12:37 AM
القاضي شريح بن الحارث (http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8.php)
قيل لشريح : بأي شيء أصبت هذا العلم فقال : بمذاكرة العلماء ، آخذ منهم ، وأعطيهم.
وصدقوني ـ أيها الإخوة ـ ما من شيء في الحياة الدنيا أمتع للمؤمن من أن يذاكر المسلمُ أخاه شؤونَ العلم ، فجلسة العلم ، ومذاكرة العلم ، والاستماع للعلم ، والنطق بالعلم شيء يليق بالإنسان المسلم ، قال تعالى:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image001.gif
[سورة المؤمنون]
الحقيقة الكبرى في الكون أنّ أيّة مذاكرة تبعدك عن هذه الحقيقة فهي لهو ، وأيّة مذاكرة تقرِّبك من هذه الحقيقة فهي حق .
أيها الإخوة ليس من عادتي أن أتحدث عن أهل الغرب ، ولكن أعجبتني كلمة قالها زعيم بريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، حيث اجتمع بوزرائه ، وقد أتت الحرب على كل شيء ، لا معمل ، ولا حق ، ولا مال ، ولاشيء ، الحرب المدمرة لا تبقي ولا تذر ، تطحن الناس طحناً ، فسأل هذا الزعيم وزراءه وزيراً وزيراً : كيف الصناعة عندك يا فلان ؟ قال : المعامل كلها مدمرة ، كم في حوزتك من المال يا وزير المالية ؟ قال : لا شيء ، سألهم وزيراً، وكل وزير بحسب اختصاصه أظهر أن البلاد مدمرة عن آخرها ، وصل إلى وزير العدل ، قال : يا فلان كيف العدل عندك ؟ قال : بخير .. قال : كلنا بخير .. نحن بخير إذا أخذ العدل مجراه ، كلمة قالها زعيم بريطاني لوزرائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
الدرس اليوم عن القاضي شريح .. وقد ورد في الأثر : عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة *
[رواه الديلمي عن أبي هريرة]
ومن طريق أبي نعيم بلفظ : عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة *
فلا شيء يرفع الإنسان كالعدل ، وقد يتوهم أحدكم أن العدل للقاضي ، كل واحد منكم قاضٍ ؛ الأب له أولاد فهو قاض بينهم ، النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل ، وتبع هذا الرجل ابنه الصغير ، وضعه على رجله اليمنى وقبله ، ودخلت بنته بعد ذلك وضعها على رجله اليسرى ولم يقبلها ، فقال النبي الكريم : لمَ لم تسوي بينهما ؟ ..
إلى هذا المستوى ، لذلك فالمؤمن عادل ، والدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً إذا اقتضت أن يقيم العدل بين الناس .
والحقيقة الآن نسمع عن هذا القاضي أشياء كأنها خيال .
لقد ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس ، ثم امتطى صهوته ، ومشى به ، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري ، فانثنى به عائداً من حيث انطلق ، وقال للرجل : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : لا آخذه يا أمير المؤمنين ، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر : اجعل بيني وبينك حكماً ، قال الرجل : يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي ، فقال عمر : رضيت به .
احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح ، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب ، وقال : يا أمير المؤمنين هل أخذت الفرس سليماً؟ فقال عمر : نعم ، قال شريح : احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين ، أو ردَّ كما أخذت..
هذا هو الحكم ، فما دمت قد أخذته سليماً ، وأصابه العطب بيدك ، فاحتفظ به أو ردَّه كما أخذته .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً ؟ وغير عمر يحنق عليه .
إنسان في بلد خليجي وجه إلى شخص مسؤول توصية ، فقال له : هذه لا أنفذها لأنها خلاف العدل ، فأزيح من منصبه .
سيدنا عمر نظر إلى شريح معجباً ، وقال : وهل القضاء إلا هكذا ؟! أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك ، هكذا القضاء ؛ قول فصل ، وحكم عدل ، سِرْ إلى الكوفة ، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه ، وأُعجِب بهذه النزاهة ، وبهذه الجرأة .
لم يكن شريح بن الحارث يوم ولاه عمر بن الخطاب القضاء رجلاً مجهول المقام في المجتمع المدني ، أو امرأً مغمور المنزلة بين أهل العلم ، وأصحاب الرأي من جل الصحابة، وكبار التابعين ، فقد كان من أصحاب الفضل وأهل السابقة يقدِّرون لشريح فطنته الحادة ، وذكاءه الفذّ ، وخلقَه الرفيع ، وطول تجربته في الحياة وعمقها ، فهو رجل يَمَنِيُّ الموطن ، كِنْدي العشيرة ، قضى شطراً غير يسير من حياته في الجاهلية ، فلما أشرقت الجزيرة العربية بنور الهداية ، ونفذت أشعة الإسلام إلى أرض اليمن ، كان شريح من أوائل المؤمنين بالله ورسوله ، المستجيبين لدعوة الفضيلة والحق ، وكان عارفوا فضله ، ومقدروا شمائله ومزاياه يأسون عليه أشد الأسى ، ويتمنّون أن لو أتيح له أن يفِدَ على المدينة مبكراً ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى ، ولينهل من موارده الصافية المصفاة مباشرة بلا واسطة ، ولكي يحظى بشرف الصحبة بعد أن حظي بنعمة الإيمان ، وبذلك يجمع الخير من أطرافه ، ولكن ما قدر الله كان .
إذاً ليس شريحٌ صحابياً ، لقد عاش في الجاهلية ، وأسلم حينما جاء النبي بدعوته ، ولكنه لم ينتقل من اليمن إلى المدينة إلا بعد أن توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً هو ليس صحابياً ، ولكنه عاش الجاهلية ، وعاش الإسلام .
سيدنا عمر لم يكن متعجلاً حين عهد إليه بمنصب القضاء ، على الرغم من أن سماء الإسلام كانت يومئذ لا تزال تتألق بالنجوم الزاهرة من صحابة رسول الله ، فقد أثبتت الأيام صدقَ فراسة عمر ، وصوابَ تدبيره .
قضى القاضي شريح بين المسلمين أكثر من ستين عاماً ، ويكاد يكون هذا الاسم من الأسماء المتألقة في سماء القضاء الإسلامي ، القاضي الأول .. لشدة ورعه ، وحرصه على إنفاذ أمر الله ، وتوِّخيه العدالة التامة ، فقد تَعَاقَبَ على إقراره على منصبه كل من عمرَ بن الخطاب وعثمانَ بن عفان ، وعليِّ بن أبي طالب ، ومعاويةَ بن أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، كلُّ هؤلاء الخلفاء أقرُّوه في منصبه .
والحقيقة أحياناً يكون هناك إنسان مخلص جداً ، كفء ، ومخلص ، رغم تبدل الحكومات لا يجرؤ أحد على أن يزحزحه من منصبه ، لأنه بالتعبير الحديث يملأ منصبه ، علماً وإخلاصاً ، وإنتاجاً ، وهناك تعبير عامي يقول لك : لا يصح إلا الصحيح ، فإذا أخلص الإنسان وأتقن ، وكان ملء السمع والبصر ، فهذا الإنسان أقوى من التغييرات ، وسيدنا عمر عيّنه ، ثم أقرَّه سيدنا عثمان ، وتتابع على إقراره سيدنا علي وسيدنا معاوية ، بل إن الخلفاء الذين جاءوا بعد معاوية قد أقروه على منصبه ، حتى إن شريحًا طلب إعفاءه من منصبه في أول ولاية الحجاج .
لقد أقره عمر ، وطلب الإعفاء من منصبه في ولاية الحجاج .
عاش هذا القاضي سبع سنوات بعد المائة الأولى للهجرة حياة مديدة رشيدة ، حافلة بالمفاخر والمآسي ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي]
زرت شخصاً قبل سنوات في أحد الأعياد ، وهو والد صديق لي ، عمره ستة وتسعون عاماً ، قال لي بالحرف الواحد : قبل أيام أجريت تحليلات شاملة ، فلم يكن هناك شيء غير طبيعي ، ثم قال : واللهِ ما أكلت درهماً حراماً ، ولا أعرف الحرام من النساء .
وكنت قد حدَّثتكم عن رجل عاش ستةً وتسعين عاماً ، أمضاها في تعليم النشء العلم الشرعي ، وكان يتمتع بقامة منتصبة ، وبصر حاد ، وسمع مرهف وكانت أسنانه في فمه ، وكان يقول حفظناها في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
سمعت أن أحد شيوخ الأزهر الصالحين عاش مائة وثلاثين عاماً ، وقد التقيت بابنه في أحد المؤتمرات في المغرب ، قال : نعم عاش أبي هذه السنوات ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]
الحقيقة تاريخ القضاء الإسلامي يزدان ببدائع هذا القاضي الجليل ، فمِن قصص هذا القاضي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً عنده كانت أثيرة غالية عليه ..
أمير المؤمنين ، المشكلة هنا مع أمراء ، فالقضية مع أمير المؤمنين ؛ مع سيدنا عمر حكم عليه ، قال له : أبق الفرس بحوزتك ، أو رُدَّها كما أخذتها ، وهذا حكم الله ، قال له : هكذا القضاء ، اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة .
سيدنا علي بن أبي طالب ما لبث إلا أن وجد هذه الدرع في يد رجل من أهل الكتاب يبيعها في سوق الكوفة ، فلما رآها عرفها ، وقال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي : بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين ، فقال علي رضي الله عنه : إنما هي درعي لم أبعها لأحد حتى تصير إليك .
هناك أشخاص يتوهمون أن المؤمن لا بد أنْ يُسقِط حقه .. سامحْه ، هذه بساطة وسذاجة ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
لكن إذا انتصروا :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image003.gif
[سورة الشورى]
فإذا غلب على ظنك أنه بعفوك عن أخيك الظالم تقرِّبه إلى الله ، وتقيله من عثرته ، وتعينه على الشيطان فينبغي أن تعفو عنه ، وعندئذ أجرُك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك يدعوه إلى مزيد من التطاول على الناس ، وأخذ أموالهم ، والاستخفاف بحقوقهم ، فينبغي حينئذٍ ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تنتصر ، وتقتصّ منه .
والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه أسير في بدر ، وقد شكا له بناته المتلهفات له ، ورجاه أن يعفو عنه ، وتوسل إليه ، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام ، وعاد الرجلُ إلى ما كان عليه مِن عداوة النبي ، ومِن قتل أصحابه ، ثم وقع أسيراً في أحد ، فرجاه ثانية ، قال : لا أعفو عنك ، لئلا تقول : خدعت محمداً مرتين .
المؤمن له أظافر أحياناً ، والمؤمن يطالب بحقه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
أما أهل الدنيا فيريدون للمؤمن أنْ لو أُكِل حقُّه أن يسكت ، يقولون : ألست مؤمنًا ؟ .. وإذا كان مؤمناً .. !!
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
يجب أن تنتصر مِن الذي بغى عليك ، وإذا غلب على ظنك أنك بعفوك عنه تزيده طغياناً.. فلا تعفُ عنه ، كإنسان يقود المركبة بشكل أرعن ، وسبَّبَ إيذاءً لإنسان .. أخي سامحه ، لا .. إذا سامحه هذا ، وسامحه ذاك ازداد رعونة ، أما إذا حوسب حسابًا عسيرًا فلعل هذا الحساب يردعه .
ولكن أحياناً لا يكون للشخص أيّ تقصير منه في القيادة ، طفل ألقى نفسه أمام المركبة ، وفقير ، أنت إذا عفوت عنه ، وقلت : هذا قضاء ، وقدر ، فقد قرّبته من الله عز وجل ، فأنت المفتي ، أمّا إذا غلب على ظنك أن العفو يقربه من الله ، ويقيل عثرته ، ويعينه على الشيطان، فينبغي والحالة هذه أن تعفو عنه ، وأجرك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك يزيده تطاولاً وجرأة واستخفافاً بحقوق الآخرين فينبغي ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تقتص منه ، وأن تنتقم منه ، والانتقام بالمعنى الدقيق أنْ توقف الظالم عند حده ، هذا هو الانتقام ، فقدْ يفهم الناسُ من الانتقام فهماً آخر ، على أنه عملية حقد ، لا .. قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image004.gif
[سورة الزخرف]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image005.gif
[سورة الأعراف الآية 180]
فانتقمنا منهم ..
أي أوقفناهم عند حدهم ، وردعناهم ، هذا معنى الانتقام .
فلما رآه قال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي: بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين .
فقال علي : إنما هي درعي ، لم أبِعْها من أحَد ، ولم أهبها لأحد حتى تصير لك.
فقال الذمي : بيني وبينك قاضي المسلمين .
فقال علي : أنصفت ، فَهَلُمَّ إليه .
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي ، فلما صارا عنده في مجلس القضاء ، قال شريح لعلي رضي الله عنه : ما تقول يا أمير المؤمنين .
قال : لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل ، وقد سقطتْ مني في ليلة كذا ، وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه لا ببيعٍ ولا بهبة .
قال شريح للذمي : وما تقول أنت أيها الرجل ؟.
فقال : الدرع درعي ، وهي في يدي .
كونها في يدي معناها درعي ، ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب ، لكنها درعي .
فالتفت شريح إلى عليّ كرم الله وجهه ، وقال : لا ريب عندي بأنك صادق يا أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين ، صحابي جليل ، باب مدينة العلم ، ابن عم رسول الله ليس معقول ، من سابع المستحيلات أن يكذب ، ومع ذلك قال له شريح : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ، وأنّ الدرع درعك ، ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادّعيت ، فقال علي : نعم مولاي قنبر ، وولدي الحسن يشهدان لي .
فقال شريح : ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين .
فقال علي : يا سبحان الله ، رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ *
[أخرجه الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
قال شريك :بلى يا أمير المؤمنين ، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .
عند ذلك التفتَ عليٌّ إلى الذميِّ ، وقال : خذها فليس عندي شاهد غيرهما.
فقال الذمي : ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين ، ثم أردف قائلاً : أمير المؤمنين، يقاضيني أمام قاضيه ، وقاضيه يقضي لي عليه ، أشهد أن هذا الدين الذي يأمر بهذا لحقٌّ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأسلم .
شيء لا يُصدق ، أمير المؤمنين ، والدرع درعه ، والقاضي من جماعته ، ويشدد هذا القاضي في الإجراءات التامة لتأخذ العدالة مجراها ، وقال هذا الذمي : اعلمْ أيها القاضي أن الدرعَ درعُ أمير المؤمنين ، وأني اتبعتُ الجيشَ ، وهو مُتَّجهٌ إلى صفين ، فسقطتْ الدرعُ عن جمله الأورق فأخذتها .
فقال له علي رضي الله عنه : أما وأنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك ، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً .
حدثني أخ كريم عنده معمل ، فقال لي : في كل يوم يجد نقصًا شديدًا في البضاعة ، ونقصًا في المال ، قال : فرَّغتُ إنسانًا حتى يراقب ، ولم نعثر على إنسان نتهمه بهذا ، فكان الذي يسرق على مستوى عالٍ جداً من الحنكة ، يضع في جيبه بضع مئات يفتقدها ظهراً ، يحسب البضاعة صباحاً فتنقص مساءً ، فرّغ إنسانا كلياً ليراقب فلم يعثر على شيء .
قال لي : بعد عشر سنوات طرق بابي شاب ، وقال : واللهِ لم أعرفه ، فلما دخل عليَّ قال: أنا فلان الفلاني ، كنت أعمل عندك في هذا المعمل ، وكنت آخذ من مالك ، ومن بضاعتك ، وأنت لا تدري ، ولكني تبت إلى الله ، وها أنا ذا عائد إليك كي أدفع لك ما عليّ من ذمم .
صاحب المعمل هو أخ من إخواننا ، قال له : هذا الذي عليك اتجاهي من بضاعة ومال وهبتُه لك نظير توبتك وإنابتك إلى الله ، وهبته لك ، ولن أسأل عنه بعد اليوم ، وكُلْهُ هنيئاً مريئاً ، وإذا أردتَ أن تعود إلى المعمل فمكانك محفوظ .
أنت كمسلم إذا ضلَّ الشخصُ ثم اهتدى ألا تفرح ؟ ألا تحسّ أن قلبك امتلأ فرحًا ؟ ألا تكافئ هذا الإنسان مقابل إسلامه بشيء من العطاء .
أيها الإخوة ، إنّ الإنسان إذا لم يفرح بأخيه عندما يسلم ، أو عندما يصطلح مع الله لا يكون عنده إيمان ، ومن علامات الإيمان أنَّ خبرَ اصطلاحِ إنسانٍ مع الله وتوبته له لا يُقدر بثمن .
لم يمض على هذا الحادث زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية علي بن أبي طالب يوم النهروان ، ويمعن في القتال حتى كُتبت له الشهادة .
هذا القاضي أيضا قال له ابنه يوماً : يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة ، فانظر فيها ، فإنْ كان الحقُّ لي قاضيتُهم ، وإنْ كان لهم صالحتُهم سلفاً .
أراد ابن شريح أن يعرِض على والده قضيةً بين ابنه وبين أشخاص في خصومة ، ثم قصّ عليه قصّته .. قال انطلق فقاضِهم .
ما معنى ذلك ؟ الحق لابنه .
فمضى إلى خصومه ، ودعاهم إلى المقاضاة ، فاستجابوا له ، فلمّا مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده ، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الابن لأبيه : فضحتني يا أبت ، واللهِ لو لم أستشرك من قبل لمّا لُمْتُك .
أنا استشرتك ، إذا كان الحقُّ عليَّ صالحتُهم ، وإذا كان الحق معي أقاضيهم فقال شريح : يا بني ، والله لأنتَ أحبُّ إلي من ملء الأرض من أمثالهم ، ولكن الله عز وجل أعزُّ عليَّ منك.
أخبرك بأن الحقلهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم ، فقلت لك ما قلت .
الدنيا بخير ، أعرف رجلاً توفي رحمه الله ، كان يعمل في منصب حساس في التربية والتعليم ، ابنه في إحدى الشهادات لم ينجح في بعض المواد ، هذه الورقة عُرضت على أربع لجان ، وأغلق الاسم ، التصحيح فيه خطأ ، فقال : واللهِ لا أنجِّحُه ، لأنه لم يُتحْ لكل الطلاب المظلومين هذه الفرصة ، وأبقاه .
فالعدالة المطلقة شيء لا يُقدر بثمن .
سمعت عن قاضٍ رُفعت إليه قضية ، طبعاً أحد المُدَّعى عليه موقوف ، قدّم المحامي أول مذكرة لإطلاق سراحه ، فلم يُستَجَبْ له ، وثاني مذكرة لم يستجب ، والثالثة لم يستجب ، والرابعة لم يستجب ، والخامسة لم يستجب .
فالموكلون عزلوا المحامي ، وكَّلوا محاميًا آخر ، القاضي بعيداً عن هذا الذي جرى بدا له أن يطلق سراح هذا المتهم ، فإذا أطلق سراح هذا المتهم بطلب أول من المحامي الجديد ، ماذا يُفهم ؟ أن ذاك المحامي فشل ، وأن هذا متألق .
استدعى الموكلين ، قال : أبلغوا المحامي السابق أن يقدم طلب الإفراج ولن أستجيب إلا له، للأول ، كي يحفظ له كرامته .
الإنسان كلما ارتقى يتقصى العدالة .
قال : خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت .
مرة كفل ولدُ شريحٍ رجلاً ، فقبِل شريحٌ كفالَته ، فما كان من الرجل إلا أنْ فرَّ هارباً من القضاء ، فسجن شريحٌ ابنَه بالرجل الفارِّ .
الكفيل مسؤول ، وكان شريح ينقل إليه طعامه بيده كل يوم إلى السجن ، لقد أمر بسجنه وصار يقدم له الطعام كلَّ يوم بنفسه .
أحياناً كانت الشكوكُ تساورُ شريحاً في بعض الشهود ، مثلاً : قضية يأتي الشاهد ليحلف اليمينَ أنه رأى بعينه هذا الحادث ، اسمعوا هذا الحوار الدقيق بين شريح والشهود .
شريح يشعر أن الشاهد كذابٌ ، ولكنه مستعد أن يحلف يميناً ، ولا يوجد دليل قطعي على أنه مجروح العدالة .
يقول الشهود : اسمعوا مني هداكم الله ، إنما يقضي على الرجل أنتم ، وإني لأتقي النار بكم ، أنتم مسؤولون ، وأنتم باتقائها أولى ، وإنّ في وسعكم الآن أنْ تدعوا الشهادة وتنصرفوا، إذا كنتم شاكين أعفيتُكُم من الشهادة فانصرفوا.
قال : فإذا أصروا على الشهادة التفتَ إلى الذين يشهدون له ، وقال : اعلم يا هذا أنني أقضي لك بشهادتهم ، وإني لأرى أنك ظالم ، ولكني لست أقضي بالظن ، إنما أقضي بشهادة الشهود ، وإن قضائي لا يحلُّ لك شيئاً حرّمه الله عليك .
ومن باب أولى ، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق ، وحبيبُ الحقّ لو أن إنساناً أدلى إليه بحجة مقنعة ، بلسان طليق ، وبيان ساطع ، فَحَكَمَ النبيُّ له ، فهل ينجو هذا الذي حُكِمَ له من عذاب الله ؟ لا ينجو .
عندنا قاعدة فقهية أساسية ، إنّ حكم القاضي لا يجعل الحق باطلاً ، ولا الباطل حقاً ، حكمُ القاضي لا يغيِّر شيئاً أبداً ، فإذا معك حكم القاضي فهذا الحكم لا ينجيك يوم القيامة .
كان هذا القاضي يقول : غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ .
إذا كان الشريكان أحدهما ظالم ، والثاني مظلوم ، وتفاككوا المستقبل مع المظلوم الله يوفق المظلوم ، ويخذل الظالم .
إذا افترق الزوجان ، ولم نعرف مَن الظالم ، الزوج أم الزوجة ؟ الظالم في الأغلب الأعم لا يُوفَّق في زواجه القادم ، والذي يُوفق في زواجه الثاني المظلوم دائماً .
غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ (العدل) ، وإني أحلف بالله عز وجل أنه ما من أحد ترك شيئاً لله عز وجل ثمَّ أحس بفقده .
روي أن أحدهم قال : سمعني شريح ، وأنا أشتكي بعض ما أغمّني من صديق ، فأخذني من يدي ، وانتحى بي جانباً ، وقال : يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل ، فإن مَن تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً ، فإن كان صديقاً أحزنته ، وإن كان عدواً شَمَتَ بك .
ثم قال : انظر إلى عيني هذه ، وأشار إلى إحدى عينيه ، فوالله ما أبصرتُ بها شخصاً ، ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة ، ولكنني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة ، أما سمعت قول العبد الصالح :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image006.gif
[سورة يوسف]
يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .
إنّ المؤمن كلما ارتقى إيمانه لا يبثّ شكواه إلى أحد إلاّ الله ، علمُك بحالي يغني عن سؤالي ..
هناك إنسان نقاق ، كلما جلس يشكو ، يشكو ما في سوق ، ويشكو بيته ، وأولاده ، فتملّ منه ، كيفما جلس يشكو ، لكن المؤمن :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image006.gif
فاجعل الله عز وجل موضع شكواكَ ، وموضع حزنك عند كل نائبة تنوبك ، فإنه أكرم مسؤول، وأقرب مدعو .
رأى ذات يوم إنسانًا يسأل آخر شيئاً ، فقال له : يا ابن أخي - دققوا في هذا الكلام - من سأل إنساناً حاجة فقد عرّض نفسَه على الرق ..
وقد قيل : احتجْ إلى الرجل تكن أسيره ، استغن عنه تكن نظريه ، أحسن إليه تكن أميره .
كائناً من كان ، فقد تكون أنت إنسانًا عاديًّا مكتفِيًا ، لكن حينما تستغن عن الناس فأنت نظيرهم، أنت والمليونير سواء ، أنت وأقوى شخص سواء إذا استغنيت عنه ، أما إذا سألته ، وتضعضعت أمامه فأنت أسيره ، أما إذا أكرمته فأنت أميره .
قال له : يا ابن أخي من سأل إنساناً حاجة فقد عرَّض نفسه على الرق ، فإنْ قضاها له المسؤول فقد استعبده بها ، وإنْ ردّه عنها رجع كلاهما ذليلاً ، هذا بذلَ البخلَ ، وذاك بذلَ الردَّ، فالبخيل ذليل ، والذي يسأل ذليل .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ *
[رواه الترمذي وأحمد]
وقع في الكوفة طاعون ، فخرج صديقٌ لشريح منها إلى النجف ، يبتغي المهرب من الوباء، فكتب شريح إليه : أما بعد ؛ فإن الموضع الذي تركته لا يقرب حُمامك ، ولا يسلب منك أيامك ، وإن الموضع الذي سرت إليه في قبضة مَن لا يعجزه طلب ، ولا يفوته هرب ، وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد ، وإن النجف من ذي قدرته لقريب .
الإنسان في قبضة الله .
كان شريح شاعراً ، له شعر قريب المأخذ ، حلو الأداء طريف الموضوعات .
روي عنه أنه كان له صبي في نحو العاشرة من عمره ، وكان الصبي مؤثراً اللهو ، مولعاً باللعب ، فافتقده ذات يوم ، فإذا هو قد ترك الكتاب ، ومضى يتفرج على الكلاب .
فلما عاد إلى المنزل سأله أصليت ؟ قال : لا .
فدعا بقرطاس وقلم وكتب إلى مؤدِّبه (الأستاذ) يقول :
***
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غدوة بصحيفـــة كتبت له كصحيفـــة المتلمس
فإذا أتاك فداوه بملامـــة أو عظه موعظة الأديب الكيـس
و إذا هممت بضربه فبـدرة و إذا بلغت ثلاثــة لك فاحبـس
و اعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما يجرعنــي أعـز الأنفس
***
أيها الإخوة ، هذا غيض من فيض عن التاريخ الذهبي في القضاء الإسلامي ، وكان هذا القاضي شريح قد شغل منصب القضاء ستين عاماً ، ملأ أيام قضائه عدالة وإنصافاً ، ونزاهة، وفخراً ، والإنسانُ ينبغي أن يقتدي بشريح ، ولو لم يكن قاضياً - كما قلت أول الدرس - أنت قاضٍ بين أولادك ، قاضٍ بين موظفيك ، قاضٍ بين أقربائك ، قاضٍ بين ابنك وزوجته ، أو بين ابنتك وزوجها ، أنت قاضٍ دائماً ، فالإنسان المؤمن ينصف ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image007.gif
[سورة المائدة الآية 2]
لو كان الطرف الآخر مجوسيًّا ، لو كان كافرًا ، لو كان منافقًا ، لو كان مشركًا ، لو كان فاسقًا ، لو كان عاصيًا ، الزم الحق ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
قيل لشريح : بأي شيء أصبت هذا العلم فقال : بمذاكرة العلماء ، آخذ منهم ، وأعطيهم.
وصدقوني ـ أيها الإخوة ـ ما من شيء في الحياة الدنيا أمتع للمؤمن من أن يذاكر المسلمُ أخاه شؤونَ العلم ، فجلسة العلم ، ومذاكرة العلم ، والاستماع للعلم ، والنطق بالعلم شيء يليق بالإنسان المسلم ، قال تعالى:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image001.gif
[سورة المؤمنون]
الحقيقة الكبرى في الكون أنّ أيّة مذاكرة تبعدك عن هذه الحقيقة فهي لهو ، وأيّة مذاكرة تقرِّبك من هذه الحقيقة فهي حق .
أيها الإخوة ليس من عادتي أن أتحدث عن أهل الغرب ، ولكن أعجبتني كلمة قالها زعيم بريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، حيث اجتمع بوزرائه ، وقد أتت الحرب على كل شيء ، لا معمل ، ولا حق ، ولا مال ، ولاشيء ، الحرب المدمرة لا تبقي ولا تذر ، تطحن الناس طحناً ، فسأل هذا الزعيم وزراءه وزيراً وزيراً : كيف الصناعة عندك يا فلان ؟ قال : المعامل كلها مدمرة ، كم في حوزتك من المال يا وزير المالية ؟ قال : لا شيء ، سألهم وزيراً، وكل وزير بحسب اختصاصه أظهر أن البلاد مدمرة عن آخرها ، وصل إلى وزير العدل ، قال : يا فلان كيف العدل عندك ؟ قال : بخير .. قال : كلنا بخير .. نحن بخير إذا أخذ العدل مجراه ، كلمة قالها زعيم بريطاني لوزرائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
الدرس اليوم عن القاضي شريح .. وقد ورد في الأثر : عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة *
[رواه الديلمي عن أبي هريرة]
ومن طريق أبي نعيم بلفظ : عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة *
فلا شيء يرفع الإنسان كالعدل ، وقد يتوهم أحدكم أن العدل للقاضي ، كل واحد منكم قاضٍ ؛ الأب له أولاد فهو قاض بينهم ، النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل ، وتبع هذا الرجل ابنه الصغير ، وضعه على رجله اليمنى وقبله ، ودخلت بنته بعد ذلك وضعها على رجله اليسرى ولم يقبلها ، فقال النبي الكريم : لمَ لم تسوي بينهما ؟ ..
إلى هذا المستوى ، لذلك فالمؤمن عادل ، والدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً إذا اقتضت أن يقيم العدل بين الناس .
والحقيقة الآن نسمع عن هذا القاضي أشياء كأنها خيال .
لقد ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس ، ثم امتطى صهوته ، ومشى به ، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري ، فانثنى به عائداً من حيث انطلق ، وقال للرجل : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : لا آخذه يا أمير المؤمنين ، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر : اجعل بيني وبينك حكماً ، قال الرجل : يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي ، فقال عمر : رضيت به .
احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح ، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب ، وقال : يا أمير المؤمنين هل أخذت الفرس سليماً؟ فقال عمر : نعم ، قال شريح : احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين ، أو ردَّ كما أخذت..
هذا هو الحكم ، فما دمت قد أخذته سليماً ، وأصابه العطب بيدك ، فاحتفظ به أو ردَّه كما أخذته .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً ؟ وغير عمر يحنق عليه .
إنسان في بلد خليجي وجه إلى شخص مسؤول توصية ، فقال له : هذه لا أنفذها لأنها خلاف العدل ، فأزيح من منصبه .
سيدنا عمر نظر إلى شريح معجباً ، وقال : وهل القضاء إلا هكذا ؟! أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك ، هكذا القضاء ؛ قول فصل ، وحكم عدل ، سِرْ إلى الكوفة ، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه ، وأُعجِب بهذه النزاهة ، وبهذه الجرأة .
لم يكن شريح بن الحارث يوم ولاه عمر بن الخطاب القضاء رجلاً مجهول المقام في المجتمع المدني ، أو امرأً مغمور المنزلة بين أهل العلم ، وأصحاب الرأي من جل الصحابة، وكبار التابعين ، فقد كان من أصحاب الفضل وأهل السابقة يقدِّرون لشريح فطنته الحادة ، وذكاءه الفذّ ، وخلقَه الرفيع ، وطول تجربته في الحياة وعمقها ، فهو رجل يَمَنِيُّ الموطن ، كِنْدي العشيرة ، قضى شطراً غير يسير من حياته في الجاهلية ، فلما أشرقت الجزيرة العربية بنور الهداية ، ونفذت أشعة الإسلام إلى أرض اليمن ، كان شريح من أوائل المؤمنين بالله ورسوله ، المستجيبين لدعوة الفضيلة والحق ، وكان عارفوا فضله ، ومقدروا شمائله ومزاياه يأسون عليه أشد الأسى ، ويتمنّون أن لو أتيح له أن يفِدَ على المدينة مبكراً ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى ، ولينهل من موارده الصافية المصفاة مباشرة بلا واسطة ، ولكي يحظى بشرف الصحبة بعد أن حظي بنعمة الإيمان ، وبذلك يجمع الخير من أطرافه ، ولكن ما قدر الله كان .
إذاً ليس شريحٌ صحابياً ، لقد عاش في الجاهلية ، وأسلم حينما جاء النبي بدعوته ، ولكنه لم ينتقل من اليمن إلى المدينة إلا بعد أن توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً هو ليس صحابياً ، ولكنه عاش الجاهلية ، وعاش الإسلام .
سيدنا عمر لم يكن متعجلاً حين عهد إليه بمنصب القضاء ، على الرغم من أن سماء الإسلام كانت يومئذ لا تزال تتألق بالنجوم الزاهرة من صحابة رسول الله ، فقد أثبتت الأيام صدقَ فراسة عمر ، وصوابَ تدبيره .
قضى القاضي شريح بين المسلمين أكثر من ستين عاماً ، ويكاد يكون هذا الاسم من الأسماء المتألقة في سماء القضاء الإسلامي ، القاضي الأول .. لشدة ورعه ، وحرصه على إنفاذ أمر الله ، وتوِّخيه العدالة التامة ، فقد تَعَاقَبَ على إقراره على منصبه كل من عمرَ بن الخطاب وعثمانَ بن عفان ، وعليِّ بن أبي طالب ، ومعاويةَ بن أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، كلُّ هؤلاء الخلفاء أقرُّوه في منصبه .
والحقيقة أحياناً يكون هناك إنسان مخلص جداً ، كفء ، ومخلص ، رغم تبدل الحكومات لا يجرؤ أحد على أن يزحزحه من منصبه ، لأنه بالتعبير الحديث يملأ منصبه ، علماً وإخلاصاً ، وإنتاجاً ، وهناك تعبير عامي يقول لك : لا يصح إلا الصحيح ، فإذا أخلص الإنسان وأتقن ، وكان ملء السمع والبصر ، فهذا الإنسان أقوى من التغييرات ، وسيدنا عمر عيّنه ، ثم أقرَّه سيدنا عثمان ، وتتابع على إقراره سيدنا علي وسيدنا معاوية ، بل إن الخلفاء الذين جاءوا بعد معاوية قد أقروه على منصبه ، حتى إن شريحًا طلب إعفاءه من منصبه في أول ولاية الحجاج .
لقد أقره عمر ، وطلب الإعفاء من منصبه في ولاية الحجاج .
عاش هذا القاضي سبع سنوات بعد المائة الأولى للهجرة حياة مديدة رشيدة ، حافلة بالمفاخر والمآسي ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي]
زرت شخصاً قبل سنوات في أحد الأعياد ، وهو والد صديق لي ، عمره ستة وتسعون عاماً ، قال لي بالحرف الواحد : قبل أيام أجريت تحليلات شاملة ، فلم يكن هناك شيء غير طبيعي ، ثم قال : واللهِ ما أكلت درهماً حراماً ، ولا أعرف الحرام من النساء .
وكنت قد حدَّثتكم عن رجل عاش ستةً وتسعين عاماً ، أمضاها في تعليم النشء العلم الشرعي ، وكان يتمتع بقامة منتصبة ، وبصر حاد ، وسمع مرهف وكانت أسنانه في فمه ، وكان يقول حفظناها في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
سمعت أن أحد شيوخ الأزهر الصالحين عاش مائة وثلاثين عاماً ، وقد التقيت بابنه في أحد المؤتمرات في المغرب ، قال : نعم عاش أبي هذه السنوات ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ *
[أخرجه أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ]
الحقيقة تاريخ القضاء الإسلامي يزدان ببدائع هذا القاضي الجليل ، فمِن قصص هذا القاضي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً عنده كانت أثيرة غالية عليه ..
أمير المؤمنين ، المشكلة هنا مع أمراء ، فالقضية مع أمير المؤمنين ؛ مع سيدنا عمر حكم عليه ، قال له : أبق الفرس بحوزتك ، أو رُدَّها كما أخذتها ، وهذا حكم الله ، قال له : هكذا القضاء ، اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة .
سيدنا علي بن أبي طالب ما لبث إلا أن وجد هذه الدرع في يد رجل من أهل الكتاب يبيعها في سوق الكوفة ، فلما رآها عرفها ، وقال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي : بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين ، فقال علي رضي الله عنه : إنما هي درعي لم أبعها لأحد حتى تصير إليك .
هناك أشخاص يتوهمون أن المؤمن لا بد أنْ يُسقِط حقه .. سامحْه ، هذه بساطة وسذاجة ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
لكن إذا انتصروا :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image003.gif
[سورة الشورى]
فإذا غلب على ظنك أنه بعفوك عن أخيك الظالم تقرِّبه إلى الله ، وتقيله من عثرته ، وتعينه على الشيطان فينبغي أن تعفو عنه ، وعندئذ أجرُك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك يدعوه إلى مزيد من التطاول على الناس ، وأخذ أموالهم ، والاستخفاف بحقوقهم ، فينبغي حينئذٍ ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تنتصر ، وتقتصّ منه .
والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه أسير في بدر ، وقد شكا له بناته المتلهفات له ، ورجاه أن يعفو عنه ، وتوسل إليه ، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام ، وعاد الرجلُ إلى ما كان عليه مِن عداوة النبي ، ومِن قتل أصحابه ، ثم وقع أسيراً في أحد ، فرجاه ثانية ، قال : لا أعفو عنك ، لئلا تقول : خدعت محمداً مرتين .
المؤمن له أظافر أحياناً ، والمؤمن يطالب بحقه ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
أما أهل الدنيا فيريدون للمؤمن أنْ لو أُكِل حقُّه أن يسكت ، يقولون : ألست مؤمنًا ؟ .. وإذا كان مؤمناً .. !!
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image002.gif
[سورة الشورى]
يجب أن تنتصر مِن الذي بغى عليك ، وإذا غلب على ظنك أنك بعفوك عنه تزيده طغياناً.. فلا تعفُ عنه ، كإنسان يقود المركبة بشكل أرعن ، وسبَّبَ إيذاءً لإنسان .. أخي سامحه ، لا .. إذا سامحه هذا ، وسامحه ذاك ازداد رعونة ، أما إذا حوسب حسابًا عسيرًا فلعل هذا الحساب يردعه .
ولكن أحياناً لا يكون للشخص أيّ تقصير منه في القيادة ، طفل ألقى نفسه أمام المركبة ، وفقير ، أنت إذا عفوت عنه ، وقلت : هذا قضاء ، وقدر ، فقد قرّبته من الله عز وجل ، فأنت المفتي ، أمّا إذا غلب على ظنك أن العفو يقربه من الله ، ويقيل عثرته ، ويعينه على الشيطان، فينبغي والحالة هذه أن تعفو عنه ، وأجرك على الله ، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك يزيده تطاولاً وجرأة واستخفافاً بحقوق الآخرين فينبغي ألاّ تعفو عنه ، بل ينبغي أن تقتص منه ، وأن تنتقم منه ، والانتقام بالمعنى الدقيق أنْ توقف الظالم عند حده ، هذا هو الانتقام ، فقدْ يفهم الناسُ من الانتقام فهماً آخر ، على أنه عملية حقد ، لا .. قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image004.gif
[سورة الزخرف]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image005.gif
[سورة الأعراف الآية 180]
فانتقمنا منهم ..
أي أوقفناهم عند حدهم ، وردعناهم ، هذا معنى الانتقام .
فلما رآه قال : هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا ، فقال الذمي: بل هي درعي ، وفي يدي يا أمير المؤمنين .
فقال علي : إنما هي درعي ، لم أبِعْها من أحَد ، ولم أهبها لأحد حتى تصير لك.
فقال الذمي : بيني وبينك قاضي المسلمين .
فقال علي : أنصفت ، فَهَلُمَّ إليه .
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي ، فلما صارا عنده في مجلس القضاء ، قال شريح لعلي رضي الله عنه : ما تقول يا أمير المؤمنين .
قال : لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل ، وقد سقطتْ مني في ليلة كذا ، وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه لا ببيعٍ ولا بهبة .
قال شريح للذمي : وما تقول أنت أيها الرجل ؟.
فقال : الدرع درعي ، وهي في يدي .
كونها في يدي معناها درعي ، ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب ، لكنها درعي .
فالتفت شريح إلى عليّ كرم الله وجهه ، وقال : لا ريب عندي بأنك صادق يا أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين ، صحابي جليل ، باب مدينة العلم ، ابن عم رسول الله ليس معقول ، من سابع المستحيلات أن يكذب ، ومع ذلك قال له شريح : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ، وأنّ الدرع درعك ، ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادّعيت ، فقال علي : نعم مولاي قنبر ، وولدي الحسن يشهدان لي .
فقال شريح : ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين .
فقال علي : يا سبحان الله ، رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ *
[أخرجه الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
قال شريك :بلى يا أمير المؤمنين ، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .
عند ذلك التفتَ عليٌّ إلى الذميِّ ، وقال : خذها فليس عندي شاهد غيرهما.
فقال الذمي : ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين ، ثم أردف قائلاً : أمير المؤمنين، يقاضيني أمام قاضيه ، وقاضيه يقضي لي عليه ، أشهد أن هذا الدين الذي يأمر بهذا لحقٌّ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأسلم .
شيء لا يُصدق ، أمير المؤمنين ، والدرع درعه ، والقاضي من جماعته ، ويشدد هذا القاضي في الإجراءات التامة لتأخذ العدالة مجراها ، وقال هذا الذمي : اعلمْ أيها القاضي أن الدرعَ درعُ أمير المؤمنين ، وأني اتبعتُ الجيشَ ، وهو مُتَّجهٌ إلى صفين ، فسقطتْ الدرعُ عن جمله الأورق فأخذتها .
فقال له علي رضي الله عنه : أما وأنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك ، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً .
حدثني أخ كريم عنده معمل ، فقال لي : في كل يوم يجد نقصًا شديدًا في البضاعة ، ونقصًا في المال ، قال : فرَّغتُ إنسانًا حتى يراقب ، ولم نعثر على إنسان نتهمه بهذا ، فكان الذي يسرق على مستوى عالٍ جداً من الحنكة ، يضع في جيبه بضع مئات يفتقدها ظهراً ، يحسب البضاعة صباحاً فتنقص مساءً ، فرّغ إنسانا كلياً ليراقب فلم يعثر على شيء .
قال لي : بعد عشر سنوات طرق بابي شاب ، وقال : واللهِ لم أعرفه ، فلما دخل عليَّ قال: أنا فلان الفلاني ، كنت أعمل عندك في هذا المعمل ، وكنت آخذ من مالك ، ومن بضاعتك ، وأنت لا تدري ، ولكني تبت إلى الله ، وها أنا ذا عائد إليك كي أدفع لك ما عليّ من ذمم .
صاحب المعمل هو أخ من إخواننا ، قال له : هذا الذي عليك اتجاهي من بضاعة ومال وهبتُه لك نظير توبتك وإنابتك إلى الله ، وهبته لك ، ولن أسأل عنه بعد اليوم ، وكُلْهُ هنيئاً مريئاً ، وإذا أردتَ أن تعود إلى المعمل فمكانك محفوظ .
أنت كمسلم إذا ضلَّ الشخصُ ثم اهتدى ألا تفرح ؟ ألا تحسّ أن قلبك امتلأ فرحًا ؟ ألا تكافئ هذا الإنسان مقابل إسلامه بشيء من العطاء .
أيها الإخوة ، إنّ الإنسان إذا لم يفرح بأخيه عندما يسلم ، أو عندما يصطلح مع الله لا يكون عنده إيمان ، ومن علامات الإيمان أنَّ خبرَ اصطلاحِ إنسانٍ مع الله وتوبته له لا يُقدر بثمن .
لم يمض على هذا الحادث زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية علي بن أبي طالب يوم النهروان ، ويمعن في القتال حتى كُتبت له الشهادة .
هذا القاضي أيضا قال له ابنه يوماً : يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة ، فانظر فيها ، فإنْ كان الحقُّ لي قاضيتُهم ، وإنْ كان لهم صالحتُهم سلفاً .
أراد ابن شريح أن يعرِض على والده قضيةً بين ابنه وبين أشخاص في خصومة ، ثم قصّ عليه قصّته .. قال انطلق فقاضِهم .
ما معنى ذلك ؟ الحق لابنه .
فمضى إلى خصومه ، ودعاهم إلى المقاضاة ، فاستجابوا له ، فلمّا مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده ، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الابن لأبيه : فضحتني يا أبت ، واللهِ لو لم أستشرك من قبل لمّا لُمْتُك .
أنا استشرتك ، إذا كان الحقُّ عليَّ صالحتُهم ، وإذا كان الحق معي أقاضيهم فقال شريح : يا بني ، والله لأنتَ أحبُّ إلي من ملء الأرض من أمثالهم ، ولكن الله عز وجل أعزُّ عليَّ منك.
أخبرك بأن الحقلهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم ، فقلت لك ما قلت .
الدنيا بخير ، أعرف رجلاً توفي رحمه الله ، كان يعمل في منصب حساس في التربية والتعليم ، ابنه في إحدى الشهادات لم ينجح في بعض المواد ، هذه الورقة عُرضت على أربع لجان ، وأغلق الاسم ، التصحيح فيه خطأ ، فقال : واللهِ لا أنجِّحُه ، لأنه لم يُتحْ لكل الطلاب المظلومين هذه الفرصة ، وأبقاه .
فالعدالة المطلقة شيء لا يُقدر بثمن .
سمعت عن قاضٍ رُفعت إليه قضية ، طبعاً أحد المُدَّعى عليه موقوف ، قدّم المحامي أول مذكرة لإطلاق سراحه ، فلم يُستَجَبْ له ، وثاني مذكرة لم يستجب ، والثالثة لم يستجب ، والرابعة لم يستجب ، والخامسة لم يستجب .
فالموكلون عزلوا المحامي ، وكَّلوا محاميًا آخر ، القاضي بعيداً عن هذا الذي جرى بدا له أن يطلق سراح هذا المتهم ، فإذا أطلق سراح هذا المتهم بطلب أول من المحامي الجديد ، ماذا يُفهم ؟ أن ذاك المحامي فشل ، وأن هذا متألق .
استدعى الموكلين ، قال : أبلغوا المحامي السابق أن يقدم طلب الإفراج ولن أستجيب إلا له، للأول ، كي يحفظ له كرامته .
الإنسان كلما ارتقى يتقصى العدالة .
قال : خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت .
مرة كفل ولدُ شريحٍ رجلاً ، فقبِل شريحٌ كفالَته ، فما كان من الرجل إلا أنْ فرَّ هارباً من القضاء ، فسجن شريحٌ ابنَه بالرجل الفارِّ .
الكفيل مسؤول ، وكان شريح ينقل إليه طعامه بيده كل يوم إلى السجن ، لقد أمر بسجنه وصار يقدم له الطعام كلَّ يوم بنفسه .
أحياناً كانت الشكوكُ تساورُ شريحاً في بعض الشهود ، مثلاً : قضية يأتي الشاهد ليحلف اليمينَ أنه رأى بعينه هذا الحادث ، اسمعوا هذا الحوار الدقيق بين شريح والشهود .
شريح يشعر أن الشاهد كذابٌ ، ولكنه مستعد أن يحلف يميناً ، ولا يوجد دليل قطعي على أنه مجروح العدالة .
يقول الشهود : اسمعوا مني هداكم الله ، إنما يقضي على الرجل أنتم ، وإني لأتقي النار بكم ، أنتم مسؤولون ، وأنتم باتقائها أولى ، وإنّ في وسعكم الآن أنْ تدعوا الشهادة وتنصرفوا، إذا كنتم شاكين أعفيتُكُم من الشهادة فانصرفوا.
قال : فإذا أصروا على الشهادة التفتَ إلى الذين يشهدون له ، وقال : اعلم يا هذا أنني أقضي لك بشهادتهم ، وإني لأرى أنك ظالم ، ولكني لست أقضي بالظن ، إنما أقضي بشهادة الشهود ، وإن قضائي لا يحلُّ لك شيئاً حرّمه الله عليك .
ومن باب أولى ، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق ، وحبيبُ الحقّ لو أن إنساناً أدلى إليه بحجة مقنعة ، بلسان طليق ، وبيان ساطع ، فَحَكَمَ النبيُّ له ، فهل ينجو هذا الذي حُكِمَ له من عذاب الله ؟ لا ينجو .
عندنا قاعدة فقهية أساسية ، إنّ حكم القاضي لا يجعل الحق باطلاً ، ولا الباطل حقاً ، حكمُ القاضي لا يغيِّر شيئاً أبداً ، فإذا معك حكم القاضي فهذا الحكم لا ينجيك يوم القيامة .
كان هذا القاضي يقول : غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ .
إذا كان الشريكان أحدهما ظالم ، والثاني مظلوم ، وتفاككوا المستقبل مع المظلوم الله يوفق المظلوم ، ويخذل الظالم .
إذا افترق الزوجان ، ولم نعرف مَن الظالم ، الزوج أم الزوجة ؟ الظالم في الأغلب الأعم لا يُوفَّق في زواجه القادم ، والذي يُوفق في زواجه الثاني المظلوم دائماً .
غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ (العدل) ، وإني أحلف بالله عز وجل أنه ما من أحد ترك شيئاً لله عز وجل ثمَّ أحس بفقده .
روي أن أحدهم قال : سمعني شريح ، وأنا أشتكي بعض ما أغمّني من صديق ، فأخذني من يدي ، وانتحى بي جانباً ، وقال : يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل ، فإن مَن تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً ، فإن كان صديقاً أحزنته ، وإن كان عدواً شَمَتَ بك .
ثم قال : انظر إلى عيني هذه ، وأشار إلى إحدى عينيه ، فوالله ما أبصرتُ بها شخصاً ، ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة ، ولكنني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة ، أما سمعت قول العبد الصالح :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image006.gif
[سورة يوسف]
يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .
إنّ المؤمن كلما ارتقى إيمانه لا يبثّ شكواه إلى أحد إلاّ الله ، علمُك بحالي يغني عن سؤالي ..
هناك إنسان نقاق ، كلما جلس يشكو ، يشكو ما في سوق ، ويشكو بيته ، وأولاده ، فتملّ منه ، كيفما جلس يشكو ، لكن المؤمن :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image006.gif
فاجعل الله عز وجل موضع شكواكَ ، وموضع حزنك عند كل نائبة تنوبك ، فإنه أكرم مسؤول، وأقرب مدعو .
رأى ذات يوم إنسانًا يسأل آخر شيئاً ، فقال له : يا ابن أخي - دققوا في هذا الكلام - من سأل إنساناً حاجة فقد عرّض نفسَه على الرق ..
وقد قيل : احتجْ إلى الرجل تكن أسيره ، استغن عنه تكن نظريه ، أحسن إليه تكن أميره .
كائناً من كان ، فقد تكون أنت إنسانًا عاديًّا مكتفِيًا ، لكن حينما تستغن عن الناس فأنت نظيرهم، أنت والمليونير سواء ، أنت وأقوى شخص سواء إذا استغنيت عنه ، أما إذا سألته ، وتضعضعت أمامه فأنت أسيره ، أما إذا أكرمته فأنت أميره .
قال له : يا ابن أخي من سأل إنساناً حاجة فقد عرَّض نفسه على الرق ، فإنْ قضاها له المسؤول فقد استعبده بها ، وإنْ ردّه عنها رجع كلاهما ذليلاً ، هذا بذلَ البخلَ ، وذاك بذلَ الردَّ، فالبخيل ذليل ، والذي يسأل ذليل .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ *
[رواه الترمذي وأحمد]
وقع في الكوفة طاعون ، فخرج صديقٌ لشريح منها إلى النجف ، يبتغي المهرب من الوباء، فكتب شريح إليه : أما بعد ؛ فإن الموضع الذي تركته لا يقرب حُمامك ، ولا يسلب منك أيامك ، وإن الموضع الذي سرت إليه في قبضة مَن لا يعجزه طلب ، ولا يفوته هرب ، وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد ، وإن النجف من ذي قدرته لقريب .
الإنسان في قبضة الله .
كان شريح شاعراً ، له شعر قريب المأخذ ، حلو الأداء طريف الموضوعات .
روي عنه أنه كان له صبي في نحو العاشرة من عمره ، وكان الصبي مؤثراً اللهو ، مولعاً باللعب ، فافتقده ذات يوم ، فإذا هو قد ترك الكتاب ، ومضى يتفرج على الكلاب .
فلما عاد إلى المنزل سأله أصليت ؟ قال : لا .
فدعا بقرطاس وقلم وكتب إلى مؤدِّبه (الأستاذ) يقول :
***
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غدوة بصحيفـــة كتبت له كصحيفـــة المتلمس
فإذا أتاك فداوه بملامـــة أو عظه موعظة الأديب الكيـس
و إذا هممت بضربه فبـدرة و إذا بلغت ثلاثــة لك فاحبـس
و اعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما يجرعنــي أعـز الأنفس
***
أيها الإخوة ، هذا غيض من فيض عن التاريخ الذهبي في القضاء الإسلامي ، وكان هذا القاضي شريح قد شغل منصب القضاء ستين عاماً ، ملأ أيام قضائه عدالة وإنصافاً ، ونزاهة، وفخراً ، والإنسانُ ينبغي أن يقتدي بشريح ، ولو لم يكن قاضياً - كما قلت أول الدرس - أنت قاضٍ بين أولادك ، قاضٍ بين موظفيك ، قاضٍ بين أقربائك ، قاضٍ بين ابنك وزوجته ، أو بين ابنتك وزوجها ، أنت قاضٍ دائماً ، فالإنسان المؤمن ينصف ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-8_files/image007.gif
[سورة المائدة الآية 2]
لو كان الطرف الآخر مجوسيًّا ، لو كان كافرًا ، لو كان منافقًا ، لو كان مشركًا ، لو كان فاسقًا ، لو كان عاصيًا ، الزم الحق ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
طالب عفو ربي
29-04-2009, 10:58 PM
ذكوان بن كيسان
من سير التابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين ، و تابعيُّ اليوم طاووس بن كيسان ، يقول عمرُو بن دينار : "ما رأيتُ أحدا قط مثلَ طاووس بن كيسان" ، طبعا نحن نؤرِّخ لكبار التابعين .
هذا التابعي الجليل علَّمته المدرسةُ المحمَّدية أن الدين هو النصيحة ، وفي تعريف جامع مانعٍ للنبيِّ عليه الصلاة و السلام ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) *
[رواه مسلم]
ولا تُؤخذ بعبادة الرجل ، عليك أن تُقيِّمه بمدى نصحه للمسلمين ، العبادات الشعائرية أيها الإخوة لا قيمة لها من دون إحكام العبادات التعاملية ، دائما وأبدا الإسلام مجموعة مبادئ ، ومجموعة قيم ، ومجموعة مثُل ، ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي عليه الصلاة و السلام ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) *
[رواه البخاري]
فهل هذه هي الإسلام ؟ الإسلام بُني على خمس ، فهل هذه الخمس هي الإسلام ؟ هذه الخمس بني عليها الإسلام ، والإسلام شيء آخر ، الإسلام قيم ، ومبادئ ، وصدق ، وأمانة ، وعفَّة ، وجرأة ، وصراحة ، واستقامة ، الإسلام ضبطُ الدخل ، وضبط الإنفاق ، وضبط الجوارح ، وضبط البيوت، وضبط العمل ، هذا هو الإسلام ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) *
[رواه البخاري]
في أيامِ تخلُّف المسلمين فَهِم المسلمون الإسلام الأركان الخمسة فقط ، فإذا صلَّى و صام وحجَّ فهو مسلم ، ولا عليه أن يغشَّ المسلمين بعد ذلك ، ولا عليه أن يأكل أموالهم بالباطل ، ولا عليه أن يكذب ، ولا عليه أن ينافق ، ولا عليه أن يدجِّل ، إذًا الإسلام بني على خمس ، وأوضحُ شاهدٍ سمعتموه مني كثيرا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ .... قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاء...."
[رواه أحمد]
هل هناك أوضح من هذا ؟ واللهِ كلام كالشمس ، إسلامنا قيم ، إسلامنا مبادئ ، و إسلامنا استقامة ، وإسلامنا غضُّ بصر ، وإسلامنا عفَّة ، وإسلامنا حياء ، وإسلامنا أنْ يأمنك أخوك على مليون ، ويأمنك على أهله ، وعلى ماله ، وعلى دمه ، و حتى لا يضيِّع الإنسانُ الوقت ، فقد علَّمته المدرسةُ المحمدية أن الدين النصيحة ، لمن ؟ لله ، لإقامة كتابه ، لله لطاعته ، وكتابه ، تطبيق كتابه ، ورسوله تطبيق سنة رسوله ، وأئمة المسلمين ، أن تنصحهم ، وعامتهم ، وهدَته التجربةُ إلى أن الصلاح كلَّه يبدأ عند وليِّ الأمر ، وينتهي عنده ، لأن صنفين من الناس إذا صلحا صلح الناسُ ، وإذا فسدا فسد الناس ؛ الأمراء والعلماء ، العلماء يعلِّمون ، و الأمراء ينفِّذون ، إن صلح هذان الصنفان صلح المجتمع كلُّه ، وإن فسد هذان الصنفان فسد المجتمع كلُّه .
اسمُ هذا التابعي ذكوانُ بن كيسان ، الملقَّب بطاووس ، الطاووس طائر معروف ، حسن الشكل ، طويل العنق ، جميل القنبرة ، وقد سمِّي به كثير من العلماء ، خُلع عليه لأنه كان طاووسَ الفقهاء ، والمقدَّم عليهم في عصره ، أي سيد الفقهاء ، من ؟ ذكوان بن كيسان ، الملقب بطاووس ، هذه الطاووس ، أو هذا التابعي الجليل من أهل اليمن ، وكان والي اليمن محمد بن يوسف الثقفي ، أخو الحجاج بن يوسف ، عيَّنه الحجاجُ واليًا على اليمن بعد أن عظُم أمرُه ، وقويَتْ شوكتُه ، واشتدَّت هيبتُه إثرَ قضائه على حركة عبد الله بن الزبير ، وكان محمد بن يوسف يُجمع في ذاته كثيرا من سيئات أخيه الحجاج ، ولكنه ما كان يتحلَّى بشيء من حسناته ، و الإنسان إذا قلَّد في الأعمِّ الأغلب يقلِّد السيئات ، فكان أخو الحجاج يجمع سيئات أخيه دون أن يتمتَّع بحسناته .
مرة دخل عليه طاووس في أيام الشتاء الباردة ، ومعه وهبُ بن منبِّه ، فلما أخذا مجلسيهما عنده طفق طاووسُ يعظه ، ويرغِّبه ، ويرهِّبه ، والناسُ جلوسٌ بين يديه ، فقال الوالي لأحدِ حُجَّابه : يا غلام أحضِر طيلسانًا ، ثوب ثمين جدًّا ، وألقِه على كتفي أبي عبد الرحمن ، طاووس، فعمد الحاجبُ إلى طيلسانٍ ثمين ، وألقاه على كتفي طاووس ، لكنَّ طاووس ظلَّ متدفِّقًا في موعظته ، وجعل يحرِّك كتفيه في تُؤدة حتى ألقى الطيلسانَ عن عاتقه ، حركتان أو ثلاث ، دفع الطيلسان إلى خلف ظهره ، وهبَّ واقفا وانصرف ، أي ما قبِل هذا العطاء ، ما تكلَّم ، حّرك حركات خفيفة إلى أن ألقى الطيلسان من كتفه ، ووقف ، وانصرف ، فغضب محمدّ بن يوسف غضبا ظهر في احمرار عينيـــه ، واحتقان وجهه ، فلما صار طاووس و صاحبه خارج المجلس ، قال وهبٌ لطاووس : واللهِ لقد كنا في غنًى عن إثارة غضبه علينا ، فماذا كان يضيرُك لو أخذتَ الطيلسان ثم بِعته ، وتصدَّقت بثمنـه على الفقراء والمساكين ، فقال طاووس : هو ما تقول - أي هكذا كان أفضل ، أن آخذه ، وأن أبيعه ، وأن أتصدَّق بثمنه على الفقراء والمساكين ، قال : نعم ، قال : فإذا قال الناسُ أو العلماء من بعدي : نأخذ كما أخذ طاووس ، صرتُ قدوةً لهم، ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول ، أنت ترى أن آخذ الطيلسان ، وأن أبيعه ، وأن أدفع ثمنه للفقراء والمساكين ، شيء جميل ، الذين يأتون من بعدي يقولون : نأخذ كما أخذ طاووس ، ولا يفعلون ما تقول أنت ، لكن محمد بن يوسف الثقفي أراد أن يردَّ لطاوس الحجرَ من حيث جاء ، ولكن بذكاء وبحنكة ، نصبَ له شَركا من شراكـه ، حيث أعدَّ صُرَّةً فيها سبعمائة دينار ، واختار رجلا حاذقا من رجال حاشيته ، وقال له : امضِ بهذه الصرة إلى طاووس بن كيسان ، واحتلْ عليه في أخْذِها ، فإن أخذَها منك أجزلتُ عطيَّتك ، وكسوتك ، وقرَّبتك ، أي تستطيع أنْ تعطيه إياها ، فخرج الرجلُ بالصرة حتى أتى طاووسا في قرية كان يقيم بها بالقرب من صنعاء ،يقال لها الجَنَد ، فلما صار عنده حيَّاه ، وآنسه ، وقال له : يا أبا عبد الرحمن هذه نفقة بعث بها الأمير إليك ، فقال أبو عبد الرحمن : مالي بها من حاجة ، فاحتال بكل طريق ليقبلها فأبى ، وأدلى له بكل حجَّة فرفض ، فما كان منه إلا أن اغتنم غفلةً من طاووس ، ورمى بالصرة في كُوَّة كانت في جدار البيت ، وجد كوة في حائط الغرفة وطاووس التفت إلى هذه الجهة فوضع الصرة في الكوة ، وعاد راجعا إلى الأمير، وقال : لقد أخذ طاووسُ الصرة أيها الأمير ، حسب توجيهاتك ، فسُرَّ بذلك محمدُ بن يوسف ، وسكت عليه ، فلما مضت على ذلك أيامٌ عدّة أرسل اثنين من أعوانه، ومعهما الرجل الذي حل إليه بالصرة ، و أمرهما أن يقولا له : إن رسول الأمير قد أخطأ فدفع إليك المال ، وهو مرسلٌ لغيرك ، و قد أتينا لنسترِدَّه منك ، نحمله إلى صاحبه ، فقال طاووس : ما أخذتُ من مال الأمير شيئا حتى أردَّه إليك ، فقالا : بل أخذته ، فالتفت إلى الرجل الذي حمل إليه الصرة ، وقال له : هل أخذتُ منك شيئا ؟ كانت له هيبة ، فأصاب الرجلَ الذُّعرُ ، وقال : كلا ، و إنما وضعتُ المال في هذه الكوة في غفلة منك ، فقال طاووس : دونك الكوة فانظر فيها ، فنظرا في الكوة فوجد فيها الصرة كما هي ، فأخذها ، وعاد بها إلى الأمير، الخطَّة لم تنجح ، ما معنى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image001.gif
[سورة الحج]
رسم له خطة خبيثة ، دفع له هذا المبلغ ، فإذا أنفقه بعد يومين ، يقول : هات المبلغ ، أنفقت منه، ضعه في السجن ، هو ما أخذه ، ولكن ربُّنا عزوجل ألبسه ثوبا من الهيبة ، فلما توجَّه إلى الرجل الذي جاء بها إليه قال له : هل أخذت منك شيئا ؟ هذه الهيبة :
فيُكسى جلابيبَ الوقـــــــار لأنه أقام بإذلال على باب عزِّنا
من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء ، و من لم يهب اللهَ أهابه اللهُ من كل شيء ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً *
[رواه البخاري]
المؤمن المستقيم له هيبة ، هذه الهيبة يُروى أن رجلا كان له دَيْن على أبي جهل - لا أذكر - أبي جهل أو أبي لهب ، على أحد صناديد قريش ، على أعتى زعماء قريش كفرا ، فأراد أناسٌ أن يرموا بين النبي وبين هذا الزعيم ، فهذا البدوي الأعرابي الذي له على أبي لهب أو أبي جهل هذا المبلغ الكبير قالوا له : تذهب إلى محمد ، ومحمد يحصِّله لك من أبي جهل ، فصدَّق هذا البدوي ذلك ، فترقَّب النبي ، وطلب منه ذلك ، تروي الرواياتُ أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب مع هذا الأعرابي إلى بيت أبي جهل ، وطرق الباب و قال : أعطِه حقَّه ، فدخل ، وعاد من توِّه ، وأعطاه المبلغ ، الخطة التي كان من الممكن أن توقع بين النبيِّ الكريم و بين أبي جهل لم تنجح ، فلما سُئل أبو جهل : كيف أعطيته المبلـغ ؟ قال : و اللهِ رأيت على كتفيه أسدين خفتُ أن يأكلاني " ، فيه هيبة ، هذه نقطة مهمة جدا ، إذا كنتَ مع الله ، ألقى الله عزوجل عليك الهيبة ، في بيتك ، في عملك ، و الإنسان لما يعصي الله عـزوجـل تنخلع منه الهيبة ، لا شأن له ، و لا أحد يعبأ به ، هناك من يتطاول عليه ، لكن من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها ، قال : و كأنما أراد اللهُ عزوجل أن يقتصَّ من محمد بن يوسف على فعلته هذه ، و أن يجعل قصاصه منه على مرآى من الناس ، فكيف وقع ذلك ؟ .
حدَّث طاووسُ بن كيسان فقال : بينما أنا في مكة حاجًّا ، بعث إليَّ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي ، فلما دخلتُ عليه رحَّب بي ، وأدنى مجلسي منه ، وطرح إليَّ وسادةً ، ودعاني لأن أتَّكئ عليها ، ثم راح يسألني عما أشكل عليه من مناسك الحج ، وفيما نحن كذلك سمع الحجَّاج ملبِّيا يلبِّي حول البيت ، ويرفع صوته بالتلبية ، و له نبرةٌ تهزُّ القلوبَ هزًّا ، يبدو من الإنسان الصادق أحيانا أنه يلفت النظرَ بدعائـه ، وتضرُّعه ، فقال الحجاجُ : عليَّ بهذا الملبِّي ، عليَّ به ، فأوتي له به ، فقال له : ممن الرجل ؟ فقال : من المسلمين ، فقال : لم أسألك عن هذا ، إنما سألتك عن البلد ، قال : من أهل اليمن ، قال : كيف تركتم أميركم ، أي أخاه ، قال : تركته عظيما ، كبيرا ، جسيما لبَّاسا ركَّابا ، خرَّاجا ولاَّجا ، أي أكل ، وشرب ، وبيت ، ومركب ، ونزهات ، ومداخلات ، وصف فيه إيجاز ، تركتـه عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركَّابا ، خرَّاجا ، ولاَّجا ، فقال الحجاجُ : ليس عن هذا سألتك ، فقال : عما سألتني إذًا ؟ قال : سألتك عن سيرته فيكم ، عن أخلاقه ، قال : تركته ظلوما غشوما ، مطيعا للمخلـوق ، عاصيًا للخالق ، ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّد ، هذا معنى قول الله عزوجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image001.gif
[سورة الحج]
أحيانا الإنسان يظهر أحسن أعماله لمَن فوقه ، واللهُ عزوجل بطريقة أو بأخرى تُنقَل الصورة السوداء للجهة الأعلى عن الأدنى ، من دون قصد ، تركته عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركَّابا ، درَّاجا ، ولاَّجا ، فقال : ليس عن هذا سألتك ، عما سألتني إذًا ؟ قال : سألتك عن سيرته فيكم ، عن أخلاقه قال : تركته ظلوما غشوما ، مطيعا للمخلوق عاصيًا للخالق ، فاحمرَّ وجهُ الحجاج خجلا من جلسائه ، وقال : ما حملك على أن تقول فيه ما قلته ، وتعلم أنت مكانه مني ، تعرف أنه أخي، فقال : أتراه بمكانه منك أعزَّ منك بمكاني مِنَ الله ، وأنا وافدٌ بيته ، مصدِّقٌ نبيَّه ، قاضي دينه ، أكذب على الله في بيته ، معقول ، أنت أغلى عليَّ مِن الله عزوجل ؟ سألتني ، فأجبتك ، لقد تركتُه عظيما ، جسيما ، لبَّاسا ، ركوبا ، ولاَّجا ، دخَّالا ، قال : عن غير هذا أسألك، قال : رأيته ظلوما، غشوما ، مطيعا للمخلوق ، عاصيًا للخالق ، على كلٍّ فسكت الحجاج و لم يُحِر جوابا ، قال طاووس : ثم ما لبث الرجل أن قام ، وانصرف مِن غير أن يستأذن ، أو أن يؤذن له ، فقلت في إِثره في نفسي : إن هذا الرجل صالح ، فأتبعه ، وأظفر به قبل أن تغيِّبه عن عينيك جموعُ الناس ، فتبعته فوجدته قد أتى البيتَ ، وتعلَّق بأستاره ، ووضع خدَّه على جداره، وجعل يقول : اللهم بك أعوذ ، وبجنابك ألوذ ، اللهم اجعل لي في الاطمئنان إلى جودك ، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين ، وغنى عما في أيدي المستأثرين ، و الحديث القدسي أيها الإخوة : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هويا تحت قدميه ، و قطَّعت أسباب السماء بين يديه ، و ما من مخلوق يعتصم بي من دوني خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهلُ السماوات و الأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا" .
إخواننا الكرام ؛ الله هو هو ، إلهُ صحابة رسول الله هو إلهنا ، إله التابعين إلهنا ، القرآن هو هو، فأنت إذا اعتصمت بالله ، واستقمت على أمره لا يمكن إلا أن ترى من آياته الدالَّة على أنه هو الإله ،
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image002.gif
[سورة الزخرف]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image003.gif
[سورة الأعراف]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image004.gif
[سورة هود]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image005.gif
[سورة الفتح]
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image006.gif
[سورة الأنفال]
الله عزوجل يشعرك دائما أنه موجود ، وأنه معك :
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكلَّ وحاذِر طمعك
و إذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منــعك
المؤمن الصادق يشعر أن الله معه ، يشعر بوجود الله ، تجد أصعب إنسان يلين قلبُه معه ، واللهُ عزوجل يسخِّر عدوَّك ليخدمك ، ويسخر القويَ فيها لك ، يقف أمامك في حيرة ، وهو قادر على أن يسحقك ، ما الذي ألجمه .
ذكرت لكم قبل دروس عدة ، لما بلغ الحَجَّاجَ أن الحسن البصري ذكره بغير ما يريد ، فمباشرة خاطب مَن حوله ، قال : أنتم جبناء ، واللهِ لأسقينكم من دمه ، أعطى أمرا فوريا للسياف أن يهيِّئ نفسه لقطـع رأس الحسن البصري ، مُدَّ النطعُ في بهو القصر ، وجيء بالسياف ، وقال لصاحب الشرطة : ائتني بالحسن البصري لقطع رأسه ، وانتهى الأمر ، دخل الحسن البصري على الحجاج، فوقف لـه ، وقال : أهلا بأبي سعيد ، ماذا حدث ؟ شيء لا يُصَّدق ، فما زال يدنيه منه حتى أجلسه في مجلسه ، وسأله عن صحته ، وتلطَّف معه ، وعطَّره ، وسأله بعض الأسئلة ، وأجابه الحسنُ ، وقام ، وودَّعه ، وقال : يا أبا سعيد أنت سيد العلماء، السياف نظر ، لم يفهم الذي حدث ، معه أمرٌ بقطع رأسه فورا ، والنطع ممدود ، فتبعه الحاجبُ ، وقال له : يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فُعل بك ، فما القصة ؟ لما دخلتَ رأيناك تمتمت ، فماذا قلت ؟ قال الحسن البصري ، قلت : يا وليَ نعمتي ، يا ملاذي عند كربتي اجعل نقمته عليَّ بردا وسلاما كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم " ، أنا هناك كلمة أقولها كثيرا : إذا كان اللهُ معك فمن عليك ، وإذا كان اللهُ عليك فمن معك .
و اللهِ أيها الإخوة أعرف أناسا أقرب الناس إليهم زوجته أو ابنُه يتطاول عليه ، وقد يضربه ، وأعرف أناسا أعدى أعدائه يكرمه ، إذا كان اللهُ معك فمن عليك ، و إذا كان اللهُ عليك فمن معك، ليس معك أحد ، لذلك المؤمن موحِّد ، دائما يقول " يا ربي ليس لي إلا أنت ، تبرَّأ من حولك ، ومن قوتك ، ومن ذكائك ، وأتباعك ، ومن يحبك ، ومن يدعمك ، ومن يغطِّي أعمالك ، تبرَّأ من هؤلاء جميعا ، حتى يتولى اللهُ حفظك ، وتأييدك ، ونصرك ، ورعايتك ، قال : اللهم بك أعوذ ، و بجنابك ألوذ ، اللهم اجعل في الاطمئنان إلى جودك ، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين ، وغنًى عما في أيدي المستأثرين ، اللهم إني أسألك فرجك القريب ، ومعروفك القديم ، وعاداتك الحسنة ، يا رب العالمين ، قال : ثم ذهبت موجةٌ من الناس ، و أخْفَتْهُ عن عيني ، فأيقنتُ أنه لا سبيل إلى لقائه بعد ذلك ، فلما كانت عشيةُ عرفة رأيته ، وقد أفاض مع الناس فدنوتُ منه ، فإذا هو يقول : اللهم إن كنتَ لم تقبل حجِّتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني الأجرَ على مصيبتي لتركك القبولَ مني ، اعتبر عدم القبول مصيبة ، يا ربي اجرني عليها ، كما قال أحد التابعين : " التقيت بأربعين من أصحاب رسول الله ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقا "، من شدة الورع ، ومن شدة الخوف ، هذا الخوف المقدَّس ، هذا القلق المقدَّس ، يا ترى أنا مقبول عند الله ، عملي مقبول ، لعل هناك خللا ، لعل هناك تقصيرا ، لعل هناك نفاقا ، لعل هناك نية لا ترضي الله عزوجل ، لعل هناك دنيا ، ثم غاب عنه مرة ثانية ، فلما يئس من لقائه قال : اللهم اقبل دعائي ، و دعائه ، واستجِب لرجائي ورجائه ، وثبِّت قدمي وقدمه يوم تزلُّ الأقدام ، واجمعني معه على حوض الكوثر يا أكرم الأكرمين " .
جاء خليفةٌ ثانٍ اسمه سليمان بن عبد الملك يلقي رحاله في أكناف البيت العتيق ، و يدلُّ أشواقه إلى الكعبة المعظَّمة ، ثم التفت إلى حاجبه ، وقال : ابتغِ لنا عالما يفقِّهنا في الدين ، ويذكِّرنا في هذا اليوم الأغرِّ من أيام الله عزوجل ، فمضى الحاجبُ إلى وجوه أهل الموسم ، وطفق يسألهم عن بُغية أمير المؤمنين ، فقيل له : هذا طاووس بن كيسان سيد فقهاء عصره ، وأصدقهم لهجة في الدعوة إلى الله ، فعليك به ، فأقبل الحاجبُ إلى طاووس ، وقال : أجِب دعوةَ أمير المؤمنين أيها الشيخ ، فاستجاب طاووسُ له من غير إبطاء ، ذلك أنه كان يؤمن بأن على الداعية إلى الله تعالى ألاّ تعرض لهم فرصةٌ إلا اغتنموها ، وألاّ تسمح لهم بادرةٌ إلا ابتدروها ، وكان يوقن أنّ أفضل كلمة تُقال هي كلمة حقٍّ أُريد بها تقويم اعوجاج ، فلما دخل على أمير المؤمنين حيَّاه ، فردَّ الخليفة التحيةَ بأحسنَ منها ، وأكــرم استقبال زائره ، وأدنى مجلسه ، ثم أخذ يسائله عما أشكل عليه من مناسك الحج ، وينصت إليه في توقير وإجلال ، قال طاووس : فلما شعرتُ أن أمير المؤمنين قد بلـغ بغيتـــه ، ولم يبق ما يسأل عنه قلتُ في نفسي : إنّ هذا المجلس لمجلسٌ يسألك اللهُ عنه يا طاووس ، ثم توَّجهت إليه ، وقلت: يا أمير المؤمنين إّن صخرة كانت على شفير بئر في قعر جهنم، وقد ظلتْ تهوي في هذه البئر سبعين خريفا ، حتى بلغت قرارها ، أتدري يا أمير المؤمنين لمن أعدَّ اللهُ هذه البئر من آبار جهنم ؟ فقال من غير روِيَّة : لا ، ثم عاد لنفسه ، وقال : ويلك لمن أعدَّها ؟ بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا ، إلى أن يصل إلى قعرها ، فقال طاووس : يا أمير المؤمنين أعدّها الله عزوجل لمن أشركه في حكمه فجار " لمن يظلم ، فأخذت سليمانَ رِعدةٌ ، ظننتُ معها أن روحه تصعد إلى باريها ، وجعل يبكي ، و لبكائه نشيج يقطِّع نياطَ القلوب ، فتركته ، وانصرفتُ ، وهو يجزِّيني خيرا ، ماذا يقول له الخليفةُ ؟ جزاك الله خيرا ، أيقظه ، قال له : بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا ، أتدري لمن ؟ هذه لمن أشركه اللهُ في حكمه فجار على الناس " .
ولما ولِيَ عمرُ بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس ، وقال له : أوصني يا أبا عبد الرحمن، كتب إليه طاووسُ رسالةً في سطر واحد ، قال فيها : - دقِّقوا في هذا الكلام : إذا أردتَ أن يكون عملُك خيرا كلَّه فاستعمِل أهل الخير ، والسلام " أي أكبر مهمة يفعلها وليُّ الأمر أن يستعمل الصالحين ، الأمناء الأكفاء ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image007.gif
[سورة القصص]
سيدنا عمر قال : خذ عهدك وانصرِف إلى عملك ، واعلم أنك مصروف رأسَ سنتك ، أحد الولاة أراد أن يمتحنه ، قال له : إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلناك لضعفك ، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائنا قويًّا استهلنا بقوَّتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنا أدبَك ، وإن جمعت الجُرمين ، جمعنا المضرتين ، وإن وجدناك أمينا قويًّا زدناك في عملك " .
الآن ، لما آلتْ الخلافةُ إلى هشام بن عبد الملك ، لطاووس معه مواقف شهيرة ، لما قدِم هشام البيت الحرام قال لخاصَّة أهله : التمسوا لنا صحابيا من أصحاب رسول الله ، قالوا له : إن الصحابة قد تلاحقوا بربهم واحدا إِثرَ آخر ، حتى لم يبق منهم أحد ، في عهد هشام بن عبد الملك لم يبقَ من أصحاب النبي أحدٌ ، قال : إذًا فمن التابعين ، أوتيَ له بطاووس ، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطـه ، وسلَّم عليه من غير أن يدعوَه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس ، فاستشاط هشامُ غضبا حتى بدا الغيظُ في عينيه ، قال : ويحك ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال : وماذا صنعت ، فقال الخليفة : خلعت نعليك بحاشية بساطي ، ولم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وسمَّيتني باسمي ، ولم تكنِّني ، ثم جلستَ من غير إذني ، فقال طاووس بهدوء : أما خلعُ نعليَّ بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات في المسجد ، فلا يعاتبني ربي ، ولا يغضب عليَّ ، وأما قبولك : إني لم أسلِّم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك ، وقد خشيتُ أن أكون كاذبا إذا دعوتُك بأمير المؤمنين ، وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك ، ولم أُكنِّك ، فإن الله عزوجل نادى أنبياءه بأسمائهم ، يا داوود ، يا يحيى يا عيسى ، وكنى أعداءه بألقابهم ، قال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-17_files/image008.gif
[سورة المسد]
هل هناك أوضح من هذا ، أما قولك : إني جلست قبل أن تأذن لي ، فإني سمعت أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب يقول : إذا أردتَ أن تنظر لرجل من أهل النار فانظر إلى رجل وحوله قوم قيام بين يديه " ، فكرهتُ أن تكون أنت ذلك الرجل ، رأسا جلست ، فأطرق هشامُ إلى الأرض خجلا ، ثم رفع رأسه وقال : يا أبا عبد الرحمن عِظني ، قال : إني سمعتُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن في جهنم حيَّاتٍ كالقلال ، وعقارب كالبغال ، تلدغ كلَّ راعٍ لا يعدل في رعيته ، ثم قام وانصرف " سبحان الله لأنه مخلص ، وصادق ، ويبتغي وجهَ الله تقع هذه الكلمات موقعا حسنا في نفوس الخلفاء ، الإنسان الصادق يجعل اللهُ عزوجل لكلامه تأثيرا .
هذا التابعي جعل همَّه أن يعظ أولي الأمر ، انظُر كم خليفة ، وكم والٍ ، وكم مِن إنسان دخل عليه ، إخلاصُه لله جعل له هيبة كبيرة ، وصدقه في هداية الآخرين جعل لكلامه ذلك التأثير .
هذا الموضوع يحتاج إلى درس آخر إن شاء الله تعالى ، نرجو اللهَ عزوجل أن نستفيد من هذه المواقف ، أي الدين النصيحة ، فملخَّص درسنا " الدين النصيحة " الآن هناك اتِّجاه آخر ، يقال : يا أخي أعطه جَمَله ، ولا توجع رأسك ، أنت انصح أخاك ، وانصح أجيرك ، وانصح أقرباءك ، وانصح شريكك ، لا تسكت ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الفريضة السادسة ، والحمد لله رب العالمين .
(http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen.php)
لؤلؤة الغرب
01-05-2009, 02:53 AM
عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن
قبل أن يدخا رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..
هو اذن من الأوائل المبكرين..
ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟
قلت: نعم..
فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.
فقال: انك غلام معلم"...
**
لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!
وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..
بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..
فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).
ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!
ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..
انه الزبير رضي الله عنه يقول:
" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟
فقال عبدالله بن مسعود:أنا..
قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..
قال: دعوني، فان الله سيمنعني..
فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..
فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..
فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..
ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:
هذا الذي خشينا عليك..
فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..
قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!
أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!
ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..
ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!
**
لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..
بل ولا بعيدا عن الزحام..!!
فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..
فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..
ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!
ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!
ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!
ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.
يقول على نفسه:
" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..
ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..
ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:
" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".
ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.
يقول عليه السلام:
" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!
ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..
دعاه يوما الرسول، وقال له:
" اقرأ عليّ يا عبد الله"..
قال عبد الله:
" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!
فقال له الرسول:
"اني أحب أن أسمعه من غيري"..
فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..
ولا يكتمون الله حديثا)..
فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:
أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..
وتحدث هو بنعمة الله فقال:
" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!
ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
" لقد ملئ فقها"..
وقال أبو موسى الأشعري:
" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"
ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.
يقول عنه حذيفة:
" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...
ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!
واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:
"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..
قال علي:
نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟
قالوا:
نعم..
قال:
اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..
لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!
وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:
" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..
وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..
يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:
"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..
ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:
" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..
وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:
" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...
وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..
فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...
وهكذا قال عنه أصحابه:
" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..
ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..
ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...
فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!
ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..
يقول عمرو بن ميمون:
" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!
ويقول علقمة بن قيس:
" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!
ويحدثنا مسروق عن عبدالله:
" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!
الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!
فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!
**
لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:
" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".
ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..
واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..
ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..
ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..
ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:
" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!
ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..
بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..
وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:
" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".
ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:
" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..
**
ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.
وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..
لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:
" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".
ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:
" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!
ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..
ومن كلماته الجامعة:
" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..
**
هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..
هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!
نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..
له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:
" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!
أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..
ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..
وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..
وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..
ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..
ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..
ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:
" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!
**
تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.
وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..
ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!
لؤلؤة الغرب
01-05-2009, 02:53 AM
عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن
قبل أن يدخا رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..
هو اذن من الأوائل المبكرين..
ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟
قلت: نعم..
فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.
فقال: انك غلام معلم"...
**
لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!
وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..
بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..
فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).
ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!
ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..
انه الزبير رضي الله عنه يقول:
" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟
فقال عبدالله بن مسعود:أنا..
قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..
قال: دعوني، فان الله سيمنعني..
فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..
فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..
فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..
ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:
هذا الذي خشينا عليك..
فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..
قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!
أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!
ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..
ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!
**
لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..
بل ولا بعيدا عن الزحام..!!
فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..
فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..
ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!
ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!
ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!
ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.
يقول على نفسه:
" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..
ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..
ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:
" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".
ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.
يقول عليه السلام:
" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!
ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..
دعاه يوما الرسول، وقال له:
" اقرأ عليّ يا عبد الله"..
قال عبد الله:
" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!
فقال له الرسول:
"اني أحب أن أسمعه من غيري"..
فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..
ولا يكتمون الله حديثا)..
فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:
أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..
وتحدث هو بنعمة الله فقال:
" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!
ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
" لقد ملئ فقها"..
وقال أبو موسى الأشعري:
" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"
ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.
يقول عنه حذيفة:
" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...
ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!
واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:
"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..
قال علي:
نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟
قالوا:
نعم..
قال:
اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..
لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!
وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:
" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..
وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..
يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:
"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..
ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:
" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..
وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:
" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...
وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..
فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...
وهكذا قال عنه أصحابه:
" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..
ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..
ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...
فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!
ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..
يقول عمرو بن ميمون:
" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!
ويقول علقمة بن قيس:
" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!
ويحدثنا مسروق عن عبدالله:
" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!
الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!
فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!
**
لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:
" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".
ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..
واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..
ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..
ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..
ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:
" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!
ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..
بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..
وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:
" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".
ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:
" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..
**
ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.
وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..
لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:
" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".
ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:
" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!
ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..
ومن كلماته الجامعة:
" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..
**
هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..
هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!
نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..
له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:
" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!
أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..
ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..
وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..
وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..
ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..
ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..
ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:
" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!
**
تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.
وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..
ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!
طالب عفو ربي
01-05-2009, 04:19 AM
القاسم بن محمد بن أبي بكر
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثامن عشر من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، والتابعي اليوم هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، حفيدُ سيدنا الصديق .
هذا التابعيُّ الجليل جمع المجدَ من أطرافه كلها ، فأبوه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبالمناسبة أيها الإخوة النسب تاج يُتوَّج به المؤمن ، أما إن لم يكن هناك إيمان فلا قيمةَ له إطلاقا ، وأكبر دليل قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-18_files/image001.gif
[سورة المسد]
أبو لهب عمُّ النبي ، والدليل الثاني قول النبي صلى الله عليه و سلم : سلمان منا آل البيت " ، وسلمان فارسي ، وقوله : نعم العبد صهيب " أنا جدُّ كل تقي و لو كان عبدا حبشيا " هذه حقيقة ، النسب لا يُعتدُّ به ، ولا يُفتخر به ، ولا قيمة له إلا إذا جاء بعد الإيمان : يا فاطمة بنت محمد ، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار ، أنا لا أغني عنكما من الله شيئا ، لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم ، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه " أما إذا كان هناك إيمان ، وأنت من أسرة شريفة ، هذا تاج تتوَّج به ، لذلك لا ينبغي أن نصغي أبدا لإنسان متلبِّس بمعصية يدَّعي أنه ابن فلان ، وجدُّه فلان ، ومن هذه الأسرة الكريمة ، هذا كلام لا يقدِّم ، ولا يؤخِّر أبوه محمد بن أبي بكر الصديق ، وأمُّه بنتُ كسرى يزدجرد ، آخر ملوك الفرس ، والدته بنت ملك ، وعمَّته عائشة بنت أبي بكر ، وفوق هذا و ذاك كان تقيًّا عالما ، نهاية العلم التوحيدُ ، ونهاية العمل التقوى ، وتعلموا العلم فإن كنتم سادة فُقتم ، وإن كنتم وسطا سُدتم ، وإن كنتم سوقةً عشتم ، أحيانا الإنسان يشعر أنه ليس له أسرة راقية يفتخر بها ، وليس معه رأس مال ضخم يعيش به حياة ناعمة ، باب العلم مفتوح لكل الناس ، إنسان فقير ، إنسان مغمور ، فباب العلم بإمكان كل إنسان أن يدخل منه ، وإذا دخل منه تفوَّق ، أحد خلفاء بني أمية أراد أن يسأل عالما جليلا ، هذا العالم أسود اللون ، أفطس الأنف ، مفلفل الشعر ، وكان من كبار العلماء ، وقف أحدُ أكبر خلفاء بني أمية بين يديه متأدِّبا وسأله ، و العالم يجيب ، فقال الخليفةُ لأولاده : انظُر يا بنيَّ إلى ذلِّنا بين يديه ، رتبة العلم أعلى الرتب ، أي إذا أردتَ الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، و إذا أردتهما معا فعليك بالعلم .
هذا التعليق أردتُ منه أنّ أيَّ إنسان يشكو أنه غير معروف ، مغمور ، فقير، لا حصّل مجد المال ، ولا حصَّل مجدا اجتماعيا معيَّنا ، نقول له : باب العلم مفتوح لك ، إذا تفوَّقتَ في العلم بإمكانك أن تصل إلى أعلى مرتبة ، مثلا ، تجد أكبر شخصية أمام الطبيب مثل الطفل ، ماذا أفعل يا دكتور ، قد يكون الطبيبُ متفوِّقا ، لكنه كان في الأصل مغمورا ، ولما صار طبيبا ، وتفوَّق ، فأكبر الشخصيات يستفتونه في شأن صحَّتهم ، يسألون خبيرًا اقتصاديًّا ، وأحيانا يُستشار من قِبَل أعلى مستوى ، أحيانا خبير حقوقي يُستشار ، والحقيقة الذي يحمي العالَم العلماءُ والرؤساء ، في كل أنحاء العالَم لا يتَخذون قرارا إلا بعد استشارات من العلماء ، فالعلم هو الأساس ، ففوق أنّ أمه بنت كسرى ، وأن أباه محمد بن أبي بكر ، فوق هذا وذاك كان عالما تقيًّا.
الحقيقة هناك نقطة مهمة أيها الإخوة ، أنت إنسان كائن ، تأكل ، وتشرب ، وتنام ، وتعمل ، وتتزوج ، وتنجب ، أيُّ مخلوق آخر له نفس الخصائص ، أيُّ مخلوق غير إنساني يأكل ، ويشرب ، ويتزوج ، ويعمل ، والإنسان إذا ألغى العلمَ من حياته ، وألغى طلب العلم فقد ألغى إنسانيته ، والإنسان إذا ألغى العلم ولم يطلبه فقد هبط من مستوى إنسانيته إلى مستوى آخر ، فالذي يؤكِّد إنسانيتك علُمك و أخلاقُك ، تذكرون أحد التابعين ، قيل عنه : كان قصير القامة ، أسمر اللون ، مائل الكتف ، غائر العينين ، ناتئ الوجنتين ، أحنف الرجل ، ليس شيءٌ من قُبحِ المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيدَ قومه ، إذا غضِبَ غضِبَ لغضبته مائة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب ، وكان إذا علم أن الماءَ يفسد مروءته ما شربه ، فالذي يؤكِّد إنسانية الإنسان علمُه و أخلاقُه ، وما سوى العلم و الأخلاق هو وبقية المخلوقات سيان .
القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد فقهاء المدينة السبعة ، وأفضل أهل زمنه علما وأحدُّهم ذهنا ، وأشدُّهم ورعا ، فما قصَّة هذا التابعي الجليل ؟
هناك سؤال صغير ، يا تُرى حدَّة الذهن أليست هبةً من الله عزوجل ؟ هبة ، إلا أن الذي أعرفه أن الإنسان إذا كان مطلبُه عاليا جدا آتاه اللهُ القدرات العقلية و البيانية ، حيث تلبِّي هذا الطلب العالي ، فكلُّ إنسان يعطيه الله من الإمكانات و القدرات العامة والخاصة ما يتناسب مع مطلبه الثمين ، هناك شخص تنتهي كلُّ طموحاته عند الزواج ، تنتهي كل طموحاته عند حيازة المال ، تنتهي كل طموحاته إذا حقَّق مكانة اجتماعية ، ليس له أهداف كبيرة أخروية ، هذا الإنسان يعطيه الله من الإمكانات ما يتناسب مع هذه المطالب المتواضعة ، لكن هؤلاء الذين أرادوا هداية البشر يعطيهم الله إمكانات فكرية وعقلية وبيانية تفوق حدَّ الخيال ، لذلك من خصائص الأنبياء الفطانة ، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام ، دعونا من نبوَّته ومن رسالته فهو شخصية فذَّة ، كان يفهم أدقَّ الأمور ، ويتصرَّف بحكمة ما بعدها حكمة ، قلت لكم مرة : إن أصحابه الأنصار لما وجدوا عليه في أنفسهم ، صارت هناك حركة ضده ، ما أعطاهم من الغنائم شيئا ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللـَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللـَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا *
[رواه أحمد]
إنها فتنة ، فكيف أنّ النبيُّ أوَّلاً بوفائه وعفوه ورحمته وحكمته وبسياسته حلَّ مشكلتهم ، حتى بكوا وأخضلوا لحاهم " .
مرة قلت لكم : إن أحــد الخلفاء جاءته رسالةٌ من مواطن عادي : أما بعد ؛ فيا معاوية – مباشرة ، لا أمير المؤمنين ، ولا خليفة ، ولا شيئا من هذا - إن رجالك قد دخلوا أرضي ، فَانْهَهُمْ عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأنٌ ، والسلام " ، مباشرة ، أعطاها لابنه ، فلما قرأها صار يرجف، قال :" أرى أن ترسل له جيشا أولُه عنده و آخره عندك يأتوك برأسه "، تبسَّم سيدنا معاوية ، وقال له : غيرُ هذا أفضل ، كتب : اكتب للكاتب : أما بعد فقد وقفتُ على كتاب ولد حواري رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءه ، و الدنيـا كلها هيِّنة جنب رضاه ، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها " ، ويأتي الجوابُ : أما بعد ؛ فيا أمير المؤمنين ، أطال اللهُ بقاءك ، ولا أعدمك الرأيَ الذي أحلَّك من قومك هذا المحلَّ " ، يأتي ابنُه ، ويقول له : يا بنيَّ انظر ، تريد أن نبعث له جيشا أوله عنده و آخره عندنا ، يأتون برأسه ، حروب عشر سنوات ، هذا الكلام الطيِّب أطفأ الفتنةَ ، قال له : يا بني من عفا ساد ، و من حلُم عظُم ، و من تجاوز استمال إليه القلوبَ".
مرَّ معي حديثٌ دقيق ، قال عليه الصلاة و السلام : الإنسان إذا كظم غيظه ، و عفا أورثه اللهُ أمنا وإيمانا " ، هذا الحديث دقيق جدا ، لمّا يعفو الإنسان عن خصومه ، ما الذي يحدث ؟ أولا : ييقى الطريقُ إلى الله سالكا ، لأنه عمل عملا يرضي اللهَ ، ويزداد إيمانه ، ثانيا : هذا الذي عفوتَ عنه أحبَّك ، وذاب في حبِّك ، فأنت اطمأننت ، أما لو انتقمت منه ، صار جوُّك متوتِّرا ، في قلق ، طبعا العنفُ لا يأتي إلا بالعنف ، هذه قاعدة ، العنف لا يلد إلا العنف ، لما تنتقم سيتحرَّك المنتَقم منه لينتقم منك ثانية ، إلى سلسلة لا نهاية لها ، لو يعلم الناسُ ما في العفو من راحة نفسية ، ومن سعادة ، ومن لَمِّ الشمل ، ومن تكتُّل الناس بعضِهم بعضا لاتّخذه سبيلا في حياته ، أما الانتقام دائما فيسبِّب العنف الذي لا يلد إلا العنف .
هذا التابعي الجليل وُلد في أواخر خلافة عثمان بن عفان ، هذا الطفل الصغير له قصة ، والدُه عُيِّن واليًا على مصر ، وقُتِل والدُه في مصر ، فنُقــل مرة ثانية إلى المدينة ، تبدأ القصةُ حينما يتحدَّث هو عن نفسه ، يقول : لما قُتل أبي بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني أنا وأختي الصغيرة ، ومضى بنا إلى المدينة ، هذه القصة الآن محورها أثر التربية في شخصية الإنسان ، فما إن بلغناها حتى بعثت إلينا عمَّتي عائشة رضي الله عنها - واللهِ أيها الإخوة المرأة إذا قامت بواجباتها خير قيام تصنع الرجالَ ، و كما ورد لما : امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوجَها ، وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، قالت : يا رسول الله : إن زوجي تزوَّجني وأنا شابة ، ذات أهل و مال ، فلما كبرت سني ، و نثر بطني ، و تفرق أهلي ، وذهب مالي قال : أنتِ عليَّ كظهر أمي ، ولي منه أولاد ، إن تركتهم إليه ضاعوا - هي المربِّية - وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ، الآن تلاحظ الأشخاص الناجحين في حياتهم أحد أكبر أسباب نجاحاتهم تلقوا تربية جيِّدة حينما كانوا صغارا ، والتربية البيتية لها أثر كبير جدا في مستقبله ، الذي عنده أولاد ، فأكبر ثروة ، وأعظم عمل ، وأكبر سعادة أن تصُبَّ كلَّ اهتمامك عليهم ، حتى يتربَّوا تربية عالية ، اسمعوا هذا الكلام ، وأنا أعني ما أقول بشكل دقيق ، لو وصلت إلى أعلى مستوى ماليٍّ في العالم ، لو كان حجمُك أربعون ألف مليون دولار ، لو وصلت إلى أكبر حجم من القوة في العالم ، وملكت زمام الدنيا ، لو وصلت إلى أكبر مرتبة دينية في العالم ، فصرت عالم العلماء ، ولم يكن ابنُك على شاكلتك لشقيتَ به ، الإنسان يشقى بشقاء أولاده ، والآباء الشباب هذه الحقيقة لا يلتفتون إليها ، أما حينما يكبر أولادهم ، وينحرفون يعضُّون على أناملهم ندما ، تربية الأولاد أجلُّ عمل يفعله الإنسان في حياته ، تربية الأولاد استمرار لحياتك من بعدك .
الآن سنلاحظ ماذا فعلت هذه العمةُ الجليلة السيدة عائشة ، قال : فحملتنا من منزل عمنا إلى بيتها ، وربَّتنا في حجـرها ، فما رأيتُ والدةً قط ، ولا والدا أكثر منها برًّا ، ولا أوفر منها شفقة ، كانت تطعمني بيديها ، ولا تأكل معنا ، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته ، السيدة عائشة ، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم ، تغسل أجسادنا ، وتمشِّط شعورنا ، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب ، و كانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير ، وتمرّسنا بفعله ، وتنهانا عن الشرِّ ، وتحملنا على تركه ، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى ، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله ، وكانت تزيدنا برًّا وإتحافا في العيدين ، فإذا كانت عشيِّةُ عرفة حلقت لي شعري، وغسلتني أنا وأختي ، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديدَ ، و بعثت بنا إلى المسجد النبوي لنؤدِّي صلاة العيد ، فإذا عُدنا منه جمعتني أنا وأختي وضحَّت بين أيدينا ، هذه السيدة عائشة .
يا أيها الإخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة و السلام يخاطب امراةً يقول : اعلَمي أيتها المرأة ، و أعِلمي من دونكِ من النساء أن حسنَ تبعُّل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله " ، فالمرأة الصالحة أولادها شهاداتها ، قد ترقى المرأةُ الصالحةُ إلى أعلى مرتبة بحسن رعايتها لزوجها وأولادها ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
((مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)) .
[رواه ابن ماجه]
أي هندامها جيِّد ، تعتني بمظهرها لزوجها ، لا للطريق ، و لكن هناك رواية للحديث"و إذا نظرت سرتك " ما قال : إليها ، أي إذا نظرت إلى الأولاد ، مرتَّبين في الملبس والهيئة ، شعورهم مهندمة، ثيابهم نظيفة ، نظرت إلى المطبخ نظيفة ، وإلى غرفة النوم مرتبة ، و إذا نظرت سرتك"، أي إذا قامــت المرأة بحقِّ زوجها و أولادها فهي مع رسول الله في الجنة ، قال عليه الصلاة و السلام : " أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة " ، ما كان يخطر على بالنا أن هذه السيدة عائشة رضي الله عنها بهذا الاهتمام ، وهذا العطف .
مرة ثانية ، فما أنْ بلغنا المدينـة حتى حملتني أنا وأختي إلى بيتها ، وربَّتنا في حجرها ، فما رأيتُ والدةً قط ، ولا والدًا أكثر منها بِرًّا ، ولا أوفر شفقة ، كانت تطعمني بيديها ، ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته ، السيدة عائشة ، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم ، تغسل أجسادنا ، وتمشِّط شعورنا ، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب ، وكانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير ، وتمرّسنا بفعله ، وتنهانا عن الشرِّ ، وتحملنا على تركه ، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى ، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله ، عناية مادية ، وعناية علمية ، إطعام ، ثياب نظيفة ، تعليم القرآن ، وتعليم السنة ، هذه المرأة التي تهزُّ سرير ابنها بيسراها ، وتهزّ العالم بيمناها ، المرأة إذا عرفت ربَّها ، وعرفت مهمَّتها في الحياة فهذا شيء لا يُقدَّر بثمن ، لذلك أكبر واجب مُلْقًى على كاهلك اتِّجاهَ أولادك أن تحسن اختيار أمهم ، قبل أن تخطب عُدَّ للمليون ، هذه أمُّ أولادك ، هذه سوف تربي أولادك ، أخلاقها ، وعلمها ، واستقامتها ، وعفتها ، وأمانتها ، و صدقها ، وتربيتها ، ومستواها الاجتماعي ، ومستواها الثقافي، شيء خطير جدًّا .
وفي ذات يوم ألبستنا ثيابا بيضًا ، ثم أجلستني على إحدى ركبتيها ، وأجلست أختي على ركبتها الأخرى ؛ الطفل لا ينسى ، الطفل الصغير لا ينسى الإكرام ، و لا ينسى الحنان ، والعطف ، والرعاية ، طعامه مؤمَّن ، ولباسه مؤمَّن ، إذا مرض بسرعة نحكِّمه ، لباسه في الشتاء جيِّدة ، تقيه البرد ، غرفته نظيفة ، هذا يُغرس معه ، أي حينما تخرج المرأة من بيتها ، وتهمل أولادها فقد خانت أمانة الله ، و كانت قد دعت عمِّي عبد الرحمن ، فلما دخل عليها حيَّته ، ثم تكلمت ، القاسم بن محمد وأخته على يسراها ، ودعت أخاها عمي عبد الرحمن ، فلما دخل عليها حمدت اللهَ عزوجل ، وأثنت عليه بما هو أهلُه ، فما رأيتُ متكلِّما قطُّ من رجل أو امرأة قبلها ولا بعدها أفصحَ منها لسانا ، ولا أعذبَ منها بيانا ، ثم قالت : أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذتُ هذين الصبيين منك ، وضممتُهما إليَّ ، يبدو أن أخاها عندما أخذت منه أختُه هذين الصبيين تألَّم فأعرض عنها ، فلما اعتنت بهما العناية الفائقة ، وأصبحا في سنٍّ يكفيان نفسيهما دعت أخاها ، وقالت : أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذت هذين الصبيين منك ، و ضممتهما إليَّ، و واللهِ ما فعلتُ ذلك تطاولا عليك ، ولا سوء ظنّ بك ، واتِّهاما لك بالتقصير في حقِّهما ، ولكنك رجل ذو نساء ، عندك عدة زوجات ، وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما ، فخشيتُ أن يرى نساؤُك منهما ما يستقذرنه ، فلا يطبن بهما نفسا ، ووجدتُ أني أحقُّ منهن بالقيام على أمرهما في هذه الحال ، وها هما الآن قد شبَّا ، وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما ، فخذهما ، وضمَّهما إليك ، أي حينما كانا يحتاجان إلى تنظيف ورعاية ، آثرت السيدة عائشة أن تأخذ الطفلين إليها ، فلما صارا في مستوى يقومان بأمر نفسيهما، قالت لأخيها : خذهما ، طِب بهما نفسا ، فأخذنا عمي عبدُ الرحمن ، وضمَّنا إلى بيته ، بيد أن الغلام البكري ظلَّ معلَّق القلب ببيت عمَّته أمِّ المؤمنين رضوان الله عليها .
الذي يربِّي أولادًا ، يا إخواننا الولد والطفل الصغير يجب أن يرضع الحنان مع حليب أمِّه ، تجد الآن مواقف في العالم قاسية جدا ، تستغرب ، هل تعلم ما السبب ؟ ستون بالمائة من أطفال العالَم الغربي أطفال زنا ، لقطاء ، ما شرب حنان الأم إطلاقا ، ولا حنان الأب ، ولا عرف مرضعة ، إلا مربية في مستشفى ، أو في مصحٍّ، لكن لا شيء يعوِّض عن الأم ، فالذي يرضع مع حليب أمه العطف و الحنان يصبح إنسانا رحيما ، لا يتَّخذ قرارًا قاسيا جدا ، الآن في العالَم أعمال إجرامية فوق حدِّ الخيال ، والسبب هذه تصدر عن قلوب ليس فيها الرحمة إطلاقا ، والرحمة أساسا يأخذها الإنسانُ مع حليب أمِّه .
أيها الإخوة ؛ يقول هذا التابعيُّ الجليل : قلتُ ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها : يا عمَّتي اكشِفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه ، فإني أريد أن أراهما ، وكانت القبورُ الثلاثة ما زالت داخل بيتها ، وقد غطَّتها بما يسترها عن العين ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور ، لا مشرفة و لا واطئة ، قد مهِّدت بصغار الحصى الحمر ، مما كان في باحة المسجد ، فقلتُ : أين قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشارت بيدها ، وقالت : هذا ، ثم تحدَّرت على خدَّيها دمعتان كبيرتان ، فبادرتْ فمسحتْهما حتى لا أراهما ، وكان قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّما على قبر صاحبيه ، فقلت : وأين قبر جدي أبي بكر ؟ قالت : هو ذا ، وكان مدفونا عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ : وهذا قبرُ عمر ؟ قالت : نعم ، وكان رأسُ عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريبا من رجل النبي عليه الصلاة و السلام .
ولما شبَّ الفتى البكري كان قد حفظ كتاب الله تعالى ، وأخذ عن عمته عائشة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء له أن يأخذ ، ثم أقبل على الحرم النبوي الشريف ، وانقطع إلى حلقات العلم التي كانت تنتشر في كل ركن من أركانه ، فروى عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وعن عبد الله بن عمر ، و عن عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن خبَّاب ، ورافع بن خديج ، وأسلم مولى عمر بن الخطاب ، وغيرهم وغيرهم ، أي تلقَّى العلمَ عن كبار العلماء في عصره ، حتى غدا إماما مجتهدا ، وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة ، وكان الرجلُ لا يُعدُّ رجلا عندهم حتى يتقن السنة ، لأن السنة فيها تبيان للقرآن الكريم ، وربُّنا عزوجل حينما حفظ كتابه ، قال العلماء : إن حفظ السنة من لوازم حفظ الكتاب ، لأن السنة مبيَّنة للكتاب .
ولما اكتمل لهذا الشاب البكري العلمُ صار معلِّما ، قالوا : تعلَّموا قبل أن ترأسوا ، فإن ترأستم فلن تعلموا ، فالإنسان في طور البناء الذاتي مهما اجتهد في ترسيخ علمه ، وفي تمكين نفسه من الحقائق الناصعة مع أدلَّتها فهذا مما يعينه على العطاء ، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أصبح القاسمُ بن محمد وابن خالته سالم إمامي المدينة الموثوقين ، فقد سوَّدهما الناسُ لِما كان يتحلَّيان به من التقى والورع ، وقد بلغ من مكانتهما في النفوس أن خلفاءَ بني أمية وولاتهم كانوا لا يقطعون أمرا ذا بالٍ في شأن من شؤون المدينة إلا برأيهما .
مرة الوليدُ بن عبد الملك عزم على توسعة الحرم النبوي الشريف ، ولم يكن في وسعه تحقيقَ هذه الأمنيــة الغالية إلا إذا هدم المسجدَ القديم من جهاته الأربع ، و أزال بيوت زوجات النبي صلوات الله عليه ، وضمَّهما إلى المسجد ، وهي أمورٌ تشقُّ على الناس ، ولا تطيب نفوسُهم بها ، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة يقول : لقد رأيتُ أن أوسِّع مسجدَ رسول الله صلى الله عليه و سلم ، حتى يصبح مائتي ذراع في مائتي ذراع ، فاهدِم جدرانه الأربعة ، وأدخل فيه حجَر زوجات النبي ، واشترِ ما في نواحيه من البيوت ، وقدِّم القبلةَ إن قدرت ، و إنك تستطيع ذلك لمكان أخوالك آل الخطاب ، فإن أبى عليك أهلُ المدينة ذلك - إذا لم يقبلوا - فاستعن بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر ، وأشركهما معك في الأمر ، وادفع إلى الناس أثمانَ بيوتهم بسخاء ، وإن لك في ذلك سلف صدق ، هم عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان اللذان وسَّعا المسجد ، فدعا عمرُ بن عبد العزيز القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطائفة من وجوه أهل المدينة ، وقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين ، فسُرُّوا بما عزم عليه ، وهبُّوا لإنفاذه ، فلما رأى أهلُ المدينة عالمي المدينة وإماميها الكبيرين يباشران في هدم المسجد بأيديهما قاموا معهما قومةَ رجل واحد ، أي لم يكن في الإمكان أبدا أن تنهدم حجرةُ النبي ولا الجدران الأربعة إن لم يقبل هذا التابعي الجليـل ، هو قبِل ، واقتنع بالأمر ، فهدم بيده هذه الجدران ، حتى أقبل الناسُ على هذا العمل العظيم في توسعة المسجد .
لما علِم ملِكُ الروم بعزم أمير المؤمنين بتوسعة المسجد أحبَّ أن يصانعهم ، و يتقرَّب بما يسرُّه، بعث إليه بمائة ألف مثقال من الذهب ، وأرسل معها مائة عامل من أمهر البنَّائين في بلاد الروم ، كيف كان للمسلمين شأنٌ كبير ، أراد ملك الروم أن يتقرَّب إلى الخليفة بإرسال هذه الخبرات الفنية مع العمال ، وزوَّد العمالَ بأربعين حِملا من الفسيفساء ، فأرسل الوليدُ هذا كلَّه إلى عمر بن عبد العزيز ليستعين به على البناء فأنفذه عمرُ بمشورة القاسم بن محمد .
مرة هناك أعرابي دخل المسجد فقال : أيهما أعلم أنت أم سالم ؟ فتشاغل عنه القاسمُ ، أعاد عليه السؤال ، فقال : سبحان الله ، أعاده مرة ثالثة ، فقال له : ذاك سالم يا بن أخي يجلس هناك فقال : من في المجلس ؟ للهِ أبوه ، لقد كره أن يقول : أنا أعلم منه فيزكِّي نفسَه ، و كره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب ، و كان أعلمَ من سالم ، كانة هناك أدب جمٌّ.
مرة كان في مِنًى ، و الناسُ حوله متحلِّقون يسألونه ، فيقول في بعض السؤال : لا أدري ، لا أعلم ، فأخذهم العجبُ ، فقال لهم : واللهِ ما نعلم كلَّ ما تسألون عنه ، ولو علمناه ما كتمناه ، ولا يحلُّ لنا أن نكتمه ، ولأنْ يعيش الرجلُ جاهلا بعد أن يعرف حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول لشيء لا يعلم : أعلمه ، القصة مشهورة ، إمام دار الهجرة ؛ الإمام مالك جاءه وفدٌ من الأندلس معه سبع وثلاثون سؤالا ، الوفد قطع شهرين من السفر ، فأجاب عن بعض الأسئلة ، وعن البعض الآخر قال : لا أدري ، ما صدَّقوا ، الإمام مالك لا يدري ، فقال لهم بأعلى صوته : قولوا لمن في المغرب الإمام مالك لا يدري " ، ونصف العلم : لا أدري ، وكلمة لا أدري لا يقولها إلا المتورِّع ، هذه وسام شرف ، أن تقول : لا أدري ، أما أن تقول لكل شيء : أدري معنى ذلك لا تدري شيئا ، لذلك يظلُّ المرءُ عالما ما طلب العلمَ ، فإذا ظنَّ أنه قد علم فقد جهِل .
أتاه اليقينُ وهو في سنٍّ متقدِّمة ، قصَد مكةَ يريد الحجَّ ، وفيما هو في بعض طريقه أتاه اليقينُ، فلما أحسَّ بالأجل التفت إلى ابنه ، وقال : إذا أنا متُّ فكفِّني بثيابي التي كنتُ أصلي بها ، قميصي، وإزاري ، وردائي ، فذلك كان كفنُ جدِّك أبي بكر ، ثم سوِّ عليَّ لحدي ، والحق بأهلك ، وإياكم أن تقفوا على قبري ، وتقولوا : كان وكان ، فما كنتُ شيئا ، فالتواضعُ يتناسب مع بلوغ أعلى مراتب العلم والتقوى ، ودائما الشيء الفارغ له صوت كبير ، والشيء المليء صوته خفيٌّ ، فكان هذا التابعي الجليل من أورع التابعين ، ومن أشدِّهم علما ، وقد أمضى حياته بهذه الطريقة .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه السيرُ عن التابعين الأجلاَّء باعثا لنا على طلب العلم ، وعلى التخلّق بأخلاق النبيِّ عليه الصلاة السلام ، كما قلتُ في أول الدرس ، إذا فاتَ الإنسانَ مجدُ المال ، وفاته مجدُ النسب ، وفاته مجدُ الشأن الاجتماعي ، فبابُ العلم مفتوحٌ لكل مَن فاتته هذه الأمجادُ ، وبإمكانه أن يصل إلى أعلى المراتب عن طريق العلم .
أختم كلمتي بهذا القول : إذا أردتَ الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردتَ الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم .
لؤلؤة الغرب
03-05-2009, 12:14 AM
سيد شباب أهل الجنة
الحسين بن علي
مقدمة
إنه الحسين بن علي -رضي الله عنه-، الحفيد الثاني لرسول الله (، من ابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-، زوج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد وُلد الحسين -رضي الله عنه- يوم الخامس من شعبان سنة أربعة من الهجرة، وعند ولادته أخذه النبي ( وحمله بين ذراعيه ولثم فاه بقبلة حانية طاهرة، وسماه حسينًا، وقال: (حسين مني وأنا من حسين، أَحَبَ اللهُ من أحب حسينًا) [الترمذي وأحمد].
وكان النبي ( يحب الحسين حبًّا شديدًا، فنشأ الحسين في حجر النبي ( حتى بلغ السابعة من عمره لا يفارقه، ولا يبعد عنه، ويناديه يا أبت، وكان الحسين أشبه الناس برسول الله (، ولذا أحبه الصحابة وعظمه الخلفاء منذ صغره.
وذات يوم دخل الحسين -رضي الله عنه- المسجد، فقال جابر ابن عبد الله
-رضي الله عنه-: (من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، سمعته من رسول الله ( [أبو يعلي].
وكان الحسين -رضي الله عنه- عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وكان يحسن المعاملة مع مواليه وخدمه، فيروى أنه دخلت عليه جارية وبيدها باقة من الريحان فحيته بها، فقال لها الحسين: أنت حرَّة لوجه الله -تعالى-، فقيل له: جارية تحييك بطاقة (باقة) ريحان فتعتقها؟
فقال الحسين: هكذا أدبنا الله، فقال تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86]، وكان أحسن منها عتقها.
وأحب الحسين -رضي الله عنه- العلم حتى صار بحرًا في علوم القرآن وحديث رسول الله ( والفقه، فكان يلقي دروسًا في مسجد رسول الله (، وكان الصحابة والتابعون يحرصون على حضور حلقته واستماع العلم منه، وفي هذا يقول معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: إذا دخلت مسجد رسول الله ( فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رءوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين.
وقد عُرف -رضي الله عنه- بشجاعته وجهاده العظيم في سبيل الله لنصْرة الدين، فاشترك في فتح شمال إفريقية في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وساهم في فتح طبرستان، وساند الحسين أباه الإمام عليَّا في حروبه بالجمل وصفين والخوارج.
ولما توفي الإمام على وقف الحسين مع أخيه الحسن يناصره ويؤازره، فلما تنازل الحسن -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ حقنًا لدماء المسلمين، وجمعًا لكلمتهم، قال الحسين لأخيه الحسن في أدب ووقار: أنت أكبر وَلَدِ عليّ، وأمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك.
وعكف الحسين بعد ذلك على طلب العلم والعبادة، حتى مات معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد مخالفًا بذلك إحدى شروط الصلح، وهو أن يُترك الأمر من بعده شورى بين المسلمين، عندها لم يسكت الحسين، وبايعه كثير من المسلمين، وطلبوا منه أن يكون خليفتهم، وأرسل إليه أهل الكوفة يبايعونه، ويحثونه على أن يأتي إليهم، فخرج الحسين مع أهله وبعض مناصريه متوجهًا نحو الكوفة، وحاول ابن عباس وأبو سعيد الخدري وابن عمر -رضي الله عنهم- منعه عن الخروج من مكة لكنه -رضي الله عنه- عزم على الخروج.
وفي الطريق، قابل الفرزدق الشاعر المعروف فسأله: كيف تركت الناس في الكوفة؟ فأجابه الفرزدق: تركتهم قلوبهم معك وسيوفهم عليك. فقال الحسين: لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم أكمل سيره حتى وصل إلى مكان يسمى (كربلاء) على مقربة من نهر الفرات؛ حيث دارت المعركة، وراح ضحيتها الحسين شهيدًا مع كثير مـن أهله وصحبه، وكان ذلك سنة (61 هـ).
وقد حفظ الله نسل النبي ( في الحسن والحسين، فكل من ينتسب إلى النبي ( يرجع نسبه إلى الحسن أو الحسين -رضي الله عنهما-.
مكانته وفضله
رُوِيَت أحاديث عديدة تدل على فضله وتعلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم به، وبأخيه الحسن منها: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما. انفرد بإخراجه البخاري.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان ابناي فمن أحبهما فقد أحبني" يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وعن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل ذلك.
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: حَجَّ الحسين بن علي رضي الله عنهما خمسًا وعشرين حجة ماشيًا, ونجائبه تُقَادُ معه.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم الحسن والحسين رضي الله عنهما ويحبهما حبًا شديدًا ويحنو عليهما، وقد توفي وهو عنهما راضٍ، ثم كان الصديق رضي الله عنه فكان يكرم الحسين ويعظمه وكذلك عمر وعثمان، وصَحِبَ الحسينُ أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها في الجمل وصفين، وكان معظَّمًا موقَّرًا، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قُتِل، فلما آلتِ الخلافة إلى أخيه الحسن وأراد أن يصالح معاوية شَقَّ ذلك عليه ولم يسدِّد رأي أخيه، وحثَّه على قتال أهل الشام؛ فقال له أخوه: والله لقد هممت أن أسجنك في بيت وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك، فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد عليه مع أخيه الحسن فيكرمهما إكرامًا زائدًا، ويعطيهما عطاءً جزيلاً، فقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكاهما أحد قبلي ولا بعدي، فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلاًَ أفضل منه، ولما توفي الحسن كان الحسين يَفِدُ إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، وقد كان في الجيش الذي غزا القسطنطينية مع يزيد ابن معاوية في سنة إحدى وخمسين، وعندما أُخِذَتِ البيعةُ ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس, ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك فلما مات معاوية سنة ستين وبُويِعَ ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس وصمَّمَ على المخالفة الحسين وابن الزبير.
مما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن علي بن حسين عن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يصلي المريض قائما إن استطاع فإن لم يستطع صلى قاعدا فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجله مما يلي القبلة
عن أبي محمد بن علي قال حدثني أبي علي بن الحسين قال حدثني أبي الحسين بن علي قال حدثني أبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته .
يزيد بن معاوية ومحاولة أخذ البيعة من الحسين
بعد وفاة معاوية رضي الله عنه سنة ستين، ولي الخلافة يزيد بن معاوية فلم يكن له هم حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة له؛ فكتب إلى عامله على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يأمره بأخذ البيعة من هؤلاء النفر الذين أبوا على معاوية استخلاف ولده وعلى رأسهم الحسين بن علي فيزعم الرواة أن الوليد بن عتبة استشار مروان بن الحكم فأشار عليه مروان أن يرسل إليهم ويطلب منهم مبايعة يزيد، ومن أَبَى ذلك ضرب عنقه قبل أن يعلموا موت معاوية ويظهروا الخلاف والمنابذة، وعندما أرسل إلى الحسين وطلب منه ماطله الحسين، واستنظره حتى يجتمع الناس للبيعة فإنه سيبايع وقتها علانية، وكان الوليد يحب العافية فوافقه على ذلك، وقال لمروان الذي حرضه على حبسه أو قتله: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا ومُلْكها وأني قتلت حسينًا، سبحان الله ! أقتل حسينًا أن قال: لا أبايع ؟ والله إني لأظن امرءًا يحاسَب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة، فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت.
ولا تفسر لنا هذه الرواية على نحو مقنع سبب تغيير مروان رأيه، كما لا تعطي مبررًا كافيًا لنصحه الوليد بقتل الحسين، ولا ريب أن عداء الرواة من الشيعة لبني أمية ـ ومروان جد المروانيين منهم ـ قد قادهم إلى تشويه موقفه من هذه الأحداث، وسوف يتهمونه بعد ذلك بالشماتة في مقتل الحسين، هذا على حين تثبت روايات أخرى أن مروان كان من المحذرين ابن زياد أمير العراق من إساءة التصرف حيال الحسين بعد خروجه إليه، كما أنه كان من الآسفين على قتله والباكين عليه.
وقد خرج الحسين تحت جنح الظلام متجهًا إلى مكة، واستصحب معه بنيه وإخوته وجُلَّ أهل بيته، وفي الطريق لقي ابن عمر وابن عباس الحسين وابن الزبير في طريقهما إلى مكة، وكان ابن عمر وابن عباس قادمَيْن منها إلى المدينة فسألاهما عما وراءهما فقالا: قد مات معاوية، والبيعة ليزيد، فقال لهما ابن عمر: "اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين".
وعندما قدما المدينة وجاءت البيعة ليزيد من البلدان بايع ابن عمر وابن عباس، ولم تكد أخبار وفاة معاوية ولجوء الحسين وابن الزبير إلى مكة ممتنعين عن البيعة ليزيد تصل إلى أهل الكوفة حتى حَنُّوا إلى تمردهم وانتقاضهم القديم، فراسلوا الحسين ودعوه إليهم ووعدوه النصرة.
إرسال الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة
لقد كثر إرسال الكتب من أهل العراق إلى الحسين وخاصة بعد ذهابه إلى مكة يحثونه فيها على سرعة المجيء إليهم، فقد كتب إليه شيث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمر بن حَجَّاج الزبيدي ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي: "أما بعد فقد أخضرت الجنان وأينعت الثمار، وفطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند مجندة لك والسلام".
فالتزم الحسين ـ رضي الله عنه ـ الحذر والحيطة، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى العراق ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتمًا وأمرًا حازمًا محكمًا بعث إليه ليركب في أهله وذويه، فسار مسلم من مكة فاجتاز بالمدينة وأخذ منها دليلين فسار بهما على براري مهجورة المسالك, ثم مات الدليلان من شدة العطش بعد أن ضلُّوا الطريق، فكتب مسلم إلى الحسين يستشيره فيأمره فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.
فلما دخل مسلم بن عقيل الكوفة، تسامع أهل الكوفة بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين, وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها ثمانية عشرة ألفًا.
فقد كان الشيعة في الكوفة يبايعون مسلم بن عقيل سرًا مستغلين ورع عامل يزيد على الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري الذي لم تُجْدِ نصائحه لهم بالطاعة ولزوم ***ة حتى كتب بعض أهل الكوفة الموالين لبني أمية إلى يزيد بما يحدث، فأرسل إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة يضم إليه الكوفة ـ أيضًا ـ وكان ابن زياد قد استطاع بحزم أن يقضي على بوادر تمرد الشيعة بالبصرة، عندما وصلت إليهم أخبار الحسين ورسالة منه يطلب منهم فيها النصرة والبيعة.
ولقد استطاع ابن زياد أن يكتشف أمر مسلم بن عقيل ومقره وأعوانه عن طريق مولى لهم، فقبض ابن زياد على بعض أتباع مسلم بن عقيل وحبسهم؛ فغضب مسلم فركب في الخيل ونادى بشعاره "يا منصور أمت" فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وحاصروا قصر بن زياد، ولم يكن مع ابن زياد إلا ثلاثون رجلاً من الشُّرَط وعشرون من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وقد استطاع هؤلاء الأشراف تخذيلَ الناس من حول مسلم بن عقيل، فانصرفوا عن مسلم حتى لم يبق معه سوى خمسمائة نفس ثم تقالُّوا إلى ثلاثمائة ثم إلى ثلاثين ثم إلى عشرة ثم وجد مسلم نفسه وحيدًا في جنح الظلام يتردد في الطرقات لا يدري أين يذهب، فأتى بابًا فطرقه فخرجت إليه امرأة فاخبرها بخبره قائلاً: أنا مسلم بن عقيل كَذَبَني هؤلاء القوم وغَرُّوني فأوته، ثم علم ابن زياد بمكانه فأحيط بالدار التي هو فيها فدخلوا عليه؛ فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات وأصيبت شفته العليا والسفلى, ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب فضاق بهم ذرعًا فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، ثم أعطوه الأمان وجاءوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه فلم يبقَ يملك من نفسه شيئًا، فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول فيئس من نفسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال بعض من حوله: إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا؛ فقال: أما والله لستُ أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين، وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة، ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال: إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل؛ فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك, وقال: كل ما حَمَّ الإله واقع.
ثم وصل مسلم بن عقيل إلى قصر ابن زياد وهو مثخن بالجراح وفي غاية العطش مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكَلال والعطش فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولى له إلى داره فجاء بقُلَّة عليها مِندِيل ومعه قدح؛ فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثًا؛ فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء، فقال: الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء ثم أدخل على ابن زياد.. فأمر به فأُصْعِد إلى أعلى القصر, ومُسْلِمٌ يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر، ويصلِّي على ملائكة الله ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا ثم ضُرِبَ عنقه، وأُلقي رأسُه إلى أسفل القصر، وأُتبع رأسه بجسده، ثم أُمِرَ بهانيء بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم، وصُلِبَ بمكان من الكوفة يقال له: الكناسة، ثم إن ابن زياد قَتَلَ معهما أناسًا أخرين، وبعث برؤسهما إلى يزيد بن معاوية في الشام.
مسير الحسين إلى العراق
عندما تتابعت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق, وتكرَّرت الرسل بينهم وبينه, وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غضون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسين لا يعلم بشيء من ذلك، فعزم على المسير إليهم، والقدوم عليهم، وكان ذلك أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد ـ فإن مسلمًا قُتِلَ يوم عرفة ـ وعندما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذَّرُوه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام في مكة، وذكروه ما حدث لأبيه وأخيه معهم.
فقال له ابن عباس: يا ابن عمّ؛ إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبين لي ما أنت صانع ؟ فقال: إني قد أجمعت المسير في أَحَدِ يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كانوا قد دعوك بعدما قتلوا أميرهم, ونفوا عدوهم, وضبطوا بلادهم؛ فَسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيًّا, وهو مقيم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس، ويقبلوا قلوبهم عليك، فيكون الذين دَعَوْكَ أشد الناس عليك، فقال الحسين : إني أستخير الله وأنظر ما يكون.
فلما كان من العشي أو الغد جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يا ابن عم إني أَتَصَبَّرُ ولا أَصْبِر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قومُ غدرْ فلا تغترَنَّ بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونًا وشعابًا ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في مَعزِل، واكتب إليهم وبثَّ دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب، فقال الحسين: يا ابن عم والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير، فقال له: فإن كنت ولابد سائرًا فلا تسر بأولادك ونسائك، فو الله إني لخائف أن تُقتَلَ كما قُتِلَ عثمانُ ونساؤه وولده ينظرون إليه.
أما ابن عمر فعند ما بلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق لحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال: أين تريد ؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب. فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: لا تأتهم فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثًا: إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة؛ فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, واللهِ ما يَلِيَها أحدٌ منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم؛ فأبى أن يرجع، فما كان من ابن عمر إلا أن اعتنقه وبكى, وقال: أستودعك اللهَ من قتيل.
أما ابن الزبير فقد تعجب من مسير الحسين إلى أهل العراق وهو يعلم علم اليقين أنهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه، فقال له: أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟ فقال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تُستَحَلَّ بي ـ يعني مكة ـ .
وعندما تردد الحسين في المسير إلى الكوفة جاءه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الله إني لكم ناصح وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملُّوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قطُّ، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف.
ثم كتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد يحذره من قتل الحسين قائلاً: "أما بعد فإن الحسيين بن علي قد توجه إليك وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاللهِ ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر والسلام"..
أما يزيد بن معاوية فقد كتب إلى ابن زياد قائلاً: "قد بلغني أن الحسين قد توجه إلى نحو العراق فضع المناظر والمسالح واحترس, واحبس على الظِّنة, وخذ على التهمة، غير أن لاتقتل إلا من قاتلك, واكتب إلي في كل ما يحدث من خير والسلام"، وهذا القول واضح وظاهر في أن لا يقتل عبيد الله الحسين وأصحابه إلا إذا قاتلوه.
وكتب عبد الله بن جعفر إلى الحسين مع ابنيه عون ومحمد: أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طُفِيءَ نورُ الإسلام، فإنك عَلَمُ المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي, والسلام، ثم نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد أمير مكة فقال له: اكتب إلى الحسين كتابًا تجعل له فيه الأمان، وتُمَنِّيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابك وتسأله الرجوع لعله يطمئن لذلك فيرجع، فقال له عمرو: اكتب عني ما شئت وَأْتِني به أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر ما أراد ثم جاء إليه بالكتاب فختمه، فقال عبد الله بن جعفر لعمرو بن سعيد: ابعث معي أمانك، فبعث معه أخاه يحيى فلحقا بالحسين؛ فقرأ عليه الكتاب فأبى أن يرجع وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أمرني فيها بأمر وأنا ماضٍ له، فقالا: وما تلك الرؤيا ؟ فقال: لا أحدث بها أحدًا حتى ألقى ربي عز جل.
وفي الطريق إلى الكوفة لقى الحسين الفرزدق الشاعر فقال له: أعطاك الله سُؤْلك وأملك فيما تحب، فسأله الحسين عن أمر الناس وما وراءه؛ فقال له: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء، فقال له: صدقت، للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يَتَعَدَّ من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرَّك الحسين راحلته، وقال: السلام عليكم ثم افترقا.
وأثناء سير الحسين رضي الله عنه في طريقه إلى العراق بلغه خبر مقتل ابن عمه مسلم، فأثناه ذلك، واعتزم العودة إلى مكة، لكن إخوة مسلم قالوا: "والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقتَلَ؛ فقال: لا خير في الحياة بعدكم"..
استشهاد الحسين رضي الله عنه
عندما أشرف الحسينُ على العراق، رأى طليعة لابن زياد، فلما رأى ذلك رفع يديه فقال:"اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثِقةً وعُدَّة، فكم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليُّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية"..
وكان قوام هذه الطليعة ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد التميمي، فقال لهم الحسين: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أَقْدِمْ علينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بكم على الهدى؛ فقد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلنا منه فلم يجيبوه بشيء في ذلك، ثم قال له الحر: إنا أُمِرْنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك, ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك، فقال الحسين: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال: أما واللهِ لو غيرُك من العرب يقولها ما تركت ذِكْرَ أمه بالثكل كائنًا من كان، ولكني والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه, ثم لازمه حتى لا يتمكن من العودة إلى المدينة، ثم أتى الجيش الذي أرسله عبيد الله بن زياد وعدته أربعة آلاف فارس، والتقوا في كربلاء جنوبي بغداد، ويدل التقاؤهم في هذا المكان على أن الحسين كان متجهًا إلى طريق الشام وقد عدل عن الكوفة، وعندما التقوا خيَّرهم الحسينُ بين ثلاث فقال: "إما أن تَدَعُوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور".
وكان أمير الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان ابن زياد قد هيأه ليرسله في حملة إلى الديلم، وقد عصى أهلها ثم حوله إلى الحسين، فاستعفى عمر من هذه المهمة، فلم يُعْفِهِ منها وهدده، فاستمهله إلى اليوم الثاني فأمهله، وقَبِلَ في اليوم الثاني أن يسير إليه.
وعندما سمع عمر بن سعد كلام الحسين استحسنه، وأرسل إلى ابن زياد بذلك يحسِّن له أن يختار أحد الاقتراحات الثلاثة، وكاد عبيد الله أن يقبل لولا أن شمر بن ذي الجوشن ـ وهو من الطغاة أصحاب الفتن ـ قال له: "لئن رحل من بلادك، ولم يضع يده في يدكم، ليكوننَّ أولى بالقوة والعز، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك"..
وقد استثار شمر بكلامه هذا ابن زياد، فهو جبار لا يقبل أن يوصف بالوهن والضعف، فوافق على كلام شمر، وأرسله ومعه كتاب إلى عمر بن سعد مضمونه أن الحسين إذا لم يستسلم ويأت إلى عبيد الله فليقاتَل، وإذا لم يُرِدْ عمر أن يقاتله، فليتنحَّ عن إمرة الجيش وليسلمها إلى شمر.
وعندما ورد شمر على على عمر بن سعد بن أبي وقاص وأفهمه رسالته؛ خاف عمر على نفسه من ابن زياد، ولم يقبل بأن يتنحَّى لشمر.
واستمر قائدًا للجيش، فطلب إلى الحسين تسليم نفسه، لكن الحسين لم يفعل ونشب القتال، ويجب أن نلحظ هنا أن الحسين لم يبدأ بالقتال بل إن موقفه كان عدم الاستسلام فقط.
وقع القتال بين فئة صغيرة لا تبلغ الثمانين رجلاً وبين خمسة آلاف فارس وراجل، على أنه انضم إلى الحسين أفراد رأوا أن أهل العراق خانوا الحسين، وأن من واجبهم الاستماتة بين يديه، فانتقلوا إليه مع معرفتهم بالموت الذي ينتظرهم، وكانت الواقعة فقُتِلَ رجال الحسين عن بكرة أبيهم (حوالي 72 رجلاً) وقتل الحسين معهم.
ونرى خلال القتال ما كان يُستحث به أهل العراق على حرب الحسين فكان يقال لهم: "يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مَرَقَ من الدين وخالف الإمام".. فكان أهل الكوفة إذًا يستحثون على الطاعة ولزوم ***ة، ويُبيَّن لهم أن الحسين وأصحابه إنما هم مارقون من الدين.
وانتهت الموقعة بشكل يدعو إلى الأسف والأسى والحزن، وحُزَّ رأسُ الحسين، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد، وقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك قال: أُتِيَ عبيد الله بن زياد برأس الحسين؛ فجعل في طست ينكت عليه, وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوبًا بالوسمة"..
وفي رواية أخرى عن البزار قال له أنس: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقع قضيبك، قال: فانقبض..
وقد نَدِمَ عبيدُ الله بن زياد على قتله الحسين، فلذلك نجده يأمر لنساء الحسين وبناته وأهله بمنزل في مكان معتزل، وأجرى لهنَّ الرزق، وأمر لهن بنفقة وكسوة، ويظهر هذا الندم واضحًا في الموقف الذي يصوره لنا ابن كثير في "البداية والنهاية" فيروي أنه انطلق غلامان ممن كانا مع الحسين من أولاد عبد الله بن جعفر؛ فأتيا رجلاً من طييء فلجآ إليه مستجيرين به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما لابن زياد، فغضب ابن زياد، وهَمَّ بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت..
ثم بعث ابن زياد بالرؤوس ومن بينها رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بالشام، وانظر إلى هذا المشهد الأليم الذي يصوره لنا ابن كثير عن أحد شهود العيان بأرض الشام وهو "الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير" قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زُحَر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، وَرَدَ علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلاً من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتل، فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذًا كما لاذ الحمام من صقر، فوالله ما كانوا إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على أخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة، تصعرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرَّخم..
فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين, لعن الله ابن سمية (عبيد الله بن زياد) أَمَا واللهِ لو أني صاحبُه لعفوت عنه، ورَحِمَ اللهُ الحسين. ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر:
يفلقن هامًا من رجالٍ أعزةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
ثم أكرم يزيد بن معاوية نساء الحسين وأهله وأدخلهنَّ على نساء آل معاوية وهُنَّ يبكين ويَنُحْنَ على الحسين وأهله, واستمر ذلك ثلاثة أيام، ثم أرسل يزيد بن معاوية إليهن يسأل كل امرأة عما أُخِذَ منها ؟ فليس منهنَّ امرأةٌ تدَّعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لها.
ثم أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير أن يبعث معهنَّ رجلاً أمينًا معه رجال وخيل يصحبهن أثناء السفر إلى المدينة.
وعندما ودعهن يزيد قال لعلي بن الحسين ـ علي الأصغر ـ قبَّح الله ابن سمية, أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنَّ الله قضى ما رأيت، ثم جهَّزه وأعطاه مالاً كثيرًا, وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال لعلي: كاتِبْنِي بكل حاجة تكون لك.
طالب عفو ربي
03-05-2009, 12:35 AM
محمد بن الحنفية بن سيدنا علي
هو محمد بن الحنفيّة بن الإمام عليّ كرَّم الله وجهه . وقعَت بين محمد بن الحنفيَّة وأخيه الحسن بن عليّ جَفْوَة ، فأرْسل بن الحنفيّة إلى الحسن يقول : إنَّ الله فضَّلَك عليّ ، فأُمّك فاطمة بنت محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم ، وأمي امرأة من بني حنيفة ، وجدّك من أمّك رسول الله ، وصفوته من خلقه ، وجدّي لأمِّي جعفر بن قيس ، فإذا جاءك كتابي هذا فَتَعال إليّ ، وصالِحني حتى يكون لك الفضْل عليّ في كلّ شيء ، فما إن بلغَتْ رسالته الحسن حتى بادر إلى بيته وصالحَهُ .
هذه القصَّة أريد أن أقف عندها قليلاً ؛ أوَّلاً أيّها الإخوة ؛ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون معصوم بِمُفرَدِه ، وأمَّته معصومة بِمَجموعها ، بمعنى أنَّ كلّ إنسان يؤخذ منه ، ويُرَدّ عليه إلا صاحب القبّة الخضراء صلى الله عليه وسلّم .
الشيء الآخر أنّ النَّسَب ، كما قلتُ من قبل تاجٌ يُتَوّج به الإيمان ، فإن لمْ يكن هناك إيمان فلا معنى للنَّسَب إطلاقًا ، وأكبر دليل أنَّ أبا لهب عمّ النبي كان مصيرهُ كما تعلمون ، لمْ ينْفعهُ نسبهُ ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام : لا يأتيني الناس بأعمالك وتأتوني بأنسابكم ، ولكن هناك سؤال: القاعدة الأصوليّة : لا مؤاثرةَ في الخير ، والخير كلّه في المؤاثرة ، القصَّة طريفة وتُرْوى ، ولكنّك لو أردت أن تقيسها بمِقياس الأصول ، مثلٌ أوْضَحُ ؛ لو أنَّ أخوَيْن لهما أمّ ، فالأوّل لمْ يُقدِّم لها الخدَمات لِيُفسِحَ المجال لأخيه أن يسْبقهُ إلى هذا العمل ، فَيُؤثرهُ في هذا العمل ؛ هل هذا مقبول في الشرع ؟ أبدًا لا مؤاثرة في الخير ، لا أوثرُ أحدًا على طاعة الله ، لا أوثرُ أحدًا على فضل الله، لا أوثرُ أحدًا بخدمة الله ، ما دام الأمر متعلّقًا بِمَرضات الله تعالى فأنا أسبق ، فالقصّة طريفةٌ ونرويها ، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أنَّه لا مؤاثرة في الخير ، لو قبلنا هذه القاعدة لا أحدَ يفعل الخير أبدًا ، تسأله لِمَ لمْ تفعل الخير ؟ فيقول : تركْتهُ لِفُلان كي يفعله ، ويكون أفضل ؛ آثرْتهُ على نفسي ! هذا الكلام مرفوض ، ومن لهُ أمّ وأب ، لِيُبادِر بِخِدْمتِهِما وبِرِّهما ، ولْيَسْبِقْ إخوتَهُ جميعًا ، ولا يُبالي أن يكون هو الأسبق من إخوته في هذا العمل ، لا مؤاثرة في الخير ، والخير كلّه في المؤاثرة ، أنا أُوثر أخي في كلّ شيء ، أعطيه البيت الأفضل ، والمركبة الأفضل ، والحانوت الأفضل ، وأُعطيه حِصَّتي ، فالخير في المؤاثرة ، وقد قال الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-20_files/image001.gif
[ سورة الحشر ]
أما أن أوْثر أخي بطاعة الله ، وأوْثر أخي بالخير ، فهذا لا ، معنى ذلك أنّ أخاك أغلى عندك من الله ، إذا آثرْت أخاك بالخير معنى ذلك أنّ أخاك أكرمُ عليك من الله ، آثرْتهُ بالخير لِيَسْبقَك إلى الله ، نصيبُكَ من الله لا ينبغي أن تؤثر به أحدًا ، طاعتك لله لا ينبغي أن تدَعَها لإنسان، وهذه حقيقة ، لا مؤاثرة في الخير ، والخير كلّه في المؤاثرة ، لكَ أن تؤثِرَ أخاك بالدنيا ، أما أن تؤثرهُ بِنَصيبِكَ من الآخرة ؛ فلا ! فالقصَّة طريفة ، ولكن كلّ شيءٍ نقرؤهُ ، ونسْمعهُ هناك منهج ، وكتاب وسنَّة وقواعد عامَّة .
في ذات يومٍ كان الإمام عليّ كرَّمَ الله وجهه في جلْسةٍ مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال : يا رسول الله ، أرأيْت إن ولِدَ لي ولدٌ من بعدك أفَأُسمِّيه باسمِكَ ، وأُكنِّيهِ بِكُنْيتِك ؟ فقال : نعم، اسْتأذن عليّ رضي الله عنــه النبي عليه الصلاة والسلام إن جاءهُ ولد من بعده : أفَأُسمِّيه باسمك ؟ قال : نعم ، أفأُكنِّيه بِكُنْيَتِك ؟ قال : نعم ، ودارت الأيّام فلَحِقَ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى ، وتَلَتْهُ بعد أشهر قليلة ابنتهُ وريْحانتهُ فاطمة البتول أمّ الحسن والحسين ، طبْعًا سيّدنا عليّ له أن يتزوَّج امرأةً بعد السيّدة فاطمة ، فأسْفَرَ عليّ إلى بني حنيفة ، وتزوَّج خَولة بنت جعفر بن قيْس الحنفيَّة ، فولدَت له مولودًا سمَّاهُ محمَّدًا ، وكنَّاه بأبي القاسم بإذْنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فهذا اسمه وكنيتـهُ محمّد بن القاسم بن الحنفيَّة ، هذا الاسم ، وهذه الكنيَة بإذْن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم مباشِرٍ ، لكنّ الناس فيما بعد كنَّوهُ محمَّد بن الحنفيَّة ، تفريقًا له عن أخَويْه الحسن والحسين ابني فاطمة الزهراء ، ثمّ عُرِف في التاريخ فيما بعد بِمُحمَّد بن الحنفيَّة .
وُلِدَ هذا الغلام في أواخر خلافة الصِّديق رضي الله عنه ، ونشأ وتربَّى في كنف أبيه علي بن أبي طالب ، وتخرَّجَ على يديه فأخذ عنه عبادتهُ وزهادتهُ ، وورِثَ منه قوَّته وشجاعته ، وتلقَّى منه فصاحته وبلاغتهُ ، الحدّ الأدنى أنْ يكون ابنُك مثلك ، والحدّ الأدنى أن تربِّي ابنَكَ كما نشأْت أنــــت ، أن تربِّي ابنكَ على العقيـدة الصحيحة ، لذلك تلقَّى عن أبيه العبادة والزّهد ، والقوّة والشجاعة، والفصاحة والبلاغة ، فإذا هو كما يقولون : راهبٌ من رهبان الليل ، وفارس من فرسان النهار ، ولقد أقْحمهُ عليّ كرّم الله وجهه في حروبه التي خاضها ، وحمَّلَهُ من أعبائِها ما لمْ يُحمِّلْهُ لأخَوَيْه الحسن والحسين ، فما لانَتْ له قناة ، وما وهَنَ له عزْم ، ولقد قيل له ذات مرَّة ما لأبيكَ يُقْحِمُك في المهالك ؟ ويولجُكَ في المضايِق دون أخوَيْك الحسَن والحسين ؟ هناك دائمًا من يوقِعُ بين الإخوة ، فقال : ذلك لأنَّ أخويَّ ينزلان من أبي منزلة عيْنيه ، وأنا أنزل منه منزلة يديه ! فهو يقِي عيْنيْه بيدَيه ! هل يأتي بِبَال أحدكم هذا الجواب ؟! أخوايا الحسن والحسين ينزلان من أبي منزلة عيْنيه ، وأنا أنزل منه منزلة يديه ! فهو يقِي عيْنيْه بيدَيه ! وأساسًا من علامة النجاح بالحياة ألاَّ تسْمحَ لأحدٍ أن يدخل بينك وبين أقرب الناس إليك ، مرَّةً سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه سألهُ رجل: لماذا انْصاعَ الناس لأبي بكرٍ وعمر ، ولم ينْصاعوا لك ؟! وكأنَّه يتَّهِمهُ بِضَعف القيادة ، فقال سيّدنا عليّ بِبَساطة : لأنَّ أصحابهم أمثالي ، وأصحابي أمثالك ! قال مرَّةً رجل لسيِّدنا الصِّديق : أأنْت الخليفة أم هو ؟ فقال : هو إذا شاء ! لا تسْمح لإنسان يوغِر صدْركَ على إنسان تحبَّه ، ولا تسمح لإنسان أن يدخل بين أخوَين ، وبين شريكين ، وبين جاريْن ، وبين مسلمين ، لأنَّ في كلّ زمان هناك من يوقع بين الإخوة العداوة والبغضاء، فسيّدنا محمد بن الحنفيَّة على مستوى عالٍ ، قال : أخواي ينزلان من أبي منزلة عيْنيه ، وأنا أنزل منه منزلة يديه ! فهو يقِي عيْنيْه بيدَيه ! .
هذا الرجل عاصرَ بعض الفِتَن ، فقال : عاهدْتُ نفسي ألاّ يُرفعَ لِيَ سيْف في وجه مسلمٍ بعد اليوم، شيءٌ كبير جدًّا أن تحاربَ مسلمًا ، واللهُ عز وجل قال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-20_files/image002.gif
[ سورة الأنفال ]
أيْ يجب أن يكون دائمًا عدوّكم عدوّ الله ، فإذا كان عدوّكم ليس عدوًّا لله فهذه مصيبة كبيرة جدًّا ، ومن أكبر المصائب أن تُقاتِلَ مسلمًا ، ومن أكبر الجرائم أن تقاتل مسلمًا ، والذي يقتل مسلمًا ليس له توبةً إطلاقًا ؛ فهو خالدٌ مخلّدٌ في النار ، بنَصّ القرآن الكريم .
ولمَّا آلَ الأمر إلى معاوِيَة بن أبي سفيان بايعَهُ محمّد بن الحنفيّة على السَّمع والطاعة في المنشط والمكْره ، رغبةً في رأب الصَّدع ، وجمْع الشَّمل ، وعزّة الإسلام والمسلمين ، معنى ذلك هناك مصالح عليا ، فهذه مُفضَّلَة ومُقدَّمة على المصالح الخاصَّة ، والإنسان بِقَدْر إخلاصه يؤْثر مصْلحة مجموع المسلمين على مصالح الأفراد ، طبعًا هناك خلاف عميق بين والدِهِ ، وبين معاوية ، ومع ذلك لمّا آل الأمر إلى معاويَة بايعَهُ رأْبًا للصَّدع ، وجمْعًا للشَّمْل ، وإعزازًا للإسلام والمسلمين ، ولا بدّ على كلّ واحدٍ منكم أيها الإخوة ، فأحيانًا يكون هناك شيءٌ من الخلاف بين ***ات الدِّينيَّة ، يجب أن تقدِّم المصْلحة العامَّة للمسلمين على المصْلحة خاصَّة لجَماعة معيَّنة ، فيجب أن ترْأبَ الصَّدع ، وتلمّ الشَّمْل ، وأن تُعزِّز الوحدة فيما بين المسلمين ، وأن تقرِّبَ فيما بينهم ، لا أن تُباعِد ، ويجب أن تجْمع بينهم ، لا أن تُفرِّق ، ويجب أن تكون عَوْنًا على اللِّقاء ، لا عوْنًا على التَّفْرقة ، وهذا ينبعُ من إخلاصك ، كلَّما نما إخلاصك تنمو معه الرغبة في رأب الصَّدع ، ولمّ الشّمل ، وتوحيد الكلمة ، والله عز وجل يقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-20_files/image003.gif
[ سورة الأنفال ]
دائمًا التَّفرقة من الشيطان ، يقول عليه الصلاة والسلام : ليس منا من فرَّق " فتعميق الخلاف من الشيطان ، والتباعد من الشَّيطان ، ونقْل الكلام النَّمام يرتكب كبيرة ، والنَّمام لا يدخل الجنَّة ، نقل الكلام من إنسان لآخر .
هذا موقف رائع ، لأنَّه رأسًا بادرَ إلى مبايعَة معاوية بن أبي سفيان رأْبًا للصَّدع ، وجمعًا للشَّمْل ، وإعزازًا لهذا الدِّين .
معاوِيَة بن أبي سفيان اسْتَشْعر صِدْق هذه البيْعة وصفاءها ، واطمأنَّ إلى صاحبها أشدَّ الاطمئنان ممَّا جعلهُ يسْتزيرُ - أيْ يدْعوه لِزِيارته - محمّد بن الحنفيَّة .
أيها الإخوة ، إذا وقَعَت فتنة هنيئًا لِمَن كان بعيدًا عنها ، لأنَّ إذا كانت هناك فتنة بين المؤمنين فهذا إشْكال كبير ، وإيَّاك أن تكون طرفًا فيها ، والإنسان السعيد هو من يبتعِد ، لأنَّ هذا شيءٌ كبير عند الله عز وجل ، أن تكون طرفًا في تأجيجها ، إذا كان الأمر بين المسلمين انْسَحِب ، وصحابةٌ كُثُر لمَّا رأوا الفتنة بين المسلمين انْسحبوا وآثروا السَّلامة .
زارهُ في دمشق لأكثر من مرّة ، ولأكثر من سبب ، ومن طريف ما يُرْوى أنَّ ملِكَ الروم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يقول : إنّ الملوك عندنا تُراسِلُ الملوك ، ويُطْرفُ بعضهم بعضًا بِغَرائبِ ما عندهم ، ويُنافسُ بعضهم بعضًا بِعَجائب ما في ممالكِهم ، فهل تأذن لي بأن يكون لي بيني وبينك بما يكون بينهم ؟ ملك الروم يستأذن معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين أن يكون بين الملكين مراسلات وإطراف ومساجلات ومسابقات وما شاكل ذلك ، فأجاب معاوية بالإيجاب ، وأذِنَ له ، فوجَّهَ إليه ملك الروم رجلين من عجائب الرِّجال ؛ أحدهما طويل مفرِط في الطول ، جسيم موغِل في الجسامة ، حتى لكأنَّه دوْحةٌ باسقة في غابة ، أو بناء مبني ! جسمه غير معقول كأن يكون مترين وعشرين سنتمتر !! والثاني قويّ غاية القوَّة ، صُلْب متين كأنَّه وحشٌ مفترس ، وبعثَ إليه معهما رسالة يقول فيها : أفي مملكتك من يُساوي هذين الرجلين طولاً وقوَّةً ؟ فقال معاوية لِعَمْرو بن العاص : أما الطويل فقد وجدْت من يُكافئُهُ ويزيد عليه ، وهو قيس بن سعْد بن عبادة وأما القويّ فقد احْتجْتُ إلى رأيِكَ فيه فقال عمرو : هناك رجلان غير أنَّ كليهما عنك بعيد هما محمَّد بن الحنفيَّة ، وعبد الله بن الزبير ، فقال معاوية إنَّ محمّد بن الحنفيّة ليس عنَّا بِبَعيد ! فقال عمرو : ولكن أتظنّ أنَّهُ يرضى على جلالة قدْره ، وسموّ منزلته أن يُقاوِي رجلاً من الروم على مرأى من الناس ؟ فقال : إنَّه يفعلُ ذلك ، وأكثر من ذلك إذا وجدَ في ذلك عزًّا للإسلام ، سيّدنا رسول الله جاءهُ مرَّةً من يُفاخرهُ بالشِّعر ، فقال : قُمْ يا حسَّان فأجِبْ الرجل ! أي هناك مواطن لمَّا يبرز المسلم ويتفوَّق فهذا العزّ ليس له ، وإنَّما لِمَجموع المسلمين ، ثمّ إنّ معاوية دعا كلاًّ من قيس بن سعْد ، ومحمّد بن الحنفيَّة ، فلمَّا انْعقَد المجلس قام قيس بن سعْد فنَزَعَ سراويله ، ورمى بها إلى العلْج الرومي ، وأمرهُ أن يلبسها فلبسَها فغطَّتْ إلى ما فوق ثَدْييْه فضَحِكَ الناس منه !! معناه أنَّه أطْول ، وأما محمّد بن الحنفيَّة فقال للترجمان : قلْ للرومي إن شاء فلْيَجلِسْ ، وأكون أن قائمًا ، ثمَّ يعطي يدهُ فإما أن أُقيمهُ ، وإما أن يُقْعِدَني ؟! وإن شاء فلْيَكُن هو القائم وأنا القاعد ، فاخْتار الرومي القعود ، فأخذ محمّد بن الحنفيَّة بيَدِهِ وأقامه ، وعجَزَ الروميّ عن إقعاده ؛ مصارعة ! فذبَّتْ الحَميَّة في صدْر الرومي ، واختار أن يكون هو القائم ومحمّد هو القاعد ، فأخذ محمَّد بيَدِهِ ، وجبذهُ جبْذةً كادت تفْصلُ ساعدهُ من كتفِهِ ، وأقْعدهُ في الأرض ، فانْصرف العلجان الروميان إلى ملكهما مَغلوبَين مخذولين !! المجتمع المسلم فيه كلّ شيء ، والحقيقة طلب العلم فرْض عَين ، أما الاختصاص الآخر فهو فرْض كفاية ، فيَجِب أن يكون عندنا أقوياء مترْجِمون ، كلّ اختصاص المسلمون بِحاجة إليه ، ووُجوده فرْض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكلّ .
الآن ملك الروم يريد أن يعْلُوَ عن المسلمين بِرَجل طويل القامة ، ورجل قويّ ، فجاءهُ برجُليْن الأوَّل أطْوَل منه ، لمَّا ألبسَهُ ثيابهُ بدَتْ نحوَ ثَدْييْه ، فضحك الناس عليه ، وأما الثاني فما تمكَّن أن يغلبهُ .
والأيَّام دارَتْ مرَّةً ثانيَة ، ولَحِقَ معاوية وابنه يزيد ، ومروان بن الحكم إلى جوار ربِّهم ، وآلتْ زعامة بني أميَّة إلى عبد الملك بن مروان ، فنادى بنفسه خليفة للمسلمين فبايعَهُ أهل الشام ، وكان أهل الحجاز والعراق قد بايعوا لعبد الله بن الزبير ، الآن هناك مشكلة وانتقام ، عبد الله بن الزبير يحكم الحجاز والعراق ، وعبد الملك بن مروان يحكم بقيَّة البلاد الإسلاميّة ، وطفقَ كلّ منهما يدعو منْ لم يُبايِعهُ لِبَيْعَتِهِ ، ويزعم لنفسه أنّه أحقّ بالخلافة من صاحبه ، فانْشقّ صفّ المسلمين مرَّةً أخرى ، وهنا طلب عبد الله بن الزبير من محمَّد بن الحنفيَّة أن يُبايِعَهُ كما بايعهُ أهل الحجاز ، غير أنَّ ابن الحنفيَّة لم يكن يخفى عليه أنَّ البيْعة ، تجعل في عنقِهِ لِمَن يُبايِعُه حقوقًا كثيرة ، منها سلّ سيْفِهِ دونه ، وقتال مخالفيه ، وما مخالفوه إلا مسلمين قد اجْتهدوا فبايعوا لغير من بايَع ، فهو ما أراد أن يكون ورقةً رابحةً في يدي أحد الطَّرفَين ، وهذه نقطة مهمَّة جدًّا ، وأنا أتمنَّى على أهل العِلْم ، والدعاة إلى الله ، وعلى العلماء أن يمْتَنِعوا أن يكونوا ورقةً رابحةً بيَدي الأقوياء ، وأن تفوق هؤلاء جميعًا ، اربأ بِعِلمِك على أن يكون مطِيَّةً لإنسان ! اِرْبَأ بمكانتك عن أن تكون أداةً بيَدِ إنسان ، وورقةً رابحةً لِجِهة دون أخرى فهذا التابعيّ الجليل ما قبِل أن يكون ورقةً رابحة بيَدِ أحد الفريقين .
فقال لعبد الله بن الزبير : إنَّك لَتَعْلم علْم اليقين أنَّه ليس لي في هذا الطلب أرَبٌ ولا مأرب ، وإنَّما أنا رجل من المسلمين فإذا اجْتمعَت كلمتهم عليك أو على عبد الملك بايعْتُ من اجْتمعَت كلمتهم عليه ، فأنا لا معك ولا معه ، حينما تنتهي هذه الفتنة ؛ إجماع المسلمين لمن ؟ أنا مع المسلمين ! هذا موقف ذكيّ جدًّا ، أما الآن فلا أُبايِعُك ، ولا أُبايِعُهُ ، فجعل عبد الله يُعاشرهُ ، ويُلايِنُهُ تارةً ، ويعرض عنه ويُجافيه تارةً أخرى ، غير أنّ محمّد بن الحنفيَّة ما لبث أن انْضمَّ إليه رجالٌ كثيرون رأَوا رأيَهُ وأسْلموا قيادهُم إليه حتى بلغوا سبعة آلاف رجل مِمَّن آثروا اعتزال الفتنة !! هنا أصبح عندنا فريق ثالث زعيمهم محمّد بن الحنفيَّة ، معه سبعة آلاف إنسان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، وأبَوا أن يجعلوا من أنفسهم حطبًا لنارها المُتَّقِدة ، وكان كلَّما ازْداد أتباع بن الحنفيّة عددًا ازْداد بن الزبير منهم غيظًا ، فألحَّ عليه بطلبِ البيعَة ، فلمَّا يئس من ذلك ، أمرهُ هو ومن معه من بني هاشم ، وغيرهم أن يلْزموا شِعْبهم بِمَكّة ، وجعل عليهم الرّقباء ، يعني إقامة جَبريَّة فالإنسان هو الإنسان ، والحاكم هو الحاكم ، والقويّ هو القويّ ، أمرهم أن يلزموا شِعبًا من شعاب مكَّة ، وأمرهم بإقامة جبريّة ، ثمّ قال لهم : والله لتُبايِعُنّ أو لأهدِّدنَّكم ، ثمّ حبسهم في بيوتهم ، حتى إنَّه هدّدهم بالقتل ، عند ذلك قام إليه جماعة من أتباعه وقالوا : دعنا نقتل ابن الزبير ، ونُريح الناس منه ! فقال: أفنوقِد نار الفتنة التي من أجلها اعْتزَلنا ، ونقتل رجلاً من صحابة رسول الله ومن أبناء صحابته ؟ الورع ! ما أراد أن تكون له يد في هذه الفتنة ، لا والله ، لا نفعل شيئًا ممَّا يُغضب الله ورسوله ، ولمَّا بلغ عبد الملك بن مروان ما يعانيه محمّد بن الحنفيّة ومن معه من بأس ابن الزبير رأى الفرصة سامحةً لاسْتِمالتهم إليه ، فالتنافس دائمًا من صالح الضعيف ، فأرسل إليه كتابًا مع رسول من عنده ، لو كتبه لأحد أبنائه لما كان أرقّ لهْجةً ، ولا ألطفَ خِطابًا ، وكان ممَّا جاء فيه : لقد بلغني أنَّ ابن الزبير قد ضيَّقَ عليك ، وعلى من معك الخِناق ، وقطع رحمك ، واسْتخفَّ بِحَقِّك ، وهذه بلاد الشام مفتوحة أمامك تستقبلك أنت ومن معك على الرحْب والسّعة ، فانزِل فيها حيث تشاء ، تلقى بالأهل أهلاً ، وبالجيران أحبابًا ، وسوف تجد عارفين لحقِّك ، مقدِّرين لفضلك ، واصلين لرَحِمِك إن شاء الله ! طبعًا هو كان يريد أن يستميلهُ ، سار محمّد بن الحنفيَّة ومن معه مُيمِّمين وجوههم شطر بلاد الشام ، فلمَّا بلغوا أبله استقروا فيها ، وأبله شمال بلاد العقبة ، فأنزلهم أهلها أكرَمَ منْزِل ، وجاوروهم أحْسنَ جِوار ، وأحبُّوا محمَّد بن الحنفيَّة ، وعظَّموه لما رأوا من عُمْق عبادته ، وصدْق زهادته ، فطفقَ يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويُقيم فيهم الشعائر ، ويصلح ذات بينهم ، وهكذا المؤمن ، أينما جلس يصلحُ بين المسلمين ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، في إقامته وسفره ، وفي إبعاده ، كما قال أحد العارفين : ماذا يصنع أعدائي بي ، جنَّتي في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن سجنوني فسِجني خلوة ، وإن قتلوني فقتْلي شهادة .
فلمَّا بلـغ ذلك عبد الملك بن مروان شقّ عليه الأمر ، واستشار خاصَّته ، فقالوا : ما نرى أن تسمح له أن يقيم في مملكتك ، وسيرته كما علمْت يستقطب الناس من حوله ، وكلَّما امتدَّ به العمر زادتْ جماعته ، ولا مصلحةَ أن يقيم في مملكتك ، فإما أن يُبايِعَ لك ، وإما أن يرجع من حيث جاء ، فكتـب إليه عبد الملك يقول : إنّك قد قدمْت بلادي فنزلْت في طرفٍ منها ، وهذه الحرب قائمة بيني وبين عبد الله بن الزبير ، وأنت رجل لك بين المسلمين ذِكْر ومكانة ، وقد رأيتُ ألاّ تقيم في أرضي إلا إذا بايعتني ، فإن بايعْتني فلك منِّي مئة سفينة قدِمَت عليّ أمس من القلْزَم ! فخُذْها بما فيها ، وبمن فيها ، ولك معها ألف ألف درهم !! مع ما تفرضه من فريضة لنفسك ولأولادك ولذوي قرابتك ومواليك ومن معك !!! إغراء عجيب ، ملايين وسفن كلّها لك على أن تُبايِعَني ، فإن لمْ تُبايِعني فارْجِع من حيث أتَيْتَ ، وإن أبيْت فتحوَّل عنِّي إلى مكان لا سلطان لي عليه ، فكتب إليه محمَّد بن الحنفيَّة يقول : من محمّد بن علي إلى عبد ملك بن مروان سلامٌ عليك ، وإنِّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو إليك ، أما بعد :
فلعلَّك تتخوَّف منِّي ، وكنتُ أحْسبُ أنَّك عارفٌ بِحَقيقة موقفي من هذا الأمر ، ووالله لو اجْتمعَت عليَّ هذه ، وإنّي لما أبيْت أن أبايِع عبد الله أساء جِواري ، ثمّ كتبتَ إليّ تدعوني إلى الإقامة في بلاد الشام ، فنزلت بِبَلْدةٍ من أطراف أرضك برُخص أسعارها ، وبعْدها عن مركز سلطانك ، فكتبت إليه ما كتبت به ، ونحن منصرفون عنك إن شاء الله ، سُفُن وأموال وبضائع ، وعطايا ورواتب على أن تُبايِع ، انْصرف محمّد بن الحنفيّة برِجاله وأهله عن بلاد الشام ، وطفق كلَّما نزلَ بِمَنزلٍ يُزْعج عنه ، ويُدعى إلى الرحيل عنه ، وكأنَّه لم تكْفهِ همومه كلّها ، فشاء الله أن يختبرهُ بِهُموم أخرى أشدّ وقْعًا ، وأثْقلَ وطأةً .
في الحقيقة أنا اخترت هذه القصّة بهذه الصفحة فقط ، لأنَّ هذه الصَّفحة أعلِّق آمالاً كبيرة ، الآمال أن نقف عند الكتاب والسنَّة وألاّ نزيد شيئًا .
ذلك لأنّ جماعةً من أتباعه مِمَّن في قلوبهم مرض ، وآخرون مِمَّن في عقولهم غفلة جعلوا يقولون إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوْدع صدْر عليّ وآله كثيرًا من أسرار العلم ، وقواعد الدِّين وكنوز الشريعة ، وإنَّه خصَّ آل البيت بما لمْ يُطلع غيرهم عليه ، فأدرك الرجل العامل العالم الأريب ما يحمله هذا الكلام في طيَّاته من انحراف ، وما يمكن أن يجرَّه على الإسلام والمسلمين من مخاطر وأضرار ، وهنا بدأ الانحراف العقائدي ، فقد أراد أتباع محمَّد بن الحنفيَّة أن يقولوا إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أوْدَعَ أسرارًا في صدْر الإمام عليّ لم يودِعْها في صدر غيره ! وأنَّ هذا ابنهُ ، إذًا نحن مُتَفَوِّقون ومُتَمَيِّزون ، ونعلم ما لا يعلم الآخرون ، فجَمَعَ الناس وقام فيهم خطيبًا ، ومرَّةً ثانيَة أيها الإخوة ، وكأنَّ محمّد بن الحنفيَّة لم تكفه الهموم كلّها ، فشاء الله أن يختبرهُ بِهُموم أخرى أشدّ وقعًا ، وأكثر وطْأةً ذلك لأنّ جماعةً من أتباعه مِمَّن في قلوبهم مرض، وآخرون مِمَّن في عقولهم غفلة جعلوا يقولون إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوْدع صدْر عليّ وآله كثيرًا من أسرار العلم ، وقواعد الدِّين ، وكنوز الشريعة ، وإنَّه خصَّ آل البيت بما لمْ يُطلع غيرهم عليه ، فأدرك الرجل العامل العالم الأريب ما يحمله هذا الكلام في طيَّاته من انحراف ، وما يمكن أن يجرَّه على الإسلام والمسلمين من مخاطر وأضرار ، فجمع الناس ، وقام فيهم خطيبًا ، واسمعوا ماذا قال ، حمد الله جلّ وعزّ ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيّه محمد صلوات الله وسلامه عليه ، ثمَّ قال : يزْعم بعض الناس أنَّ عندنا معشر آل البيت علْمًا خصَّنا به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولمْ يُطْلع عليه أحدًا غيرنا ، وإنَّا والله ما ورِثْنا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا ما بين هذين اللَّوْحين ، وأشار إلى المصحف - كان أمامه مصحف فيه دفَّتين - وإنَّ من زعمَ أنَّ عندنا شيئًا نقرؤُهُ إلا كتاب الله فقد كذب !.
سيّدنا النبي عليه الصلاة والسلام كُسفَت الشمس في عهده يوم مات إبراهيم ، فقال بعض أصحاب النبي لقد كُسِفَت حزْنًا عليه !! ابن رسول الله !! فجمع أصحابه وقال : إنَّ الشمس والقمر آيتان لا ينبغي ...." إذا كنت صادقًا وأمينًا على الوحي ، وأمينًا على دين الله لا تسْمح ببِدْعةٍ تُقال على لِسانك ، ولا توصَفُ بها أنت ، دائمًا بيِّن الحقيقة ، إذا كنت مخلصًا ، لكنَّ أناسًا كثيرون يُحاطون بِهالةٍ كبيرة ، ويعرفون أنَّها غير صحيحة ويسكتون لماذا يسكتون ؟ لأنَّهم يرتفعون بها !! لكنّ إخلاصك لله ينبغي أن يكون أقوى ، فهذا التابعي الكبير ما سمحَ لأتباع الوفْد أن يقولوا عنه أنَّه خُصَّ بِعِلْم ما خصَّ به غيره ، وما سمَحَ أن يقولوا عن والده سيّدنا علي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم أوْدَعَ فيه أسرارًا ما أوْدعها في غيره ، قال : لا والله ، ما ورثنا عن رسول الله إلا هذين اللَّوحين ، ويعني بهما المصحف الشريف ، ومن قال : إنّ عندنا شيئًا نقرؤه غير كتاب الله عز وجل فقد كذب ، لكنَّ أتباعهُ بدؤوا يُسلِّمون عليه ويقولون : السلام عليك يا مهديّ ! فيقول : نعم ، أنا مهديّ إلى الخير ، وأنتم مهديُّون إليّ إن شاء الله تعالى ، ولكن إذا سلَّم عليّ أحدكم فلْيُسمِّني باسْمي ، وليقُلْ : السلام عليك يا محمَّد !! ما قبِلَ أن يكون المهْدي ، وما قبِلَ أن يكون قد خُصّ بِعِلْم لم يُخصَّ به بقيَّة أصحاب رسول الله ، وهذا هو الإخلاص ، فإيَّاك أن تقبلَ بِدْعةً أو مبالغةً ، إيَّاك أن تقبلَ تعظيمًا يرفعُك فوق قدْرك ، أو تقبلَ قداسةً لا تستحقّها ، عندئذٍ تكون قد اشتريْت بالدِّين الدنيا .
لمْ تطلْ حَيْرةُ محمَّد بن الحنفيَّة في المكان الذي يستقرّ فيه هو ومن معه ، فقد شاء الله عز وجل أن يقضِيَ الحجّاج بن يوسف الثَّقفي على عبد الله بن الزبير ، وأن يُبايِعَ الناس جميعًا لعبد الملك بن مروان ، فما كان منه إلا أن كتب إلى عبد الملك يقول : إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من محمّد بن عليّ ، أما بعد : فإنِّي لمَّا رأيْتُ هذا الأمر أفْضى إليك ، وبايعَكَ الناس كنتُ كَرَجُلٍ منهم فبايَعْتُكَ لواليكَ في الحجاز ، وبعثْتُ لك بِبَيْعتي هذه مكتوبةً ، والسلام عليكم ! .
لمَّا انتهَتْ الفتنة ، وآل الأمر إلى عبد الملك بايعَهُ بيْعةً مكتوبةً ، ولم يعد عليه تَبِعَة ، فلو بايعَهُ قبل انتهاء الفتنة كانت عليه مسؤوليَّة المحاربة معه ، وأن يقتل المسلمين من أجله ، فلمَّا اسْتقرَّ الأمر على ذلك بايعَهُ بيْعةً مكتوبة ، فلمَّا قرأ عبد الملك الكتاب على أصحابه ، قال له أصحابهُ : واللهِ لو أراد أن يشقّ عصا الطاعة ، ويُحْدثَ في الأمر فتْقًا لقدَرَ على ذلك ، معه أتباع وعدد كبير، وهو في مَنْأى عنك ، ولما كان عليه من سبيل ، فاكْتُب إليه بالعهد ، والميثاق ، والأمان ، وذمّة الله ورسوله أن لا يُزْعَجَ ، أو يُهاج هو أو أحد من أصحابه ، وكتب عبد الملك إلى الحجّاح يأمرهُ بِتَعظيمه ورِعايَة حرمتهِ والمبالغة في إكرامه .
هذا نموذج لإنسان بعيد عن الفتنة ، وبعيد عن الانحِياز لفئة دون أخرى ، وبعيد أن يكون ورقةً رابحةً بيَدِ جهة من أهل الدنيا ، وبعيد على أن يُسْهم في سفْك دماء المسلمين ، ابتعَدَ ودفَعَ الثَّمَنَ باهظًا ، فلمَّا انتهى الأمر بايعَ ، وهذا موقف حكيم ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-20_files/image004.gif
[ سورة البقرة ]
إلا أنَّ محمّد بن الحنفيَّة لم يعِشْ بعد ذلك طويلاً ، فقد اختارهُ الله إلى جِوارهِ راضِيًا مرْضِيًا .
أيها الإخوة ، أثْمَنَ شيء في الحياة أن تنام على وِسادتك ، وليس على عاتقك شيء ؛ لا دماء ، ولا حقوق مغتصبة ، ولا أموال ، وما بنيتَ مجْدك على أنقاض الناس ، ولا بنيتَ مالك على فقرهم ، ولا أمنَكَ على خوفهم ، ولا غناك على فقرهم ، ولا حياتك على موتهم ، وهذه هي البطولة أن ترضيَ الله عز وجل ، وأن تكون بعيدًا عن التَّبِعات ، وقد أردْتُ من هذه القصَّة الموقف الحكيم الذكيّ الواضح الأمين على هذا الشرع ، فما سمحَ لأتباعِهِ أن يُعظِّموه ، ولا أن يُقال له المهدي ، ولا أن يرفعوه فوق مقامه ، ولا أن يسمح أن يُقال عن والده أنَّه خُصَّ بعِلْم ما خُصَّ غيره به من أصحاب رسول الله ، فقد كان وقَّافًا عند كتاب الله ، وكلّ إنسان داعِيَة صادق ومخلص لا يسمح لأحد أتباعِهِ أن يزيد من حجمه على حساب عقيدته أبدًا هذا هو المطلوب الآن، علاجنا في العودة إلى الكتاب والسنَّة ، وعلاجنا في أن تعْطِيَ كلّ شيءٍ حجمهُ الحقيقي ، لا أن تزيد وتبالغ ، لا أن ترفع لا أن تحتقر ، دائمًا كن موضوعيًّا ، واعْطِ الوصف الصحيح ، العلم في تعريفه : الوصف المطابق للواقع مع الدليل .
هذه قصَّة التابعي الجليل محمد بن الحنفيَّة بن سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه .
طالب عفو ربي
04-05-2009, 12:46 AM
محمد بن سيرين
عزم سيرين ـ الحديث عن محمد بن سيرين ، فإذا قلنا : عزم سيرين ، فهو أبوه ـ عزم سيرين على أن يستكمل شطر دينه بعد أن حرّر أنسُ ابنُ مالكٍ رضي الله عنه رقبَتَه .
إذاً والد محمد بن سيرين كان مملوكاً لسيدنا أنس بن مالك ، وبعد أن غَدَتْ حرفته تدرُّ عليه الربح الوفير ، والخير الكثير ، فقد كان نحّاساً ماهراً ، يتقن صناعة القدور .
سيدنا عمر يقول : إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني ، وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
أنا لا أنسى هذه القصة التي رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ قَالَ بَلَى حِلْسٌ - بساط - نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ - إناء - نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ - المزايدة واردة - فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ *
[رواه أبو داود]
فكل إنسان له حرفة ، تجارة ، صناعة ، فهذا شرف ، والإنسان يكتسب شرفه مِن عمله ، ومِن حرفته ، ومِن صنعته ، وكان أصحاب رسول الله رهباناً في الليل ، فرساناً في النهار .
أنا واللهِ أعجب لهذا المؤمن المتفوق في عمله ، المتقن لعمله ، الذي يكسب قوت يومه ، ويده عليا ، وهو في الصف الأول في مجالس العلم ، وهو في مقدمة المؤمنين ، والعار أنْ ترتكب العار ، والعار ألاّ تعمل ، فالعمل مقدس .
وسيدنا عمر يقول لأحد الولاة : إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل ، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية .
إنّ العمل عبادة ، وهذا يضطرني مرةً بعد مرة إلى أن أقول لكم : إن حرفة الإنسان إذا كانت في الأصل مشروعة ، وتعامل معها الرجلُ بطريقة مشروعة ـ بلا كذب ، ولا غش ، ولا تدليس ، ولا احتيال ، ولا استغلال ، ولا إيهام إلى آخره ـ إذا كانت مشروعة ومارسَتها بطريقة مشروعة ، وابتغيتَ بها كفايَةَ نفسك وأهلك ، وابتغيت بها كفاية نفسك وأهلك ، وابتغيت بها خدمة المسلمين ، ولم تشغلك عن فريضة ولا عن طلب علم ، انقلبتْ هذه الفريضةُ إلى عبادة .
فأنت في دكانك ، أو في مكتبك ، أو في حقلك ، أو في وظيفتك ، أو في عيادتك أنت من عباد الله عز وجل .
ومرةً بعد مرة أقول لكم : النبي رأى رجلاً يصلي في المسجد في غير أوقات الصلاة ، قال : من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك.
والصحابة الكرام أثنوا على رجل ثناءً طيباً ، قال عليه الصلاة والسلام : من يطعمه ؟ قالوا : كلنا يطعمه ، قال : كلكم أفضل منه .
اليد العليا ..
والمسلمون لا يتقدمون إلا بالعمل المخلص الجاد .
بصراحة أقول لكم : لا أحد يحترمك ، ولا يحترم دينك إلا إذا كنت متفوقاً في عملك .
ويمكن أن تكون أكبر داعية في عملك ، وأنت ساكت ، من خلال إتقانك للعمل ، وإحسانك في المعاملة ، والصدق والأمانة .
طيب أكبر دولـة إسلامية الآن ما هي ؟ إندونيسيا ، بها مائة وخمسون مليون مسلم ، هذه أكبر دولة إسلامية في العالم ، إنما دخلها الإسلام عن طريق التعامل التجاري ، لا عن طريق الجهاد ، ولا عن طريق السيف ، وهذا مصداق ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ *
[ رواه الترمذي]
لا لأنه ربح المال الوفير ، واستمتع به ، بل لأنه أعطى نموذجاً كاملاً للمسلم .
رجل يبيع البيض ، جاءه زبون ، فقال له : عندك بيض ، قال له : نعم ، قال له : طازج، قال : لا والله ، ليس طازجًا ، الطازجُ عند جاري ، هذا المسلم لا يكذب أبداً ، والله يرزقه .
فعزم سيرين على أن يستكمل شطر دينه بعد أن حرَّر أنسُ ابنُ مالك رضي الله عنه رقبَتَه، وبعد أن غدَتْ حرفتُه تدُرُّ عليه الربحَ الوفير ، والخير الكثير ، فقد كان نحّاساً ماهراً ، يتقن صناعة القدور .
لو لبس الإنسانُ لباساً متبذلاً في أثناء العمل (بذلة العمل) ، ولو كان عمله مع الزيوت والشحوم ، ومع الوحول ، فهذا عمل نظيف ، قال لي رجل مرةً يعمل عملاً أساسه إيقاع الأذى بالآخرين ، ما رأيت مكتبًا أفخم من مكتبه ، قال لي بالحرف الواحد : أنا عملي قذر ، قال لي عملي ديرتي ورك ، قذر ، لحكمة بالغة في اليوم التالي ذهبت لأصلح مركبتي عند أخ كريم ، أيام شتاء ، والطريق وحل ، وهو يلبس ثياب العمل ، أزرق على أسود ، كله شحم وزيت ، واستلقى تحت المركبة وفكَّ الجهاز ، واللهِ ما شعرتُ إلا وهو يقوم بأنظف عمل ، في العين الظاهرة العمل فيه وحل وزيت وشحم ، ولكنّه يقوم بأنظف عمل ، لأنه عمل شريف، لقد قدّم خدمة ، وأخذ أجرها بشكل معتدل .
كلمة نظيف عميقة جداً ، لا تعني أن المكان نظيف ، تعني طريقة الكسب نظيفة .
أكثر أماكن اللهو فيها أناقة ما بعدها أناقة ، رخام على تزيينات ، على ... لكنها أماكن قذرة ، مبنية على تحطيم الإنسان ، وعلى إفساده ، والمرأة هناك سلعةٌ محتقرة ، أما محل متواضع في سوق شعبي ، بيع وشراء ، فهذا عمل شريف ونظيف ، فابحثْ عن النظافة في التعامل .
وقد وقع اختياره على مولاة لأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه تُدعى صفية لتكون زوجة له .
والده مملوك عند سيدنا أنس ابن مالك ، تزوج مولاة سيدنا الصديق اسمها صفية ، كانت صفية جارية في بواكير الشباب ، وضيئة الوجه ، ذكية الفؤاد ، كريمة الشمائل ، نبيلة الخصائل ، محبَّبة إلى كل من عرفها من نساء المدينة ، وكانت أشدَّ النساء حباً لها زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما السيدة عائشة .
تَقدَّم سيرين إلى أمير المؤمنين فخطب منه مولاته صفية ، فبادر الصديق رضي الله عنه إلى البحث عن دين الخاطب وخلقه ، كما يبادر الأب الشفيق للبحث عن حال خاطب ابنته .
بالمناسبة ، أنا الذي أراه أنه إذا كان لصحابي مولى ، فهذا المولى لا يختلف إطلاقاً عن الابن، بل أن يكون الإنسان مولى لمؤمن القصدُ من ذلك أن يرى الإسلام عملياً ، فهذا الذي أغلق عقله عن أن يفهم الإسلام ، ربما فهِمَه بالتعامل الإنساني ، هذا أصل أن يكون الإنسان مولى أو مولاة .
مضى يستقصي هذا الصحابي الجليل الصديق أحوال سيرين أشد الاستقصاء ، ويتتبع سيرته أدق التتبع ، وكان في طليعة من سألهم عنه أنس ابن مالك ، فقال له أنس : زوِّجها منه يا أمير المؤمنين ، ولا تخش عليها بأساً ، فما عرفته إلا صحيح الدين ، رضي الخُلُق موفور المروءة ، ولقد ارتبطت أسبابه بأسبابي منذ سباه خالد بن الوليد .
وافق الصديق على تزويج صفية من سيرين ، وعزم على أن يبرهما كما يبرّ الأب الشفيق ابنتـه الأثيرة ، فأقـام لإملاكهما حفلاً قلمـا ظفرت بمثله فتاة من فتيات المدينة ، وقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كبار الصحابة ، كان فيهم ثمانية عشر بدرياً .
فإذا كان الإنسان ميسور الحال ، وزوج ابنته ، أو زوج ابنه ، وأقام حفلاً كريماً فيه مديح لرسول الله ، وقدّم الطعام ، وقدّم الضيافة فهذه فرحة لا تُنسى ، أنا من أنصار أن يُعلن
الإنسان النكاح ، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام إخفاء الخطبة ، وإعلان النكاح ، وأن يُقام عقدُ قران يُدعى له أقرباء الزوجين العروسين ، وتُقدم فيه الضيافة ، وتُلقى كلمات تُعرِّف الناس بربهم ، وبنبيهم ، هذا عمل طيب ، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
أحياناً بعض الآباء يحب أن يوفِّر ، هي فرحة في العمر ، تبقى غصّة في قلب الفتاة طوال حياتها ، ويبقى عدم الاحتفال غصّة في قلب العروس طوال حياته ، يعني كلما قام يده عن رجله يقول : أهلك ما أقاموا لك حفلة كتاب ، طول عمره ، فيا أيها الأب ، ويا أيها الأخ أقيموا حفلة .
فقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كرام الصحابة ، فيهم ثمانية عشر بدرياً ودعا لها كاتب وحي رسول الله أبي بن كعب ، وأمّن على دعائه الحاضرون ، وطيَّبتها وزيَّنتها حين زُفت إلى زوجها ثلاثٌ من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عليهم أجمعين ، والنكاح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي *
[متفق عليه]
وكلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ *
[رواه الترمذي]
ما مِن شاب يغض بصره ، ويحفظ فرجه ، فهذا الإنسان حقٌّ على الله أنْ يعينه إذا طلب العفاف ، وهناك آلاف القصص التي تؤكد هذه الحقيقة .
ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ورُبِّيَ في بيت يتبوَّأ الورع والتقى من كل ركن من أركانه ، ولما أيفع الغلامُ الأريبُ اللبيبُ وجدَ مسجدَ رسول الله ..
إنّ رواد المساجد مبارَكون ، رواد المساجد وطلاب العلم تضَع الملائكة تضع أجنحتها لهم رضى بما يصنعون ، رواد المساجد مؤمنون وربِّ الكعبة ، قال تعالى:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-9_files/image001.gif
[سورة التوبة الآية 18]
رواد المساجد هم المباركون ؛ لأنه خير البلاد مساجدها ، وشرها أسواقها ، فلا يضن الإنسان على نفسه بساعتين في الأسبوع أو ثلاث ساعات ..
الأسبوع كم ساعة ، أتعرفون ؟ مائة وثمان وستون ساعة ، فإذا خصّص الإنسان منها أربع ساعات لمعرفة الله ومعرفة الدار الآخرة ، وأربع ساعات مواصلات ، فهذه ثمان ساعات ، فلا مانع من أجل أن تعرف الله ، من أجل أن يرضى الله عنك ، من أجل أن يُبنى الإيمان لبنة لبنة .
لا يوجد إنسان عظيم إلا إذا ارتاد المساجد ، وجلس على ركبه ليطلب العلم ، لا يوجد إنسان متألق إلا وتتلمذ ، وأخذ العلم عن الرجال ، إنسان يتألق بالعلم ، ولا يرتداد المساجد هذا مستحيل .
هذا التابعي تلقى العلم عن كبار الصحابة والتابعين ، تلقى العلم عن زيد بن ثابت ، وأنس ابن مالك ، وعمران بن حصين ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وأبي هريرة .
حدثني أحد إخواننا الكرام وكان له دعوة إلى الله ، عنده طالب تركي ، فوكّل بعض إخوانه بتعليمه ، تعلم وأخذ شهادة ، وعاد إلى بلده ، وبعد عدة سنوات طُرق باب الشيخ ، فإذا بمركبتين كبيرتين سياحيتين تُقِلاَّنِ مائة طالب علم ، كلهم تلامذة هذا الطالب الذي درس العلم على يد هذا العالم ، يقول هذا العالم وهو يبكي : يا رب أنا علمت واحداً ، وكان من آثار هذا الواحد كل هؤلاء .
فكان تلاميذ الشيخ يمزحون معه ، وهم قد علموه ، يسألونه حينما تذهب إلى تركيا إذا سُئلت : مَن شيخك ، من تقول ؟ فأغفل أسماءهم وذكر اسم شيخه الكبير ، قال : أنتم لا أحد يعرفكم ، أنا تلميذ فلان .
هي طرفة ، الإنسان يفخر بأستاذه ، فكيف بزيد بن ثابت ، وأنس ابن مالك ، وعمران بن حصين ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وأبي هريرة ، هؤلاء أساتذة هذا التابعي الجليل ، الذين أقبل عليهم إقبال الظامئ على المورد العذب ، فنهل من علمهم بكتاب الله ، وفقههم بدين الله ، وروايتهم لحديث رسول الله ، فما أفعم عقله حكمة وعلماً ، وأترع نفسه صلاحاً وهداية ، ثم انتقلت الأسرةُ مع فتاها إلى البصرة واتّخذتْها لها موطناً .
أتلاحظون البصرة كيف جذبت لها طلاب العلم ، كانت البصرة يومئذ مدينة بكراً ، اختطَّها المسلمون في أواخر خلافة الفاروق عمر ، وكانت تمثل جُلَّ خصائص الأمة الإسلامية ، ومركزًا من مراكز التعليم والتوجيه للداخلين في دين الله ، وصورة للمجتمع الإسلامي الجاد الذي يعمل لدنياه ، كأنه يعيش أبداً ، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً .
الآن اسمعوا .. محمد بن سيرين سلك في حياته الجديدة في البصرة طريقين متوازيين ، فجعل شطراً من يومه للعلم والعبادة ، وشطراً آخر للكسب والتجارة .
أحياناً ألتقي بأخ في عمله ، في دكانه منتج ، ومساءً في المسجد ، واللِه شيء جميل أن تجمع بين الكسب الحلال ، واليد العليا ، وبين طلب العلم .
فهذا التابعي الجليل جعل شطراً من حياته من يومه للعلم والعبادة ، وشطراً آخر للكسب والتجارة ، فكان إذا انبلج الفجر ، وأشرقت الدنيا غدَا إلى المسجد يعلِّم ويتعلَّم ، حتى إذا ارتفع النهار مضى إلى السوق يبيع ويشتري ، فإذا جاء الليل صفَّ في محراب بيته ، وانحنى على أجزاء القرآن يبكي ، ويتلو كتاب الله في صلاته ، واللهِ شيء جميل .
من لم تكن له بداية محرقة ، لم تكن له نهاية مشرقة ، والبابُ مفتوح ، وربنا هو هو ، والعطاء مبذول لكل إنسان .
وكان يطوف في السوق في النهار للبيع والشراء ، ومع ذلك لا يفتأ يذكِّر الناس بالآخرة .
وأنت تاجر ، وأنت عامل ، وأنت صانع ،و أنت في عيادتك ذكِّر الناسَ بالله ، كن داعية في أثناء العمل ، هناك أشخاص ليس عندهم إمكانية .. تتداخل معه الأمور ، هذا الزبون انصحه، فيه خير ، سمته حسن ، دُلَّه على الله ، ادْعُه إلى المسجد ، أعطِه شريطًا ، لعل هذا الزبون يصير من كبار المؤمنين عن طريقك ، قمْ بتجارتين ، تجارة مع الله ، وتجارة مع البضاعة ، فإذا دعوت إلى الله تاجرت مع الله ، لقد سمَّاها الله تجارة ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-9_files/image002.gif
[سورة الصف]
أحياناً يقول لي أخ : واللهِ فلانٌ قدَّر اللهُ هدايتَه على يدي ، هو كان زبونًا من زبائننا ، أقول له بشكل عفوي : هذه هي التجارة الحقيقية .
التجارة المادية جمعت الأموال ، وقد تنفقها ، وقد تتحول إلى غيرك ، لكن هذا الذي دلَلْته على الله من خلال التجارة أنت الآن تاجر حقاً ، حتى انتهى بك السعي إلى هداية هذا الإنسان.
كان يطرفهم ويرشدهم إلى ما يقربهم إلى الله ، ويفصل فيما يشجر بينهم من خلاف ، وكان يطرفهم بين الحين والحين بالملحة التي تمسح الهمِّ عن نفوسهم المكدودة ، من غير أن ينقص ذلك من هيبته ، ووقاره عندهم شيئاً.
فإذا مع الإنسان شيء من الدعابة ، لطيف ، مرح ، فهذا جاز وضروري ، وقد كان النبي يمزح ، فأحياناً المزاح اللطيف يجدد النشاط ، والمعلمون الذين يتخيّرون بعض الطرف اللطيفة الأديبة ، هؤلاء يجدِّدون نشاط طلابهم .
لا يكن الأب عبوسًا قمطريرًا ، فلا بد أنْ يمزح الأب مع أولاده مزاحاً لطيفاً ، فآنسهم وابتسم لهم ، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً ، وكان يمزح ، ولا يمزح إلا حقاً ، وإنّ الدعابة من صفات المؤمنين .
كان الناسُ إذا رأوه في السوق ، وهم غارقون غافلون انتبهوا ، وذكروا الله عز وجل ، وهلَّلوا وكبروا .
بالمناسبة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
" أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكر الله بهم " .
وكان في سيرته العملية خير مرشد للناس ، فما عرض له أمران في تجارته إلا أخذ بأوثقهما في دينه ، ولو كانت فيها خسارة تصيب دنياه .
وإنْ كان فيها شبهة تركها ، فهو دائماً مع الحلال ، ترك شبهة الربا ، بيع بسعرين تركه ، بيع لأجل مع زيادة الثمن تركه ، فأيّ قضية فيها شبهة تركها ، واستوثق لدينه .
له مواقف غريبة ، ولكنها ليست غريبة .
لقد ادّعى رجل عليه كذباً أنّ له في ذمته درهمين ، فأبى أن يعطيه إياهما ، فقال له الرجل: أتحلف ، وهو يظن أنه لا يحلف من أجل درهمين ، فقال : نعم ، وحلف له ، فقال له الناس : يا أبا بكر أتحلف من أجل درهمين ، وأنت الذي تركت أمسِ أربعين ألف درهم في شيء رابك مما لا يرتاب منه غيرك ؟ فقال : نعم ، أحلف .
فما التعليل ؟ لأنه لو لم يحلف لأكَل هذا الإنسان الدرهمين حراماً من الإثم .
قال : نعم ، أحلف ، فإني لا أريد أن أطعمه حراماً ، وأنا أعلم أنه حرام .
أنت مؤمن ، ادّعى رجلٌ عليك زوراً وبهتاناً مبلغًا من المال ، فقلت : لكن ليس لك عندي شيء ، ولو تساهلتَ معه لأطعمته حرامًا ، وكنتَ أنت السبب ، لأنك أفسدته ، وفتنته في دينه.
إنّ المسلم دقيق ، العطاء عطاء ، الحق حق ، تريد مساعدة ، فهذه مساعدة ، أو صدقة فهي صدقة ، لكن ليس لك عندي شيء ، هذا موقف دقيق ، تتساهل أنا لا أحلف ، فتطعمه مالاً حرامًا ، وأنت السبب ، المؤمن أمره دقيق ، مضبوط ، عنده حسابات دقيقة ، ليس : وكان أمره فرطاً ، وأموره كلها مسيّبة .
أجمل ما في هذا التابعي الجليل أنّ مجلسه كان مجلس خير وبرٍّ وموعظة ، فإذا ذُكر عنده رجلٌ بسوء بادرَ فذَكَره بأحسن مما يعلم من أمره .
تعرفون القصة ، عندما كان النبي بغزوة ، فتفقَّد أحد الصحابة كان متخلفاً ، فغمز رجل ، قال : يا رسول الله شغله بستانه عن الجهاد معك ، فانبرى صحابي جليل ، وقال : لا والله يا رسول الله ، لقد تخلف عنك أناس ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدوا ما تخلفوا عندها سُر النبي كثيراً ..
فإذا ذُكِر عندك رجلٌ بسوء ، وتعرف عنه خلاف ذلك فدافع عنه .
مرةً سمع رجلٌ يسبُّ الحجاجَ بعد وفاته ، فقال له : صه يا ابن أخي ، إنّ الحَجَّاج مضى إلى ربه .
الحجاج كان ظالماً ، لكن مضى إلى ربه .
انظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، حينما أسلم عكرمة بن أبي جهل لم يكن إنسان أعدى من أبيه ، أبي جهل للإسلام ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما أسلم عكرمة قال لأصحابه : يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت *
(كنز العمال عن عبد الله بن الزبير)
فأمام هذا التابعي الجليل رجلٌ سبَّ الحَجَّاج ، فقال له : صه يا ابن أخي إنَّ الحجاج مضى إلى ربه ، وإنك حين تقدمُ على الله عز وجل ستجد أنّ أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشدُّ على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج " ، هذا من شأن الله عز وجل ، فدعك من هذا كلِّه .
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِي*
[رواه الترمذي]
فلكل منكما يومئذ شأن يغنيه ، واعلم يا ابن أخي أن الله جل وعز سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم ، كما سيقتص لحجاج ممن يظلمونه .
فإذا ظلم اقتصّ الله منه ، لكن إذا كنتَ أيضاً ظلمته فسوف يقتص الله منه ، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسبِّ أحد .
ورد في الأثر القدسي : أنا ملك الملوك ، ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن أطاعني العبادُ حوَّلتُ قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن هم عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، وادعوا لهم بالصلاح ، فإن صلاحهم من صلاحكم .
والإمام مالك إمام دار الهجرة يقول : لو أن لي دعوة مستجابة لادخرتها لأولي الأمر لأن في صلاحهم صلاح الأمة .
عود نفسك على الدعاء لا على السباب .
لهذا التابعي الجليل مواقف مِن ولاة بني أمية ، مِن ذلك أن عمر بن هبيرة الفزاري رجل بني أمية الكبير ، وواليهم على العراقين بعث إليه يدعوه إلى زيارته ، فمضى إليه ومعه ابن أخيه ، فلما قدِم عليه رحّب به الوالي ، وأكرم وفادته ، ورفع مجلسه ، وسأله عن كثير من شؤون الدين والدنيا ، ثم قال له : كيف تركت أهل مصرك يا أبا بكر ؟ قال : تركتهم والظلم فيهم فاش ، وأنت عنهم لاه ، فغمزه ابن أخيه بمنكبه ، فالتفت إليه ، وقال : إنك لستَ الذي تُسأل عنهم ، وإنما أن الذي أسأل ، ومن أمانة العلم تبيينه ، وإنها لشهادة ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه .
يعني إذا سُئلت فأجب ، ولا تكتم الحقيقة .
لما انفض المجلس وَدَّعه عمر بن هبيرة بمثل ما استقبله به من حفاوة وإجلال ، وبعث إليه بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار فلم يأخذها ، قال له ابن أخيه : ما يمنعك أن تقبل هبة الأمير ؟ قال : إنما أعطاني لخير ظنه بي ، فإن كنتُ من أهل الخير كما ظن ، فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فأحرى بي ألاّ أستبيح قبول ذلك .
له مشكلة صعبة ، ولكن هكذا فعل .
اشترى مرةً زيتاً بأربعين ألفًا مؤجلة ، فلما فتح أحد زقاق الزيت وجد فيها فأراً ميتةً متفسخة ، فقال في نفسه : إن الزيت كله كان في المعصرة في مكان واحد ، وإن النجاسة ليست خاصة بهذا الزق دون سواه ، وإني إن رددته للبائع بالعيب فربما باعه للناس ، ثم أراقه كله ، فأصبح عليه دين أربعين ألف دينار .
إنها محاكمة دقيقة ..
وطالبه صاحب الزيت بما له ، فلم يستطع سداده ، رُفع أمره إلى الوالي فأمر بحبسه حتى يسدِّد ما عليه ، فلما صار في السجن ، وطال مكوثه فيه أشفق عليه السجّان لِمَا عَلِمَ من أمر دينه ، وما رأى من شدة ورعه وطول عبادته .
واللهِ إنّه لموقف صعب ، تشتري زيتًا نجسًا ، إن رددته باعه صاحبُه للناس.
مرةً قال لي رجل بائع كنت أتعامل معه : أخذنا ألف بيضة ، فإذا كلها فاسدون ، فبسرعة بعناهم بسوق الجمعة يوم الجمعة ، لقد قضى غرضه وحاجته .. ولم يعرف أين وضع ربَّه ، بل لم يقِم لربِّه وزنًا ، ولم يقدر له قدرًا ..
دخل السجن خوفاً من الله ، وخوفاً من أن يُحرق في النار يوم القيامة ، فصاحب السجن عرف قصته ، إنه رجل ورع جداً ، قال : أيها الشيخ إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك وبت معهم ، فإذا أصبحت فَعُدْ إلي .
أنت إنسان عظيم ، دخلت هذا السجن من شدة ورعك ، واستمرْ على ذلك حتى يُطلق سراحك ، كل يوم نَمْ عند أهلك ، فقال : لا واللهِ ، لا أفعل ، قال : ولِمَ ، أنا أسمح لك ؟ قال : حتى لا أعينك على خيانة ولي الأمر ، أنت تخون ولي الأمر بهذا العرض ، فإذا قبلتُ هذا العرض أعنتُك على خيانة ولي الأمر .
لما احتضر أنس ابن مالك أوصى بأن يغسله محمد بن سيرين ، ويصلي عليه ، وكان ما يزال سجيناً ، فلما توفي جاء الناس إلى الوالي بوصية صاحب رسول الله وخادمه ، واستأذنوه أن يخلي سبيل محمد بن سيرين لإنفاذ الوصية ، فقال لهم محمد بن سيرين : لا أخرج حتى تستأذنوا صاحب الدين ، والإذن ليس من الوالي ، بل من صاحب الدين .
إذا أراد الرجلُ أن يحج بمال ، وعليه دين فلا يُقبل حجُّه إلا إذا استأذن صاحب الدين ، والذي عليه دين يحرم عليه أن يأكل لونين من الطعام ، ونوعين من الفاكهة .
رجل مدين لك بمبلغ من المال ، وأنت تأكل نوعين أو ثلاثة من الطعام ، وأربعة أنواع فواكه ، وخير إن شاء الله ، لا يوجد معنا الآن .. هذه قلة مروءة .
فأذن له الدائن ، عند ذلك خرج من سجنه ، فغسل أنساً ، وكفنه وصلى عليه ، ثم رجع إلى السجن كما هو ، ولم يذهب لرؤية أهله ؛ لأن الإجازة فقط لتغسيل الميت ، لأهله لم يذهب .
عمّر محمد بن سيرين حتى بلغ السابعة والسبعين ، فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أعباء الدنيا ، كثير الزاد لما بعد الموت .
إخواننا الكرام ، من حاسب نفسه حساباً عسيراً في الدنيا ، كان حسابه يوم القيامة يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً ، كان حسابه يوم القيامة عسيراً .
هذه حالة نادرة جداً ، إنسان يدخل السجن وهو تابعي جليل ورعاً ، أما عندما مات فلم يوجد عليه شيء .
حدثت حفصة بنت راشد ، وكانت من العابدات ، قالت : كان مروان بن المحملي لنا جاراً، وكان ناصباً في العبادة ، مجتهداً في الطاعة ، فلما مات حزنّا عليه حزناً شديداً ، فرأيته في المنام ، قلت : يا أبا عبد الله ما صنع الله بك ؟ قال : أدخلني الجنة ، قلت ثم ماذا ؟ قال : رُفعت إلى أصحاب اليمين ، قلت : ثم ماذا ؟ قال : رُفعت إلى المقربين ، قال : فمن رأيت هناك ؟ قال : الحسن البصري ومحمد بن سيرين .. من المقربين .
كله بثمنه .. ورع ، مجتهد ، صائم ، مُصَلٍّ ، دخلُك حلال ، إنفاقك حلال ، بيتك إسلامي ، عملك إسلامي ، فأنت من المقربين .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-9_files/image003.gif
[سورة الواقعة]
طالب عفو ربي
06-05-2009, 07:10 PM
أبو أيوب الأنصاري
مقدمة هو خالد بن زيد بن كليب بن مالك بن النجار أبو أيوب الأنصاري.
معروف باسمه وكنيته.
وأمه هند بنت سعيد بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج من السابقين. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بن كعب، روى عنه البراء بن عازب وزيد بن خالد، والمقدام بن معد يكرب وابن عباس وجابر بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وجماعة من التابعين، شهد العقبة وبدرا وما بعدها، ونزل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده.
إسلامه:
أسلم أبو أيوب قبل هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة، وشهد العقبة.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
حدث عبدا لله عباس فقال خرج أبو بكر رضي الله عنه في الهاجرة يعني نصف النهار في شدة الحر فرآه عمر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر ما أخرجك هذه الساعة؟ قال ما أخرجني إلا ما أجد من شدة الجوع فقال عمر و أنا والله ما أخرجني غير ذلك فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( ما أخرجكما هذه الساعة؟) قالا والله ما أخرجنا إلا ما نجده في بطوننا من شدة الجوع فقال صلى الله عليه وسلم (: وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني غير ذلك قوما معي فانطلقوا فأتوا باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.)
وكان أبو أيوب يدخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم طعاما فإذا لم يأت أطعمه لأهله فلما بلغوا الباب خرجت إليهم أم أيوب وقالت مرحبا بنبي الله ومن معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين أبو أيوب؟ فسمع أبو أيوب صوت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يعمل في نخل قريب له فاقبل يسرع وهو يقول مرحبا برسول الله وبمن معه ثم قال يا رسول ليس هذا بالوقت كنت تجيء فيه فقال صدقت ثم انطلق أبو أيوب إلى نخيله فقطع منه عذقا فيه تمر ورطب وبسر وقال يا رسول الله كل من هذا وسأذبح لك أيضاً. فقال:( إن ذبحت فلا تذبحن ذات لبن ) وقدم الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ منه رسول الله قطعة من لحم الجدي ووضعها في رغيف وقال: يا أبا أيوب بادر بهذه القطعة إلى فاطمة الزهراء فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم:( خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه ثم قال: والذي نفسي بيده هذا هو النعيم الذي تسالون عنه يوم القيامة ) وبعد الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب ائتنا غدا) وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصنع له احد معروفاً إلا أحب أن يجازيه فلما كان الغد ذهب أبو أيوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأهداه جارية صغيرة تخدمه وقال له: استوص بها خيرا عاد أبو أيوب إلى زوجته ومعه الجارية وقال لزوجته هذه هدية من رسول الله لنا ولقد أوصانا بها خيرا وان نكرمها فقالت أم أيوب وكيف تصنع بها خيرا لتنفذ وصية رسول الله فقال أفضل شيء إن نعتقها ابتغاء وجه الله وقد كان.
فهذه أخي المسلم نبذة عن حياة هذا الصحابي الجليل في سلمه أما عن موقفه من الجهاد في سبيل الله؛ فقد عاش أبو أيوب رضي الله عنه حياته غازيا حتى قيل إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ظل جنديا في ساحات الجهاد وكانت آخر غزواته حين جهز معاوية جيشا بقيادة ابنه يزيد لفتح ( القسطنطينية ) وكان أبو أيوب وقتها بلغ عمره ثمانين سنة ولم يمنعه كبر سنه من أن يقاتل في سبيل الله ولكن في الطريق مرض مرضا أقعده عن مواصلة القتال وكان آخر وصاياه أن أمر الجنود أن يقاتلوا وان يحملوه معهم وان يدفنوه عند أسوار(القسطنطينية) ولفظ أنفاسه الأخيرة وهناك حفروا له قبرا وواروه فيه.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد دخل المدينة مختتماً بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادَّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس.
وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوق، ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامه، كُلٌّ يريد أن يستضيف رسول الله.
وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:
( يا رسول الله، أقم عندن، فلدينا العدد والعدة والمنعة ).ويجيبهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:(خَلّوا سَبيلَها فَإِنَّها مَأمُورة). ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فَحيّ بني ساعدة، فحيّ بني الحارث بن الخزرج، فحيّ عدي بن النجار.
وكل بني قبيلة من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي ( صلى الله عليه وسلم) بالنزول في دورهم، وهو يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:( خَلّوا سَبيلَها فَإِنَّها مَأمُورة ). فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ممعناً في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه، ومن أجل هذا ترك هو أيضاً زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقه، ولا يستوقف خطاه، وتوجّه إلى الله بقلبه، وابتهل إليه بلسانه:( اللَّهُمَّ خر لِي، واختَرْ لِي ).وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة، ثم نهضت وطوَّفت بالمكان، ثم عادت إلى مبركها الأول، وألقت جرانه، واستقرت في مكانه.
وكان هذا السعيد الموعود، الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية، هو البطل أبو أيوب الأنصاري، الذي جعلت الأقدار من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم والرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم.
ـ وروى عن سعيد بن المسيب أن أبا أيوب أخذ من لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم -شيئا فقال له: لا يصيبك السوء يا أبا أيوب وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وابن أبي عاصم من طريق أبي الخير عن أبي رهم أن أبا أيوب حدثهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل في بيته وكنت في الغرفة فهريق ماء في الغرفة، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتتبع الماء شفقا أن يخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مشفق فسألته فانتقل إلى الغرفة قلت يا رسول الله: كنت ترسل إلي بالطعام فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام قال: أجل إن فيه بصلا فكرهت أن آكل من أجل الملك، وأما أنتم فكلو.
وروى أحمد من طريق جبير بن نفير، عن أبي أيوب قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة اقترعت الأنصار أيهم يؤويه فقرعهم أبو أيوب.. الحديث.
أثره في الآخرين:
ولقد عاش أبو أيوب رضي الله عنه طول حياته غازي، وكانت آخر غزواته حين جهز معاوية رضي الله عنه جيشا بقيادة ابنه يزيد، لفتح القسطنطينية وكان أبو أيوب آنذاك شيخا طاعنا في السن يحبو نحو الثمانين من عمره فلم يمنعه ذلك من أن ينضوي تحت لواء يزيد وان يمخر عباب البحر غازياً في سبيل الله.. لكنه لم يمض غير قليل على منازلة العدو حتى مرض أبو أيوب مرضا أقعده عن مواصلة القتال، فجاء يزيد ليعوده وسأله: ألك من حاجة يا أبا أيوب؟
فقال: اقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم: يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية، وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية، ولفظ أنفاسه الطاهرة
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يروي الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربو..
وعن البراء بن عازب عن أبي أيوب رضي الله عنهم قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب في قبورها وعن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
مواقفه مع التابعين:
عن الزهري، عن سالم، قال: أعرست، فدعا أبي الناس، فيهم أبو أيوب، وقد ستروا بيتي بجنادي أخضر. فجاء أبو أيوب، فطأطأ رأسه، فنظر فإذا البيت مستر. فقال: يا عبد الله، تسترون الجدر؟ فقال أبي واستحيى: غلبنا النساء يا أبا أيوب. فقال: من خشيت أن تغلبه النساء، فلم أخش أن يغلبنك. لا أدخل لكم بيتا، ولا آكل لكم طعام!
وعن محـمد بن كعب، قال: كان أبو أيوب يخالف مروان، فقال: ما يحملك على هذ؟ قال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الصلـوات، فإن وافقته وافقناك، وإن خالفته خالفناك.
وعن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه، قال: انضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصاري في البحر، وكان معنا رجل مزاح، فكان يقول لصاحب طعامن: جزاك الله خيرا وبرا، فيغضب فقلنا لأبي أيوب: هنا من إذا قلنا له: جزاك الله خيرا يغضب. فقال: اقلبوه له. فكنا نتحدث: إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر.
فقال له المزاح: جزاك الله شرا وعرا، فضحك، وقال: ما تدع مزاحك.
الوفاة:
قال الوليد عن سعيد بن عبد العزيز: أغزى معاوية ابنه في سنة خمس وخمسين في البر والبحر، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل.
وعن الأصمعي،عن أبيه: أن أبا أيوب قبر مع سور القسطنطينية، وبني عليه، فلما أصبحوا، قالت الروم: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نبش، لا ضرب بناقوس في بلاد العرب. فكانوا إذا قحطوا، كشفوا عن قبره، فأمطروا
قال الواقدي: مات أبو أيوب سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه يزيد، ودفن بأصل حصن القسطنطينية. فلقد بلغني أن الروم يتعاهدون قبره، ويستسقون به.
وقال خليفة: مات سنة خمسين. وقال يحيي بن بكير: سنة اثنتين وخمسين.
طالب عفو ربي
06-05-2009, 07:13 PM
ابو دجانة
مقدمة هو سماك بن خرشة بن الخزرج أسلم مبكراً مع قومه الأنصار، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان، وشهد معركة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفا يوم أحد فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقمت فقلت : أنا رسول الله فأعرض عني ثم قال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقلت : أنا يا رسول الله فأعرض عني ثم قال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال : آنا آخذه يا رسول الله بحقه فما حقه؟ قال: أن لا تقتل به مسلما و لا تفرّ به عن كافر قال : فدفعه إليه وكان إذا كان أراد القتال أعلم بعصابة...
فلما أخذ أبو دجانة السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصبها برأسه فجعل يتبختر بين الصفين - قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن" -
قال: قلت: لأنظرن إليه اليوم كيف يصنع قال : فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه و أفراه حتى انتهى إلى نسوة في سفح الجبل معهن دفوف لهن فيهن إمرأة تقول:
( نحن بنات طارق نمشي على النمارق )
( إن تقبلوا نعانق و نبسط النمارق )
( أو تدبروا نفارق فراق غير وامق )
قال فأهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها ثم كف عنها فلما انكشف له القتال قلت له كل عملك قد رأيت ما خلا رفعك السيف على المرأة لم تضربها قالا إني و الله أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقتل به امرأة.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة عن قتادة بن النعمان قال : كنت نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أقي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهي وكان أبو دجانة سماك بن خرشة موقيا لظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره حتى امتلأ ظهره سهاما وكان ذلك يوم أحد...
من مواقفه مع الصحابة رضي الله عنهم
قال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريض - وكان وجهه يتهلل - فقيل له: ما لوجهك يتهلل فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليما
ما قيل عنه:
عن ابن عباس قال : دخل عليٌّ بسيفه على فاطمة رضي الله عنهما و هي تغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: خذيه فلقد أحسنت به القتال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن كنت قد أحسنت القتال اليوم فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة.
طالب عفو ربي
07-05-2009, 11:50 PM
الأرقم بن أبي الأرقم
مقدمة
الأرقم بن أبي الأرقم وكان اسمه عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم يكنى أبا عبد الله قال ابن السكن أمة تماضر بنت حذيم السهمية ويقال بنت عبد الحارث الخزاعية
إسلامه
كان من السابقين الأولين قيل أسلم بعد عشرة وقال البخاري له صحبة وذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة فيمن شهد بدرا وروى الحاكم في ترجمته في المستدرك أنه أسلم سابع سبعة.
وقد أسلم الأرقم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج أبو بكر الصديق يريد رسول الله وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها فقال رسول الله: إني رسول الله أدعوك إلى الله عز وجل فلما فرغ رسول الله من كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر ومضى أبو بكر وراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا ثم جاء الغد عثمان بن مظعون وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم
دار الأرقم ومكانتها في الإسلام
تُعد دار الأرقم رضي الله عنه وأرضاه إحدى الدور التي كان لها دور هام في تاريخ الإسلام، فقد كانت المحضن التربوي الأول الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم فيه طليعة أصحابه الذين حملوا معه المسئولية الكبرى في تبليغ رسالة الله تعالى، يقول ابن عبد البر: وفي دار الأرقم ابن أبي الأرقم هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا من قريش بمكة يدعو الناس فيها إلى الإسلام في أول الإسلام حتى خرج عنها وكانت داره بمكة على الصفا فأسلم فيها جماعة كثيرة وهو صاحب حلف الفضول.
لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم؟
1- أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره.
2 - أن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه وأرضاه من بني مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو
3 - كان الأرقم رضي الله عنه فتىً عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم أن تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام، ومن ثم نجد أن اختيار هذه الدار كان في غاية الحكمة من جميع النواحي.
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن الأرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر: ضعوا ما كان معكم من الأثقال فرفع أبو أسيد الساعدي سيف ابن عائذ المزربان فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم فقال هبه لي يا رسول الله فأعطاه إياه.
وعنه رضي الله عنه أنه جاء إلى رسول الله فسلم عليه فقال: أين تريد؟ فقال: أردت يا رسول الله ههنا وأومأ بيده إلى حيز بيت المقدس، قال: "ما يخرجك إليه أتجارة؟" فقال: قلت لا ولكن أردت الصلاة فيه، قال: "الصلاة ههنا وأومأ بيده إلى مكة خير من ألف صلاة وأومأ بيده إلى الشام"
وفاته
عن محمد بن عمران بن هند عن أبيه قال: حضرتْ الأرقم بن أبي الأرقم الوفاة فأوصى أن يصلي عليه سعد فقال مروان: أتحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل غائب أراد الصلاة عليه؟ فأبى عبد الله بن الأرقم ذلك على مروان وقامت معه بنو مخزوم ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد فصلى عليه وذلك سنة 55 هـ بالمدينة وتوفي وهو ابن بضع وثمانين سنة.
طالب عفو ربي
08-05-2009, 07:00 PM
رجاء بن حيوه
التابعيّ اليوم هو رجاء بن حيوه ، وقد قال مسلمة بن عبد الملك : إن في كنده لثلاثة رجال ؛ ينزل الله بهم الغيث ، وينصر بهم على الأعداء ، أحدهم رجاء بن حيوه " ، فمن هو هذا التابعي؟.. على كل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة .. باب الخير مفتوح ، وفضل الله عميم ، لا يُحد لا بزمان ولا بمكان ، ولا بأمة ولا بقرن ، ولا بجيل ، وإنّ الله هو هو ، وعطاؤه مبذول ، ورحمته واسعة ، والطريق إليه سالك ، وثمن الجنة معروف .
هذا يؤكد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ *
[رواه الترمذي عن أنس]
فهذا التابعي ربما لم يَرِد في ذهنكم من قبل ، فمن هو ؟ .
هذا رجل وُلِد في بيسان من أرض فلسطين ، وكانت ولادته في أواخر خلافة عثمان بن عفان ، أو نحواً من ذلك ، وكان ينتمي إلى قبيلة كندة العربية ، وعلى هذا فرجاء بن حيوة فلسطيني الوطن ، عربي الأرومة ، كندي العشيرة .
وقد نشأ الفتى الكندي في طاعة الله ، ودائماً وأبداً أؤكد لكم ، مَن لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة ، ولا أفرح حينما أنظر إلى الإخوة الكرام فرحي حينما أرى شاباً ناشئاً في طاعة الله ، فالخير يتراكم ، والقناعات تتراكم ، والإيمان يتراكم ، فإذا كان في هذه السن ملتزمًا مطبقًا منيبًا ، تائبًا ، فكيف إذا رأيته في الأربعين ، وفي الخمسين ، فالزمن لصالح المؤمن ، يزيده تألقاً وعلماً ، ويزيده هيبةً ومكانة ، ويزيده قرباً مِن الجنة ، فلذلك ما من تابعي كما ترون ، وما من صحابي في الأعمّ الأغلب إلا وقد نشأ في طاعة الله النشأة المبكرة .
نشأ هذا الفتى الكندي في طاعة الله منذ حداثة سنه ، فأحبه الله ، وحبَّبه إلى خلقه .
بالمناسبة ، إذا أردتَ أن يحبّك الناس لِمَا عندك من أخلاق وإيمان ، فهذه في الحقيقة محبة الله لك .
***
ينادى له في الكون أنا نحبه فيسمع من في الكون أمر محبنا
***
محبة الله تتجسد بمحبة الخلق ، وإذا أبغض اللهُ الإنسانَ لانحرافه ومعصيته ، ألقى بغضه في قلوب العباد ،فلا أحد يحبه ، أما إذا كان قوياً مُدِح في وجهه ، أما العبرة فبما يُقال في غيبته ، فلا تأبه ، ولا تلقي بالاً ، ولا تهتمّ لِمَا يقال في حضرتك ، أنت أحد رجلين ؛ إما أن يخافك الناس ، وإما أن يرجوا ما عندك ، وفي الحالتين يتملقونك ، ويكيلون لك المديح جزافاً، ويمدحونك بما ليس فيك ، لكن الذي يُعوَّل عليه ما يُقال في غيبتك .
أقبل هذا الفتى على العلم من نعومة أظفاره ، فوجد العلم فؤاده غضاً طرياً خالياً ، فتمكن منه ، واستقر فيه .
أنت كالوعاء ، وقد قيل :
***
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَــنَّا
***
الإنسان إذا طلب العلم في وقت مبكر ، يكون وعاؤه فارغًا ، فحينما يُلقى العلم فيه يتمكن، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر ، أما إذا امتلأ بمشاغل الدنيا ، وشهواتها ، وطموحاتها ، فلم يعُد العلمُ يصادف محلاًّ فيه .
قال الشاعر المتنبي يتحدث عن المصائب :
***
رَمَانِي الدَّهْرُ بِالأَرْزَاءِ حَتَّى فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَــالِ
فَكُنْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَــامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
***
لم يَعُد ثمة محلٌّ شاغر ، فالقلب إذا امتلأ بمحبة الدنيا لم يبقَ شيء لمحبة الله ، والله عز وجل قال في القرآن الكريم :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-10_files/image001.gif
[سورة الأحزاب من الآية 4]
فهو قلب واحد .. هذه نقطة دقيقة ، هذا القلب وعاء ، إذا كان فارغاً مما سوى الله امتلأ كله بمعرفة الله ، وإذا كان معبَّأ إلى ثلاثة أرباعه من الدنيا لم يبق منه إلاّ الربع .
فالبطولة كما قال الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-10_files/image002.gif
[سورة المؤمنون]
وجد العلم فؤاده غضاً طرياً خالياً ، فتمكن منه ، واستقر فيه ، وجعل همَّه الأكبر التضلعَ من كتاب الله .
أقول هذا الكلام كثيراً : فَضُل كلامِ اللهِ على خلقه كفضل الله على خلقه ، وأيّ كتاب تقرأه فمؤلِّفه بشر محدود ، لكنك إذا قرأت كتاب الله عز وجل فقد قرأتَ كتاب خالق البشر .
فكان همه الأول التضلعَ (التمكن) من كتاب الله ، والتزودَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تصور إنسانًا وعاؤه ممتلئ بالقرآن والسنة ، هذا كيفما تكلم ، وكيفما تحرك لا ينطق إلا بالحق ، ولا يتكلم إلا بالحكمة ، ولا يقف إلا الموقف الكامل .
أتيح لهذا التابعي الجليل أن يأخذ عن طائفة كبيرة من جلّة علماء الصحابة .
هذه الفكرة توقفنا عند حقيقة ، وهي أن العلم لا يؤخذ إلا من الرجال ، ولو أمكن أن يؤخذ العلم من الكتب مباشرةً لاستغنت وزارات التربية في العالم عن ألوف ألوف المعلمين ، ولو أمكن أن يؤخذ العلم من كتاب فقط دون معلم ، هذه حقيقة ثابتة ، اقرؤوا كتاب أصل من أصول الفقه (الموافقات للشاطبي) ، في المقدمة التاسعة يقول : العلم لا يؤخذ إلا عن طريق عالم ورع متحقق ، فالورع صفة نفسية ، والتحقق صفة فكرية ، متحقق من علمه ، ورع في سلوكه ، هذا هو السبيل .
أخذ عن أبي سعيد الخدري ، وأبي الدرداء ، وأبي أمامة ، وعبادة بن الصامت ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن عمر بن العاص ، وغيرهم ، فكان هؤلاء الأساتذة العلماء الأجلاء مصابيح هداية ، ومشاعل عرفان ، وضع هذا الفتى التابعي لنفسه دستوراً ظل يلتزمه طوال حياته ، فكان يقول : ما أحسن الإسلام يزينه الإيمان ..
الإسلام انصياع لله ، لكن إذا كان انصياعًا من دون إيمان فلا يستمر .
" ما أحسن الإسلام يزينه الإيمان ، وما أحسن الإيمان يزينه التُّقى وما أحسن التقى يزينه العلم ، وما أحسن العلم يزينه العمل ، وما أحسن العمل يزينه الرفق " ، هذا منهج هذا التابعي ؛ إسلام ، وإيمان ، وتقوى ، وعلم ، وعمل ، ورفق .
لكن الشيء الذي يلفت النظر في سيرة هذا التابعي هو أنه كان وزيراً لعدد كبير من خلفاء بني أمية ، وقد تعجبون كيف وفَّق بين مقتضيات منصبه ، وبين كونه من التابعين الأجلاء الورعين العاملين .
وسوف ترون أنه ما مِن عمل على وجه الأرض يستعصي أنْ يكون في خدمة الحق .
كان لهذا التابعي صلة متينة بسليمان بن عبد الملك ، وعمر بن عبد العزيز فاقت صلاته بمَن سبقه من الخلفاء ، أدناه من قلوب الخلفاء رجاحةُ عقله ، وصدقُ لهجته ، وإخلاصُ نيته، وحكمتُه في معالجة الأمور .
أيها الإخوة الأكارم ، الإنسان يوفَّق إلى أقصى درجة حينما يكون إلى جانبه من يُعِينُه على الخير ، ويدُلُّه عليه ، دعاء رسول الله لأمراء المسلمين : اللهم هيئْ لهم بطانة خير تدلهم إليه ، وتعينهم عليه .
وأنت كإنسان حاول أن يكون لك مستشار ، يدلُّك على الخير ، ويعينك عليه ، وإياك وبطانة السوء ؛ الذين اشتروا دنياك بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم .
أحياناً الإنسان يكون مدير مدرسة ، عنده ثلاثون أو أربعون مدرسًا ، مدير مشفى عنده ثلاثون أو أربعون طبيبًا ، ترى واحداً تقرَّب منه زيادة ، خدمه زيادة ، كان بجانبه ، لطيف دائماً ، هذا الشخص سنُسَمِّيهِ مستشارًا ، سنُسَمِّيهِ من البطانة ، ومن الحاشية ، هناك شخص بطانة سوء يوغر صدره دائماً على بقية الناس ، يدلّه دائماً على عملٍ يؤذي المصلحة يقول له: هذه أقوى لمركزك ، فلان اعمل معه كذا ، فلان تكلم عليك بغيابك كذا ، فهذا الرجل من بطانة السوء .
أحياناً يكون الإنسان مدير معمل ، مدير مشفى ، مدير مدرسة ، رئيس دائرة صغيرة ، وحوله موظفون ، هذه هي الحاشية ، فاحذَرْ أن يكون أقرب الناس إليك رجلَ سوء .
سيدنا عمر بن عبد العزيز عيَّن مستشارًا عالمًا جليلاً ، اسمه عمر بن مزاحم ، قال له : يا عمر كنْ إلى جانبي دائماً ، وراقبْ ما أفعل ، وانظرْ ما أقول ، فإنْ رأيتني ضَللتُ فأمسكني من تلابيبي ، وهُزَّني هزًّا شديداً ، وقل لي : اتَّقِ اللَّهَ يا عمر ، فإنك ستموت .
والله لو كُشِف الغطاء لرأيت الذي ينتقدك ، وينصحك ، ولو كان قاسياً ، لرأيتَ فضله عليك لا حدود له ، فالذي ينتقدك يرفعك ، والذي يمدحك بما ليس فيك يضعك ، هكذا قال سيدنا عمر قال : أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي *
[كنز العمال]
وطِّن نفسَك على سماع النقد ، وطِّن نفسك على سماع النصيحة ، ولو كانت قاسية ؛ لأنها تنطلق من حبٍّ ، ومن حرص ، ومن غيرة ، ولا تعوِّد نفسك على سماع المديح ، مثل الجربان ، يريد من يحكُّ له دائماً .
لا توطِّن نفسك على سماع المديح ، اطلب النقد ، واطلب المآخذ ، واطلب المثالب ، واطلب السقطات ، واطلب الهنات ، وتلافاها ، فإنّك سترقى بها بسرعة ، أمّا إنْ عوَّدتَ نفسك على سماع المديح والثناء لم تَعُدْ حينئذٍ تقبل أن يذمك أحد أبداً ، ولا ترضى ، بل تريد تحطيمه ، لأنّك تعوّدتَ على المديح ، وصار بك إدمان مثل المخدرات ، فوطِّن نفسك على سماع النقد ، وعلى سماع النصيحة ، وعلى سماع المآخذ ، وبهذا ترقى .
اسمع كلام سيدنا عمر : أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي *
[كنز العمال]
أعدائي لهم فضل عليَّ ومِنّة ، فلا أعدم الله لي الأعادي ، ذكروني بالعيوب فبرئت منها ، فالأبطال دائماً يصغون إلى النقد باهتمام ، ويشكرون ، ويثنون.
قلت لكم سابقاً : طريق القمة صعب ، ومع أنه صعب فقد تصل إلى القمة ، في عملك ، في دراستك ، في تدريسك ، في تجارتك ، في زعامتك ، في قيادتك ، ممكن ، ولكن بعد أن تصل إلى هذه القمة البطولة ليس أنك وصلت إليها ، لكنّ البطولة أن تبقى فهيا ، لأن في القمة آلاف الطرق التي توصلك إلى الحضيض ، فإذا كان طريق الصعود طريقًا وعرًا فطريق النزول كله سيراميك مع صابون ، لأنّ الغرور يهلكك ، ورفضُ النقد يهلكُك ، والاعتداد بالرأي يهلكك ، لذلك البطولة أن تبقى في القمة ، وهذا يحتاج إلى معارضة ، وإلى نصيحة ، وإلى بطانة خير تدلُك على الخير ، وتعينك عليه .
فهذا التابعي وزير لخلفاء بني أمية :
أولاً : دعاهم إلى الخير ودلّهم عليه .
ثانياً : ثنّاهم عن الشر ، وأوصد دونهم أبوابه .
ثالثاً : أراهم الحق ، وزيّن لهم اتِّباعه ، وبصّرهم بالباطل ، وكره إليهم إتيانه ، ونصح لله ، وللرسول ، ولأئمة المسلمين وعامتهم .
الآن عندنا مرض يفتِّت جموع المسلمين ، إنّه المجاملة ، يقول لك : أعطه جَمَلَه .. يقول لك : هذا الشخص إذا جلس مع شخص لا دين له يخرج من عنده ملحدًا ، إنْ جلس مع شخص له دين يخرج ولِيًّا ، ترى عنده قدرة ومرونة عجيبة جداً ، يتكلم بكلام يوافق الحاضرين ، هذا منتهى النفاق ، فمن استطاع أن يرضي الناس جميعاً فهو منافق ، أليس لك اتّجاه ، أم تسبح مع كل التيّارات ، ما هذا الإنسان ؟ ليس له اتجاه ، يجامل هذا وذاك ، فإن كان مع شخص من أصحاب الفكر الحر تراه صار حراً أكثر منه .
حتى إنّ أديبًا قيل له : أنت كاتب مسرحي كبير ، كيف تبيع قلمك ؟ كيف تبيع إنتاجك الفني إلى جهة معينة ؟ فغضب وقال : أنا أبيع إنتاجي لجهة في الأرض ؟ أنا أجرته تأجيراً ، يعني لم يبع .
فالمفروض أن يكون للإنسان اتجاه ، يكون عنده كلمة (لا أوافق) ، يكون عنده كلمة (لا أرضى بهذا) ، يكون عنده كلمة (اعتراض) حتى تكون له شخصية .
علمونا بالجامعة أن أول مظهر لمظاهر ظهور شخصية الطفل الصغير رفضه ، يقول لك: لا أريد ، الرفض دليل شخصية ، فإذا ألغيت الرفض ، ألغيتَ الشخصية ، وذاب الإنسان وأصبح مائعاً ، فيتشكل حينئذٍ في أيِّ إناء .
دعاهم إلى الخير ودلّهم عليه ، وثنّاهم عن الشر ، وأوصد دونهم أبوابه ، وأراهم الحق وزيَّنه لهم ، وبصّرهم بالباطل ، وكرَّه لهم إتيانه ، ونصح لله ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم .
له قصة مع سليمان بن عبد الملك ، يرويها ويقول : إني لواقف مع سليمان بن عبد الملك في جموع من الناس ، إذ رأيت رجلاً يتجه نحونا وسط الزحام ، وكان حسنَ الصورة ، جليلَ الهيئة ، فما زال يشق الصفوفَ ، وأنا ما أشكُّ أنَّه يروم الخليفة حتى حاذاني .
هو ظن أن الرجل الوقور يتَّجه نحو الخليفة ، فإذا به يتّجه نحوي ، ثم وقف إلى جانبي ، وحيَّاني ، وقال : يا رجاء ـ والخليفة يقف بجانبه ـ قال له : يا رجاء إنك قد ابتليت بهذا الرجل ، وأشار إلى الخليفة ، وإنّ في القرب منه الخير الكثير والشر الكثير ، فاجعل قربَك منه خيراً لك وله وللناس ، واعلمْ يا رجاء أنه مَن كانت له منزلة من السلطان فرفع إليه حاجة امرئٍ ضعيف لا يستطيع رفعها لقِيَ الله جل وعز يوم يلقاه ، وقد ثبَّتَ قدمَيْه للحساب .
أحياناً يكون للرجل صديق وهو مدير عام مؤسسة ، إنسان بمنصب حساس ، هذه العلاقة أنت مُحاسب عنها يوم القيامة ، يا ترى هل يوجد رجل مظلوم له مشكلة عند هذا الرجل العظيم ، وأنت صديقه ، إذا كانت هناك فائدة تجنيها من هذه العلاقة أنْ تنقل لهذا الإنسان الذي بيده الأمر ظُلامة ممَّن لا يستطيع نقلها إليه .
ليس هناك مَن لا أصحاب له ، ولا أصدقاء له ، أو قرابات ، أنت تعرف أناس مظلومين، والعلماء ما كانوا يجيزون لأنفسهم التقرُّب مِنَ الأمراء إلا من أجل رفع ظلامات المسلمين إليهم .
إذا كان لك علاقة مع إنسان قوي ، إنسان بيده الأمر ، فهذه العلاقة يجب أن توظفها في سبيل إنصاف المظلومين ، لا أن تحدثه بعلاقات ومودات وسهرات فقط من أجل أن تشعر بالأمن ، أنا فلان صديقي ، تشعر أنه لا أحد يقترب منك ، أنت لم تستغلَّ هذه العلاقة في خدمة المسلمين ، ولم توظفها لخدمة الحق ، إنما استخدمتها لتوهِمَ نفسَك أنك في أمن ، فلان صاحبك ، معك رقم هاتفه ، وقال لك: أخبرْني أيَّة ساعة تريد .
قال له : واذكر يا رجاء أنه مَن كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ، واعلم يا رجاء أنّ مِن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل إدخالَ الفرح على قلب امرئ مسلم .
مرةً قال لي طبيب كلمة كَبُر بها في نظري كثيراً ، قال : أنا ذقتُ كل ملاذ الدنيا ، لكن حينما أجري عملية ناجحة لإنسان ، ويشعر أنها نجحت ، ويبتسم ، أشعر بسعادة لا توصف .
العظماء أيها الإخوة ، لا يسعدهم إلا أن يسعد الناس بهم ، أما الصغراء فما دام بيتُهم فيه كل شيء ، وطعامهم جيد ، وأموالهم كثيرة ، فعلى الدنيا السلام ، لكنَّ عظماء الناس يسعدون بإسعاد الآخرين ، ويسعدون إذا رأوا البسمة على قلوب الناس .
زرت أخًا من إخواننا الكرام ، معه معرض عضال ، ورأيت أولاده في كآبة ، هذا الأخ الكريم تلقى هاتفًا من إنسان قال له : غداً قابل الطبيب الفلاني ، والعملية حسابُها مغطَّى ، لم يعرف إلى الآن مَن أخبره ، ذهب إلى الطبيب ، وقال له : العملية جاهزة متى تحب ، قال : بعد يومين ، زرته بعد حين فرأيت أولاده يقفزون من الفرح ، قلت : هذا الذي دفع ثلاثمائة ألف أدخل الفرح على هذه الأسرة ، الأب والزوجة والأولاد ، أليس ذلك أفضل من أن يعمل عرسًا في فندق ، ثم يدفع عشرين مليونًا ، أو عشرة ملايين ، أو مليون .. لا أحد يعرف مِن أين السعادة .. السعادة بإسعاد الناس ، أنْ تعيش في قلوبهم ، أن ترى البسمة على أفواه الصغار .. لذلك كلمة لا أنساها أبداً ، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
هناك إنسان كله خيرات ، كله معونة ، هناك شخص بنى نفسه على أنقاض الناس ، وعلى أخذِ ما في أيديهم ، وعلى بثِّ الرعب في قلوبهم ، هذا أشقى إنسان ، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، وفيما وظفك اللهُ عنده ..
مرة قال لي رجل : أنا عملي قذر ، وأيضاً تفلسف فقال : Dirty work، حكاها لي بالإنكليزي ، واللهُ يشهد أنّ له بيتًا ، ومركز عمل لا يُوصف بالفخامة ، قال لي : عملي قذر ، هذه هي الفطرة ، واعملْ عملاً كله شحم وزيت ، وأتقِنْه ، وخذ أجرة معتدلة ، هذا عمل نظيف ، كله شحم ، اغتسل في المساء ، والبس لباساً أنيقاً في المساء ، إخواننا كُثُرْ أصحاب مصالح ، أنا أُكبرهم واللهِ ، يلبس ثوبًا أسود على أزرق على شحم ، ولكن انظر إليه في حفل عقد قران ، تراه يلبس ثوبا فخمًا ، وأنيقًا ومرتبًا ، درجة أولى ، هكذا يحبّ اللهُ الإنسانَ ، أن يكون صاحبَ مصلحة ، وقال : واللهِ لئن أمكنني الله منه لأفعلنّ ولأفعلنّ ولأضعنَّ السيف في عنقه ، ولم يمض وقتٌ طويل حتى أمكنه الله من الرجل ، وسيقَ إليه سوقاً ، فلما وقعت عيناه عليه كاد يتميز من الغيظ ، وهمَّ أن ينفذ وعيدَه بقتله ، وكان رجاء جالسًا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ الله عز وجل قد صنع لك ما تحبّ مِن القدرة عليه ، فاصنعْ لله ما يحبُّ من العفو .
استجاب الله لك الدعاء ، ونفّذ رغبتك ، وجعله بين يديك ، فالآن قابلْ هذا الإكرامَ من الله أنه مكنك منه ، قابِلْه بما يحبّ اللهُ عز وجل مِن العفو عنه ، فسكنتْ نفسُ الخليفة ، وسكتَ عنه الغضبُ ، وعفا عن الرجل ، وأطلق سراحه ، وأحسن إليه .
إخواننا الكرام ، وفي الحديث : عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة *
ومن طريق أبي نعيم بلفظ : عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة *
[كشف الخفاء للعجلوني ، عن أبي هريرة]
لا تكنْ إنسانًا يسبِّب الشر لإنسان " ليس منا من فرق " ، اجمع ، وقَرِّبْ بين الناس ، والتمسْ لهم العذر ، ودافعْ عنهم يرضَ عنك الله ، ولا تَبْنِ مجدَك على أنقاض الآخرين ، أشخاص كثر يرتفعون على أنقاض أناس آخرين ، فيحطِّم إنسانًا ، ويعلو هو ، يحطم جهةً ويعلو هو ، والإنسان هو هو ، ولو اختلف الزمان .
سنة إحدى وتسعين حجّ الوليد بن عبد الملك وبصحبته رجاء ، فلما بلغا المدينة زارا المسجد النبوي الشريف ، يرافقهما عمر بن عبد العزيز ، وقد رغِب الخليفة أن ينظر إلى الحرم النبوي نظرة أناة ورَوِيَّة ، إذْ كان عقَدَ العزمَ توسعَتَه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ، الآن يسع الحرم النبوي ما يزيد عن مليون مصلٍّ .
كانت الرغبة أن يوسِّعه إلى مائتي ذراع بمائتي ذراع ، فإذا الرجل زار الحرم النبوي الآن يرى أعمدة بيضاء هي الروضة ، وبعدها عمودين أخضرين مكتوب هذا حدود المسجد النبوي ، حتى تعرف حجم المسجد النبوي عندما كان رسول الله فيه ، بقدر أربع سجادات ، هؤلاء فتحوا العالم ، ونحن مليار ومائتا مليون !.. نسأل الله أنْ يعيننا ويساعدنا ..
فأُخرِجَ الناسُ من المسجد ليتمكّن الخليفة من تأمله (هكذا صدر الأمر) ، ولم يبق في المسجد غيرُ سعيد بن المسيب (هو رجل من التابعين) ، إذ لم يجرؤ الحرس على إخراجه (له هيبته) ، فأرسل عمر بن عبد العزيز إليه ، وكان يومئذ والياً على المدينة ، مَن يقول له : لو خرجتَ من المسجد كما خرج الناس (إذا أمكن) ، فقال سعيد بن المسيب : لا أغادر المسجد إلا في الوقت الذي اعتدتُ أن أغادره فيه كل يوم ، فقيل له : لو قمتَ فسلمتَ على أمير المؤمنين (طيِّب قفْ وسلِّم عليه) ، فقال : إنما جئت إلى هنا لأقوم للهِ رب العالمين ، هذا بيت الله ..
فلما عرف عمر بن عبد العزيز ما دار بين رسوله وسعيد بن المسيب جعل يعدل بالخليفة عن المكان الذي فيه سعيد (أخذه إلى الطرف الآخر حتى لا تنشأ مشكلة) ، وأخذ رجاء يشاغله بالكلام لِمَا كانا يعلمان من شدة عنفوان الخليفة (الخليفة عنده عنفوان شديد ، وهذا الرجل لا يخرج من المسجد الآن ، ولا يقف للسلام) ، فقال لهما الوليد : مَن ذلك الشيخ ؟ أليس هو سعيد بن المسيب ؟ قالا : بلى يا أمير المؤمنين ، وطفِقا يصِفَانِ من دينه وعلمه وفضله وتقواه (حتى يغطوا على بقائه وجلوسه) ، ثم قالا : لو عِلَم بمكان أمير المؤمنين لقام إليه ، وسلّم عليه ، ولكنه ضعيف البصر ، فقال الوليد : إني لأعلم من حاله مثلما تذكران ، وهو أحقُّ أن نأتيه ونسلِّم عليه ، ثم دار في المسجد حتى أتاه ، ووقف عليه وحيّاه ، وقال : كيف الشيخ ؟ فلم ينهض الشيخ من مكانه ، وقال : بنعمة من مكانه ، وله الحمد والمنة ، قال له : فكيف أمير المؤمنين وفَّقه الله لما يحبّه ويرضاه ، فانصرف الوليد ، وهو يقول : هذا بقيّة الناس ، هذه بقيّة السلف الصالح.
والخلفاء كانوا أتقياء .
ولما أفْضَت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك كان لرجاء بن حيوه عنده شأن يفوق شأنه عند سابقه ، الآن القصة دقيقة جداً ، أكبر هذه القصص أنه حدّث رجاء فقال : لما كان أول يوم جمعة من شهر صفر عام تسعة وتسعين ، كنا مع أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بدابق وكان قد أرسل جيشاً لجب إلى القسطنطينية ، بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك ، ومعه ابنه داود ، وطائفة كبيرة من آل بيته ، وقد آل على ألاّ يبرح مرج دابق حتى يفتح الله عليه القسطنطينية ، أو يموت .
سليمان عنده رغبة أن تُفتح على يديه القسطنطينية ، وكانت معقل الروم ، فلما اقترب موعد صلاة الجمعة توضأ الخليفة فأحسن الوضوء ثم لبس عمامة خضراء ، ونظر في المرآة نظرة معجب بنفسه ، مزهواً بشبابه ، وكان في نحو الأربعين من عمره ، ثم خرج ليصلي بالناس الجمعة ، فلم يرجع من المسجد إلا وهو موعوك (أصابته الحمى) ، ثم أخذ يثقل عليه المرض يوماً بعد يوم ، وقد سألني أن أظلّ قريباً منه ، فدخلتُ عليه ذات يوم فوجدتُه يكتب كتاباً ، فقلت : ما يصنع أمير المؤمنين ؟ قال : أكتب كتاباً أعهد به إلى ابني أيوب بالخلافة من بعدي ، فقلت يا أمير المؤمنين (اسمعوا دور الناصح ، دور بطانة الخير التي تدلّ على الخير ، وتعين عليه) قال : يا أمير المؤمنين إنّ ممّا يحفظ الخليفة في قبره ، ويبرئ ذمته عند ربه أن يستخلِف على الناس الرجل الصالح ، وإن ابنَك أيوب غلامٌ لم يبلغ الحلم بعد ، ولم يتبين صلاحه من طلاحه ، فتراجع ، وقال : إنه كتاب كتبته ، وأنا أريد أن أستخير الله فيه ، ولم أعزم عليه (قال : لم أقرر بعد) ، ثم مزق الكتاب .
التغت خلافة أيوب بهذه النصيحة .
ومكث بعد ذلك يوماً أو يومين ثم دعاني ، وقال : يا رجاء ما رأيك في ولدي داود ، فقلت : هو غائب مع جيوش المسلمين في قسطنطينية ، وأنت لا تدري الآن أحيٌّ هو أم ميت، فقال : فمَن ترى إذن يا رجاء ، قلت : الرأي رأي أمير المؤمنين ، وكنت أريد أن أنظر فيَمن يذكرهم لكي أستبعدهم واحداً واحداً حتى أصل إلى عمر بن عبد العزيز .
يعني كل أعمال سيدنا عمر بصحيفة رجاء ، هو الذي أقنع الخليفة باختياره .
فقال : كيف ترى عمر بن عبد العزيز ، قلت : واللهِ يا أمير المؤمنين مَا علمته إلا فاضلاً كاملاً عاقلاً بيناً ، قال : صدقت ، إنه والله لكذلك ، ولكنني إن ولّيته ، وأغفلت أولاد عبد الملك لتكوننّ فتنة ، ولا يتركونه يلي عليهم أبداً ، قلت : أشرك معه واحداً منه ، واجعله بعده، قال : واللهِ لقد أصبت ، فإنّ ذلك مما يسكنهم ، ويجعلهم يرضونه ، ثم أخذ الكتاب، وكتب بيده : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز ، إني ولّيته الخلافة من بعدي ، وجعلتها من بعده ليزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا ، واتقوا الله ، ولا تختلفوا فيطمع بكم الطامعون ، ثم ختم الكتاب، وناولني إياه ، ثم أرسل إلى كعب بن حازم صاحب الشرطة ، وقال : ادع آل بيتي فليجتمعوا (لأخذ البيعة) ، وأعلِمْهُم أن الكتاب الذي في يد رجاء هو كتابي ، ومُرْهُم أن يبايعوا لمَن فيه، قال رجاء : فلما اجتمعوا قلت لهم : هذا كتاب أمير المؤمنين ، قد عهد فيه للخليفة من بعده ، وقد أمرني أن آخذ منكم البيعة لمَن ولاه (ولكن لم يعرفوا من) ، فقالوا : سمعاً لأمر أمير المؤمنين ، وطاعة لخليفته من بعده ، وطلبوا أن أستأذن لهم على أمير المؤمنين للسلام عليه ، فقلت : نعم ، فلما دخلوا عليه قال لهم : إن هذا الكتاب الذي في يد رجاء هو كتابي ، وفيه عهدي للخليفة من بعدي ، فاسمعوا وأطيعوا لمَن ولّيتُ ، وبايِعوا لمَن سمّيت في هذا الكتاب ، فطفِقوا يبايعون رجلاً رجلاً ، ثم خرجتُ بالكتاب مختوماً لا يعلم أحد من الخلق ما فيه غيري وغير أمير المؤمنين ، فلما تفرّق الناس جاءني عمر بن عبد العزيز ، فقال : يا أبا المقدام ، إن أمير المؤمنين رجلٌ حسن الظن بي ، وكان يوليني من كريم بره وصافي وداده الشيءَ الكثير ، وأنا أخشى أن يكون قد أسندَ إليّ مِن هذا الأمر شيئاً ، فأنشدك الله ، وأسألك بحرمتي ومودتي ، أن تعلمني إنْ كان في الكتاب شيءٌ يخصني حتى أستعفيه من ذلك قبل فوات الفرصة ، فقلت له : لا واللهِ ما أنا بمخبرك حرفاً واحداً ممّا سألت عنه ، فتركني وتولى عني وهو غضبان .
ثم جاءني هشام بن عبد الملك ، قال : يا أبا المقدام إن لي عندك حرمة ومودة قديمة ، وإن لك عندي شكراً جزيلاً فأعلمني بما في كتاب أمير المؤمنين ، فإن كان هذا الأمر إليّ سكت ، وإن كان لغيري تكلمتُ ، فليس مثلي من يُنحى عن هذا الأمر ، (موقف معاكس تماماً) ، ولك عهدُ الله ألاّ أذكر اسمك أبداً ، فقلت : لا والله ، لا أخبرك بحرف واحد ممّا في الكتاب ، فانصرف وهو يضرب كفاً بكفٍّ ويقول : لمَن يكون هذا الأمر إذا أنا نُحّيتُ عنه ، أتخرج الخلافة من بني عبد الملك ، واللهِ إني لعيب أولاد عبد الملك .
ثم دخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يجود بروحه ، فجعلتُ إذ أخذته السكرةُ من سكرات الموت أحرِّفه نحو القبلة ، فكان يقول لي وهو يشهق : لم يأنِ ذلك بعد يا رجاء ، حتى فعلت ذلك مرتين ، فلما كانت الثالثة قال : الآن يا رجاء إن كنتَ تريد أن تفعل شيئاً فافعله (يعني انتهى الأمر) أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فحرفته نحو القبلة ، فما لبث أن أسلم روحه لله ، عند ذلك أغمضتُ عينيه ، وسجّيته بقطيفة خضراء ، وأغلقتُ الباب عليه ، وخرجتُ ، فأرسلتْ إليَّ زوجتُه تسألني عنه ، وتطلب مني أن أخبرها عن حاله، فقلت لها ، شققتُ عنه الباب وقلتُ لرسولها ، انظر إليه ، لقد نام الساعة بعد سهر طويل ، فدعوه ، فرجع فأخبرها ، فقبلت ذلك ، وأيقنت أنه نائم ، ثم أحكمتْ إغلاق الباب وأجلستْ عنده حارساً أثِقُ به ، وأوصيته ألاّ يتزحزح عن مكانه حتى أعود ، وألاّ يُدخل على الخليفة أحداً أبداً ، كائناً من كان ، ومضيتُ ، فلقيني الناس ، وقالوا : كيف أمير المؤمنين ؟ قلت : لم يكن منذ مرض أسكنَ منه الآن ، ولا أهدأ ، فقالوا : الحمد لله ، ثم أرسلتُ إلى كعب بن حازم صاحب الشرطة ، فجمع أهلَ بيت أمير المؤمنين جميعاً في مسجد دابق ، فقلت : بايعوا لمَن في كتاب أمير المؤمنين ، قالوا : قد بايعنا مرةً أنبايع أخرى مرةً ثانية ، فقلت : هذا أمر أمير المؤمنين ، بايعوا على ما أمر به ، ولمَن سمّى في هذا الكتاب المختوم ، فبايعوا رجلاً رجلاً، فلما رأيت أني قد أحكمت الأمر قلت : إن صاحبَكم قد مات ، وإنّا لله وإنا إليه راجعون ، وقرأت عليهم الكتاب ، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز ، نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبداً ، فقلت : إذاً والله تُضربُ عنقُك ، فقام يجرّ رجليه ، فلما انتهى إلى عمر قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وهو يسترجع لنصيب الخلافة إلى عمر دونه ، ودون إخوته من أولاد عبد الملك ، وقال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وكان يسترجع لمصير الخلافة إليه على كره منه .
فكانت بيعة جَدَّد اللهُ فيها للإسلام شبابه ، ورفع للدين منارَه ، فطوبى لخليفة المسلمين على هذه التولية ، وطوبى لرجاء على هذه النصيحة .
هذا رجل من التابعين ، كان وزيراً لعدد من خلفاء بني أمية ، وكان ناصحاً أميناً من بطانة الخير ، يدل على الخير ويعين عليه
طالب عفو ربي
08-05-2009, 07:04 PM
سعيد بن جبير
التابعي هو سعيد بن جبير ، قال عنه الإمامُ أحمد بن حنبل : لقد قتل سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا ومحتاج إلى علمه . قصة هذا التابعي تثير تساؤلات كثيرة ، لكن أنا أضع بين أيديكم دقائقها وتفاصيلها، وبإمكانكم أن تستنبطوا أشياء كثيرة ، أحد أكبر الأشياء التي ينبغي أن تستنبط من هذه القصة ، أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ابتلاء .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image001.gif
( سورة الانشقاق : 6 )
الإنسان حينما يوطِّن نفسه على أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، ويرضى بكل شيء ، فكان هذا التابعي فتًى وفيق الجسم ، مكتمل الخلق ، متدفقاً حيوية ونشاطاً ، وكان ذكي الفؤاد ، حاد الفطنة، نزّاعاً إلى المكارم ، متأثماً من المحارم ، شديد الخوف أن يقع في الإثم ، لكنه كان أسود اللون ، شعره مفلفل ، لأن أصله حبشي ، هذا الأصل الحبشي ، ولونه الأسود ، وشعره المفلفل ، وأنفه الأفطس ، ما كان لينال من مكانته الرفيعة بين المسلمين ، هذا مجتمع المسلمين ، مجتمع المقياس الواحد ، مقياس التقوى.
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image002.gif
( سورة الحجرات : 13 ) .
وما لم يكن هذا المقياس سائداً في المجتمع فالمجتمع متخلف ، وأيّة قيمة يوزن بها الإنسان غير قيمة العلم والعمل والتقوى ، فهذا دليل تخلف المجتمع ، وكان سعيد بن جبير حديثَ السن ، حبشي الأصل ، عربي الولاء ، أدرك أن العلم وحده هو الذي يرفعه ، وأن التقى وحدها هي التي تكرمه ، وتبلغه الجنة ، لذلك قالوا : تعلموا العلم ، فإن كنتم سادةً فُقْتُمْ ، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم ، وإن كنْتُم سوقةً عِشْتُم .
لو فرضنا إنسانًا والده شخص عاديّ ، فقير لا في مال ، ولا في جاه ، يا ترى طريق المجد مفتوح أمامه على مصراعيه ؟ من خلال العلم ، فأي إنسان لو كان والده من الطبقة الدنِيا في المجتمع ، لو كان فقير مدقعًا ، من الطبقة التي لا يُؤْبَهُ لها ، لكنه إذا سلك طريق العلم تألّق نجمه ، وعلا اسمُه ، وأصبح يشار إليه بالبنان .
أدرك هذا الفتى أن العلم هو الطريق الوحيد إلى الرفعة ، وأن التقى هي الطريق الوحيدة إلى الجنة ، طبعاً الطريق تذكر وتؤنث ، فجعل التقى عن يمينه ، والعلم عن شماله ، وشدّ عليهما بكلتا يديه ، وانطلق يقطع بهما رحلة الحياة ، غير وَانٍ ولا متمهل، هو أساساً سبب سعادة الإنسان الكبرى أن يتخذ قراراً ناجحاً ، فمنذ نعومة أظفاره كان الناس يرونه إمَّا عاكفاً على كتاب يتعلم ، أو صافًّا في محراب يتعبد ، فهو بين طلب العلم والعبادة ، إما في حالة تعلم ، أو في حالة تعبد ، والتعلم غذاء العقل ، والتعبد غذاء القلب ، والإنسان عقل وقلب وجسم ، لكن الجسم يستوي فيه مع الحيوان ، الجسم غذاؤه الطعام والشراب ، والعقل غذاؤه العلم ، والقلب غذاؤه التعبد ، دَعُونا من الجسم ، لأنه قاسم مشترك مع كل المخلوقات ، وبقي الإنسانُ عقلاً وقلبًا ، فالذكر والعبادة والصلاة والتلاوة تغذِّي القلب ، والعقل العلم والفهم والدليل والحجة والإطلاع والمطالعة والسماع والقراءة تغذيه أيضًا ، فاتخذ قرارًا حكيمًا طريقه للمجد ، العلم والتقوى ، العلم والعمل ، هذا مقياس الله عزوجل .
أخذ هذا الفتى العلم عن طائفة مِن جلّة الصحابة ، مِن أمثال أبي سعيد الخدري ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة الدوسي ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة أم المؤمنين ، رَضِي اللَّه تعالى عَنْهم أجمعين ، لكن أستاذه الأكبر ، ومعلمه الأعظم ، كان عبد الله بن عباس ، حبر الأمة ، وبَحر علمها الزاخر ، لزِم سعيدُ بن جبير عبدَ الله بن عباس لزومَ الظلِّ لصاحبه ، فأخذ عنه القرآن وتفسيره ، والحديث وغريبه ، وتفقّه على يديه في الدين ، وتعلّم منه التأويل ودرس عليه اللغة ، فتمّكن منها أعظم تمكين ، حتى غدا الآن - دققوا - وما على ظهر الأرض أحد من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلى علمه ، لقد بلغ القمة ، ثم طاف في ديار المسلمين بحثاً عن المعرفة ما شاء الله أن يطوف ، فلما اكتمل له ما أراد من العلم اتخذ الكوفة له داراً ومقاماً ، وغدا إلى أهلها معلماً وإماما ، وكان يؤم الناس في رمضان ، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وكان جامعًا للقراءات ، وأخرى بقراءة زيد بن ثابت ، وثالثة بقراءة غيرهما ، وهكذا ، وكان إذا صلى منفرداً ربما قرأ السورة الطويلة من القرآن ، وكان إذا مرّ بقول الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image003.gif
( سورة غافر : 70 ـ 72 ) .
أو مرَّ بنحوها من آيات الوعد والوعيد اقشعر جلده ، وتصدع فؤاده ، وهملتْ عيناه ، ثم لا يزال يبدأ فيها ويعيد حتى يوشك أن يقضي نحبه ، فصلاة الليل أحد أكبر مصارد سعادته ، إلى الآن المواقف رائعة جداً ، وقد دأَب على شدِّ رحاله إلى بيت الله الحرام كل عام مرتين ، مرةً في رجب محرِماً بعمره ، وأخرى في ذي القعدة محرِماً بحج ، وقد كان طلاب العلم والخير والبِّرِّ والنصح يتوافدون على الكوفة لينهلوا من مناهل سعيد بن جبير العذبة ، ويغترفوا من هديه القويم، فهذا يسأله عن الخشية ، ما هي ؟ فيجيبه : الخشية أن تخشى الله عز وجل حتى تحول خشيتك بينك وبين معاصيك ، ومَن هو الذي يخشى الله ؟ هو الذي لا يعصيه ، فإذا حالت الخشية بينك وبين معاصيك فأنت ممَّن يخشى الله ، وإذا سئل عن الذِّكر ما هو ؟ يقول : الذكر طاعة الله عز وجل ، فمَن أقبل على الله ، وأطاعه فقدْ ذكَره ، ومَن أعرض عنه ، ولم يطِعْه فليس له بذاكر ، ولو بات ليلة يسبِّح ويتلو .
لقد وَضَعَ يده على جوهر الدين ، فما دام هناك مخالفات ومعاصٍ ، لو أمضيت ليلة بكاملها تسبح وتتلو وتقرأ ، فهذا لا يعبأ به أحد ، الأصل أن تؤدِّيَ الواجبات ، وأن تعطيَ الحقوق ، وقد كانت الكوفة حينما اتخذها سعيد بن جبير دارَ إقامةٍ له خاضعةً للحجاج بن يوسف الثقفي ، فيجب على أهل العلم أن يكونوا في معزل عن الوحول ، عن وحول الأحداث اليومية ، والصراعات ، والأخذ والرد ، لأنهم إذا اقتربوا من هذه المنطقة الخطرة ربما ضَحَّوْا بعلمهم ، أو ربما قطعَ خيرهم ، فالأَوْلى أن يصون أهلُ العلم علمَهم عن الابتذال ، وكان الحجاج والياً على العراق والمشرق وبلاد ما وراء النهر ، وكان يتربّع حينئذٍ على ذروة سطوته وسلطانه ، وذلك بعد أن قَتَلَ عبدُ الله بنُ الزبير ، وقَضَى على حركته ، وأخْضعَ العراقَ لسلطان بن أمية ، وأخمد نيران الثورات القائمة هنا وهناك ، وأعمل السيف في رقاب العباد ، وأشاع الرعب في أرجاء البلاد ، حتى امتلأت القلوبُ رهبةً منه ، وخشيةً من بطشه ، كلكم درس في الصف العاشر خطبته الشهيرة : أما بعد ؛ فإني قد رأيت رؤوساً قد أينعت ، استوت يعني ، وحان قطافها ، وإني لصاحبها ، له خطبة شهيرة جداً ، ونحن لا يعنينا الحجاج ، فليس من أهل العلم ، لكن يعنينا أن يَحدُث تداخلٌ بين أهل العلم وأهل الحكم ، ثم شاء الله أن يقع صدامٌ بين الحجاج بن يوسف الثقفي وبين عبد الرحمن بن الأشعث ، أحد كبار قوّاده ، فكيف حصل هذا الخلاف ؟.
الآن نحن مضطرون أن ندرس جانباً ممَّا نشب مِن خلافٍ بين الحجاج وبين هذا القائد ، لأنه هناك مداخلة في هذا الموضوع ، بين سعيد بن جبير ، وبين أحداث الخلاف بين الحجاج ، وبين قائده الكبير الأشعث ، أحد كبار قواده .
سيَّر الحجاجُ ابنَ الأشعث بجيش لغزو رتبيل ، ملك الترك على المناطق الواقعة وراء جسستان ، فغزا القائد الباسل المظفر شطراً كبيراً من بلاد رتبيل ، واحتل حصوناً منيعة من ديارهم ، وغنم مغانم كثيرة من مُدُنِه وقُراهُ ، ثم بعث إلى الحجّاج رسلاً زفّوا له البشائر ، بشائر النصر الكبير ، وحملوا معهم خُمس الغنائم لتستقر في خزائن بيت مال المسلمين ، وكتب له كتاباً استأذنه فيه بالتوقف عن القتال مدة من الزمن ، ليختبر مداخل البلاد ومخارجها ، ويقف على طبيعتها وأحوالها .
الحجاج كان واليًا على العراق وفارس وبلاد ما وراء النهر ، أرسل أحد أكبر قواده ابن الأشعث ليفتح بلاد الترك ، ما وراء النهر ، هذا القائد استجاب وقطع شوطاً كبيراً في الفتوحات ، واحتل حصونًا كثيرة ، وأرسل غنائم وفيرة إلى الحجاج ، ثم طلب من الحجاج أن يستأذنه أن يقف قليلاً كي يطّلع على مداخل هذه البلاد ومخارجها قبل أن يعيد الكَرَّة في الغد ، لماذا فعل هذا ؟ خاف أن يتوغل في شعابها القاسية المجهولة ، وخاف أن يعرض جيشه الظافر للمخاطر ، فاغتاظ الحجاج منه ، وأرسل إليه كتاباً يَصِفُه فيه بالجبن والخنوع ، وينذره بالويل والثبور ، ويهدِّده بالتنحية عن القيادة .
تذكُرون أن النبي عليه الصلاة والسلام عطَّل حكم قطع يد السارق في الحرب ! لماذا ؟ والله عز وجل يقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image004.gif
( سورة المائدة : 38 )
لكن الجندي إذا سرق في ساحة الحرب لا تُقطع يدُه ، بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام، لأنّ ثمّة إدراكًا بعيدًا جداً ، هذا الجندي وهو في ساحة المعركة لو وقع في جريمة سرقة، ونفّذنا عليه حكم قطع اليد ربّما انتقل إلى صف العدو قبل أن ينفَّذ فيه الحكم ، وانضمّ إليهم، وحارب معهم ، وأعطاهم أسرار المسلمين ، إذاً فحكمُ قطع اليد لا يُؤتِي أُكُلَه في الحرب، وهذا من إدراك النبي عليه الصلاة والسلام ، فلو أن الحجاج عرف أن هذا القائد الذي فتح البلاد، واحتل الحصون ، وأرسل الغنائم ، وقال : سأتوقف قليلاً لأختبر مداخل البلاد ومخارجها وشعابها وأوديتها ، قبل أن أُقْحِم الجيشَ الظافرَ المنتصرَ في المهالك ، فهذا كلام منطقي ، لكن الإنسانَ حينما يصل القمّة ربما لا يرى ، لأنه دائما إذا ما لم يكن الإنسان مع الله في اتصال دائم تضلُّ أعمالُه ، ولو كان ذكياً ، ويؤتى الحَذِرُ مِن مَأْمَنِه ، فالإنسان مهما كان ذكياً ، فقد يرتكب حماقة ربما لا يفعلها الغبيّ ، لأن الإنسان حينما يعتدّ بنفسه ، وحينما يرى قوته ، تكون هذه الرؤية المضلِّلة غشاوةً على عينيه ، فبدَلَ أن يشجعه ، وأن يثنيَ عليه ، وأن يوافق على مقترحه، وصَفَه بالجبن والخنوع ، وأنذَره بالويل والثبور ، وهدّده بالتنحية عن القيادة ، قائد جيشٍ معه جنود ، وبيده قوة في أطراف البلاد ، فجمع عبد الرحمن وجوهَ الجند ، وقادة الكتائب ، وهذه الحكمة مِن الحكمة أيها الإخوة الكرام للمؤمنين فقط ، لأنه لو كان الكافر يتمتع بحكمة ، وفهم ، وإدارك عميق ، وتوازن ، لَوَضَع الأمور في أماكنها ، ووقف الموقف المناسب ، لكن ما دام الإنسان مقطوع عن الله ، أو بعيدًا عن الله ، فلا بد أن يرتكب خطأً فاحشاً ، وحماقة كبيرة ، جمع عبد الرحمن وجوهَ الجند ، وقادة الكتائب ، وقرأ عليهم كتاب الحجاج ، واستشارهم فيه ، فَدَعَوْهُ إلى الخروج عليه ، والمبادرة إلى نبذِ طاعته ، فقال لهم عبد الرحمن : أتبايعونني على ذلك ، وتؤازرونني على جهاده ، حتى يطهِّر اللهُ أرضَ العراق من رجسه ، فبايعه الجند على ما دعاهم إليه ، وسوف ترون بعد قليل حروبًا طاحنة ، وآلاف القتلى ، وفتنًا سببها موقف غير حكيم من الحجاج ، هبَّ عبدُ الرحمن بن الأشعث بجيشه الممتلئ كراهيَةً للحجاج ، ونشبتْ بينه وبين جيوش الثقفي معارك طاحنة ، انتصر فيها نصراً مؤزراً ، فتمّ له الاستلاء على جسستان ، وجلِّ بلاد فارس ، ثم أقبل ابنُ الأشعث يريد انتزاع الكوفة والبصرة من يدي الحجاج ، وفيما كانت نيرانُ الحرب مشتعلة بين الفريقين ، وكان ابن الأشعث ينتقل من ظفرٍ إلى ظفر ، وقع للحجاج خطب زاد خصمه قوةً ، ذلك أن ولاة الأنصار كتبوا إلى الحجّاج كتباً قالوا فيها : إن أهل الذمّة قد طفقوا يدخلون في الإسلام ، ليتخلصوا من دفع الجزية ، وقد تركوا القرى التي يعملون فيها ، واستقرّوا في المدن ، وأنّ الخراج قد اضمحلّ ، وأنّ الجبايات قد أفلست .
هل تذكرون ماذا قال عمر بن عبد العزيز لما أرسل له أحد ولاته كتاباً أن هناك عددًا كبيرًا من أهل الذمة دخلوا في الإسلام ، فقَلَّت الجزية والدخل ، قال : واللهِ أتمنّى أن أعمل راعيَ غنمٍ أنا وأنت ، ويدخلُ الناسُ كلهم في الإسلام ، إنسان من أهل الذمة ، أعلن إسلامه ، وانضم للمسلمين ، لم يَعُدْ حينئذٍ مكلفًا بدفع الجزية ، فماذا فعل الحجاج ؟ كتب إلى ولاته في البصرة وغيرها كتباً يأمرهم فيها أن يجمعوا كل من نزح إلى المدن من أهل الذمة ، وأن يعيدوهم إلى القرى مهما طال نزوحهم عنها ، فصدع الولاة بالأمر ، وأجْلَوْا أعداداً كبيرةً من هؤلاء عن ديارهم ، وأبعدوهم عن موارد أرزاقهم ، وحشدوهم في أطراف المدن ، وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم ، ودفعوهم دفعاً إلى الرحيل إلى القرى ، بعد أن مضى على فراقهم لها حينٌ من الدهر، فأخذ النساءُ والولدانُ والشيوخُ يبكون ، ويستصرخون ، ويستغيثون ، وينادون : وا محمداه ، وحاروا فيما يفعلون ، وإلى أين يذهبون ، فخرج إليهم فقهاء البصرة ، وقراؤها ليغيثوهم ، ويشفعوا لهم ، فلم يتمكنوا من ذلك ، فطفقوا يبكون لبكائهم ، ويستغيثون لمُصابهم .
الآن اغتنم عبد الرحمن بن الأشعث القائد الذي انشق عنه هذه الفرصة ودعا الفقهاء والقراء إلى مؤازرته ، فاستجابت له كوكبة من جلّة التابعين ، وعلى رأسهم سعيد بن جبير ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والشعبي ، وغيرهم ، هنا النقطة ، ينبغي على أهل العلم أن يبتعدُوا عن معترك السياسة ، ودارت رحى الحرب بين الفريقين ، وكان النصرُ أولَ الأمر لابن الأشعث ومَن معه على الحجاج وجنوده ، ثم بدأت كفةُ الحجاج ترجح شيئاً فشيئاً ، حتى هزم ابن الأشعث هزيمة منكرة ، وفَرَّ ناجياً بنفسه ، واستسلم جيشه للحجاج وجنوده ، هنا بدأت القصة .
أمر الحجَّاجُ مناديَه أن ينادي في المقاتلين المهزومين ، وأن يدعوهم لتجديد بيعته ، فاستجاب أكثرهم له ، وتوارى بعضهم عنه ، وكان بين المتوارين سعيد بن جبير رَضِي اللَّه عَنْه وأرضاه ، فلما أخذ المسلمون يتقدمون تباعاً لبيعته فوجئوا بما لم يكن في حسبانهم ، فلقد جعل يقول للواحد منهم : أتشهد على نفسك بأنك قد كفرت بنقض بيعتك لوالي أمير المؤمنين ، فيجب أن يشهد على نفسه بالكفر ، فإن قال : نعم ، قَبِلَ منه تجديد بيعته ، وأطلق سراحه ، وإن قال : لا ، قَتَلَه ، فكان بعضهم يخضع له ، ويقرُّ على نفسه بالكفر ، لينقذ نفسه مِن القتل ، وكان بعضهم الآخر يستكبر ذلك ويستنكره ، فيدفع رقبته ثمناً لإبائه واستنكاره ، ولقد ذاعت أخبار تلك الحادثة التي قتل فيها أشخاص كثيرون ، ونجا منها أشخاص بعد أن دمغوا أنفسهم بالكفر ، مِن ذلك أن شيخاً معمَّراً من قبيلة خثعم ، كان معتزلاً للفريقين ، مقيماً وراء الفرات ، سِيق إلى الحجاج مع مَن سيقوا إليه ، فلما ادخل عليه سأله عن حاله ، فقال : مازلت منذ شبَت هذه النار معتزلاً وراء هذا النهر ، منتظراً ما يسفرُ عنه القتال ، فلما ظهرتَ وظفرتَ أتيتك مبايعاً ، فقال : تباً لك ، أتقعد متربصاً ، ولا تقاتل مع أميرك ، ثم زجره قائلاً : أتشهد على نفسك بأنك كافر ، قال : بئس الرجل أنا إنْ كنتُ عبدت الله ثمانين عاماً ، ثم أشهد بعد ذلك على نفسي بالكفر ، ليس الأمرُ معقولاً ، فقال له : إذاً أقتلك ، قال : وإنْ قتلتني ، فوالله ما بقي من عمري إلا ظمأ حمار ، يعني ساعات قليلة ، فإنه يشرب غدوة ، ويموت عشية ، وإني لأنتظر الموت صباحاً ومساء ، فافعل ما بدا لك ، فقال الحجاج لجلاده : اضرب عنقه ، فضرب الجلاد عنقه ، فلم يبق أحد في المجلس من شيعة الحجاج ، أو من عدوه إلا أكبر الشيخ المعمر ، ورثا له ، ثمانين سنة ثم أقول عن نفسي : إنني كافر ، ليس هذا معقولاً ، قال له : افعل ما بدا لك .
دعا كميل بن زياد النخعي ، وقال له : أتشهد على نفسك بالكفر ، فقال : والله لا أشهد ، قال: إذاً أقتلك ، قال : فاقضِ ما أنت قاض ، وإنَّ الموعد فيما بيننا عند الله ، وبعدَ القتل ، فقال له الحجاج : ستكون الحُجَّة يومئذٍ عليك، لا لك ، فقال له : ذلك إذا كنتَ أنت القاضيَ يومئذٍ ، فقال الحجاج : اقتلوه ، فَقَدِّم وقتل ، قُدِّم إليه رجل آخر كان يكرهه الحجاج أشدّ الكراهية ، ويشتهي أن يظفر بقتله ، لِما كان ينقل له من سخريته به ، فبادَره قائلاً : إني أرى أمامي رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر ، فقال له الرجل : لا تورطني ، وتخدعني عن نفسي ، أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد ، فخلّى سبيله ، وهو يتحرق ظمأً لقتله .
نحن هنا دخلنا في القصة مرة ثانية ، سعيد بن جبير إذا وقع بين يدي الحجاج فلا بد أن يقتله ، فإما أن تُدَقَّ عنقُه ، وإمّا أنْ يُقِرّ على نفسه بالكفر ، وهما أمران أحلاهما مرٌّ ، فآثر أن يخرج من بلاد العراق ، وأن يتوارى عن الأنظار ، وظلّ يضرب في أرض الله الواسعة مستخفياً عن الحجاج وعيونه ، حتى لجأ إلى قرية صغيرة مِن أراضي مكة ، وبقي على حاله هذه عشر حججٍ كاملات ، عشر سنوات وهو متخفٍّ ، كانت كافيةً أن تطفِئ نيران الحجاج المتّقدة في قلبه ، وأن تزيل ما في نفسه من ضغنٍ عليه ، بَيْدَ أنه حدث ما لم يكن يتوقعه أحد ، ذلك أنه قدم على مكة والٍ جديد من ولاة بني أمية ، هو خالد بن عبد الله القسري ، فتوجّس أصحاب سعيد بن جبير خِيفةً منه ، لِمَا كان يعرفون من سوء سيرته ، وتوقعوا الشرَّ على يديه ، فجاء بعضهم إلى سعيد ، وقال له : إنّ هذا الرجل قدِم مكة ، وإنا واللهِ لا نأمنه عليك ، فاستجبْ لطلبنا ، واخرجْ من هذا البلد ، فقال : واللهِ لقد فررتُ حتى صرتُ أستحي من الله ، ولقد عزمتُ على أن أبقى في مكاني هذا ، وليفعْل اللهُ بي ما يشاء ، لم يكذب خالدًا ظنُّ السوء الذي ظنه الناس به ، فما أنْ علِم بمكان سعيد بن جبير حتى أرسل إليه سرية من جنوده ، وأمرهم أن يسوقوه مقيداً إلى الحجاج في مدينة واسط ، فأطبق الجندُ على بيت الشيخ ، وألقوا القيد في يديه على مرأى من بعض أصحابه، وآذنوه بالرحيل إلى الحجاج ، فتلقاهم هادئ النفس ، مطمئنَ القلب ، ثم التفت إلى أصحابه ، وقال: ما أراني إلا مقتولاً على يد هذا الظالم ، ولقد كنتُ أنا وصاحبان لي في ليلة عبادة ، فاستشعرنا حلاوة الدعاء ، فدعونا الله بما دعونا ، وتضرّعنا إليه بما شاء مِن تضرع ، ثم سألنا الله جل وعز أن يكتب لنا الشهادة ، وقد رزقها اللهُ صاحبيَّ كليهما، وبقيتُ أنا أنتظرها ، ثم إنه ما كاد أن ينتهي من كلامه ، حتى طلعت عليه بُنَيَّةُ صغيرة له، فرأته مقيداً ، والجنودُ يسوقونه ، فتشبثت به ، وجعلت تبكي وتنشج ، فنحاها عنه برفق، وقال لها : قولي لأمك يا بنية إن موعدنا الجنة إن شاء الله تعالى ، ثم مضى ، فبلغ الجندُ بالإمام الحبر العابد الزاهد التقي النقي الورع واسطًا ، وأدخلوه على الحجاج .
فلما صار عنده ، نظر إليه في حقد ، وقال : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير ، فقال : بل شقي بن كسير ، قال : بل كانت أُمِّي أعلمَ باسمي منك ، هذا هو اسمي ، قال : ما تقول في محمد ؟ قال : تعني محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، قال : نعم ، قال : سيد ولد آدم ، النبي المصطفى ، خير من بقي من البشر ، وخير من مضى ، حمل الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح لله ولكتابه ، ولعامة المسلمين ، وخاصتهم ، قال : فما تقول في أبي بكر ؟ قال: هو الصديق خليفة رسول الله ، ذهب حميداً ، وعاش سعيداً ، ومضى على منهاج النبي صلوات الله وسلامه عليه ، لم يغيِّر ، ولم يبدل ، قال : فما تقول في عمر ؟ قال : هو الفاروق الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ، وخيرة الله من خلقه ، وخيرة رسوله ، ولقد مضى على منهاج صاحبَيْه ، فعاش حميداً ، وقتل شهيداً ، قال : فما تقول في عثمان ؟ قال : هو المجهِّزُ لجيش العسرة ، الحافرُ لبئر رومة ، المشتري لبيت لنفسه في الجنة ، صهر رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنتيه ، ولقد زوَّجه النبي بوحي من السماء ، وهو المقتول ظلماً ، قال : فما تقول في عليِّ ؟ قال: ابن عم رسول الله ، وأول من أسلم من الفتيان ، وهو زوج فاطمة البتول ، وأبو الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة ، قال : فأي خلفاء بني أمية أعجب لك ؟ قال : أرضاهم لخالقهم ، قال : فأيُّهم أرضى للخالق ؟ قال : علمُ ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم ، تحقيق طويل ، قال : فما تقول فيَّ ؟ قال : أنت أعلم بنفسك ، قال : بل أريد علمك أنت ، قال : إذاً يسوءك ولا يسرك ، قال : لا بد من أن أسمع منك ، قال : إني لأَعْلَمُ أنك مخالف لكتاب الله تعالى ، تُقدِم على أمور تريد منها الهيبة ، وهي تقحمك الهلَكَةَ ، وتدفعك إلى النار دفعاً ، قال : أمَا واللهِ لأقتلنك ، قال : إذاً تفسد عليَّ دنياي ، وأفسد عليك آخرتك ، قال : اختر لنفسك أي قتلة شئت ، قال : بل اخترها أنت لنفسك يا حجّاج ، فوالله ما تقتلني قتلة إلا وقتَلك اللهُ مثلها في الآخرة ، قال : أتريد أن أعفوَ عنك ، قال : إن كان العفو فمن الله تعالى ، أمّا أنت ، فلا أريده منك ، فاغتاظ الحجاج ، وقال : السيف والنطع يا غلام ، فتبَسَّم سعيد ، فقال له الحجاج : وما تبسُّمك ، قال عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك ، قال : اقتله يا غلام ، فاستقبل القبلة، وقال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image005.gif
( سورة الأنعام : 79 )
قال : حرِّفوه عن القبلة ، فقال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image006.gif
( سورة البقرة : 115 )
قال : كبُّوه على الأرض ، فقال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image007.gif
( سورة طه : 55 )
قال : اذبحوا عدو الله ، فما رأيت رجلاً أَدْعَى منه لآيات القرآن الكريم ، فرفع سعيد كفَّيه ، وقال: اللهم لا تسلِّط الحجاجَ على أحد بعدي ، قال : فلم يمضِ على مصرع سعيد بن جبير غيرُ خمسة عشر يوماً حتى حمَّ الحجاج ، واشتدت عليه وطأةُ المرض ، فكان يغفو ساعة ويفيق أخرى ، فإذا غفا غفوة استيقظ مذعوراً وهو يصيح : هذا سعيد بن جبير آخذ بخناقي ، هذا سعيد بن جبير ، يقول : فيمَ قتلتني ؟ ثم يبكي ، ويقول : مالي ولسعيد جبير ، ردّوا عني سعيد بن جبير، فلما قضى نحبه ، وورِي في ترابه ، رآهم بعضهم في الحلم ، فقال له : ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج ؟ قال : قتلني اللهُ بكل امرئ قتلة واحدة ، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة .
هناك استنباطات كثيرة ، لكن دائماً العلم يجب أن يُنَحَّى عن المعترك الأرضي ، هذا أكمل شيء له ، وإلا نكون قد ضيَّعنا الدعوةَ إلى الله عز وجل .
الشيء الثاني ، العبرة بهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، هذه لمَن كانوا على منهج الله ، لمَن كانوا على سنّة رسوله ، لمَن كانوا على الحق ، والعبرة أن الإنسان بعد الموت يدفع الثمن باهظًا ، وهذه القصة مؤلمة ، وتضفي على المجلس بعض الحزن ، لكن الحياة دار ابتلاء ، ودار سعي ، ودار امتحان ، وعلى كلٍ فعلى الإنسان أنْ يكون على منهج الله سائراً ، والحياةُ الدنيا لا قيمة لها ، والجرأة قلَّ مثيلُها بين الناس ، إنسان متمكن ، وأعصابه قوية ، يُدْلِي بالحُجّة ، ويقول الحق دون خوف ووَجلٍ ، ودون ارتباك وتردد ، هذا من آثار الإيمان ، لأن المؤمن حياته الدنيا يراها مؤقتة ، والآخرة هي الحياة الحقيقية ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-15_files/image008.gif
( سورة الفجر : 24 ) .
هذا معنى الحياة الأساسية ، حياة الآخرة ، فأنا أقول : هنيئاً لمَن كان على الحق ، ولتكن نهاية حياته ما تكون ، لأن العبرة بهذا الأبد المديد الذي لا ينتهي ، حيثُ يحكم فيه ملِكٌ عادل ، والدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البَرُّ والفاجر ، والآخرة وعدٌ صادقٌ ، يحكم فيه مَلِكٌ عادلٌ .
طالب عفو ربي
11-05-2009, 07:08 PM
الأشعث بن قيس الكندي
مقدمة
هو الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي أحد بني الحارث بن معاوية ويكنى أبا محمد... وإنما سمي الأشعث لشعوثة رأسه وكان اسمه معدي كرب فسمي الأشعث وغلب عليه هذا الاسم حتى عرف به...
ولد - رضي الله عنه - سنة 23 ق. هـ
وكان شريفا مطاعا جوادا شجاعا. له صحبة.
كان من ذوي الرأي والإقدام موصوفا بالهيبة هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه.
حاله في الجاهلية:
كان في الجاهلية رئيسا مطاعا في كندة...
وكان من ملوك كندة وهو صاحب مرباع حضر موت
وكان الأشعث بن قيس من أصحاب النبي، صلى اللّه عليه وسلم، وكان قبل ذلك ملكاً على جميع كندة، وكان أبوه قيس بن معدي كرب ملكاً على جميع كندة أيضاً، عظيم الشأن، وهو الذي مدحه الأعشى، - أعشى بني قيس بن ثعلبة - بقصائدة الأربع الطوال التي أولاهن لعمرك ما طول هذا الزمن، والثانية رحلت سمية غدوة أجمالها، والثالثة أأزمعت من آل ليلى ابتكارا، والرابعة أتهجر غانية أم تلم، وكان أبوه معدي كرب بن معاوية ملكاً على بني الحرث الأصغر بن معاوية في حضرموت...
عمره عند الإسلام:
كان عمره - رضي الله عنه - عندما أسلم 33 سنة حيث أنه ولد قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة وقدم بوفد كندة سنة عشر من الهجرة.
قصة إسلامه
عن الزهري قال قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بضعة عشر راكبا من كندة فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم مسجده قد رجلوا جمعهم واكتحلوا وعليهم جباب الحبرة قد كفوها بالحرير وعليهم الديباج ظاهر مخوض بالذهب وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تسلموا قالوا بلى قال فما بال هذا عليكم فألقوه فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشر أواق عشر أواق وأعطى الأشعث اثنتي عشرة أوقية...
وذكر الرشاطي أن الهمداني ذكر في نسب اليمن أن الشعبي ذكر عن رجل من قريش قال كنا جلوسا عند باب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد كندة فاستشرف الناس قال فما رأيت أحسن هيئة منهم فلما دخل رجل متوسط منهم يضرب شعره منكبه فقلت من هذا قالوا الأشعث بن قيس قال فقلت الحمد لله يا أشعث الذي نصر دينه وأعز نبيه وأدخلك وقومك في هذا الدين كارهين قال فوثب إلي عبد حبشي يقال له يحموم فأقسم ليضربني ووثب عليه جماعة دوني وثار جماعة من الأنصار فصاح الأشعث به كف فكف عني ثم استزارني الأشعث فوهب لي الغلام وشيئا من فضة ومن غنم فقبلت ذلك ورددت عليه الغلام قال فمكثوا أياما بالمدينة ينحرون الجزر ويطعمون الناس
يقول الأستاذ: منير الغضبان: قال (ابن القيم) في زاد المعاد: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري قال: ( قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين أو ستين راكباً من كندة(
ولم يأت وفد بهذه الضخامة وهذه الكثافة، وذلك لإثبات عزتهم ومنعتهم، وهو وفد يتناسب مع مقام الملوك، أما مظاهر أبهة الملك فكانت: فدخلوا عليه مسجده وقد رجلوا جممهم، واكتحلوا ولبسوا جباب الحبرات مكثفة بالحرير...
فهو ليس وفداً عادياً كبقية الوفود، وقد خطفوا أبصار الناس، وهمهم الأول أن يشعروا النبي صلى الله عليه وسلم بعزتهم وأنفتهم وعلى رأسهم سيدهم الأشعث بن قيس.
وكانت المقابلة التي هزت كيانهم كله:
فلما دخلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم تسلموا؟ قالوا: بلى، قال: فما هذا الحرير في أعناقكم؟ وماذا كان الجواب؟ هل استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيارة ثانية، وأن لا يعودوا في ألبستهم القادمة إليه؟ كان الجواب: فشقوه ونزعوه وألقوه
انظروا معي إلى هذا الوفد كله يمزق ثيابه، ويزيل أجمل ما فيها، ويفسد مظهر جبابهم كله؟ ! ترى لو كان هذا قبل الإسلام، وفي الجاهلية، ألا تقع حرب طاحنة دون هذا اللباس؟
وقام سيدهم الأشعث ليفخر أنه وقريش من أرومة واحدة فهم جميعاً أبناء الملوك، وهو بنو آكل المرار.
ثم قال الأشعث بن قيس: يا رسول الله نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار فالأشعث اليوم ومعه كندة بأسرها تريد أن تتقرب بالنسب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسن تصرفهم، واستجابتهم لله ورسوله لكنه لن يطمس حقيقة النسب، وأراد بحكمته صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم بعد هذه الوحشة.
) فابتسم (أو ضحك) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ناسب بهذا النسب ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن بنوا النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا
ولا علاقة لقريش بآكل المرار، وإن كانت إحدى جدات النبي صلى الله عليه وسلم من بني أكل المرار من كندة دعد بنت شريد بن ثعلبة أم كلاب بن مرة) لكن سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لا يتبع نسب أمه، بل يتبع نسب أبيه، ولا ينتفي منه، فهو من قريش.
ووقف الأشعث بن قيس موقفاً عظيماً يحمد له، وقال: ( لا أوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد).
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
مما لا شك فيه أن للنبي صلى الله عليه وسلم أثرا كبيرا في تربيته ولكن لا توجد نصوص بعينها تُنقل في هذا السياق ولعل ذلك يأتي في مرحلة الصياغة للأبحاث إن شاء الله تعالى.
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعلمه المساواة والتواضع:
يقال: إن الأشعث بن قيس الكندي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتكافأ دماؤنا؟ فقال: نعم لو قتلت رجلاً من باهلة لقتلتك به - وباهلة هي قبيلة مرذولة في العرب -
أهم ملامح شخصيته
القيادة: حيث كان ملكا على قومه في الجاهلية والإسلام.
الكرم والسخاء: يظهر هذا من موقفه عندما تزوج أخت سيدنا أبي بكر الصديق، ونحر من نوق المدينة الكثير حتى ظن الناس أنه ارتد، فأطعم الناس وأعطى أصحاب النوق أثمانها. وهذا أحد مواقف كرمه:
قال شريك بن عبد الله سمعت أبا إسحاق يقول صليت بالأشاعثة صلاة الفجر بليل فلما سلم الإمام إذا بين يدي كيس وحذاء نعل فنظرت فإذا بين يدي كل رجل كيس وحذاء نعل فقلت ما هذا قالوا قدم الأشعث بن قيس الليلة فقال انظروا فكل من صلى الغداة في مسجدنا فاجعلوا بين يديه كيسا وحذاء نعل...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن الأشعث بن قيس قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من قومي لا يروني أفضلهم فقلنا يا رسول الله إنا نزعم أنكم منا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا نحن بنو النضر بن كنانة لا ننتفي من أبينا ولا نقفوا أمنا قال الأشعث لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته رواه ابن ماجة...
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَقَالَ الْأَشْعَثُ فِيَّ كَانَ وَاللَّهِ ذَلِكَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ لَا فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَنْ يَحْلِفَ فَذَهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ { حديث رقم 20835}
الأشعث بن قيس الكندي بشر بغلام وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم..
عن الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ فَقَالَ لِي هَلْ لَكَ مِنْ وَلَدٍ قُلْتُ غُلَامٌ وُلِدَ لِي فِي مَخْرَجِي إِلَيْكَ مِنْ ابْنَةِ جَدٍّ وَلَوَدِدْتُ أَنَّ مَكَانَهُ شَبِعَ الْقَوْمُ قَالَ لَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِمْ قُرَّةَ عَيْنٍ وَأَجْرًا إِذَا قُبِضُوا ثُمَّ وَلَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ إِنَّهُمْ لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ إِنَّهُمْ لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ { مسند أحمد - حديث رقم 20838 }
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَتَغَدَّى فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ادْنُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ أَوَلَيْسَ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ رَمَضَانَ فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُرِكَ { مسند أحمد - حديث رقم 4119 }
وقد استعمله عثمان رضي الله عنه على أذربيجان
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال شهدت جنازة فيها جرير والأشعث فقدم الأشعث جريرا وقال إني ارتددت ولم ترتد...
كان في الجاهلية رئيسا مطاعا في كندة وكان في الإسلام وجيها في قومه إلا أنه كان ممن ارتد عن الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم راجع الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق وأتى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسيرا
قال أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كأني أنظر إلى الأشعث ابن قيس وهو في الحديد يكلم أبا بكر وهو يقول فعلت وفعلت حتى كان آخر ذلك سمعت الأشعث يقول استبقني لحربك وزوجني أختك ففعل أبو بكر رضي الله عنه
قال أبو عمر رضي الله عنه أخت أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي زوجها من الأشعث بن قيس هي أم فروة بنت أبي قحافة وهي أم محمد ابن الأشعث...
لما خرج الأشعث بن قيس من عند أبي بكر بعد أن زوجه أخته سل سيفه فلم يبق في السوق ذات أربع من بعير وفرس وبغل وشاة وثور الا عقرها فقيل لأبي بكر انه ارتد فقال انظروا أين هو فإذا هو في غرفة من غرف الأنصار والناس مجتمعون اليه وهو يقول هذه وليمتي ولو كنت ببلادي لأولمت مثل ما يولم مثلي فيأخذ كل واحد مما وجد واغدوا تجدوا الأثمان فلم يبق دار من دور المدينة الا ودخله من اللحم فكان ذلك اليوم قد شبه بيوم الأضحى...
وشارك - رضي الله عنه - في فتح أصفهان مع النعمان بن مقرن...
فلما استخلف عمر خرج الأشعث مع سعد إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند واختط بالكوفة دارا في كندة ونزلها وشهد تحكيم الحكمين وكان آخر شهود الكتاب...
موقفه في حرب صفين ونصحه للأمة
قال أبو الصلت سليم الحضرمي: شهدنا صفين فإنا لعلى صفوفنا وقد حلنا بين أهل العراق وبين الماء فأتانا فارس على برذون مقنعا بالحديد فقال السلام عليكم فقلنا وعليك قال فأين معاوية؟ قلنا هو ذا فأقبل حتى وقف ثم حسر عن رأسه فإذا هو أشعث بن قيس الكندي رجل أصلع ليس في رأسه إلا شعرات فقال الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هبوا أنكم قتلتم أهل العراق فمن للبعوث والذراري أم هبوا أنا قتلنا أهل الشام فمن للبعوث والذراري الله الله فإن الله يقول { وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فقال له معاوية فما الذي تريد قال نريد أن تخلوا بيننا وبين الماء فوالله لتخلن بيننا وبين الماء أو لنضعن أسيافنا على عواتقنا ثم نمضي حتى نرد الماء أو نموت دونه فقال معاوية لأبي الأعور عمرو بن سفيان يا أبا عبد الله خل بين إخواننا وبين الماء فقال أبو الأعور لمعاوية كلا والله يا أم عبد الله لا نخلي بينهم وبين الماء يا أهل الشام دونكم عقيرة الله فإن الله قد أمكنكم منهم فعزم عليه معاوية حتى خلى بينهم وبين الماء فلم يلبثوا بعد ذلك إلا قليلا حتى كان الصلح بينهم ثم انصرف معاوية إلى الشام بأهل الشام وعلي إلي العراق بأهل العراق...
أثره في الآخرين دعوته - تعليمه
روى عنه قيس بن أبي حازم وأبو وائل والشعبي وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن عدي الكندي
روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أحاديث يسيرة وعن عمر بن الخطاب...وقد مرت مواقفه في معركة صفين ونصحه للمسلمين...
عن حيان أبي سعيد التيمي قال حذر الأشعث بن قيس الفتن فقيل له أخرجت مع علي قال ومن لك بإمام مثل علي...
ومما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ { مسند أحمد حديث رقم 20836 }
وفاته
عن حكيم بن جابر قال لما مات الأشعث بن قيس وكانت ابنته تحت الحسن بن علي قال الحسن إذا غسلتموه فلا تهيجوه حتى تؤذنوني فآذنوه فجاء فوضأه بالحنوط وضوءا
مات رضي الله عنه وأرضاه بالكوفة سنة أربعين أو إحدى وأربعين وهو ابن ثلاث وستين قيل: بعد قتل علي بن أبي طالب بأربعين ليلة...
وقال الهيثم بن عدي صلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما..
طالب عفو ربي
13-05-2009, 07:08 PM
سلمةُ بن دينار
سلمةُ بن دينار ، المعروف بأبي حازم ، يقول أحدهم عنه : " ما رأيت أحداً الحكمةُ أقربُ إلى فمه مِن أبي حازم " . في السنة السابعة والتسعين للهجرة ، شدّ خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الديار المقدسة ملبِّياً نداء ربه ، ومضت ركائبه تحثُّ الخطى من دمشق عاصمة الأمويين إلى المدينة المنورة ، فقدْ كان في نفسه شوقٌ إلى الصلاة في الروضة المطهرة ، وتَوقٌ إلى السلام على سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقد حفل موكبُ الخليفة بالقُرَّاء والمحدِّثين والفقهاء والعلماء والأمراء والقادة ، كما هي العادة ، فلما بلغ المدينة المنورة ، وحطَّ رحاله فيها ، أقبل وجوهُ الناس ، يعني علية القوم ، وذووا الأقدار للسلام عليه ، والترحيب به .
لكن سلمة بن دينار قاضي المدينة ، وعالمها الحجّة ، وإمامها الثقة لم يكن في عداد من زاروا الخليفة مرحَّبِين مسلِّمين ، وليس هذا جفاءً ، ولكنه موقف له ، ولما فرغ سليمان بن عبد الملك من استقبال المرحِّبين به ، قال لبعض جلسائه : إن النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن ، إذا لم تجد من يذكرها الفينة بعد الفينة ، ويجلو عنها صدأها .
وقد قال هذا النبي عليه الصلاة والسلام : إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال : تلاوة القرآن ، وذكر الموت *
(أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عمر)
ذكرت هذا مرات عديدة : في الدين كليات ثلاث ، كلية معرفية ، نشاط فكري ، تعلُّم ، عِلم، قراءة ، مُدارسة ، حضور مجلس علم ، تأمُّل ، تفكُّر ، هذا كله نشاط فكري ، وفي الدين نشاط سلوكي ، استقامة ، غضُّ بصر ، تحريرُ دخل ، إنفاق في الوجوه المشروعة ، ضبط لسان ، ضبط عين ، ضبط أذن ، ضبط يد ، سلوك ، السلوك له جانبان ، جانب سلبي ، الامتناع عن المعصية ، وجانب إيجابي ، وهناك كلية ثالثة في الدين ، كلية نفسية ، فالقلب لا بد أن يتصل بالله حتى يسعد ، وهذا بالذكر ، فالكليات الثلاث : تعلُّم ، ذِكْر ، عمَل ، فإذا وازن المسلم بين هذه الكليات الثلاث تَفوَّق ، أمّّا إذا طغت كُلِّيَّة على باقي الكليات ، دخل في تطرف ، نحن نريد التفوّق لا التطرف ، نريد للدين أن يعود كما بدأ ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ*
(رواه مسلم)
لن نرقى في هذا الدين إلا إذا توازنّا في النمو في كلياته الثلاث ، التعلُّم غذاء للعقل ، والسلوك والانضباط هي العبودية لله عز وجل ، والذكر ، والتلاوة ، والاستغفار والدعاء ، هذا غذاء القلب .
فالإنسان أحياناً قناعاته جيدة جداً ، ومعلوماته ممتازة ، وثقافته عميقة ، وفكره إسلامي ، وفهمُه جيد ، يشعر بضيق ، لأنّ ذِكرَه قليلٌ ، أحيانًا يكون ذكره جيدًا ، لكن معلوماته قليلة ، هذا صار عابدًا ، ولم يعُدْ عالمًا ، خيرُه قليل محدود ، أحيانًا يكون فكره جوّالاً ، وقلبه ذاكرًا ، لكنّ عمله محدود ، عندئذٍ لا يرقى ، ويأتي عليه وقت يشعر بافتقاره للعمل الصالح .
ملخص كلامي : لا نفلح إلا إذا نمَتْ مستوياتنا في الكليات الثلاث معاً ، إذا نمت معاً كان التفوق ، فإذا نمت واحدة على حساب الأخرى كان التفرق ، ونعوذ بالله من التفرق ، فهذا الخليفة قال : إن النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن ، إذا لم تجد من يذكّرها الفينة بعد الفينة ، ويجلو عنها صدأها ، فقالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال : أما في المدينة رجل أدرك طائفة من صحابة رسول الله يذكِّرنا ؟ نحن في المدينة ، أليس فيها رجل أدرك صحابة رسول الله ؟ ائتوني به كي يذكِّرني ، فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، ها هنا أبو حازم ، فقال : ومن أبو حازم ؟ قالوا : سلمة بن دينار ، عالم المدينة وإمامها ، وأحد التابعين الذين أدركوا عدداً من أصحاب رسول الله، فقال: ادعُوه لنا ، وترّفقوا في دعوته ، فذهبوا إليه ، ودَعَوه ، فلما أتاه رحّب به ، وأدنى مجلسه ، وقال له معاتباً : ما هذا الجفاء يا أبا حازم ؟ الآن الخليفة يعاتب هذا العالم التابعي ، قال : ما هذا الجفاء يا أبا حازم ؟ فقال : وأيّ جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين ؟ قال : زارني وجوهُ الناس ، ولم تَزُرْني ، فقال : إنما يكون الجفاء بعد المعرفة ، وأنت ما عرفتني قبل اليوم ، ولا أنا رأيتك ، فأيّ جفاء وقع مني ، الجفاء أساسه معرفة ، ليس هناك معرفة من قبل ، لا تعرفني ولا أعرفك ، فأيّ جفاء هذا ، فقال الخليفة لجلسائه : أصاب الشيخ في اعتذاره ، وأخطأ الخليفة في العتب عليه، أي جفاء هذا ، الجفاء عن معرفة ، لا أعرفك ولا تعرفني ، ثم التفت إلى أبي حازم ، وقال : إن في النفس شؤوناً أحببتُ أن أفضي بها إليك يا أبا حازم ، فقال : هاتها يا أمير المؤمنين ، واللهُ المستعانُ ، فقال الخليفة : يا أبا حازم ، أول سؤال ، الآن بدأ الحوار ، أحيانًا تُقام ندوة ، أو لقاء صحفي ، الآن حوار بين الخليفة ، وبين هذا التابعي الجليل ، قال : يا أبا حازم مالنا نكره الموت؟ والحقيقة ليس هناك إنسان لا يكره الموت ، إنه شيء مخيف ، إنسان ينتقل من بيت واسع ، فيه مِن الطعام ما لذّ وطاب ، وأمامه زوجته وأولاده ، وله كتبه وشأنه ومكانته ، ثم إلى قبر بباب صغير ، يضعون فوقه الحجر ، ويهيلون التراب عليه ، وانتهى الأمر.
قال يا أبا حازم ، مالنا نكره الموت ؟ فقال : لأننا عَمَّرنا دنيانا وخرّبنا آخرتنا - هذا السبب - فنكره الخروجَ من العمار إلى الخراب ، فقال الخليفة : صدقت ، وكل واحد أيها الإخوة ، وهذا شيء دقيق ، له أعمال طيبة ، له بذل ، له تضحية ، له إنفاق ، له دعوة ، له خدمة ، له إخلاصه، له شوقه ، فالموت ليس مخيفاً له أبداً ، تصور رجلاً بالعكس ، منتقل من بيت صغير، غرفة واحدة تحت الأرض ، لا يرى شمسًا ، وقد لازمتْه الرطوبة ، المرافق متخلفة جداً ، وبحَيٍّ مزعج جداً ، ضجيج ، هذا لمّا نُقِل إلى حيٍّ من الأحياء الجميلة جداً الهادئة ، داخل قَصرٍ مع حدائق ، أربع جهات مفتوحة ، أثاث فخم ، تدفئة مركزية ، تكييف مركزي ، كل شيء في بالقصر ، وفي أثناء هذه النقلة من غرفة تحت الأرض إلى هذا البيت الفخم ، والقصر المنيف ، هل يشعر بانقباض ؟ واللهِ المؤمن هكذا ، والنبيُّ أكد هذا المعنى ، قال : المؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ينتقل كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم ، إلى سعة الدنيا .
لذلك ما قرأت عن صحابي جليل تاريخَ حياته ، إلا رأيته في أسعد لحظات حياته عند لقاء ربه ، وإنْ لم تجعل أنت أيها الأخ ساعة لقائك مع الله أسعدَ لحظات حياتك ، فمعنى ذلك أنّ هناك خللاً في إيمانك ، كل حياتك من أجل هذا اللقاء ، لقائك مع الله .
لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ *
(متفق عليه)
الموت تحفة المؤمن ، والموت عرس المؤمن ، وكل هذا التعب ، وذاك النصب ، وهذه المجاهدة ، وتلك التكاليف ، وهذا الضبط ، وذاك الالتزام ، لهذه الساعة .
ثم أردف قائلاً : يا أبا حازم ، ليت شعري مالنا عند الله غداً ، قال : أعرِضْ عملك على كتاب الله عز وجل تجدْ ذلك ، قال : وأين أجد ذلك في كتاب الله تعالى ؟ قال : تجده في قوله عَلَتْ كلمته :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image001.gif
( سورة الانفطار : 13 )
الناس رجلان ، بَرٌّ تقيّ كريمٌ على الله ، وفاجر شقيٌّ هَيِّنٌ على الله :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image001.gif
أبداً ، فقال الخليفة : إذاً فأين رحمة الله تعالى ؟ فقال أبو حازم :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image002.gif
(سورة الأعراف : 56)
أحياناً الإنسان تكون رؤيته واضحة جداً ، فإذا هو يجيب عن سؤال ولا يتلجلج ، ولا يتَلَكَّأُ ، ولا يتَرَدَّد ، ولا يفكِّر ، إذا كنتَ أمام هذه العلبة ، وسئلتَ عنها ، وأنتَ تراها رؤية العين ، تراها شفافة ، فيها بطاقة خضراء ، مكتوب عليها شيء ، فإذا سئلت ، وأنت تراها تجيب مباشرة ، فأحياناً تكون الإجابة الفورية ، والواضحة ، النقية ، دليلَ العلم ، فالأمور عند أبي حازم واضحة جداً ، فقال الخليفة : ليت شعري ، كيف القدوم على اللهِ جل وعز غداً ، فقال أبو حازم : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسِيء فكالعبد الآبق يساق إلى مولاه سوقاً .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image003.gif
(سورة الغاشية : ـ 25 ـ 26)
إذا سافر الإنسان ، وفي هذا السفر تكلّم واشتَطّ ، وهاجم بلده ، ونال من بلده ، ثم جيء به إلى بلده ليحاسَب ، تراه يصعق :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image003.gif
(سورة الغاشية : ـ 25 ـ 26)
أما المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله ، وأما الكافر فكالعبد الآبق يُرَدُّ إلى مولاه ، فبكى الخليفة حتى علا نحيبُه ، واشتدّ بكاؤه ، ثم قال : يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ؟ قال : تَدَعُون عنكم السلطة ، وتتحلّون بالمروءة ، وليس هناك صفة أقسى ، وأشد ضررًا بالإنسان من السلطة ، ومن الكبر ، حتى إنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر ، ما الذي هو أكبر من الذنب ؟ قال : العجب العجب .
فقال الخليفة : وهذا المال ، ما السبيل إلى تقوى الله فيه ، أحيانًا الإنسان يتحرك ، بيده مالٌ يتصرف فيه تصرفًا غير شرعي ، فيستهلكه ، وينفقه على مَلَذّاته ، وعلى تحسين بيته ، والمال ليس له ، فهو دائماً في قلق ، وفي حجاب ، فإذا كانت علاقاتُ الإنسان المالية مضطربة ، وإذا كان دخله مشبوهًا ، وإنفاقه مشبوهًا ، وذمته ضعيفة ، ولا يدقق في الحلال والحرام لكسب المال، فهذا الإنسان معه حجاب دائم ، وقلق دائم ، ولنْ تصل إلى الله إلا بالورع .
سيدنا أبو حنيفة كان يجلس أو يقف مع رجل في ظل بيت ، فأخذه إلى الشمس ، إلى أشعة الشمس المحرقة ، فقال له الرجل : ابقَ في الظل ، قال : هذا البيت مرهون عندي ، وإني أكره أن أنتفع بظله .
هذا هو الورع ، ولذلك جاء في الحديث : ركعتان من رجل ورع أفضلُ من ألف ركعة من مخلط *
(الجامع الصغير عن أنس)
هذا شيء دقيق ، إذا كان الدخل مشبوهًا ، والإنفاق مشبوهًا ، فأنت في قلق دائم ، والطريق إلى الله غير سالك ، بل أنت في حجاب شديد ، ولن تستطيع أن تخرق هذا الحجاب إلا بالورع ، إلا أن تحاسب نفسك على القرش .
كان بعض الورعين الصالحين الخلفاء ، إذا تحدث في شأن خاص أطفأ القنديل الذي يُصرَف مِن حساب بيت مال المسلمين .
أيها الإخوة الكرام ، هذا كلام دقيق واضح ، وفّروا أوقاتكم ، فمن دون استقامة ، ومن دون ورع ، الطريق إلى الله غير سالك ، لكن بإمكانك أن تقرأ ، وتتثقف ، ويكون لك عواطف إسلامية، وفكر إسلامي ، أمّا تصل إلى الله ، وتقبل عليه ، ويقبَلك ، ويتجلّى عليك من دون ورع فهذا مستحيل ، وعلامة المؤمن أنّه لا يسمح لقرش واحد أن يدخل عليه ، قبل أنْ يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا .
سينا النبي عليه الصلاة والسلام ، انقطع عنه الوحي أسبوعًا أو أسبوعين ، قال كلمة تلفت النظر ، قال يا عائشة رأى تمرةً على سريره فأكلها ، قال يا عائشة لعلها من تمر الصدقة .
فعدم الدقة في تناول الطعام ، وعدمُ الدقة في تحرِّي الحلال ، وعدمُ الدقة في إنفاق المال تجعل بينك وبين الله حجابًا ، قال : يا أبا حازم وهذا المال ؟ خليفة وبين يديه أموال البلاد كلها ، وهذا المال ما السبيل إلى تقوى الله فيه ؟ فقال أبو حازم : إذا أخذتموه بحقه ، ووضعتموه في أهله ، وقسمتموه بالسوية ، وعدلتم فيه بين الرعية ، إنها أربعة أشياء ؛ أخذتموه بحقه ، ووضعتموه في أهله ، وقسمتموه بالسوية ، وعدلتم فيه بين الرعية .
الإنسان قد يبيع ويشتري حاجة فيها عيب كبير ، اشتراها زبون ولم ينتبه إلى العيب ، يقول البائع : ارتحنـا منها ، بِعتُها بثمنها العادي ، وهي ثمنهـا بهذه الحالـة أقل بكثير ، وما انتبه المشتري إلى العيب ، وأخذها وذهب ، وأنت مرتاح ! أنت أكلت مالاً حراماً ، فإذا اتقَّى اللهَ الباعةُ صار دخلهم حلالاً ، فإذا اشتروا به طعاماً صار طعامهم طيباً ، فإذا دعَوا اللهَ استُجِيبَتْ دعوتُهم ، أما إذا كان البيع والشراء فيه مخالفات شرعية فقد صار الدخل حرامًا ، وصار بذلك الطعام الذي يشتريه بهذا الدخل غيرَ طيّب ، فإذا دعا اللهَ عز وجل لم يستجَبْ له ، سبحان الله تسعة أعشار الطاعة بكسب المال ، فعندك مأخذان يُؤتَى الإنسان منهما ؛ يؤتى من كسب المال ، ومن إنفاقه ، ويؤتى من المرأة ، فالمؤمن الموفَّق يحصّن نفسه تحصينًا مضاعفًا ، شديدًا وحازمًا، من حيث كسب المال ، ومن حيث المرأة ، ويبالغ في غض البصر ، ولا يسمح لنفسه بخلوة بأجنبية ، ولا بكلمة ، ولا بعلاقة ، ولا باختلاط ، ولا بحديث ، ولا بمتعة ، ويبالغ في تحرِّي الحلال ، وفي إنفاق المال ، فإذا ضمِنْتَ لي كسب المال وإنفاقه ، وضمنتَ لي العفّة الكاملة ، فهذان أكبر مأخذين يؤخذ منها الإنسان ، فالشباب المأخذ الأول لهم المرأة ، والرجال الذين يعملون في التجارة مأخذهم الأول كسبُ المال .
أيها الإخوة الكرام : واللهِ أنا أشعر حين لا يبالي الإنسان بكسب المال ، ولا يتحرَّى طرق الحلال في ذلك ، أو يقع في شبهة صدقوني أنّ صلاته وصيامه وحجه وزكاته ، لا معنى لها.
مرة قص عليّ أخٌ قصة ، قال لي : هناك بائع يبيع بندورة ، نوع بستة ليرات والقصة قديمة، ونوع بليرتين ، جاء شخص فملأ كيسًا من نوع الستة ليرات ، ووضع في أعلى الكيس التي تبَاع بالليرتين ، والبائع مشغول ، والرجل ملأ كيسًا من خمسة كيلو من نوع الستة ليرات ، ووضع في أعلى الكيس التي تُبَاع بالليرتين ، قال له البائع : هذه البضاعة أخذتها من هنا ، فقال: نعم ، فهذا الشخص اعتبر دينه صفًار ، وإيمانه صفرًا ، وعلاقته بالله مقطوعة ، فلا تصدق إنسانًا يعرف الله ثم يغش ، ولا تصدق إنسانًا يعرف الله ثم يأكل مالاً حرامًا ، لذلك فالمؤمن الصادق ترتاح وتطمئن له ، لأن تعامله وفق الشرع ، ولا يمكن أن يأكل مالاً حراماً .
فقال الخليفة : يا أبا حازم أخبرني مَن أفضلُ الناس ؟ قال : أولوا المروءة والتقى ، قال : ومن أعدل الناس يا أبا حازم ؟ قال : كلمة حق يقولها المرء عند من يخافه ، وعند من يرجوه ، أنت في حياتك شخصان ؛ رجلٌ تخافه ، وآخرُ ترجوه ، وفي الأعمّ الأغلب هذان الرجلان لا تكون صريحاً معهما ، بل تجاملهم إلى أقصى الحدود ، وهذه المجاملة على حساب الدين ، أمّا صاحب المروءة فهو الذي يقول كلمة الحق ، ولا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image004.gif
( سورة المائدة : 54 )
هذا إنسان ترجوه ، وترجو عطاءه ، فتجامله ولو أخطأ ، ولو أساء ، ولو ظلم ، وتخاف أن يغضب إذا نبّهته ، وشخص آخر تخافه .
لذلك ورد في الحديث الشريف : من أعان ظالماً سلّطه الله عليه *
( الجامع الصغير عن أنس )
إذا أعان الإنسانُ ظالمًا ، فإنّ هذا الإنسان الذي أعان الظالم سيكون أول ضحاياه ، ويسلِطه الله عليه .
فقال الخليفة : ما أسرع الدعاء إجابة يا أبا حازم ؟ قال : دعاء المحسن للمحسنين ، قال الخليفة : ما أفضل الصدقة ؟ قال : جُهدُ المُقِلِّ يضعه في يد البائس ، من غير أن يُتبِعَه منًّا ولا أذى .
قال الخليفة : مَن أكْيَسُ الناس يا أبا حازم ؟ قال : رجل ظفر بطاعة الله تعالى فعمل بها ، فهو أكْيس الناس وأعقلهم ، إنسانٌ عرفً أمرَ الله فطبّقه ، كل شيء زائل إلا طاعة الله ، فاسمعوا الآية الكريمة :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image005.gif
(سورة الأحزاب : 71 )
من أكيس الناس ؟ فقال : رجل ظفر بطاعة الله تعالى فعمل بها ، ثم دلّ الناسَ عليها ، فقال الخليفة : مَن أحمق الناس ؟ قال : رجل انْساق مع هوى صاحبه ، وصاحبه ظالم ، فباع آخرته بدنيا غيره ، فإذا باع الإنسان آخرته بدنياه ، أقول فيها ما يقال ، فهذا منتهى الحمق ، قال الخليفة: هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم ، فتصيب منا ، ونصيب منك ، تنتفع من صحبتنا ، وننتفع من صحبتك ؟ قال : كلا يا أمير المؤمنين ، ما : قال لا ، كلا ، أداة ردع ، قال : ولمَ ؟ قال : أخشى أن أركن إليكم قليلاً ، فيذيقني الله ضعف الحياة ، وضعف الممات ، قال الخليفة : ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم ، فسكت ولم يجِبْ ، أعاد عليه القول : ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم نَقْضِها لك مهما كانت ، قال : حاجتي أن تنقذني من النار ، وأن تدخلني الجنة قال الخليفة : ذلك ليس من شأني يا أبا حازم ، قال : أبو حازم مالي من حاجة سواهما يا أمير المؤمنين ، واللهُ وصفَ المتقين قال :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image006.gif
(سورة الفرقان : من 63 ـ إلى 66) .
قال : يا أبا حازم ادعُ لي ، قال : اللهم إنْ كان عبدُك سليمان من أوليائك فيسِّره إلى خيرَي الدنيا والآخرة ، وإنْ كان من أعدائك فأصلحه ، واهدِهِ إلى ما تحب وترضى ، فقال أحد الحاضرين : بئس ما قلت منذ دخلتَ على أمير المؤمنين ، ما هذا ، وإن كان من أعدائك ؟ فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله ، وآذيته بهذا الكلام ، فقال أبو حازم : بل بئس ما قلت أنت ، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق بأن يقولوا كلمة الحق ، فقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image007.gif
( سورة آل عمران : 187) .
ثم التفت إلى الخليفة ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن الذين مضوا قبلنا من الأمم الخالية ، ظلُّوا في خير وعافية ، ما دام أمراؤهم يأتون علمائهم رغبة بما عندهم ، ثم وُجِد قوم من أراذل الناس تعلَّموا العلم ، وأَتَوْا به الأمراء يريدون أن ينالوا به شيئاً من عرض الدنيا ، فاستغنَتِ الأمراء عن العلماء ، فتَعِسوا ونَكَثُوا ، وسَقطوا من عين الله عز وجل ، فالعالم يجب أن يزهد بما عند الحاكم، والحاكم ينبغي أن يرغب بما عند العالم ، فإذا انعكست الآية انتهى العلم ، وإذا زهِد الحاكمُ بما عند العالم ، ورغب العالمُ بما عند الحاكم فقدْ سقط العلم .
قال : ولو أن العلماء زهدوا فيما عند الأمراء ، لرَغِب الأمراءُ في علمهم ، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء فزهِدوا فيهم ، وهانوا عليهم ، فقال الخليفة : صدقتَ ، زدني من موعظتك يا أبا حازم ، فما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فمه منك ، فقال : إنْ كنتَ من أهل الاستجابة فقد قلتُ لك ما فيه الكفاية ، وإنْ لم تكن من أهلها فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر ، فقال الخليفة : عزمتُ عليك يا أبا حازم أنْ توصيني ، قال نعم : أوصيك وأوجز ، عظِّم ربَّك عزوجل ونزِّههُ أن يراك حيث نهاك ، وأن يَفْقِدَك حيث أمرك ، ثمّ سلم وانصرف ، فقال له الخليفة : جزاك الله خيراً من عالم ناصح .
اجهد أن يراك حيث نهاك ، وألاّ يفتقدك حيث أمرك ، فما كاد أبو حازم يبلغ بيته حتى وجد أن الأمير قد بعث إليه بصرة مُلأتْ دنانير ، وكتب إليه يقول : أَنْفقها ولك مثلها كثيرٌ عندي ، فرَدَّها ، وكتب إليه يقول : يا أمير المؤمنين ، أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً ، ورَدِّي عليك باطلاً ، فواللهِ ما أرضى ذلك يا أمير المؤمنين لك ، فكيف أرضاه لنفسي ، ما أرضى لك أن تعطيني هذا المبلغ ، فكيف أرضاه لنفسي ، يا أمير المؤمنين إنْ كانت هذه الدنانير لقاءَ حديثي لك فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه الدنانير ، وإن كانت حقاً لي من بيت مال المسلمين فهل سوَّيتَ بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق .
وكان منزل سلمة ابن دينار مورداً عذباً لطلاب العلم والصلاح ، ولا فرق في ذلك بين إخوانه وطلابه ، فقدْ دخل عليه مرة عبد الرحمن بن جرير ومعه ابنه ، وأخذا مجلسهما عنده ، وسلّما عليه ، ودعَوا له بخيرَي الدنيا والآخرة ، فردّ التحية بأحسن منها ، ورحّب بهما ، ثم دار بينهم الحديث ، قال عبد الرحمن ابن جرير : كيف نحظى بالفتوح يا أبا حازم ؟ الفتوح بمعنى فتوح القلب ، يعني اليقظة ، والاتصال بالله ، فقال أبو حازم : عند تصحيح الضمائر تُغفَر الكبائر، وإذا عزم العبدُ على ترك الآثام فتحَ عليه ، ولا تنسَ يا عبد الرحمن أن يَسِيرَ الدنيا يشغلنا عن كثير الآخرة .
قلت لأحدهم من يومين : أحياناً الإنسان يكون متلبِّسًا بمعاصٍ كثيرة ، فهذا محجوب ، فالمقدمة تكافئ النتيجة ، لكن الألم والندم لإنسان طاهر مستقيم ، مشغول بربه عز وجل ، فلا شيء يشغله ، ولا معاصي كبيرة حجبته عن ربه.
وكما قال أبو حازم : ولا تنسَ يا عبد الرحمن أن يَسيرَ الدنيا يشغلنا عن كثير الآخرة ، وكل نعمة لا تقرِّبك من الله عز وجل فهي نقمة ، فقال له ابنه : إن أشياخنا كثيرون ، فبمن نقتدي منهم؟ قال : يا بني اقتدِ بمَن يخاف الله في ظهر الغيب ، ويَعِفُّ عن التلبُّس بالعيب ، ويصلح نفسه في أوان الصبا ، ولا يرجئ ذلك إلى عهد الشيب ، واعلم يا بني أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس، إلا ويقبل على طالب العلم هواه وعلمه ، ثم يتغالبان في صدره تغالبَ المتخاصمَيْن ، فإذا غلب علمُه هواه كان يومُه يومَ غُرم له ، وإذا غلب هواه علمَه كان يومُه يومَ خسران عليه .
كلكم طلاب علم ، هناك علم تعلمته من الكتاب والسنة ، وعندك رغبات ، فإذا غلب علمُك رغباتِك فهذا اليوم يومُ ربحٍ وغُرم ، وإذا غلب الهوى علمَك فهذا اليوم يومُ خسارة .
قال له عبد الرحمن : كثيراً ما حضضتنا على الشكر يا أبا حازم ، فما حقيقة الشكر ؟ قال أبو حازم : لكل عضو من أعضائنا حقٌّ علينا من الشكر ، قال عبد الرحمن : وما شكرُ العينين ؟ قال : إن رأيتَ بهما خيراً أعلنته ، وإنْ رأيت بهما شراً سترته ، قال : فما شكرُ الأذنين ؟ قال : إن سمعت بهما خيراً وعيتَه ، وإنْ سمعتَ بهما شراً دفنته ، قال : فما شكرُ اليدين ؟ قال : ألاّ تأخذَ بهما ما ليس لك ، وألاّ تمنع بهما حقًّا مِن حقوق الله ، قال : ولا يَفُتْكَ يا عبد الرحمن أن من يقصُر شكرَه على لسانه ، ولا يشرك معه جميعَ أعضائه وجنانه ، فمَثلُه كمثل رجل له كساء غير أنه أخذ بطرفه ولم يلبسْه .
هناك شكر اللسان ، وشكر القلب ، وشكر العمل ، فمن الناس مَنْ يشكر بالكلام فقط ، يا رب لك الحمد ، لكن لا يخدم إنسانًا ، وليس في قلبه امتنان ، ولا في سلوكه ما يؤكد ذلك .
في ذات سنة نفَرَ سلمة بن دينار مع جيوش المسلمين المتجهة إلى بلاد الروم ، يبتغي الجهاد في سبيل الله ، فلما بلغ الجيش آخر مرحلة من مراحل السفر ، آثر الراحة والاستجمام ، قبل أن يلقى العدو ، ويخوض المعارك ، وقد كان في الجيش أميرٌ من أمراء بني أمية ، فأرسل هذا الأمير رسولاً إلى أبي حازم يقول له : إنّ الأمير يدعوك إليه لتحدثه ، وتفقِّهه ، فكتب إلى الأمير يقول : أيها الأمير ، لقد أدركتُ أهل العلم ، وهم لا يحملون الديَن إلى أهل الدنيا ، ولا أحسبك تريد أن أكون أولَ من يفعل ذلك ، فإنْ كانت لك بنا حاجة فأْتِنا ، والسلام عليك وعلى من معك ، فلما قرأ الأمير الرسالة مضى إليه وحيّاه وبيّاه ، وقال : يا أبا حازم ، لقد وقفنا على ما كتبتَه لنا ، فازددتَ به كرامةً عندنا ، وعزةً لدينا ، فذكِّرْنا وعِظْنا ، جُزيتَ عنا خيرَ الجزاء ، فطفِق أبو حازم يعظه ، ويذكّره ، وكان من جملة ما قاله له : انظر ما تحب أن يكون معك في الآخرة ، فاحرصْ عليه في الدنيا ، ماذا تحب أن يكون في قبرك ، العمل الصالح ، والاستقامة ، فاحرص عليهما في الدنيا ، وانظر ما تكره أن يكون معك هناك فازهدْ فيه هنا ، واعلم أيها الأمير أنه إن نفق الباطل عندك وراج أقبل عليك المبطلون المنافقون ، والتفّوا حولك ، وإن نفق عندك الحق وراج التفّ حولك أهلُ الخير وأعانوك عليه ، فاختَرْ لنفسك ما يحلو ، ولمّا أقبل الموتُ على أبي حازم قال له أصحابه : كيف تجدك يا أبا حازم ؟ فقال : لئِن نجَوْنا مِن شرِّ ما أصبناه من الدنيا فما يضرّنا ما زُوِيَ عنا منها ، ثم قرأ الآية الكريمة :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-16_files/image008.gif
(سورة مريم : 96) .
وما زال يردِّدها حتى أتاه اليقين .
فهذا هو أبو حازم ، سلمة بن دينار ، أحد التابعين الأجلاّء ، الذي أوتي الحكمة على لسانه ، وكأنه ينطق بها عفواً ، وله هذا الحوار الطويل مع سليمان بن عبد الملك ، ومع بعض أصدقائه وتلاميذه ، وفي كل كلمة قالها أبو حازم حكمةٌ ما بعدها حكمة ، وهذا العلم هو الذي ينفع الإنسان في الدنيا وفي الآخرة .
طالب عفو ربي
13-05-2009, 07:11 PM
ربيعة الرأي
تبدأ قصة هذا التابعي في السنة الواحدة والخمسين للهجرة ، وكتائبُ المسلمين تضرب فجاجَ الأرض مشرِّقةً مغرِّبةً ، حينما نفَّذ المسلمون قوله تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image001.gif
( سورة التوبة : 123 )
إلى أن عمَّ الهدى بقاعَ الأرض ، لقد كان المسلمون رعاةً للبقر ، فأصبحوا قادةَ الأمم ، وحينما انكمشوا وآثروا الراحة والسكون غُزُوا في عقر دارهم ، فكتائب المسلمين في السنة الواحدة والخمسين للهجرة كانت تغزو مشارق الأرض ومغاربها ، وتحمل للإنسانية العقيدة البانية ، وتمدّ إليها المصلحة الحانية ، وتجعل الولاءَ وحده لله تعالى .
والصحابي الجليل الربيع بن زياد الحارثي أمير خراسان ، وفاتح جسستان ، والقائد المظفر، يمضي على رأسِ جيشه الغازي في سبيل الله ، ومعه غلامه الشجاع فروخ .
هنا الشخصيـة الأولى في القصـة ، الصحابي الجليل الربيـع بن زياد الحارثي ، غلامه المخلص في فتوحاته وجهاده ، غلامه الشجاع فروخ .
هذا الصحابي الجليل عزم بعد أن أكرمه الله بفتح جسستان وغيرها من الأصقاع أن يختم حياته الحافلة بعبور نهر سيحون ، ورفع رايات التوحيد فوق ذرى تلك الأصقاع ، والتي كانت تسمى وقتها بلاد ما وراء النهر .
فهل من عمل أعظم من أن تنشر الهدى في الأرض ، نحن هنا في الشام لولا سيدنا خالد ما كنا مسلمين في شمال هذه البلاد ، وسيدنا عمر جاءه رسول عامله على أذربيجان ، فمن يحكم أذربيجان في عهد عمر ؟ عمر ، من عاصمة المدينة النبوية ، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي ، وكان سيدنا عمر عملاق الإسلام قد وصلتْ فتوحاتُه إلى أذربيجان .
فهذا الصحابي الجليل أراد أن يفتح بلاد ما وراء النهر ، فأعدّ للمعركة الموعودة عدتها ، واتخذ لها أهبتها ، وفرض على عدوه زمانها ومكانها فرضاً ، ودائماً الأمم الضعيفة والمخذولة تُفرَض عليها المعاركُ فرضاً ، تُفرض عليها أمكنتُها وأزمنتُها وأسلحتُها ، لكن الأممَ الظافرةَ تفرض على أعدائها المكانَ والزمانَ والسلاحَ ، ولما نشَبَ القتالُ أبلى هذا القائد الربيع وجنده بلاءً ما يزال يذكره التاريخ بلسان نديٍّ بالحمد ، لطيف بالإكبار ، وأظهر غلامه فروخ في ساحات الوغى من ضُروب البسالة ، وصنوف الإقدام ما زاد الربيع إعجابًا به ، وإكباراً له ، وانجَلَت المعركة عن نصر مؤزَّرٍ للمسلمين ، فزلزلوا أقدامَ عدوهم ، ومزّقوا صفوفه ، وفرّقوا جموعه.
إخواننا الكرام : كلمة حق ؛ المعركة بين حق وباطل قصيرة جداً ، لأن الله مع الحق ، والمعركة بين حقين لا تكون ، بل هي مستحيلة ، فالحَقّانِ لا يتصارعان ، والمعركة بين باطلين تدوم كثيراً ، فبين حقين مستحلية ، وبين حق وباطل قصيرة ، وبين باطل وباطل طويلة ، لأن الله مع المؤمنين ، وأكبر دليل المسلمون فتحوا الأندلس ، فلما مالوا للراحة والغناء والموشحات والجواري أُخرِجوا منها ، وكان آخر ملك خرج من الأندلس اسمه عبد الله الصغير ، وقد قالت له أمه عائشة :
***
ابكِ مثلَ النساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظْ عليه مثلَ الرِّجال
***
فهناك قوانين ، إذا كنتَ مع الله كان الله معك ، وإذا أردتَ نشر الهدى يعينُك الله يعينك ، إذا أقمتَ شرعَ الله يحفظك الله .
ثم عبَروا النهر الذي كان يحول دونهم ودون الانسياح في بلاد الترك ، ويمنعهم عن الاندفاع نحو أرض الصين ، والإيغال في مملكة الصغد ، فلما اجتازوا النهر وصلوا إلى معاقل الأتراك في أصل موطنهم ، وإلى بلاد الصين ، وامتدَّت الفتوحات إلى أقصى المشرق ، وما إِنْ عبَر القائدُ العظيمُ النهرَ ، واستقرَّتْ قدماه على ضفته الثانية حتى بادر وتوضأ هو وجنوده من مائه ، فأحسنوا الوضوء ، واستقبلوا القبلة ، وصلوا ركعتين شكراً لله واهب النصر .
إخوانا الكرام : إذا حققتَ إنجازَ في الحياة ، نجحتَ ، وتزوجتَ زوجةً صالحةً ، وتوظَّفتَ ، أسَّستَ عملاً ، فقد أُزِيلَتْ عقبة ، وانحلتْ عقدة ، وزال خطر ، وتبدَّد شبح المرض ، وأثبت التحليلُ أنَّ الجسمَ سليمٌ ، والنبي علّمنا أن نصلي لله ركعتي الشكر ، فطبِّقْ هذه السنة كلما حققت إنجازاً ، أو ارتقيت مكانة ، أو نلت مكسباً ، أو وصلت إلى هدف ، أو زال من أمامك عقبة ، أو تبدّد شبح مصيبة ، بادرْ إلى صلاة الشكر ، فلها معانٍ كثيرة ، أنت موحِّد ، ولن تغفل عن فضل الله ، ولن تعزو أمرًا إلى بَشَرٍ ، ولن تشرك ، فأنت وفيٌّ لمَن أنعم عليك .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image002.gif
( سورة إبراهيم : 7 )
فهذا القائد الربيع بعد أن عبر النهر ، وفتح هذه البلاد توضأ من ماء النهر هو وجنوده ، وصلَّوا لله ركعتان شكرًا على نعمة النصر ، ثم كافأ هذا القائد غلامه فروخاً على حسن بلائه فأعتق رقبته ، وأصبح حراً ، وأعطاه نصيبَه من الغنائم الكثيرة الوفيرة ، ثم زاده من ماله الخاص شيئاً كثيراً ، ولم تَطُلْ حياةُ هذا الصحابي الجليل كثيرا ، إذْ وافاه الأجلُ المحتومُ بعد سنتين اثنتين من تحقيق حلمه الكبير ، فمضى إلى ربه راضياً مرضياً .
إخوانا الكرام : واللهِ إني لكم لناصح : إنّ الدنيا تافهة ، ولا قيمة لها ، فقد أوحى ربك إلى الدنيا أنه مَن خدمك فاستخدميه ، ومَن خدمني فاخدُميه ، واللهِ ليس في الدنيا إلا عمل يرضي اللهَ، هذا الذي يموت ، وقد أرضى اللهَ قبل أن يموت ، فهذا لم يَمُتْ .
أنا زرت قبل أيام رجلاً له باع طويل في تعليم القرآن ، منذ خمسين عاماً وهو يعلِّم كتاب الله، صبحاً ومساءً ، ليلاً ونهاراً ، أُصيب بمرض عضال ، قلت لأولاده : واللهِ ليست هذه مصيبة، المصيبة أن يُمْضِيَ الإنسانُ أيامَه بالمعاصي ، ثم يأتيه مرض عضال ، ماذا يفعل ؟ انتهى ، المصير واضح ، لكن هذا الإنسان أمضى حياته في طاعة الله ، وفي الدعوة إليه ، وفي خدمة الخلق ، وطلب العلم وتعليمه ، وفي الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وخدمة أهل الحق ، هل هذا يعد خاسرًا ؟ الموت حق ، ولا بد أن يأتي .
وصل إلى بلاد ما وراء النهر ، ثم وافته المنية ، فهنيئاً له ، هذا ليس موتاً ، هذا عرس ، هذه تحفة ، أما الفتى الباسل الشجاع فروخ فقد عاد إلى المدينة المنورة ، يحمل معه سهمه الكبير من الغنائم ، والهبة السخية التي وهبها له القائد العظيم ، ويحمل فوق ذلك حريَّته الغالية ، لقد أصبح حراً ، وذكرياته الغنية بروائع البطولات المكللة بغبار المعارك ، أمّا هذا الغلام الحر الغني فعاد إلى المدينة دفّاق الحيوية ، ممتلئاً فتوةً وفروسية ، وكان يخطو نحو الثلاثين من عمره .
أنا أعجب واللهِ ، أعجب أن أرى فتىً لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً يقود جيشاً فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ، هؤلاء الصحابة فتيانهم من نوع آخر ! .
وقد عزم فروخ أن يتخذ لنفسه منزلاً يستقر فيه ، وزوجةً يسكن إليها ، فاشترى داراً في أوسط دور المدينة ، واختار امرأة راجحة العقل .
إخوانا الكرام : أول حق لأولادك عليك - هذا الكلام موجه للشباب بالدرجة الأولى - أول حق ، وأقدس حق لأولادك عليك أن تحسن اختيار أمهم ، فالمرأة العاقلة لا تقدَّر بثمن ، إنك إن اخترتَ امرأة عاقلةً ضمنتَ أسرة ناجحة ، وضمنتَ أولاداً مهذبين ، يكونون أعلامَ المجتمع ، فاختار فرُّوخ امرأة راجحة بالعقل ، كاملة الفضل ، صحيحة الدين ، تقاربه في السن ، واقترن بها .
لقد نَعِمَ فروخ بهذه الزوجة ، وبهذه السكينة ، ورأى في صحبة امرأته هناءة العيش ، وطيبة العشرة ، ونضارة الحياة ، وفوق ما كان يرجو ويأمل ، إلا أنه هنا بدأت العقدة ، فالإنسان الذي يعرف لماذا خلق في الحياة ، والذي يعرف قيمة الوقت ، لا يركن للنعيم في الدنيا ، خذوا هذا الكلام ، التافهون وحدهم الذين يركنون إلى الدنيا ، بيت واسع ، مفروش بأحدث الأثاث ، دخل كبير ، شاب في رَيعان الشباب ، زوجة شابة ، مركبة فخمة ، مكان آخر بالمصيف ، ماذا فعلت؟ أقول لك : ما فعلت شيئاً ، هذا وقت ثمين ، هذا الوقت يجب أن ينفق إنفاقًا استثماريًّا ، لا إنفاقًا استهلاكيًّا ، أكلنا ، وشربنا ، ونمنا ، وعملنا ، واستمتعنا ، وتنزهنا ، هذا استهلاك لرأس مالك الثمين .
كنتُ مرة في مكان جميل ، فرأيت بيتًا (فيلا) جميلاً جداً ، والمهندس الذي صممها على مستوى عالٍ جداً من الذوق ، والأناقة ، والإبداع ، فلت في نفسي : لو أن هذه الفيلا لكَ ، وسكنتَ فيها ، وتمَتَّعْتَ بهذه المناظر الجميلة يوم بعد يوم ، بعد يوم ، إلى أن يأتي الأجل ، ثم تذهب إلى الله مفلساً ، أمّا إذا جلست في المدينة ، وعملت الأعمال الصالحة ، وتأتي عند الله عز وجل لعله يرحمك بهذه الأعمال ، فالإنسان لا يستمرئ النعيم في الدنيا إلاّ إذا كان ضيق الأفق ، ضعيف العقل ، فحينئذ يستمرئ نعيم الدنيا لأنه مؤقت ، دققوا في قول النبي عليه الصلاة والسلام : يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلـوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها ، واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها ، ولا تسعَوْا في عمران دار قد قضى الله خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين *
(كنز العمال عن ابن عمر)
لأن الرخاء موقت ، والشقاء موقت .
فهذا فروخ رغم أن البيت في المدينة ، والزوجة كاملة ، وصالحة ، وحياة مريحة ، ومعه ثروة طائلة ، على الرغم من كل هذه الشروط الرائعة التي توافرت له ، بعد أن أعتقه سيده ، وبعد أن أبلى بلاءً حسناً في القتال ، وتلك الزوجة الصالحة ، على كل ما حباها الله من كل كريم الشمائل ، وجليل الخصائل لم تستطِع أن تغلب فروخاً على حنينه إلى خوض المعارك ، وإنّ خوض المعارك فيه رقيّ ، وأضرب مثلاً ، لو جلس رجلٌ في حوض سباحة ، حيث الماء دافئ، فارتاح بالجلوس في هذا الحوض ، فهل يجعله عالماً ؟ لا ! تاجراً ؟ لا ! إنه استمتاع رخيص ، واستهلاك للوقت ، فلما يميل الإنسان إلى الراحة ، والقعود للتمتع ، واستهلاك جهود الآخرين ، والأخذ من طيبات الحياة الدنيا ، معنى ذلك أنه يستهلك رأس ماله ، ألا وهو عمره الثمين ، وهذا سيجعله يوم القيامة فقيراً ، ضعيفاً ، لهذا قيل : الغنى غنى العمل الصالح ، والفقر فقر العمل الصالح ، والغنى والفقر بعد العرض على الله ، فاشتاق فروخ إلى سماعِ وقعِ النصالِ على النصالِ ، وولعَ لاستئناف الجهاد في سبيل الله ، فكان كلما ترددتْ في المدينة أخبارُ انتصارات الجيوش الإسلامية الغازية في سبيل الله ، تأجَّجت أشواقُه إلى الجهاد ، واشتدّ حنينُه إلى الاستشهاد، وذات يوم من أيام الجمع سمع فروخ خطيبَ المسجد النبوي الشريف يزفّ للمسلمين بشرى انتصارات الجيوش الإسلامية في أكثر من ميدانٍ من ميادين الحرب ، ويحضّ الناسَ على الجهاد في سبيل الله ، ويرغِّبهم في الاستشهاد إعزازاً بدينه ، وابتغاءً لمرضاته ، فعاد إلى بيته ، وقد عقَد العزمَ على الانضواء تحت راية من رايات المسلمين المنتشرة تحت كل نجم ، وأعلن عزمه لزوجته ، فقالت : يا أبا عبد الرحمن لمَن تتركني ؟ وتترك هذا الجنين الذي أحمله بين جوانحي ، زوجته حامل ، فأنت هنا رجل غريب ، ولا أهل لك فيها ولا عشيرة ، فقال : أتركك لله ، أمّا علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام دعاء السفر ؟ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرَ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَمِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ *
وَيُرْوَى الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ أَيْضًا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ أَوْ الْكَوْرِ وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ يُقَالُ إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ مِنْ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ مِنْ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا يَعْنِي مِنْ الرُّجُوعِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرِّ
(رواه الترمذي)
ثم إني خلفت لك ثلاثين ألف دينار ، ثروة كبيرة جداً ، جمعتها من غنائم الحرب فصونيها وثمّريها ، وأنفقي منها على نفسك وولدك بالمعروف حتى أعود إليك سالماً غانماً ، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمنّاها ، ثم ودّعها ومضى إلى غايته ، وضعت السيدة الرزان حملّها بعد رحيل زوجها ببضعة أشهر ، فإذا هو غلام مشرق الوجه ، حلو القسمات ، ففرحت به فرحاً عظيماً ، كاد ينسيها فراق أبيه ، وأطلقت عليه اسم ربيعة ، وهذا الغلام الصغير موضوع درسنا اليوم .
والحقيقة مغزى القصة في آخر الدرس ، حيث ستَرَوْن كيف أن أثمن شيء في الحياة أن ترزق غلاماً يصلحُ الناسَ من بعدك ، إذاً أنت لم تَمُتْ ، بدت على هذا الغلام الصغير علامات النجابة منذ نعومة أظفاره ، وظهرت أمارات الذكاء في أفعاله وأقواله ، فأسلمته أمُّه إلى المعلِّمين ، وأوصتهم بأن يحسنوا تعليمه ، واستدعت له المؤدبين ، وحضَّتهم على أن يحسنوا تأديبه ، فأنا لا أرى أعقل من أبٍ يعطي كل جهده لتربية أولاده ، إنهم كسبه الحقيقي ، إنهم استمراره من بعد موته ، إنهم الصدقة الجارية التي لا تنقطع بعد الموت ، فما لبس هذا الغلامُ حتى أتقن الكتابة والقراءة ، ثم حفظ كتاب الله عز وجل ، وجعل يرتِّله ندياً طرياً كما أنزل على فؤاد محمد صلوات الله عليه ، ووَعَى ما تيسّر من أحاديث رسول الله ، واستظهر كلام العرب ، وعرف من أمور الدين ما ينبغي أن يعرف ، وقد أغدقت أمُّ ربيعة على معلمين ولدها ومؤدبيه المال والجوائز إغداقاً ، فكانت كلما رأته يزداد علماً تزيده براً وإكراماً.
وبالمناسبة أرى من الحكمة البالغة أن تكون علاقتك طيبة جداً بمعلمِي أولادك ، لأنه بين أيديهم فلذة كبدك ، إن أحسنوا تعليمه فزت فوزاً عظيماً ، وهناك آباء يقسون في تعاملهم مع معلمي أولادهم ، أو يكيلون لهم كلاماً قاسياً في غيبتهم على مسمع من أولادهم ، هذا ليس من الحكمة في شيء .
***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
***
المعلم بين يديه أثمن شيء عندك ، وأنت أحياناً تقدِّم جهازًا للتصليح ، تخاف عليه أنْ يصيبه شيء ، فأيهما أغلى جهاز في بيتك أمْ ابنك ، فيجب أن تختار له أفضل مدرسة ، وأفضل معلم ، والنفقات الباهظة التي تنفقها من أجل تعليم ابنك ، هذه النفقات ليست استهلاكاً ، إنما هي استثمار.
أنا أقول لكم كلامًا دقيقًا ، وهذا الكلام موجّه لمن عنده أولاد ، شعور الأب حينما يرى ابنه في أعلى مرتبة أخلاقية ، و علمية ، و دينية ، شعور لا يوصف ، بل يمتلئ قلبه سعادة ، وقد قال الله عز وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image003.gif
( سورة الفرقان : 74 ) .
وأحيانًا يلمح الأب ابنه وهو يصلي ، وقد تكون هذه الصلاة جوفاء ، فكيف إذا كان ابنه عالماً، مصلحاً ، سيدنا إبراهيم قال تعالى في حقّه :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image004.gif
( سورة الصافات : 102 ) .
يعني من سعادتك الكبرى العظيمة أن يكون ابنك صالحاً .
وكانت تترقب عودة أبيه ، وتجتهد في أن تجعله قرّة عين لها وله ، لكن فروخاً طالت غيبته، ثم تضاربت الأقوال فيه ، قال بعضهم : إنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء ، وقال آخرون : إنه مازال طليقاً يواصل الجهاد ، وقال فريق ثالث عائد من ساحة القتال : إنه نال الشهادة التي تمناها، فترجح هذا القول الأخير عند أم ربيعة لانقطاع أخبار زوجها ، فحزنت عليه حزناً أمضى فؤادها ، ثم احتسبته عند الله .
هناك قصص للتابعين فيها مواقـف ، لو سألتني : هل هي وفق الشرع ؟ أقول لك هذه مواقف شخصية ، وليست مواقف شرعية ، يا ترى هل يجوز للإنسان أن يغيب عن زوجته عشرين عاماً ؟ هذا الموقف ليس موقفاً شرعياً ، هذا موقف شخصي ، ولكل مجتهد نصيبٌ من اجتهاده ، والله تعالى رب النوايا ، أنا لا أقر ما فعله فروخ حينما ترك امرأته وهي حامل ، وغاب أمداً طويلاً ، يا ترى هكذا الشرع يأمرنا ؟ نحن نقرأ قصة ، نأخذ منها الإيجابيات ، ونتغافل عن السلبيات .
أيفع ربيعة ، ودخل مداخل الشباب ، واستكمل ما ينبغي لفتًى مثله أن يستكمله من القراءة والكتابة ، وزاد على أقرانه فحفظ القرآن وروى الحديث ، فلو تخيَّرتِ له حرفة من الحرف فإنه لا يلبث أن يتقنها ، وينفق عليك ، هذه هي النصيحة ، لو تخيرتِ يا أم ربيعةَ حرفةً لابنك حتى يتقنها ، لينفق عليك وعلى نفسه مما تدره عليه هذه ، فماذا اختار ربيعة ؟ اختار لنفسه العلم .
أنا ألاحظ أبًا يرسم لابنه خطة ، أن يكون معه في المحل التجاري ، شيء جيد ، لكن أحياناً هناك أبناء شغوفون بالعلم ، فالأب العاقل إذا رأى من ابنه إصراراً على اختصاص معين فينبغي أن يفسح له المجال ، لأنه لا ينبغي إلا مسايرته في ميله هذا .
فاختار ربيعة أن يكون عالماً ، وعزم على أن يعيش متعلماً ومعلماً ما امتدت به الحياة ، وكلكم يعلم أنه يظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، لذلك أقبل ربيعة على حلقات العلم ، يرى الإنسان أحيانا عالمًا ، متى صار ؟ حينما كان في مجالس العلم أمضى سبعة عشر عاماً جالساً على ركبتيه في بيوت الله ، وحينما كان يتلو كتاب الله ، ويحفظ كتاب الله، ويفسر كتاب الله ، ويدعو إلى الخير ، أين كنت أنت ؟ كل إنسان له مسعى .
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image005.gif
( سورة الليل : 1 ـ 4 ) .
أقبل على حلقات العلم التي كان يزخر بها مسجد المدينة ، كما يقبل الظمآن على الموارد العذاب ، ولزم البقية الباقية من الصحابة الكرام ، وعلى رأسهم أنس بن مالك خادم رسول الله ، هذا أكبر أستاذ له ، وأخذ عن سعيد بن المسيب ، ومكحول الشامي ، وسلمة بن دينار ، وواصلَ الليلَ بالنهار ، إقبالاً على العلم ، وطلباً له ، واحتواءً له ، وإذا كلمه أحد ودعاه إلى الرفق بنفسه كان يقول : سمعنا أشياخنا يقولون : العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً ، ليس في العلم حل وسط ، يمكن أنْ يكون في العمل حل وسط ، بل في كل شيء حل وسط إلا في العلم ، فالعلم يحتاج إلى إتقان ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً ، والشيء الغريب أنّه لا تحصل لذة العلم إلا بالتعمق فيه، فعدم تعمق العلم عبء ومللٌ ، لذلك ضعفُ الطلاب يكون في مادة يكرهونها كراهية شديدة ، أما إذا أتقنوها أصبحتْ متابعتها متعةً لهم .
ثم ما لبث كثيراً حتى ارتفع ذكره ، وبزغ نجمه ، وكثر إخوانه ، وأولِع به تلاميذه ، وسوّده قومه ، وأقول لكم بصراحة : إذا حضر الرجلُ مجالس العلم ، وطلب العلم بصدق وبإخلاص فهذا الإنسان من حقه على الله ، ومن كرامته على الله أن ييَسِّر له سبيل نشر العلم ، ويرزقه قدرة على ذلك ، أمّا سماع وسماع إلى مالا نهاية ، فمستحيل ، فكل إنسان طلب العلمَ يوفقه الله ، أخي أنت أين تعمل ؟ أعمل موظفًا عند الله عز وجل ، أحيانا الإنسان بصدقه وإخلاصه ، ومتابعته ، وطاعته ، يطلِق اللهُ لسانه ، ويمنحه الأسلوب المؤثر الذي يقنع الناس به ، فيلتفون حوله ، ويستفيدون منه ، ويشجعونه ، هذا شيء ألاحظه ، ما مِن أخ تعلَّم بصدق ، وبإخلاص ، وابتغى مرضاة الله عز وجل إلا ويسَّر الله عز وجل له عملاً في الدعوة إليه ، على صعوبة هذه الأعمال، وصعوبة الوصول إليها ، قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-14_files/image006.gif
(سورة النور : 36) .
فإذا أذِن اللهُ في عليائه لهذا الإنسان أن ينطق بالحق فليس لأحدٍ في الأرض ينتظر منه الموافقة ، فالإِذن الحقيقي من عند الله ، وانعكاسه موافقة أولي الأمر ، ما مِن أحدٍ أخوانا الكرام طلب علم بإخلاص إلا ويسَّر الله عز وجل له عملاً في الدعوة إليه ، لأن الطلب لا بد أن ينتهي بالإلقاء ، تَلَقٍّ ، ثم إلقاء ، تعلُّم ، ثم تعليم .
سارت حياة هذا العالم الصغير فكان شطرٌ من يومه في داره لأهله وإخوانه ، وشطر آخر لمسجد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، للعلم وحلقاته ، ولقد مضت حياته متشابهة حتى وقع فيها ما لم يكن في الحسبان ، ولا زلنا في عقدة القصة .
في أحد الأيام ، وفي عشية من عشيات الصيف ، وصل إلى المدينة المنورة فارس في أواخر العقد السادس من عمره ، ومضى في أزقتها راكباً جواده ، قاصداً داره ، وهو لا يدري إن كانتْ دارُه ما تزال قائمة على عهده بها ، أم أنّ الأيام قد فعلت بها فعلها ، فمضى على غيابه عنها ثلاثين عاماً .
أنا أذكر مرة ، سمعت قصة إنسان خطب فتاة ، فلما دخل بها لم تعجبه إطلاقاً ، واسودَّت الدنيا في عينيه ، وضاقت نفسه ، وفي صبيحة اليوم التالي هام على وجهه ، وهو من سكان المدينة المنورة ، غاب عن المدينة عشرين عاماً ، لما رأته زوجته في أول لقاء معها ، رأته متضايقاً ، قالت له : قد يكون الخير كامناً في الشر ، يعني إن رأيتني شرًّا فقد يكون الخير كامناً في الشر ، بعد أن عاد بعد عشرين عاماً دخل إلى المسجد فرأى عالماً شاباً وحوله آلاف مؤلفة، سأل : من هو ؟ فإذا هو ابنه ، فلما انفضَّ الناسُ من حوله قال : يا فلان قل لأمِّك إنَّ في الباب رجلاً يقول لك : قد يكون الخير كامناً في الشر ، قالت : يا بني إنه أبوك .
فحينما عاد إلى المدينة سأل عن أخبار زوجته الشابة ، هل وضعت حملها ، وهل كان ذكراً أو أنثى ، وإذا كان ذكراً فما حاله اليوم ، أسئلة كثيرة تواردت على ذهنه ، لكنْ في القصة موقف عجيب ، وهو أن زوجته حينما رأته ، وأبلغت ابنها فروخاً أنه أبوه ، لأنه رأى الباب مفتوحًا فدخل ، إنسان غاب عن بلده أمدًا طويلاً ، فالتبس الأمر على فروخ أنه إنسان فارس ، يدخل إلى بيت دون استئذان ، وهو بيتـه ،فحدثَتْ مشادة بينه وبين ابنه دون أن يعرف ، استيقظت الزوجةُ على الضجيج ، فأَطلَّت من النافذة فقالت : يا بني إنه أبوك ، وحينما سمع ربيعةُ أنّ هذا أبوه طفق يعانقه ويقبِّل يديه ، وعُنُقَه ، ورأسَه ، ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ظناً أنه حيٌّ على وجه الأرض ، بعد أن انقطعت أخباره مدةً طويلة ، جلس فروخ إلى زوجته وطفِق يحدِّثها عن أحواله ، ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره ، ولكنها كانت في شغلٍ شاغل عن كثير مما يقول ، لقد نغص فرحتها بعودته ، واجتماع شملها به خوفُها من غضبه على إضاعة المال الكثير الذي أودعه عندها ، فقد ترك ثروة طائلة ، مثل الآن عشرة ملايين ، كانت تقول في نفسها : ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير ، وهي أنفقته كله على ابنها ، حتى صار بهذا العلم ، ماذا سيكون لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء ، أيقنعه قولي : إنني أنفقته على تربية ابنه وتعليمه ، وهل تبلغ نفقة ابنه هذا المبلغ الضخم ، أيصدِّق ذلك ! في داخله صراع مع نفسها ، فرحت بلقاء زوجها ، لكنها خافت من موضوع المبلغ الكبير ، وفيما كانت أم ربيعة غارقة في هواجسها التفتَ إليها زوجُها ، وقال : لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي أودعته عندك وضمِّيه إليه ، ونشتري بالمال كله بستاناً ، أو عقاراً ، نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة ، فتشاغلتْ عنه ولم تجبه بشيء ، أعاد عليها الطلب ، وقال : أين المال حتى أضمّ إليه ما معي ؟ قالت : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ، في المكان الصحيح ، وسأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله ، وقطع صوت المؤذن عليها الحديث ، فهبَّ فروخ إلى إبريقه فتوضأ، ومضى نحو الباب يقول : أين ربيعة ؟ فقالوا : سبقك إلى المسجد ، منذ النداء الأول ، ولا نحسبك أن تدرك ***ة ، لم يعرف القصة ، فبلغ فروخ المسجد ووجد أن الإمام قد فرغ من الصلاة ، فأدّى المكتوبة ، ثم مضى نحو الضريح الشريف فسلم على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم انثنى نحو الروضة المطهرة ، فقد كانت في فؤاده أشواق إليها ، تخيَّر مكان في رحابها وجلس ، ولما همّ بمغادرة المسجد وجد باحته قد غصّت على رحبها بمجلس من مجالس العلم ، لم يشهد له نظيراً من قبل ، ورأى الناس قد تحلَّقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة ، حتى لم يتركوا للساحة موطئًا لقدم ، وأجال بصره في الناس ، فإذا فيهم شيوخ معمّرون ومعمّمون ، وذو أسنان ، ورجال متوقرون ، تدلّ هيأتهم على أنهم ذو أقدار ، وشبان كثيرون قد جثّوا على ركبهم، وأخذوا أقلامهم بأيديهم ، وجعلوا يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تلتقط الدرر ، ويحفظونه في دفاترهم ، كما تحفظ الأعلاق النفيسة ، وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ منصتين إلى كل ما يلفظ من قول ، حتى كأنَّ على رؤوسهم الطير ، وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة ، فلا يفوت أحد منها شيء مهما كان ، وحاول فروخ أن يتبيّن من هو الشيخ ، ولا يعرف أنه ابنه ، فلم يفلح في ذلك لموقعه منه ، وبُعْدِه عنه ، لقد راعه منه بيانه المشرق ، وعلمه المتدفق ، وحافظته العجيبة ، وأدهشه خضوع الناس بين يديه ، وما هو إلا قليل، حتى ختم الشيخ المجلس ، ونهض وافقاً ، فهبَّ الناس متجهين إليه ، وتزاحموا عليه ، وأحاطوا به ، واندفعوا وراءه ، وهنا التفتَ فروخ إلى رجل كان يجلس في المجلس ، قل لي بربك : من الشيخ ؟ قال باستغراب : ألا تعرفه ! ليس في المدينة كلها من لا يعرفه ، هو أعلم علمائها ، قال : بلى ، مَن هو ؟ قال اعذرني أنا لا أعرفه ، أنا جئت حديثاً ، مَن هو ؟ لقد أمضيت نحواً من ثلاثين عاماً بعيداً عن المدينة ، ولم أَعُدْ إليها إلا أمس ، قال : لا بأس ، اجلس إليَّ قليلاً لأحدِّثك عن هذا الشيخ ، إنّ الشيخ الذي استمعتَ إليه سيِّدٌ من سادات التابعين ، وعلَمٌ من أعلام المسلمين ، وهو محدِّثُ المدينة وفقيهها ، وإمامها ، على الرغم من حداثة سنة ، قال فروخ : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، فأتبع الرجل ، وإنّ مجلسه يضمّ كما رأيت مالك بن أنس ، وأبا حنيفة النعمان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن عمر الأوزاعي ، والليث بن سعد ، قال فروخ : غير أنك لم تخبرني مَن هو الشيخ ، فلم يُتِحْ له الرجل الفرصة لإتمام كلامه ، وأرى وهو فوق ذلك أنه سيدٌ كريمٌ الشمائل ، موطأ الأكناف ، سخي اليد، فما عرف أهل المدينة أحداً أوفر منه جوداً لصديق وابن صديق ، ولا أزهد منه في متاع الدنيا ، ولا أرغبَ بما عند الله ، قال فروخ : ولكنك لم تذكر لي اسمه ، يا أخي مَن هو هذا الشيخ ؟ قل لي مَن ؟ قال : إنه ربيعة الرأي ، قال فروخ : ربيعة الرأي ، قال الرجل : نعم اسمه ربيعة ، لكن علماء المدينة وشيوخها دعوه ربيعة الرأي ، لأنهم إن كانوا لم يجدوا لقضية نصاً في كتاب الله ، أو حديث رسول الله لجؤوا إليه فيجتهد بالأمر ، ويقيس ما لم يرد فيه نص ، على ما ورد فيه نص ، ويأتيهم بالحكم فيما أشكل عليهم ، على وجه ترتاح له النفوس ، قال فروخ : لكنك لم تنسبه لي ، ابنُ من هو ؟ قال الرجل : إنه ربيعة بن فروخ ، المكنى بأبي عبد الرحمن ، لقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة مجاهداً في سبيل الله ، فتولَّت أمُّه تربيته وتنشئته ، ولقد سمعت الناس يقولون : إن أباه قد عاد الليلة الماضية ، هكذا قال الناس ، عند ذلك تحدَّرت من عين فروخ دمعتان كبيرتان ، لم يعرف لهما سبباً ، ومضى يحثُّ الخطى نحو بيته ، فلمّا رأته أم ربيعة ، والدموع تملأُ عينيه ، قالت : ما بك يا أبا ربيعة ؟ قال : ما بي إلا الخير ، لقد رأيت ولدنا ربيعة في مقام من العلم والشرف والمجد ، ما رأيته لأحد من قبل ، فاغتنمت أم ربيعة الفرصة ، وقالت: أيهما أحبُّ إليك ثلاثون ألف دينار ، أم هذا الذي بلغك عن ولدك من العلم والشرف ، فقال بلى ، والله ، هذا أحبُّ إليَّ وآثرُ عندي من مال الدنيا كله ، فقالت : لقد أنفقت كل ما تركته لي على ولدك ، حتى صار عالماً ، فهل طابت نفسُك بما فعلت ، قال : نعم ، وجُزِيتِ عني خيراً، وعن المسلمين .
إخوانا الكرام : هذه قصة ملخصة بآخرها ، إذا استطعتَ أنْ تجعل ابنك إنسانًا عظيمًا فأنت أسعدُ إنسان في العالم ، إذا استطعتَ أنْ تربي ابنك تربية إسلامية صحيحة ، فيطلب العلم ، ويصير معلم الناس فأنت أسعد إنسان بالعالم ، ولو أنفقت عليه ألوف مئات الألوف ، فأنت الرابح، فلو أنفقت عليه كل شيء ، وصار ابنك في هذا المستوى فأنت الرابح ، ترك لها ثروة طائلة جداً، وهي خائفة أن يقول لها : أين المال ؟ فلما رأى ابنه بهذا المكان نَسِيَ المال ، ما أردت من هذه القصة إلا أن أحثَّكُم على تربية أولادكم ، لأن الآباء إذا رأوا أبنائهم منحرفين مع رفقاء السوء ، في الضلالات ، وفي دور اللهو ، مع المنحرفين تُعصَر قلوبهم آلامًا ، ويتقطع قلب الأب ألماً ، ماذا يفعل .
فنحن أيها الإخوة ، الآن أملُنا في الصغار ، والمعَوَّل عليه هم الصغار ، كل واحد له ابن يحتاج من وقتك الشيء الكثير ، ومن مالك الشيء الكثير ، وقدِّم له كل ما تملك ، ليكون كما يريد الله عز وجل ، فهذا زادُك عند الله ، والذي عنده ابن صالح فليسمعْ هذا الكلام مرة ثانية ، والذي عنده ابن صالح مقبل على الدين ، مستقيم على أمر الله ، يحب الله ورسوله ، يجب أن يضع شفته على الأرض ، ويشكر الله عز وجل على هذه النعمة ، لأنه ما مِن نعمة على الإطلاق تفوق هذه النعمة ، فهذا مجاهد ، وابنه عالم ، فنال المجد من طرفيه ، وقد فتح هو البلاد، وابنه فتح القلوب.
طالب عفو ربي
13-05-2009, 07:14 PM
عامر بن شرحبيل الشَعبي ..
كان واسع العلم ، عظيم الحلم ، وإنه من الإسلام بمكان .
أيها الإخوة ... ننطلق في هذه السيَر من قول النبي عليه الصلاة والسلام :
خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ *
(متفق عليه عن أبي هريرة )
كلام النبي لا ينطق عن الهوى ، فأصحابه من القرن الأول ، والتابعون ، وتابعوا التابعين ، هؤلاء خِيرةُ خلق الله عزَّ وجل ، لذلك فالاقتداء بهديهم ، وبسيرتهم ، والوقوف عند بطولاتهم ، وشمائلهم جزءٌ من الدين ، أي إنك إذا رأيتَ ديناً نظرياً فعُدْ إلى الكتاب والسُنَّة ، وإنْ أردتَ ديناً عملياً فتقدَّم بقراءة سير الصحابة والتابعين .
فلستِّ سنواتٍ خَلَتْ مِن خلافة الفاروق رضوان الله عليه ، وُلِد للمسلمين مولودٌ نحيل الجسم ، ضئيل الجِرم .
من حكمة الله عزَّ وجل أن الأبطال متفاوتون في أجسامهم ، ترى بطلاً ضخماً عملاقاً ، وترى بطلاً نحيلاً رقيقاً ، وترى بطلاً وسيم الطلعة ، وترى بطلاً غير وسيم الطلعة ، ترى رجلاً مربوعاً ، وآخر قصيراً ، ورجلاً أبيض ، وآخر غير أبيض ، فالبطولة لا علاقة لها بالشكل إطلاقاً ، هذه حقيقة ، أنت كرجل كل قيمتك تنبع من مبادئك ، وعلمك ، وأخلاقك .
لذلك يُروى عن بعض التابعين أنه كان قصير القامة ، أسمر اللون ، مائل الذقن ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، ليس شيءٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب - هكذا يصفه الواصفون - وكان مع ذلك سيد قومه ، إنْ غضِبَ غضِب لغضبته مائة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب .
فالإنسان يحقِّق أعلى درجات البطولة في أي شكلٍ كان ، وقد قال الشاعر :
***
جمال الجسمِ مع قُبْحِ النفُوسِ كقنْديلٍ على قَبرٍ المَجُوس
***
لكن الإنسان إذا آتاه الله عزَّ وجل شكلاً مقبولاً فهذا من نعمه عزَّ وجل ، فالنبي علَّمنا إذا نظر في المرآة يقول :
" اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي "*
( من مسند أحمد : عن " ابن مسعود " )
لماذا كان هذا التابعي نحيل الجسم ، ضئيل الجرم ؟ قيل : لأن أخاه زاحمه على رحم أمه، فلم يَدَعْ له مجالاً للنمو ، إذاً هو شقيق ـ أي توأم ـ لكنه لم يستطع بعد ذلك أن يزاحمه ، لا هو ولا غيره في مجالات العلم ، والحلم ، والحفظ ، والفهم ، والعبقريَّة .
بصراحة أيها الإخوة أقلُّ شيء عندك شكلك ، وأقلّ شيء تملكه العمُرُ الزمني ، لأنّ العمر لا يقاس بمدَّته ، بل يقاس بأعماله البطولية ، والإنسان لا يقاس بشكله ، بل يقاس بإيمانه وخُلُقه .
مرة أحد الصحابة يبدو أنه وقف في مَهَبِّ رياح شديد فرفعت ثوبَه ، فبدت دقَّة ساقيه ، فتبسَّم الصحابة الكرام ، فقال عليه الصلاة والسلام :
" مِمَّ تَضْحَكُونَ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ "*
( من مسند أحمد : عن " أبي مسعود " )
فالإنسان إذا كان نحيفَ البُنية ، قصيرَ القامة ، أسمرَ اللون ، هذه أشياء لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولا يُعنى بها إلا النساء ، لذلك فمجتمع الرجال مجتمعٌ الإيمان والعمل .
بالمناسبة : من هو حِبُّ رسول الله ؟ إنّه سيدنا أسامة ، كان أسود اللون ، أفطسَ الأنف ، عيَّنه قائد جيش ، وهو في السابعة عشر من عمره ، على جيشٍ فيه أبو بكرٍ ، وعمر ، وعثمان، وعلي ، أرأيت الإسلام ؟ هذا الدين.
ذلكم هو عامر بن شرحبيل الحِمْيَرِيّ المعروف بالشعبي ، نابغة المسلمين في عصره .
وفائدة القراءة عن التابعين وسيرهم أنّ هذه الأسماء ترِدُ كثيراً في كتب الدين ، وفي كتب الحديث ، وفي كتب السيرة ، وفي كتب الفقه ، وهذه الأسماء كلُّها أعلام .
وُلد الشعبي في الكوفة ، وفيها نشأ ، لكن المدينة المنورة كانت مهوى فؤاده ، ومطمح نفسه، كان يؤمُّها من حينٍ لآخر ليلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وليأخذ عنهم ، كما كان الصحابة الكرام يؤمّون الكوفة ليتخذوها منطلقاً للجهاد في سبيل الله ، أو داراً لإقامتهم ، إذاً كان طلاب العلم يقدمون على المدينة ليلتقوا بأصحاب رسول الله رضوان الله عليهم ، وأصحاب النبي رضوان الله عليهم ينطلقون إلى الكوفة ، ليجعلوها قاعدةً لانطلاقهم لفتوح الهند والصين ، إذاً هؤلاء تعلَّموا ، فعليهم أن يجاهدوا ، وأولئك عليهم أن يتعلَّموا .
أُتيح لهذا التابعي الجليل أن يلقى نحواً من خمسمائةٍ من الصحابة الكرام ، وأن يروي عند عددٍ كبير من جلتهم .
الحقيقة ـ ولا أبالغ ـ ليس في الأرض متعةٌ أعظم من أن تجلس إلى عالم تُذاكره في العلم، لأن العلم حياة الإنسان ، والعلم حياة القلب ، وهو الذي يناسب شأن الإنسان ، وغير العلم يناسب ما دون الإنسان .
يروي هذا التابعي عن عددٍ كبير من أصحاب النبي ، من أمثال علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقَّاص ، وزيد بن ثابت ، وعبادة بن الصامت ، وأُبيّ ، وأبِي موسى الأشعري ، وأبي سعيد الخدري ، والنعمان بن البشير ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عبَّاس ، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة ، وعائشة أم المؤمنين ، وغيرهم ، وغيرهم .
أما عائشة فكما قال الله عزَّ وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image001.gif
( سورة الأحزاب : من آية " 53 " )
وقد كان الشعبي فتىً متوقِّد الذكاء ، يقظَ الفؤاد ، مرهفَ الذهن ، دقيقَ الفهم ، آيةً في قوة الحافظة والذاكرة ، ولي هنا وقفة :
إنّ الله عزَّ وجل يعطي إنساناً هذه القدرات العقليَّة العالية ، ويحرم منها آخرين ، فقد يقول قائل : ما ذنب الذي حُرم هذه القدرات ؟ هناك إجابات كثيرة ، منها أنّ الإنسان يُعطَى من القدرات على قدر مطالبه ، فكلَّما ارتفعت مطالبُه ، واتسعت ، وسمت ، وكبُر حجمها قدَّر الله له من الملكات والقُدرات ما يوازي هذه المطالب العالية .
نحن في مجتمع البشر ، إذا كلَّفتَ الإنسان بمهمة كبيرة ، تعطيه صلاحيات كبيرة ، وإذا كلَّفته بعقد صفقةٍ لإطعام الجيش تعطيه اعتمادًا بمائة مليون ، فكلَّما كلَّفته بعملٍ كبير أعطيتَه إمكانات كبيرة ، فأحد الأجوبة أن هذه القدرات الفائقة التي يتمتع بها هؤلاء العلماء الأعلام ، في رأيٍ من الآراء أنها نتيجة مطالبهم العالية التي علِم الله بها .
وعندنا شيءٌ آخر ، وهو أن هذا الذكاء ، وقوة الحافظة ، وحدّة الذهن ، والإدراك العميق ، وقوّة التفكير هذا حظٌّ من حظوظ الدنيا ، والإنسان يُمتَحَن به ، فإمّا أن يرقى به ، وإمّا أن يهوي، فالجهاز الذي يرفعك هو نفسه الذي يهوي بك ، الآن الطائرة مِيزةٌ كبيرة ، لأنها تنتقل بسرعة عالية ، لكن لو أنها تعطَّلت في الجو لم يكن ثمّة حلٌ وسطٌ ، ولا وقت للنزول ، ولا لمخاطبة الركاب بالذهاب إلى بيوتهم ، حتى يتسنّى إصلاح الطائرة ، لا يوجد هذا ، فميزة تحليقها في الجو، ونقل الركاب بوقـت قصيـر جداً ، في مقابلها سيئة إذا أصابها عطب ، ويُنشَر الخبر البسيط : لقد مات جميع ركَّابها ، وبتعبير آخر : وقد لقي جميع الركاب حتفهم ، أما السيارة فتتعطَّل ، وسرعتها أبطأ ، لكن لو تعطَّلت لوُجِد لها حلّ آخر .
أردت من هذا المثل أن الإنسان إذا أُوتي الذكاء ، والقدرات الفائقة ، هذه ترقى به ولا شك، لكن لو أنه استخدمها على خلاف ما أراد الله عزَّ وجل لَهَوَتْ به ، فالقدرات العالية كما أنها ترقى فإنها تُهلك ، فمثلاً : يكون الشخصُ يسير بسيارة ، وأغلب الظن أنْ لا مشلكة ، فلو سار بسرعة مائة وعشرين ، ثمّ سها سهوة ، ماذا يحدث ؟ أحياناً الإنسان يعطس وهو يقود السيارة ، هذه العطسة فيها تغميض العينين ثانية واحدة ، فيشعر بالخطر ، لأنه يسير بسرعة كبيرة ، فكلَّما أسرعت يجب أن تكون أكثر يقظةً ونباهةً ، وكلُّ شيء فيه ميزة في مقابلها مغرم ، وكل مغنمٍ يقابله مغرم ، فالذي أوتي حظاً من الذكاء هذا امتُحِن بالذكاء ، لكن فيما لو لم يؤمن بالله عزَّ وجل، لكان هذا الذكاء وبالاً عليه .
إذن كان الشعبي متوقد الذكاء ، يقظ الفؤاد ، مرهف الذهن ، دقيق الفهم ، آيةً في قوة الحافظة والذاكرة ، وقد روي عنه أنه قال : " ما كتبت سوداء في بيضاء قط " . ماذا يعني هذا الكلام ؟ أنه لشدة حافظته ، لاتقاد ذهنه ، لقوة ذاكرته ما احتاج أن يكتب كلمةً سوداء على ورقةٍ بيضاء .
قد يقول أحدكم : ما هذه الذاكرة ؟ أنا أجيبكم : لو أنك تهتم بموضوعٍ ما ، لوفِّقت إلى ذاكرةٍ كهذه الذاكرة ، فأحياناً تدخل على بائع قطع تبديل ، يكون عنده عشرة آلاف نوع ، أي سؤال تطرحه عليه يقول لك : يوجد ، أو بقي منها قطعة واحدة ، اصعدْ يا ابني على الرفِّ الثالث ، على اليمين هناك واحدة فأحضِرْهَا . معنى هذا أنّ ذاكرته محلّ ، لأنه مهتم ، ولأن في ذلك ربح له .
فالذاكرة قانونُها الاهتمامُ ، حينما تهتم بالشيء تحفظه ، لذلك يشكو الإنسانُ ضعفَ ذاكرته في موضوعات لا يهتم لها ، ويعتدّ بذاكرته التي لا تخطئ في الموضوعات التي يهتم بها ، فأكاد أقول لكم : إن الاهتمام الشديد هو الذي يجعل الإنسان يحفظ .
فمن شدّة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلَّم بكتاب الله ، كان إذا نزل عليه يحفظه لأول مرة، مرة واحدة .. وقد قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image002.gif
( سورة الأعلى )
فما معنى " إلا ما شاء الله " ؟ أي إلا ما شاء الله لك أن تنساه ، ولكن لماذا أنساه الله ؟ لحكمةٍ بالغة ، كي يشرِّع .
مرَّة عليه الصلاة والسلام صلَّى الظهر ركعتين ، كما روى ذلك البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ - أي لا قصرت ولا نسيت ، فهذا الصحابي جريء - فقَالَ بَلَى قَدْ نَسِيتَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ *
( متفق عليه)
لو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم ينس قط ، فكيف سَيَسُنُّ لنا سجود السهو ؟ هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image002.gif
( سورة الأعلى )
قال الشعبي : ما كتبت سوداء في بيضاء قط ، ولا حدثني رجلٌ بحديثٍ إلا حفظته، ولا سمعت من امرئٍ كلاماً ثم أحببت أن يعيده علي " ، إنها قوة ذاكرة عجيبة .
وقد كان الفتى مولعاً بالعلم ، أيهما أصح مولَعاً أم مولَّعاً ؟ مولَع ، إياكم أن تقولوا مولَّع ، المولَّع في اللغة العربية هو الثور الأحمر ، الصواب مولَع ، قل : أنا مولعٌ بكذا ، ولا تقل : مولَّعٌ بكذا .
وقد كان الفتى مولعاً بالعلم مشغوفاً بالمعرفة ، يبذل في سبيلهما النفس والنفيس ، ويستسهل من أجلهما المصاعب ، إذ كان يقول : " لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ، فحفظ كلمةً واحدةً تنفعه فيما يستقبل من عمره ، لرأيت أن سفره لم يضع " .
الآن أكثركم بارك الله بكم يأتي من أماكن متعددة ، طبعاً هناك إخوان بيتهم إلى جانب المسجد ، وإخوان أبعد بالمهاجرين ، بالشيخ محي الدين ، بالعدوي ، آخرون يأتون من الغوطة ، ومن دوما ، بل من محلات بعيدة ، فيقول الشعبي : " لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ، فحفظ كلمةً واحدةً تنفعه فيما يستقبل من عمره ، لرأيت أن سفره لم يضع " .
كلمة واحدة تتعلَّمها ، تنفعك في حياتك ، هذا الجهد الكبير الذي بذلته من أجلها لم يضع سُدًى ، وأشرف عملٍ تفعله أن تطلب العلم ، لأنك بالعلم تصل إلى الله ، وبالعلم تصل إلى طاعته، وبالعلم تصل إلى القرب منه ، وبالعلم توفَّق في أمورك الدنيويَّة ، وبالعلم تسعد في بيتك، وبالعلم تسعد في عملك ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
تأكد أنه ما مِن عملٍ أشرف عند الله عزَّ وجل من أن تطلب العلم ..
" إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ *
( من سنن الترمذي : عن " قيس بن كثير " )
" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ " *
( مسلم عن أبي هريرة )
" إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عمَّرها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني، وحُقَّ على المزور أن يكرم الزائرِ " .
ومرَّة ثانية وثالثة أقول لكم : كما أنه ينبغي أن تؤدي زكاة مالك ينبغي أن تؤدي زكاة وقتك ، وزكاة المال تعني أن تنفق جزءاً منه في سبيل الله ، وزكاة الوقت تعني أن تنفق جزءاً منه في طلب العلم ، وحينما تؤدي زكاة وقتك يحفظ لك اللهُ عزَّ وجل وقتك ، كما حفظ لك مالك.
أحياناً يكون الإنسان يجمِّع محركًا ، وينسى شيئًا يجب أن يضعه في أول الأمر ، وقد قضى أربع ساعات ، ثم يقول لك : القشرة نسيناها ، فيرجع ليفُكَّه من أول ، فاللهُ عزَّ وجل قادر أن يتلف لك عشرين ساعة من دون مبرر ، فأحياناً تتوهَّم شيئًا فتجري تحاليل ، واختبارات ، ويظهر لك في الأخير أن لا شيء معك ، دفعت أموالاً ، وبذلت جهدًا ، وتعطَّلت ، وانتظرت .
وأحياناً يتعطَّل شيء بآلة عندك ، فتبعث لتحضره من بلد آخر فيأتيك ناقصًا ، فلا تشتغل ، واعلَمْ أن الله عزَّ وجل قادر على أن يضيّع لك عشرات الساعات ، بل مئات الساعات بلا طائل، في موضوعات سخيفة جداً، ولا حول لك ولا قوة ، لذلك كما أنه ينبغي أن تؤدي زكاة مالك ، ينبغـي أن تؤدي زكاة وقتك ، كما أن زكاة المال تحفظ المال من الضياع والإتلاف ، فإنّ زكاة الوقت تحفظ وقتك من الهدر .
إنّ الإنسان الموفَّق يقوم في وقت قصير بأعمال كبيرة جداً ، يقول لك : لقد بارك الله له في وقته ، فتجده موفَّقًا في كل أموره ، وأعماله دائماً هادفة ، ليس عنده محاولات فاشلة ، ولا إحباط، ولا بعثرة ، ولا ضياع في الوقت ، مثلما قال بعض الصالحين : " هم في مساجدهم ، واللهُ في حوائجهم " .
يجب أن تعرف أن في بالقرآن آية واحدة لا يوجد غيرها ، هذه الآية تؤكِّد أنه ما من عملٍ على وجه الأرض يمكن أن يحقَّق إلا بتوفيق الله ، فإنْ لم يوفِّقْ لم يقع الشيء ، فإنّ الله يمكنه أنْ يشغلك ببضاعة معينة - بزرة - عشرة أشهر ، أو عشرين شهرًا ؛ شراء ، وبيع ، وشحن ، ومطالبة بالمبالغ ، وبالتحقيق وجدتَ خسارة مائتي ألف ، فيمكن أنْ تضيع أوقات طويلة ولا تجد معها ربحًا ، فالله عزَّ وجل بيده كل شيء ، إنّه مالك المُلك ، فعلى المؤمن أنْ يؤدي زكاة ماله كما أنّه عليه أنْ يؤدي زكاة وقته بطلب العلم .
قال : " لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ، فحفظ كلمةً واحدة تنفعه فيما يستقبل من عمره ، لرأيت أن سفره لم يضع ".
قالوا : " ما ضاعت عَبرةٌ كانت لصاحبها عِبرة " . الحياة كلها دروس ، والإنسان كما قال النبي الكريم : " أُمرت أن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرةً " .
وقد بلغ من علمه أنه كان يقول : " أقل شيءٍ تعلَّمته الشعرُ ، ولو شئت لأنشدتكم منه شهراً دون أن أعيد شيئاً مما أنشدته " ، ينشد الشعر شهرًا كاملاً دون أن يعيد شيئاً مما أنشده ، وهذا أقل شيءٍ تعلَّمه !!.
قال لي أحدهم : لو كنا مع رسول الله والله لكان أحسن ، قلت له : اشكر الله بأن جعلك في آخر الزمان ، إذا الواحد منا اجتهاده ضعيف أو وسط ، و لوضعوه في شعبة الكسالى لكان الأول فيهم ، ولو وضعوه مع الأوائل لكان آخرهم ، فهؤلاء الصحابة الكرام قدَّموا شيئًا لا يصدِّقه العقل.
وكانت تعقد للشعبي حلقةٌ في جامع الكوفة ، فيلتفُّ الناسُ حوله زمراً زمرا ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحياءٌ ، يروحون ويغدون بين أظهر الناس .
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمعه ذات مرةٍ يقصُّ على الناس أخبار المغازي ، بخفاياها ودقائقها ، وما أدراك ما عبد الله بن عمر !! صحابيٌ جليل عاش مع النبي عليه الصلاة والسلام ، جلسَ مرةً إلى درس يلقيه هذا التابعي الجليل الشعبي عن مغازي رسول الله ، فأصغى السمع ، وأرهف سمعه ، وقال : " لقد شهدتُ بنفسي بعض ما يقصُّه بعيني ، وسمعته بأذني ، ومع ذلك فهو أروى منـي لما شهدت " ، لم يشهد الشعبي هذه الوقائع ، ولكن سيدنا عبد الله شهدها ، ومع ذلك قال :" هذا التابعي أروى مني لما شهدتُ بعيني ، وسمعت بأذني " .
وشواهد سعة علم الشعبي وحضور ذهنه غزيرةٌ وفيرة ، والحقيقة هناك آية قرآنية تقول :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image003.gif
( سورة فاطر : من آية " 1 " )
أحياناً ربنا عزَّ وجل يُري من آياته الدالة على عظمته ، فيعطي إنسانًا قوة ذاكرة تفوق حدَّ الخيال ، ويعطي إنسانًا آخر أحياناً قوة عضليَّة ، يَحمِل لك بها أربعمائة كيلو ، وهناك بعض الإخوة يحمل صندوق حديد أربعمائة كيلو ، ويصعد به الدرج ، وإنسان آخر يقول لك : حملت كيلو تفاح فانتابني ألمُ الظهر ..
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image003.gif
( سورة فاطر : من آية " 1 " )
لكن بالمناسبة ، إذا افتخر الإنسان بقدرات آتاه الله إيَّاها ، وكانت هذه القدرات غير علمية، فأيّ حيوان يفوق بقدراته الإنسانَ ، وإذا قال الإنسان : أنا عندي دقة بالبصر ، فالصقر يرى ثمانية أضعاف الإنسان ، وإذا قال : أنا شمي مرهف ، فإنّ بعض الكلاب تشمّ مليون ضعف ، فما في صفة ماديَّة في الإنسان - ولحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل - إلا وفي المخلوقات ما يفوقه في هذه الصفة ، إلا أنّ الإنسان ميّزه الله عزَّ وجل بالعلم والعقل .
استمعوا لهذه القصة ...
روى الشعبي عن نفسه فقال : " أتاني رجلان يتفاخران ؛ أحدهما من بني عامر ، والآخر من بني أسد ، وقد غلب العامريُّ صاحبَه ، وعلا عليه ، وأخذه من ثوبه ، وجعل يجرُّه نحوي جرًّا ، والأسدي مخذولٌ أمامه ، ويقول له : دعني دعني ، وهو يقول له : واللهِ لا أدَعُك حتى يحكم الشعبي لي عليك ، فالتفتُّ إلى العامري وقلت له : دع صاحبك حتى أحكم بينكما ".
والظاهر من القصة أنهما كانا في منافسة ملاسنة ، مفاخرة بين رجل عامري ، ورجل من بني أسد ، فقال هذا التابعي الجليل : " دع صاحبك حتى أحكم بينكما ، ثم نظرت إلى الأسدي وقلت : ما لي أراك تتخاذل له ؟ لقد كانت لكم مفاخر ست لم تكن لأحدٍ من العرب ، أولها أنه كانت منكم امرأةٌ خطبها سيد الخلق محمد بن عبد الله ، فزوَّجه الله إيَّاها من فوق سبع سماوات ، وكان السفير بينهما جبريل عليه السلام ، إنها أم المؤمنين زينب بنت جحش ـ هذه خطبها النبي ، والسفير كان بهذه الخطبة جبريل ـ فكانت هذه المأثُرة لقومك ولم تكن لأحدٍ من العرب . قال : والثانية أنه كان منكم رجلٌ من أهل الجنة، يمشي على الأرض هو عكاشة بن محصِن ـ عكاشة من بني أسد ـ هذه لكم الثانية ، والثالثة ..... والرابعة أن أول مغنمٍ قسم في الإسلام كان مغنمه ، والخامسة أن أول من بايع بيعة الرضوان كان منكم ، فقد جاء صاحبكم أبو سنان بن وهبٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ابسط يدك أبايعك . قال : " على ماذا ؟ ، قال : على ما في نفسك ، قال : وما في نفسي ؟ قال فتحٌ أو شهادة ، قال: نعم ، فبايعه فجعل الناس يبايعون على بيعة أبي سنان " .
( من كنز العمال )
و السادسة أن قومك بني أسد كانوا سُبُعَ المهاجرين يوم بدر ، فبهت العامري وسكت " ، و لا ريب أن الشعبي أراد أن ينتصر للضعيف المغلوب على القوي الغالب ، وهذه حالات نادة ذكرها الشعبي لهذين المتخاصمين ، فإذا بالمنتصر يصغر ، وإذا بالضعيف يكبُر.
بعضهم قال :"ولو كان العامري هو المخذول لذكر له من مآثر قومه ما لم يحط به خُبْرَ" .
وعنده أخبار أيضاً دقيقة جداً عن بني عامر ، لكنه أراد أن ينتصر لهذا الضعيف .
ولمَّا آلت الخلافة إلى عبد الملك بن مرون كتب إلى الحجَّاج عامله على العراق : " أن ابعث إليَّ رجلاً يصلح للدين والدنيا ، أتخذه نديماً أو جليساً " ، فبعث إليه بالشعبي فجعله من خاصَّته ، وأخذ يفزع إلى علمه في المُعضلات .
والحقيقة أنّ الإنسان إذا وُفِّق أنْ يستشير أولي العلم ، فهذه نعمة كبيرة ، لكن السؤال مفتاح العلم ، ومن استشار الرجال استعار عقولهم .
أنت يمكن أنْ تأخـذ خبرات خمسين سنة متراكمة بسؤال واحد ، فعوِّد نفسك أن تستشير ، فإنّ الله عزَّ وجل وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم ، وأمر النبي المعصوم الذي يوحى إليه أن يشاور أصحابه ، فقال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image004.gif
( سورة آل عمران : من آية " 159 " )
ولا يوجد إنسان موفَّق إلا يستشير ، وأحياناً يكون على الإنسان ضغط ، والضغط يعمي ويصم ، ولو أنك استشرتَ إنسانًا ليس عليه هذا الضغط لأعطاك الرأي السديد ، والرؤية الصحيحة ، والفكر الثاقب ، والسلوك الحكيم ، فعوِّد نفسك أن تستشير ، ولو أن الذي تستشيره - فيما يبدو لك - هو دونك ، لكنه قد يتفوَّق في هذه النقطة ، ولذلك أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار"
الاستشارة - دققوا - لأولي الخبرة من المؤمنين ، والاستخارة لله عزَّ وجل ، فعوِّد نفسك أن تستخير الله ، وأن تستشير أولي الخبرة من المسلمين ، والسؤال مفتاح العلم ، وإنك بالاستشارة تستعير عقول الرجال .
فأخذ هذا الخليفة يفزع إلى علمه في المعضلات ، ويعوِّل على رأيه في الملمَّات ، ويبعثه سفيراً بينه وبيـن الملوك ، فقد أرسله مرةً في مهمةٍ إلى جستنيان ملك الروم ، فلما وفد عليه ، واستمع إليه أُخذ بذكائه ، ودهش من دهائه ، وأُعجِب بسعة اطلاعه ، وقوة بيانه ، فاستبقاه عنده أياماً كثيرة على غير عادته مع السفراء ، فلما ألحَّ عليه بأن يأذن له بالعودة إلى دمشق سأله الملك الرومي : " أمن أهل بيت الملك أنت ؟ . قال : " لا ، إنما أنا رجلٌ من جملة المسلمين " ، فلما أذن له بالرحيل قال له : " إذا رجعت إلى صاحبك ـ يعني عبد الملك بن مروان ـ وأبلغته جميع ما يريد معرفته ، فادفع إليه هذه الرُقعة " ، أعطاه كتابًا مختومًا .
فلما عاد الشعبي إلى دمشق بادر إلى لقاء عبد الملك ، وأفضى إليه بكل ما رآه وسمعه ، وأجابه عن جميع ما سأل عنه ، ولما نهض لينصرف قال : " يا أمير المؤمنين إن ملك الروم حمَّلني لك هذه الرُقعة " ، ودفعها إليه وانصرف ، فلما قرأها عبد الملك قال لغلمانه : " ردوه عليَّ " ، فردوه ، فقال له : " أعلمت ما في هذه الرقعة ؟ " ، قال : " لا يا أمير المؤمنين " فقال عبد الملك : " لقد كتب إليَّ ملك الروم يقول : عجبت للعرب كيف ملَّكت عليها رجلاً غير هذا الفتى !! " ، فبادره الشعبي قائلاً : " إنما قال هذا لأنه لم يرك ، ولو رآك يا أمير المؤمنين لما قاله " . فخلَّص نفسَه بهذه الحيلة ، فقال عبد الملك : " أفتدري لمَ كتب إلي ملك الروم هذا ؟ " ، قال له : " لا " ، قال عبد الملك : " إنما كتب إليَّ بذلك لأنه حسدني عليك ، فأراد أن يغريني بقتلك والتخلُّص منك " .
عجبت كيف تولي العرب رجلاً غير هذا الفتى ، أي : تخلَّصْ منه ، إنه أذكى منك ، وأقوى منك ، فبلغ ذلك ملك الروم فقال : " لله أبوه ، واللهِ ما أردت غير ذلك " .
الحقيقة أنّ الإنسان إذا وفَّقه اللهُ فإنه يوفِّقه لاتخاذ أعوان مخلصين ، أصحاب فطانة ، أذكياء ، يحسنون التصرُّف ، فأحياناً تكون الآفة من الأعوان ، والنبي دعا بالبطانة الصالحة التي تدلُّ على الخير ، وتعين عليه ، واستعاذ بالله من بطانة السوء التي تدلّ على الشر ، وتعين عليه، والإنسان إذا اتّخذ صديقًا ، أو اتخذ معينًا ، إنْ كان مدير معمل ، مدير دائرة ، مدير مستشفى ، مدير مدرسة ، فيتخذ إنسانًا أخلاقه عالية ، وذكيًا حصيفًا ، وإلا فالمعين السيئ يدمِّره .
لقد بلغ الشعبي في العلم منزلةً جعلته رابع ثلاثةٍ في عصره ، فقد كان الزهري يقول : "العلماء أربعة ؛ سعيد بن المسيِّب في المدينة ، وعامر الشعبي في الكوفة ، والحسن البصري في البصرة ، ومكحولٌ في الشام " ، لكن الشعبي كان بتواضعه يخجل إذا ألبَسه أحد لقب العالِم ، فقد خاطبه أحدهم قائلاً : " أجبني أيها الفقيه العالِم " ، قال : "ويحك لا تُطْرِنَا بما ليس فينا ، الفقيهُ من تورَّع عن محارم الله ، والعالِمُ من خشيَ الله ، وأين نحن من ذلك " .
كان في الشام عالِم من العلماء ، وهو الشيخ بدر الدين الحسني ، هذا علَّم العلماء كلهم ، وكان هذا العالم الجليل إذا غضب تغضب له كل البلاد ، مرَّة سأله واحد فضولي فقال له : سيدي لفَّتك ليست بيضاء ، أي لماذا لا تضع لفَّة بيضاء يا سيدي ؟ فقال له : " يا ابني هؤلاء الذين يضعون اللفة البيضاء علماء " ، وسأله مرة واحد : ما مذهبك ؟ فقال له : " يا بني العوام لا مذهبَ لهم ، العوام يقلدون تقليدًا ، وليس لهم مذهب " ، لقد كان متواضعًا ، حتى إنه لم يُصَلِّ بالناس أبداً ، ولا سمح لأحد أن يقبِّل يده ، ولو وزنته بالعلم لكان سيد العلماء .
كان مرَّة يمشي في الغوطة مع إخوانه ـ هكذا سمعت ـ فجاء شخص أرعن ، أحمق ، عدواني المزاج ، والأرض طين ، يركب بغلاً - أي بغل على بغل - ويبلِّل الناس بهذا الطين ، وهم يقولون : على مهلك ، على مهلك ، أبداً لم يستجب ، حتى بلَّل الشيخ ، فهؤلاء المريدين مؤدبون جداً ، ولكن أحدَهم لم يتحمَّل الوضع ، فأوجعه ضربًا حتى كاد يهلكه ، فإذا سكتَ الشيخ فثمة مشكلة ، وإن تكلَّم فمشكلة ، فقال كلمة رائعة وذكية جداً ، قال : " ما أفلح قومٌ لا سفيه لهم"، أي : هذا العمل سفاهة ، لكنه ضروري ، أحياناً تجد سفيهًا ، لكنه لسفيه آخر دواء ، قال : " ما أفلح قومٌ لا سفيه لهم ".
على كلٍ من التواضع ألاّ يقول : أنا عالم ، نصيحة ، قل : أنا طالب علم ، والله أسمعها من كبار العلماء ، أنا طالب علم ، ويظلُّ المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علِم فقد جهل .
في اللحظة التي تتوهَّم أنك عالِم فأنت جاهل ، فإذا تكلم الإنسانُ عن نفسه فليقل : أنا طالب علم ، أرجو من الله التوفيق .
قيل لأحدهم : يا سيدي هذا الحديث الذي ذكرته موضوع ، فقال له : لمجرَّد أني قلته فهو صحيح ، هناك جبابرة في العلم .
مرَّة سأله شخص عن مسألة فأجاب ، فقال : " قال فيها عمر بن الخطاب كذا ، وقال فيها علي بن أبي طالب كذا " ، فقال له السائل : "وأنت ماذا تقول يا أبا عمرو ؟ ـ ما قولك أنت ؟ ـ فابتسم في استحياء ، وقال : " وما تصنع بقولي بعد أن سمعت مقالة عمر وعلي ؟! من أنا حتى يعتدَّ برأيي ؟! .
وسيدنا الشافعي له كلمة رائعة أنه : "إذا وجدتم الحديث الصحيح يخالف قولي فاضربوا بقولي عُرض الحائط " ، لو فرضنا أنّ للشافعي رأيًا ، وعثرت على حديثٍ صحيح خلاف كلام الشافعي ، فالشافعي نفسه قال لك : اضرب بكلامي عرض الحائط " ، ولا تعبأ به ، وكن مع الحديث الشريف ، مَن أنا أمام الحديث ؟ العالِم متواضع ، وانتهى الأمر .
كان الشعبي يكره المراء ، ويتصاون عن الخوض فيما لا يعنيه ، فقدْ كلَّمه أحد أصحابه ذات يومٍ فقال : يا أبا عمرو ، فقال : لبيك ، قال : " ماذا تقول فيما يتكلَّم فيه الناس من أمر هذين الرجلين ، قال : أي الرجلين تعني ؟ قال : عثمان وعلي ، قال :" إني والله لفي غنىً عن أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعثمان بن عفَّان ، أو لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما جميعاً"، مَن أنا حتى أكون حكمًا بينهما ؟ أنا غني عن أن أكون خصمًا لأحد هذين الصحابيين الكبيرين ، والنبي قال :
" إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا ... " .
( من الجامع الصغير : عن ابن مسعود )
أي إذا اختلف طبيبان جراحا قلب ، وهناك ممرض صغير قاعد ، فسألته : ما قولك ، الحق مع مَن ؟ فماذا فهِمَه هذا الممرِّض من هذا الخلاف بين جراحي قلب ؟ وإذا اختلف مثلاً ركنان في الجيش ، فسألنا مجنَّدًّا غرّا : ما قولك ، الحق مع من ؟ ما هذا الكلام ؟ إنه كلام ليس له معنى إطلاقاً ، صحابيان جليلان اختلفا ، فلا مانع ، ونحن لا دخل لنا .
ولقد جمع الشعبي إلى العلم الحلم ، فقد روي أن رجلاً شتمه أقبح الشتم ، وأسمعه أقذع الكلام ، فلم يزِدْ عن أن قال له : " إن كنت صادقاً فيما تقول فغفر اللهُ لي ، وإن كنت غير صادق فغفر اللهُ لك " ، انتهى الأمر .
لم يكن الشعبي على جلالة قدره ، وجذالة فضله يأنف أن يأخذ المعرفة ، أو يتلقَّى الحكمة مِن أهونِ الناس شأناً ، فلقد دَأَبَ أعرابيٌ على حضور مجالسه ، غير أنه كان يلوذ بالصمت دائماً، فقال له الشعبي مرةً : " ألا تتكلَّم ؟ ، فقال : " أسكت فأسلم ، وأسمع فأعلم ، وإن حظ المرء من أذنه يعود عليه ، أما حظه من لسانه فيعود على غيره " ، فظل الشعبي يردِّد كلمة الأعرابي ما امتدَّت به الحياة ، والمؤمن الصادق ، لا يأنف أن يأخذ الحكمة مِن أي إنسان .
أوتي الشعبي من بلاغة الكلام ، وحسن التصرُّف ما لم يؤتَهُ إلا القلةُ النادرة من الفصحاء، فقد كلَّم مرةً أمير العراقَيْن عمرَ بن هبيرة الفزاري في جماعةٍ حبسهم ، فقال :"أيها الأمير إن كنت حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم ، وإن كنت حبستهم بالحق فالعفو يسعه "
هناك آية قرآنيَّة تحل ألف مشكلة ... قال تعالى :
http://www.nabulsi.com/text/05seera/Tabien/tabeen-11_files/image005.gif
( سورة النحل : من آية " 90 " )
فإذا لم تتوافق القضيَّة على العدل فإنَّ الإحسان يسعها ، وإذا كان معك الحق وأنت منصف، لكن الشخص يحتاج لإحسانك ، فلا تبخل به عليه .
وعلى الرغم من مروءة الشعبي ، وعلو منزلته في الدين والعلم ، فقد كان عذب الروح ، حلو المفاكهة ، لا يفوِّت الطُرفة إذا لاحت له ، والإنسان ..
" روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة ، فإن القلوب إذا كلَّت عميت " .
( من الجامع الصغير )
دخل عليه رجل وهو جالسٌ مع امرأته فقال : أيكما الشعبي ؟ فقال : هذه .
مرة قال لي أحدهم : أي يوم تخطبون يا أستاذ الجمعة ؟ قلت له : يوم الأحد ، قال : ما هذا الأحد ، هل هناك خطبة يوم الأحد ؟ تسألني متى أخطب ؟ سؤال ليس له معنى ، طبعاً أخطب الجمعة .
سأله مرة واحد : مَن تكون زوجة إبليس ؟ قال له : واللهِ هذا عرسٌ ما شهدته .
مرة قال : "والله ما حللتُ حبوتي إلى شيءٍ مما ينظر إليه الناس ، ولا ضربتُ غلاماً لي قط ، وما مات ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلا قضيته عنه " .
إخواننا الكرام ؛ الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين ؛ شهادته ، أدى ماله ، أدى نفسه ، أثمن ما يملك إلا الدَّين ، عَنْ الحَارِثِ بْنِ رِبْعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ - ولو كان شهيدًا - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا قَالَ أَبُو قَتَادَةَ هُوَ عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ قَالَ بِالْوَفَاءِ فَصَلَّى عَلَيْهِ*
( من سنن الترمذي )
لأن الله عزَّ وجل يغفر ما كان بينه وبين العبد ، لكن ما كان بين العباد فلا بد من الأداء ، لأنّ حقوق العباد مبنيةٌ على المشاححة ، وحقوق الله مبنيةٌ على المسامحة .
عُمِّر الشعبي حتى نيَّف على الثمانين ، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ*
( من سنن الترمذي)
فلما لبَّى نداء ربه ، ونُعِيَ إلى الحسن البصري قال : " يرحمه الله فقد كان واسعَ العلم ، عظيمَ الحلم ، وإنه من الإسلام بمكان " ، هذا كلام الحسن البصري عندما نعاه
طالب عفو ربي
14-05-2009, 08:04 PM
الأقرع بن حابس الدارمي
هو الأقرع بن حابس بن عقال التميمي المجاشعي الدرامي، وقال ابن دريد: اسمه فراس بن حابس، ولقب الأقرع لقرع كان به في رأسه والقرع: انحصاص الشعر.
والقرعة بالقاف هي: نخبة الشيء وخياره وقريع الإبل: فحلها وقريع القبيلة: سيدها ومنه اشتق الأقرع بن حابس وغيره ممن سمي من العرب بالأقرع
وهو عم الشاعر المشهور الفرزدق وأم الفرزدق هي ليلَى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس...
حاله في الجاهلية:
كان من سادات العرب في الجاهلية......
وقيل عنه: كان شريفا في الجاهلية والإسلام....
وكان - رضي الله عنه - من وجوه قومه ( بني تميم ).
وكان قد رأس وتقدم في قومه قبل أن يسلم ثم أسلم.
وقال الزبير في النسب كان الأقرع حكما في الجاهلية وفيه يقول جرير، وقيل غيره، لما تنافر إليه هو والفرافصة أو خالد بن أرطاة: يا أقرع بن حابس يا أقرع... إن تصرع اليوم أخاك تصرع
قال المرزباني في معجمعه: وهو أحد حكام العرب في الجاهلية كان يحكم في كل موسم، وهو أول من حرم القمار.
قصة إسلامه
لما قدم وفد تميم كان معهم فلما قدموا المدينة قال الأقرع بن حابس حين نادى: يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلكم الله سبحانه.
وقيل: بل الوفد كلهم نادوا بذلك فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ذلكم الله فما تريدون؟
قالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا ولكن هاتوا فقال الأقرع بن حابس لشاب منهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وقومك فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء فنحن خير من أهل الأرض أكثرهم عددا وأكثرهم سلاحا فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا وبفعال هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم فأجبه فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظم الناس أحلاما فأجابوه والحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزا لدينه فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمن قالها منع منا نفسه وماله ومن أباها قاتلناه وكان رغمه في الله تعالى علينا هينا أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فقال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم... من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بحسان بن ثابت فحضر وقال: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود والعود: الجمل المسن. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم فأجبه فقال: أسمعني ما قلت فأسمعه فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة... على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كإبزاغ المخاض مشاشه... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحدا يوم استقلت شعابه... بضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى... إذا طاب ورد الموت بين العساكر
ونضرب هام الدارعين وننتمي... إلى حسب من جذم غسان قاهر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى... وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرما... على الناس بالخيفين هل من منافر
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء قد قلت شعرا فأسمعه قال: هات فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا... إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وأنا رؤوس الناس من كل معسر... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسان فأجبه فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم... لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما كنت ترى أن الناس قد نسوه " ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهما من قول حسان
ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم ومن المجد والعلى... ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا... ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت مالت أكفنا... على رؤوسكم بالمرهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أرفع صوتا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع صوتا وأحسن قولا ثم دنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يضرك ما كان قبل هذا "
وفي وفد بني تميم نزل قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ] {الحجرات:4}
ثم أسلم القوم وبقوا بالمدينة مدة يتعلمون القرآن والدين ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم وكساهم...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
موقف قدومه هو وقومه، وقد سبق ذكره عند إسلامه...
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف
من حديث أبي سعيد الخدري قال بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية من اليمن فقسمها بين أربعة أحدهم الأقرع بن حابس...
وأعطى يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من غنائم حنين في العرب الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل
وهذه الأحاديث الصحيحة تشير إلى بعض مواقفه مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ):
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ { البخاري - كتاب فرض الخمس - حديث رقم 2917 }
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي قَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا] حَتَّى انْقَضَتْ البخاري - كتاب المغازي - حديث رقم 4019 }
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ {البخاري - كتاب الدب - حديث رقم 5538 }
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ كُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ فَقَالَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ثُمَّ إِذًا لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تُطِيعُونَ وَلَكِنَّهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ { النسائي - كتاب مناسك الحج - حديث 2573 }
قَالَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَنَّهُ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَ أَبُو سَلَمَةَ ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مسند أحمد - حديث رقم 15422}
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةَ ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ شَكَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ { البخاري - كتاب المناقب - حديث رقم 3254 }
وكان - رضي الله عنه من المؤلفة قلوبهم:
عن ابن عباس قال: كانت المؤلفة قلوبهم خمسة عشر رجلا منهم: أبو سفيان بن حرب والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري وسهيل بن عمرو العامري...
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
شهد الأقرع بن حابس رضي الله عنه مع خالد بن الوليد رضي الله عنه حرب أهل العراق وشهد معه فتح الأنبار وكان على مقدمة خالد بن الوليد...
واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب بالجوزجان هو والجيش وذلك في زمن عثمان
عن عبيدة بن عمرو السلماني أن عيينة والأقرع استقطعا أبا بكر أرضا فقال لهما عمر إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفكما على الإسلام فأما الآن فاجهدا جهدكما وقطع الكتاب...
سار الأقرع بن حابس إلى الجوزجان بعثه الأحنف في جريدة خيل إلى بقية كانت بقيت من الزحوف الذين هزمهم الأحنف فقاتلهم فجال المسلمون جولة فقتل فرسان من فرسانهم ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم
فتح الأنبار و عين التمر و تسمى هذه الغزوة ذات العيون:
ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار و على مقدمته الأقرع بن حابس و كان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم و رشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين ثم نحر ضعاف الإبل و ألقاها في الخندق حتى ردمه بها و جاز هو و أصحابه فوقها فاجتمع المسلمون و الكفار في الخندق و صالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه و يخلي لهم عن البلد و ما فيها ببهمن حاذويه...
وقد صحب خالد بن الوليد رضي الله عه في أكثر معاركه باليمامة أيام الردة وشارك كذلك في حروب العراق وأبلى فيها بلاء حسنا...
وفاته
استشهد رضي الله عنه بجوزجان - - سنة 31 هـ
طالب عفو ربي
15-05-2009, 04:40 PM
البراء بن عازب
مقدمة
البراء بن عازب بن حارث بن الخزرج الأنصاري ويكنى أبا عمارة...
ولد رضي الله عنه قبل الهجرة بعشر سنوات، قال رضي الله عنه: استصغرني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أنا وابن عمر فرَدّنا فلم نشهدها، وقال محمد بن عمر: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة ولم يجز قبلها.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن البراء بن عازب قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فصافحني فقلت يا رسول الله إن كنت أحسب المصافحة إلا في العجم قال نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه بمودة ونصيحة، إلا ألقى الله ذنوبهما بينهما.
وعنه رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول:
"والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلن سـكينة علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينـا إذا أرادوا فتنة أبينـا"
ورفع بها صوته "أبينا أبينا"
وفي البخاري عن سعد بن عبيدة قال حدثني البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبة ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت مت على الفطرة فاجعلهن آخر ما تقول" فقلتُ أستذكرهن وبرسولك الذي أرسلت قال "لا وبنبيك الذي أرسلت"
من مواقفه مع الصحابة رضي الله عنهم
روى البخاري بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يحدث قال ابتاع أبو بكر من عازب رحلا فحملته معه. قال: فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلا فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة ثم رفعت لنا صخرة فأتيناها ولها شيء من ظل قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
فانطلقت أنفض ما حوله فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة يريد من الصخرة مثل الذي أردنا فسألته: لمن أنت يا غلام؟
فقال: أنا لفلان.
فقلت له: هل في غنمك من لبن؟
قال: نعم.
قلت له: هل أنت حالب؟
قال: نعم.
فأخذ شاة من غنمه فقلت له: انفض الضرع.
قال: فحلب كثبة من لبن ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في إثرنا، قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى فرأيت أباها فقبل خدها وقال كيف أنت يا بنية.
وروى البخاري بسنده عن البراء رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فما جاء حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها.
وكان البراء بن عازبٍ رضي الله عنه من قادة الفتوح، وقد عينه عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته على الري سنة 24هـ فغزا قزوين وما والاها, وفتحها وفتح زنجان عنوة.
وقد شهد البراء بن عازبٍ رضي الله عنه غزوة تستر مع أبي موسى وشهد أيضًا وقعتي الجمل وصفين وقتال الخوارج ونزل الكوفة وابتنى بها دارًا...
من مواقفه مع التابعين
عن أبي داود قال لقيني البراء بن عازب فأخذ بيدي وصافحني وضحك في وجهي ثم قال: تدري لم أخذت بيدك؟
قلت: لا إلا إني ظننتك لم تفعله إلا لخير. فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لقيني ففعل بي ذلك ثم قال: أتدري لم فعلت بك ذلك؟ قلت: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسلِمَين إذا التقيا وتصافحا وضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه لا يفعلان ذلك إلا لله لم يتفرقا حتى يغفر لهما.
أثره في الأخرين دعوته وتعليمه:
عن أبي إسحاق قال: قال لي البراء بن عازب: ألا أعلمك دعاء علمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : إذا رأيت الناس قد تنافسوا الذهب والفضة فادع بهذه الدعوات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد وأسألك شكر نعمتك والصبر على بلائك وحسن عبادتك والرضا بقضائك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم
بعض الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أو يوجه إلى الكعبة فأنزل الله { قد نرى تقلب وجهك في السماء } . فتوجه نحو الكعبة . وقال السفهاء من الناس وهم اليهود { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال وهو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإضحى بعد الصلاة فقال: (من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نسك له )
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله [يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ]
عن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وإفشاء السلام وإجابة الداعي وتشميت العاطس ونصر المظلوم وإبرار القسم ونهانا عن الشرب في الفضة فإنه من يشرب فيها في الدنيا لا يشرب فيها في الآخرة وعن التختم بالذهب وركوب المياثر ولباس القسي والحرير والديباج والإستبرق.
من أقواله رضي الله عنه:
عن البراء بن عازب قال: من تمام التحية أن تصافح أخاك
وعنه رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
وفاته:
توفي رضي الله عنه وأرضاه بالكوفة سنة 72 هـ= في إمارة مصعب بن الزبير.
طالب عفو ربي
15-05-2009, 04:43 PM
البراء بن مالك
مقدمة
البراء بن مالك بن النضر الأنصاري وهو أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه رضي الله عنهما وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا...
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
ربّاه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الشهادة في سبيل الله وعلى اليقين بنصر الله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مستجاب الدعوة...
عن أنس قال دخلت على البراء بن مالك وهو يتغنى فقلت له قد أبدلك الله ما هو خير منه فقال: أترهب أن أموت على فراشي لا والله ما كان الله ليحرمني ذلك وقد قتلت مائة منفردا - أي مبارزة من المشركين في ميادين القتال - سوى من شاركت فيه...
انظر إلى يقين البطل المغوار بربه وحسن ظنه بمولاه
أهم ملامح شخصيته:
الشجاعة والإقدام وحب الجهاد
عن أنس بن مالك قال لما بعث أبو موسى على البصرة كان ممن بعث البراء بن مالك وكان من ورائه فكان يقول له اختر عملا فقال البراء ومعطي أنت ما سألتك قال نعم قال أما إني لا أسألك إمارة مصر ولا جباية خراج ولكن أعطني قوسي وفرسي ورمحي وسيفي وذرني إلى الجهاد في سبيل الله فبعثه على جيش فكان أول من قتل...
وعن ابن سيرين: قال: لقي البراء بن مالك يوم مسيلمة رجلا يقال له حمار اليمامة قال: رجل طوال في يده سيف أبيض قال: وكان البراء رجلا قصيرا فضرب البراء رجليه بالسيف فكأنما أخطأه فوقع على قفاه قال: فأخذت سيفه وأغمدت سيفي فما ضربت إلا ضربة واحدة حتى انقطع فألقيته وأخذت سيفي...
وكتب عمر بن الخطاب أن لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم أي لفرط شجاعته...
وعن محمد بن سيرين: أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين - يوم حرب مسيلمة الكذاب - فجلس البراء بن مالك رضي الله عنه على ترس فقال ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم فرفعوه برماحهم فألقوه من وراء الحائط فاقتحم إليهم وشد عليهم وقاتل حتى افتتح باب الحديقة فجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحاً ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهراً يداوي جرحه....
وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم العقبة بفارس، و قد زوى الناس، قام البراء بن مالك فركب فرسه و هي تزجي، ثم قال لأصحابه: بئس ما عودتكم أقرانكم عليكم فحمل على العدو ففتح الله على المسلمين...
عن ابن سيرين قال: بارز البراء بن مالك أخو أنس بن مالك مرزبان الزآرة فقتله وأخذ سلبه فبلغ سلبه ثلاثين ألفا فبلع ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أرانا إلا خامسيه...
بين الأخوة في الله والأخوة في النسب
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: بينما أنس بن مالك و أخوه البراء بن مالك عند حصن من حصون العدو، والعدو يلقون كلاليب في سلاسل محماة فتعلق بالإنسان فيرفعونه إليهم فعلق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك فرفعوه حتى أقلوه من الأرض فأتي أخوه البراء بن مالك فقيل: أدرك أخاك وهو يقاتل في الناس فأقبل يسعى حتى نزل في الجدار ثم قبض بيده على السلسلة وهي تدار فما برح يجرهم ويداه تدخنان، حتى قطع الحبل ثم نظر إلى يديه فإذا عظامها تلوح قد ذهب ما عليها من اللحم أنجى الله عز وجل أنس ابن مالك بذاك...
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك يقول: كان البراء بن مالك رجل حسن الصوت فكان يرجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فبينما هو يرجز إذ قارب النساء فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: إياك و القوارير قال: فامسك...
من مواقفه مع الصحابة
عن أنس قال: لقي أبي بن كعب البراء بن مالك فقال: يا أخي ما تشتهي؟ قال: سويقا وتمرا فجاء فأكل حتى شبع فذكر البراء ابن مالك ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اعلم يا براء أن المرء إذا فعل ذلك بأخيه لوجه الله لا يريد بذلك جزاء ولا شكورا بعث الله إلى منزله عشرة من الملائكة يقدسون الله ويهللونه ويكبرونه ويستغفرون له حولا فإذا كان الحول كتب له مثل عبادة أولئك الملائكة وحق على الله أن يطعمهم من طيبات الجنة في جنة الخلد وملك لا يبيد
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم ضعيف مستضعف ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك " وإن البراء لقي زحفا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين فقالوا له يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على ربك " . قال: أقسمت عليك يا رب منحتنا أكتافهم ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين فقالوا له يا براء أقسم على ربك فقال أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبي الله صلى الله عليه وسلم فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا رضي الله عنه
أثره في الآخرين دعوته وتعليمه
قال أنس بن مالك ركب البراء فرسا يوم اليمامة ثم قال أيها الناس إنها والله الجنة وما لي إلى المدينة سبيل فمصع فرسه مصعات ثم كبس وكبس الناس معه فهزم الله المشركين...
وفاته
كان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون له: يا براء أقسم على ربك فيقسم على الله فينهزم الكفار فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا يا براء أقسم على ربك فقال يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم وجعلتنى أول شهيد فأبرّ الله قسمه فانهزم العدو، واستشهد البراء بن مالك وكان ذلك في موقعة "تستر" سنة إحدى و عشرين من الهجرة...
طالب عفو ربي
17-05-2009, 03:09 AM
البراء بن معرور
مقدمة
البراء بن معرور بن صخر الأنصاري الخزرجي السلمي أبو بشر.
قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان البراء بن معرور من النفر الذين بايعوا البيعة الأولى بالعقبة وهو أول من بايع في قول ابن إسحاق، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله.
بيعته
كان نقيب قومه بني سلمة. وكان أول من بايع ليلة العقبة الأولى.
وعن محمد بن سعد قال: إن البراء أول من تكلم من النقباء ليلة العقبة حين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعون من الأنصار فبايعوه، وأخذ منهم النقباء فقام البراء، فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وحيانا به فكنا أول من أجاب لإاجبنا الله ورسوله وسمعنا وأطعنا يا معشر الأوس والخزرج، قد أكرمكم الله بدينه، فإن أخذتم السمع والطاعة والمؤازرة بالشكر فأطيعوا الله ورسوله ثم جلس رضي الله عنه.
قال ابن حجر في الإصابة: وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور.
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بني سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان كعب ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا.
فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا، فوالله ما أدري، أتوافقونني عليه، أم لا؟ قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البَنيِّة مني بظهر، يعني الكعبة، وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصل إليها. قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا ؛ قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم - قال: و قد كنا نعرف العباس، وكان لا يزال يقدم علينا تاجرا - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور، سيد قومه ؛ وهذا كعب بن مالك.
قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟ قال: نعم. قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البَنِيَّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
قال ابن هشام: وقال عون بن أيوب الأنصاري:
ومنا المُصلي أول الناس مُقبلا * على كعبة الرحمن بين المشاعر
يعني البراء بن معرور. وهذا البيت في قصيدة له.
من كلماته
قال البراء بن معرور في موقف البيعة:
يا أبا الفضل اسمع منا فسكت العباس فقال البراء لك والله عندنا كتمان ما تحب أن نكتم وإظهار ما تحب أن نظهر وبذل مهج أنفسنا ورضا ربنا عنا إنا أهل حلقة وافرة وأهل منعة وعز وقد كنا على ما كنا عليه من عبادة حجر ونحن كذا فكيف بنا اليوم حين بصرنا الله ما أعمى على غيرنا وأيدنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ابسط يدك فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور
وفاته
روى أن البراء بن معرور مات قبل الهجرة فوجه قبره إلى الكعبة وكان قد أوصى عليه يعني على قبره وكبر أربعاً.
وعن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله يصرفه حيث شاء فرده النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق وغيره: مات البراء بن معرور قبل قدوم النبي بشهر.
طالب عفو ربي
17-05-2009, 03:13 AM
الحباب بن المنذر
أهم ملامح شخصيته
1- الشجاعة
فهذا الصحابى قد شهد المشاهد كلها مع رسول الله ولعل ثباته يوم أحد من أكثر المواقف التي تدل على شجاعته
فقد ثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد في عصابة صبروا ومعه أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ومن الأنصار الحباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن الحضير وسعد بن معاذ.(1)
2- الثقة بالنفس والذكاء والرأي الراجح وظهر ذلك جليا في موقفه في غزوة بدر الكبرى عندما أشار على الرسول بالمكان الأمثل للمسلمين
من مواقفه مع الرسول في حياته
ففي يوم بدر " وسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يبادرهم يعني قريشا إليه يعني إلى الماء فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا رسول الله منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال الحباب : يا رسول الله ليس بمنزل ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك ثم غور كل قليب بها إلا قليبا واحدا ثم احفر عليه حوضا فنقاتل القوم ونشرب ولا يشربون حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله( صلى الله عليه وسلم) : " قد أشرت بالرأي " ففعل ذلك.(2)
ياله من موقف عظيم من رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) موقف يدل علي التواضع ، وقبول الرأي الصواب أينما كان ، وموقف رائع من الحباب ( رضي الله عنه ) ، فهو الذي رباه النبي ( صلي الله عليه وسلم ) علي مبدأ الشورى ، وأن الدين النصيحة .
وفي غزوة أحد أظهر من البطولة والفتوة والتضحية بالنفس الشيء العجيب " روى سعد بن عبادة قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عصابة من أصحابه على الموت يوم أحد حتى انهزم المسلمون فصبروا وكرموا وجعلوا يسترونه بأنفسهم يقول الرجل منهم : نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله وجهي لوجهك الوقاء يا رسول الله وهم يحمونه ويقونه بأنفسهم حتى قتل منهم من قتل وهم أبو بكر وعمر وعلي والزبير وطلحة وسعد وسهل بن حنيف وابن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وأبو دجانة والحباب بن المنذر.
بعض المواقف من حياتة مع الصحابة
أبدي الحباب بن المنذر برأيه في سقيفة بني ساعدة فقد اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر فكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال الحباب بن المنذر السلمي لا والله لا نفعل أبدا منا أمير ومنكم أمير قال فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأكرمهم أحسابا يعني قريشا فبايعوا عمر وأبا عبيدة فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وأنت خيرنا وأحبنا إلى نبينا (صلى الله عليه وسلم) فأخذ عمر بيده فبايعه فبايعه الناس .
من كلماته
من شعر الحباب بن المنذر:
ألم تعلما لله در أبيكما ... وما الناس إلا أكمه وبصير
أنا وأعداء النبي محمد ... أسود لها في العالمين زئير
نصرنا وآوينا النبي وماله ... سوانا من أهل الملتين نصير (3)
تاريخ الوفاة
توفي الحباب بن المنذر في خلافة عمر بن الخطاب وليس له عقب
وقال ابن سعد:مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين سنة .(4)
طالب عفو ربي
17-05-2009, 03:20 AM
الحسن بن علي
مقدمة
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، المدني الشهيد، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وهو سيد شباب أهل الجنة، فهو ابن السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه...
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لم يكن في ولد علي أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن، وقد سمّاه أبوه حربًا لكن النبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسمه إلى "الحسن"، ويقال: إن الحسن و الحسين اسمان من أسماء أهل الجنة ما سمت العرب بهما في الجاهلية، وقد ولد الحسن رضي الله عنه في نصف رمضان سنة 3 هـ.
عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي".
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
ظل الحسن بن علي رضي الله عنه يتربى على يد المصطفي صلى الله عليه وسلم ما يقرب ثمان سنوات، أفاض عليها النبي صلى الله عليه وسلم عليه فيها الخير الكثير، ورباه على عينه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبًا جمًا، وقد تولّى النبي صلى الله عليه وسلم تربيته منذ اليوم الأول لولادته، فاختار له هذا الاسم الحسن"الحسن"
وقد أذّن النبي صلى الله عليه وسلم في أذنه ليرسّخ في قلبه معاني عظمة الله عز وجل، وليطرد عنه الشيطان كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين..."، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبدأ حياة الحسن رضي الله عنه بذكر الله عز وجل لتظل هذه الكلمات راسخة في قلبه وعقله، كما برّك النبي صلى الله عليه وسلم الحسن أي دعا له بالبركة، وحنّكه - والتحنيك أن يُمضغ التمر أو نحوه ثم يُدلك به حنك الصغير -.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب الحسن كثيرًا ويقبله ويعانقه حبًا له وعطفًا عليه مما يشعره بالارتباط الوثيق بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤصّل في الحسن رضي الله عنه منذ الصغر حب الإصلاح بين المسلمين ويربط هذا الأمر بالسيادة، فقد روى البخاري بسنده عن أبي بكرة رضي الله عنه أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن فصعد به على المنبر فقال: "ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين".
وقد تحققت هذه النبوءة التي تنبّأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك...
أهم ملامح شخصيته
الحرص الشديد على وحدة الكلمة بين المسلمين وحقن الدماء:
جوانب العظمة والسمو البشري والأخلاقي في شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه من الكثرة بمكان، لكن أهم ما يميّزه، وأبرز ما يظهر في معاملاته وسلوكياته، هو هذا الملمح العظيم في شخصيته، وهو الحرص الواضح والدائم على حقن دماء المسلمين ووحدتهم، ويكسو هذا الحرص حياة الحسن رضي الله عنه طولًا وعرضًا، ويؤكد ذلك المواقف الكثيرة التي عاشها الحسن رضي الله عنه وتعايش معها انطلاقًا من هذا المبدأ العظيم.
وهذا مشهد من معركة الجمل:
رُويَ عن محمد بن حاطب أنه قال: لما فرغنا من القتال يوم الجمل قام علي بن أبي طالب والحسن وعمّار بن ياسر وصعصعة بن صوحان والأشتر ومحمد بن أبي بكر يطوفون في القتلى فأبصر الحسن بن علي قتيلا مكبوبا على وجهه فرده على قفاه وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون" هذا فرع قريش والله!
فقال أبوه : من هو يا بني قال : محمد بن طلحة!
قال : "إنا لله وإنا إليه راجعون" إن كان من علمته لشابا صالحا. ثم قعد كئيبا حزينا فقال الحسن يا أبت كنت أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان!
قال: قد كان ذلك يا بني ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
فهذا الموقف يدل على أن الحسن رضي الله عنه كان قد أشار على أبيه بعدم الخروج إلى هذه الموقعة حقنًا لدماء المسلمين...
ولما اجتمع الناس إلى الحسن بن علي بالمدائن بعد قتل علي عليه السلام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أن كل ما هو آت قريب وإن أمر الله واقع أذلا له، وإن كره الناس، وإني والله ما أحببت أن ألي من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما يزن مثقال حبة خردل يهراق فيها محجمة من دم منذ عقلت ما ينفعني مما يضرني، فالحقوا بمطيتكم.
وتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حقنًا لدماء المسلمين:
وعن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال: خطبنا الحسن بن علي بالنخلة حين صالح معاوية فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن أكيس الكيس التقي وإن أعجز العجز الفجور وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لامرئ وكان أحق بحقه مني أو حق لي فتركته لمعاوية إرادة استضلاع المسلمين وحقن دمائهم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
لقد كان تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة وإبرامه الصلح مع معاوية رضي الله عنه بعد بضعة أشهر من مبايعته ـ أي الحسن ـ فاتحة خير على المسلمين إذ توحدت جهودهم، وسمي ذلك العام 41 هـ عام ***ة، وعاد المسلمون للجهاد والفتوحات...
فهذه المواقف من حياته رضي الله عنه تدل دلالة واضحة على عمق هذا الأمر في نفسه، وتضحيته رضي الله عنه بكل ما يستطيع بُغية حقن الدماء ووحدة الكلمة بين المسلمين.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد بسنده عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فألقيتها في في، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابها فألقاها في التمر، فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة، قال: "إنا لا نأكل الصدقة".
وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة فانصرف فانصرفت فقال: "أين لكع؟" ثلاثا ادع الحسن بن علي فقام الحسن بن علي يمشي وفي عنقه السخاب - خيط من خرز يوضع في العنق كالقلادة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده هكذا فقال الحسن بيده هكذا فالتزمه فقال: "اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه" وقال أبو هريرة: فما كان أحد أحب إليّ من الحسن بن علي بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
وروى مسلم بسنده قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا فإذا عاد عادا فلما صلى جعل واحدا ها هنا وواحدا ها هنا فجئته فقلت يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما قال لا فبرقت برقة فقال: الحقا بأمكما فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا
وعن أبي فاختة قال: قال علي رضي الله عنه: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبات عندنا والحسن والحسين نائمان فاستسقى الحسن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قربة لنا فجعل يعصرها في القدح ثم جاء يسقيه فناول الحسن فتناول الحسين ليشرب فمنعه وبدأ بالحسن فقالت فاطمة يا رسول الله كأنه أحبهما إليك قال: "إنه استسقى أول مرة" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني وهذين" - وأحسبه قال - "وهذا الراقد" - - يعني عليا - "يوم القيامة في مكان واحد".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فلما كان في الرابعة أقبل الحسن والحسين حتى ركبا على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم وضعهما بين يديه وأقبل الحسين فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن على عاتقه الأيمن والحسين على عاتقه الأيسر ثم قال أيها الناس ألا أخبركم بخير الناس جدا وجدة ألا أخبركم بخير الناس عما وعمة الا أخبركم بخير الناس خالا وخالة ألا أخبركم بخير الناس أبا وأما هما الحسن والحسين جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدتهما خديجة بنت خويلد وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمهما جعفر بن أبي طالب وعمتهما أم هانيء بنت أبي طالب وخالهما القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم جدهما في الجنة وأبوهما في الجنة وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة وخالاتهما في الجنة وهما في الجنة ومن أحبهما في الجنة
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أبي بكر رضي الله عنه:
عن عقبة بن الحارث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما فضمه إليه وقال بأبي شبيه بالنبي ليس شبيه بعلي وعلي يضحك. المستدرك
مع أبي هريرة رضي الله عنه:
عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: كنا مع أبي هريرة فجاء الحسن بن علي بن أبي طالب علينا فسلم فرددنا عليه السلام ولم يعلم به أبو هريرة فقلنا له يا أبا هريرة هذا الحسن بن علي قد سلم علينا فلحقه وقال وعليك السلام يا سيدي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيد"
مع ابن عباس رضي الله عنه:
روى الإمام أحمد بسنده أن جنازة مرّت على الحسن بن علي وابن عباس رضي الله عنهما فقام الحسن وقعد ابن عباس رضي الله عنهما فقال الحسن لابن عباس: ألم تر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرّت به جنازة فقام، فقال ابن عباس: بلى وقد جلس، فلم ينكر الحسن ما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
مع معاوية رضي الله عنه:
في البخاري بسنده عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ وَقُولَا لَهُ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ فَأَتَيَاهُ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالَا لَهُ فَطَلَبَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا قَالَا فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ فَمَنْ لِي بِهَذَا قَالَا نَحْنُ لَكَ بِهِ فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا نَحْنُ لَكَ بِهِ فَصَالَحَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"
مع عمرو بن حريث:
عن عبد الله بن يسار أن عمرو بن حريث زار الحسن بن علي فقال له علي بن أبي طالب يا عمرو أتزور حسنا وفي النفس ما فيها قال نعم يا علي لست برب قلبي تصرفه حيث شئت فقال علي أما أن ذلك لا يمنعني من أن أؤدي إليك النصيحة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلم يعود مسلما إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي وأي ساعات الليل كان حتى يصبح... صحيح ابن حبان
مع سليمان بن صرد:
عن عمرو بن مرة قال جاء سليمان بن صرد إلى علي بن أبي طالب بعد ما فرغ من قتال يوم الجمل وكانت له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له علي خذلتنا وجلست عنا وفعلت على رؤوس الناس فلقي سليمان الحسن بن علي فقال ما لقيت من أمير المؤمنين قال قال لي كذا وكذا على رؤوس الناس فقال لا يهولنك هذا منه فإنه محارب فلقد رأيته يوم الجمل حين أخذت السيوف مأخذها يقول لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
من مواقفه مع التابعين
عن حميد بن هلال قال: تفاخر رجلان من قريش رجل من بني هاشم ورجل من بني أمية فقال هذا قومي أسخى من قومك وقال هذا قومي أسخى من قومك قال سل في قومك حتى اسأل في قومي فافترقا على ذلك فسأل الأموي عشرة من قومه فأعطوه مائة ألف عشرة آلاف عشرة آلاف قال وجاء الهاشمي إلى عبيد الله بن العباس فسأله فأعطاه مائة ألف ثم أتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما فسأله فقال له هل أتيت أحدا من قومي قال نعم عبيد الله بن العباس فأعطاني مائة ألف فأعطاه الحسن بن علي مائة ألف وثلاثين الفا ثم أتى الحسين بن علي رضوان الله عليهما فسأله فقال هل أتيت أحدا قبل أن تأتينا قال نعم أخاك الحسن بن علي فأعطاني مائة ألف وثلاثين ألفا قال لو أتيتني قبل أن تأتيه لأعطيتك أكثر من ذلك ولكن لم أكن لأزيد على سيدي فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألف قال فجاء الأموي بمائة ألف من عشرة وجاء الهاشمي بثلاثمائة ألف وستين ألفا من ثلاثة فقال الأموي سألت عشرة من قومي فأعطوني مائة ألف وقال الهاشمي سألت ثلاثة من قومي فأعطوني ثلاثمائة ألف وستين ألفا ففخر الهاشمي الأموي قال فرجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر ورد عليهم المال فقبلوه ورجع الهاشمي إلى قومه فأخبرهم الخبر ورد عليهم المال فأبوا أن يقبلوه وقالوا لم نكن لنأخذ شيئا قد أعطيناه.
وعن علي رضي الله عنه أنه خطب ثم قال: إن ابن أخيكم الحسن بن علي قد جمع مالا وهو يريد أن يقسمه بينكم فحضر الناس فقام الحسن فقال إنما جمعته لفقرائكم فقام نصف الناس فكان أول من أخذ منه الأشعث بن قيس.
وعن عبد الله بن شداد أن الحسن بن علي مر براع يرعى فأتاه بشاة فأهداها له فقال له حر أنت أم مملوك فقال مملوك فردها عليه فقال إنها لي فقبلها منه ثم اشتراه واشترى الغنم وأعتقه وجعل الغنم له.
أثره في الآخرين
عن الحسن بن علي قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت.
عن بشر بن غالب قال سأل ابن الزبير الحسن بن علي رضي الله عنهما عن المولود فقال: إذا استهل وجب عطاؤه ورزقه.
وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لا طلاق إلا من بعد نكاح
عن سوادة بن أبي الأسود عن أبيه قال: دخل علي الحسن بن علي رضي الله عنه نفر من أهل الكوفة وهو يأكل طعاما فسلموا عليه وقعدوا فقال لهم الحسن: الطعام أيسر من أن يقسم عليه الناس فإذا دخلتم على رجل منزله فقرب طعامه فكلوا من طعامه ولا تنتظروا أن يقول لكم هلموا فإنما يوضع الطعام ليؤكل قال فتقدم القوم فأكلوا ثم سألوه حاجتهم فقضاها لهم.
وعن بشر بن غالب قال سأل ابن الزبير الحسن بن علي عن الرجل يقاتل عن أهل الذمة فيؤسر قال ففكاكه من خراج أولئك القوم الذين قاتل عنهم
وعن عامر أن الحسن بن علي أُتي برجلين قتلا ثلاثة وقد جرح الرجلان فقال الحسن بن علي: على الرجلين دية الثلاثة ويرفع عنهما جراحة الرجلين.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفي صلى الله عليه و سلم
روى الترمذي بسنده عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة"
وروى النسائي بسنده عن أبي الحوراء قال قال الحسن علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر في القنوت اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت.
وروى الإمام أحمد بسنده عن الحسن بن علي عن أبيه رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: "يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين".
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان وإني ضعيف، فقال: هلم إلى جهاد لا شوكة فيه؛ الحج صحيح الترغيب والترهيب
بعض كلماته
روى الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن حبشي قال خطبنا الحسن بن علي بعد قتل عليٍّ فقال لقد فارقكم رجل بالأمس ما سبقه الأولون بعلم ولا أدركه الآخرون إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه ويعطيه الراية فلا ينصرف حتى يفتح له وما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبع مائة درهم من عطائه كان يرصدها لخادمٍ لأهله.
لما بويع له رضي الله عنه بالخلافة قال: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هي قال: "تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت" ولما تمت البيعة خطبهم.
وروى أنه رضي الله عنه كان يقول: العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة.
ومن أقواله رضي الله عنه: رُفع الكتاب وجفّ القلم وأمور تقضي في كتاب قد خلا.
ومن كلماته رضي الله عنه: الدنيا ظل زائل.
وقيل للحسن بن على إن أبا زرٍ يقول: الفقر أحب إلى من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة فقال: رحم الله أبا زر أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له و هذا حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء.
وقال الحسن ذات يوم لأصحابه إنى أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه كان خارجا عن سلطان بطنه فلا يشتهى مالا يجد ولا يكثر إذا وجد وكان خارجا عن سلطان فرجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه وكان خارجا عن سلطان جهله فلا يمد يدا إلا على ثقة المنفعة ولا يخطو خطوة إلا لحسنة وكان لا يسخط ولا يتبرم كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على الصمت كان أكثرهم دهره صامتا فإذا قال يذر القائلين وكان لا يشارك في دعوى ولا يدخل في مراء ولا يدلى بحجة حتى يرى قاضيا يقول مالا يفعل ويفعل مالا يقول تفضلا وتكرما كان لا يغفل عن إخوته ولا يستخص بشيء منهم كان لا يكرم أحدا فيما يقع العذر بمثله كان إذا ابتدأه أمران لا يرى أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه.
ومن كلماته رضي الله عنه لبنيه وبنى أخيه: تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم وتكونوا كبارهم غدا فمن لم يحفظ منكم فليكتب.
وقال رضي الله عنه: أدبار السجود ركعتان بعد المغرب.
وجاء في المعجم الكبير للطبراني أن عليا رضي الله عنه سأل ابنه الحسن بن علي رضي الله عنه عن أشياء من أمر المروءة...
فقال: يا بني ما السداد؟ قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف.
قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة وموافقة الإخوان وحفظ الجيران.
قال: فما المروءة؟ قال: العفاف وإصلاح المال.
قال: فما الدقة؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير.
قال: فما اللوم؟ قال: إحراز المرء نفسه وبذله عرسه.
قال: فما السماحة؟ قال: البذل من العسير واليسير.
قال: فما الشح؟ قال: أن ترى ما أنفقته تلفا.
قال: فما الإخاء؟ قال: المواساة في الشدة والرخاء.
قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على الصديق والنكول عن العدو.
قال: فما الغنيمة؟ قال: الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة.
قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس.
قال: فما الغنى؟ قال: رضي النفس بما قسم الله تعالى لها وإن قل وإنما الغنى غنى النفس.
قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شيء.
قال: فما المنعة؟ قال: شدة البأس ومنازعة أعزاء الناس.
قال: فما الذل؟ قال: الفزع عند المصدوقة.
قال: فما العي؟ قال: العبث باللحية وكثرة البزق عند المخاطبة.
قال: فما الجرأة؟ قال: موافقة الأقران.
قال: فما الكلفة؟ قال: كلامك فيما لا يعنيك.
قال: فما المجد؟ قال: أن تعطي في الغرم وتعفو عن الجرم.
قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب كلما استوعيته.
قال: فما الخرق؟ قال: معازتك إمامك ورفعك عليه كلامك.
قال: فما حسن الثناء؟ قال: إتيان الجميل وترك القبيح.
قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة.
قال: فما السفه؟ قال: اتباع الدناءة ومصاحبة الغواة.
قال: فما الغفلة؟ قال: تركك المسجد وطاعتك المفسد.
قال: فما الحرمان؟ قال: تركك حظك وقد عرض عليك.
قال: فما المفسد؟ قال: الأحمق في ماله المتهاون في عرضه...
من مناقبه رضي الله عنه:
عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: لقد حج الحسن بن علي خمسا و عشرين حجة ماشيا وإن النجائب لتقاد معه. المستدرك
موقف الوفاة
روي عن عمران بن عبد الله قال رأى الحسن بن علي فيما يرى النائم بين عينيه مكتوبا قل هو الله أحد فقصها على سعيد بن المسيب فقال: إن صدقت رؤياك فقد حضر أجلك. قال: فسُمّ في تلك السنة ومات رحمة الله عليه.
واتهام معاوية رضي الله عنه أو ابنه يزيد أو السيدة جعدة بنت الأشعث بن قيس بالوقوع في هذه الجريمة ليس له أي دليل صحيح، وينفيه الواقع وسير الأحداث، قال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سم الحسن، فهذا مما ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية أو إقرار معتبر، ولا نقل يُجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به فالقول به قول بلا علم.
ويرى الدكتور الصلابي أن المتهم في ذلك هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجّه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية ووضع حدا للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهم الذين طعنوا الحسن في فخذه، وربما أرادوا بذلك الانتقام لقتلاهم في النهراوان وغيرها.
وجاء الحسين وجلس عند رأس الحسن فقال: يا أخي من صاحبك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نعم قال: لئن كان الذي أظن لله أشد نقمة وإن كان بريئا فما أحب أن يقتل بريء.
ولما حضر الحسن بن علي قال: أخرجوني إلى الصحن حتى أنظر في ملكوات السماوات - يعني الآيات - فأخرجوا فراشه فرفع رأسه، فنظر فقال: اللهم إني احتسبت نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس علي، وفي رواية: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أُصب بمثلها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو نعيم: لما اشتد بالحسن بن على الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له يا أبا محمد ما هذا الجزع ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك فتقدم على أبويك على وفاطمة وعلى جديك النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة وعلى أعمامك حمزة وجعفر وعلى أخوالك القاسم الطيب ومطهر وإبراهيم وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب قال فسرى عنه وفي رواية أن القائل له ذلك الحسين وأن الحسن قال له يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله وأرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قط قال فبكى الحسين رضي الله عنهما.
لما احتضر رضي الله عنه قال للحسين: أدفنوني عند أبى - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء فلا تهريقوا فيّ دمًا، ادفنوني في مقابر المسلمين فلما قبض تسلّح الحسين وجمع مواليه، فقال له أبو هريرة: أنشدك الله وصية أخيك فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، وكان مروان بن الحكم قد عارض دفنه في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا يدفن هناك أبدا، فلم يزل به أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، والمسور بن مخرمة وغيرهم حتى رجع ثم دفنوه في بقيع الغرقد بجانب أمه الزهراء البتول، وكان قد صلى عليه سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ، وكانت وفاته رضي الله عنه سنة 49 من الهجرة وقيل سنة 50 عن 47 عامًا رضي الله عنه وأرضاه.
طالب عفو ربي
18-05-2009, 09:16 PM
الزبير بن العوام
مقدمة
هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي. ولد سنة 28 قبل الهجرة.
أبو عبد الله حواري رسول صلي الله عليه وسلمِ فعَنْ جَابِر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ" يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ" قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْر. (1)
وهو ابن عمة رسول الله ( صفية بنت عبد المطلب)، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى بعد مقتل عمر.
دعاه الصديق رضي الله عنه للإسلام، فكان من أوائل من أسلموا اسلم بمكة قديما وكان عمره حينئذ 12 سنة، وتربى تربية قاسية،وعذبه قومه حتى يرجع عن دينه، فقد كان عم الزبير يعلقه في حصير، ويدحض عليه ليرجع إلى الكفر، فيقول: لا أكفر أبدا، وقال الزبير بن بكار في كتاب النسب:حدثني عمى مصعب، عن جدي عبد الله بن مصعب، أن العوام لما مات كان نوفل بن خويلد يلي ابن أخيه الزبير، وكانت صفية تضربه وهو صغير، وتغلظ عليه فعاتبها نوفل،وقال:ما هكذا يضرب الولد،إنك لتضربينه ضرب مبغضة،فرجزت به صفية.
هجرته رضي الله عنه
كان من المهاجرين بدينهم إلى الحبشـة..
تزوج " أسماء" بنت أبي بكر رضي الله عنهم: عن مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي
. وهاجرا إلى المدينة، فولدت له أول مولود للمسلمين في المدينة ( عبد الله بن الزبير)، ثم مصعب
قلة روايته للحديث:
كان رضي الله عنه حريصًا على ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يرو الكثير من الأحاديث فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لِي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَفُلَانًا وَفُلَانًا قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ
كما كان أول من سل سيفًا في سبيل الله: عن عروة وابن المسيب قالا:أول رجل سل سيفه فى الله الزبير،وذلك أن الشيطان نفخ نفخة،فقال:اخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أقبل الزبير يشق الناس بسيفه،النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة.
شهد المشاهد كلها مع رسول الله...
في غزوة بـدر
كان الزبير أحد مغاوير الإسلام وأبطاله فى يوم الفرقان،وكان على الميمنة،وقد قتل الزبير في هذا اليوم العظيم عبيدة بن سعيد بن العاص،كما قتل السائب بن أبى السائب بن عابد،ونوفل بن خويلد بن أسد عمه.وفل فلة في سيفه وجرح جرحين غائرين،بأبي وأمي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، من نزلت بسيماه الملائكة في يوم بدر، وجمع
عن عروة بن الزبير قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء فنزل جبريل على سيماء الزبير.وفى هذا يقول عامر بن صالح بن عبد الله بن الزبير:
جدي ابن عمة أحمد ووزيره عند البلاء وفارس الشقراء
وغداة بدر كان أول فارس شهد الوغى في اللامة الصفراء
نزلت بسيماه الملائك نصرة بالحوض يوم تألب الأعداء
عن الزبير قال:لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص،وهو مدجج لا يرى إلا عيناه وكان يكنى:أبا ذات الكرش،فحملت عليه بالعنزة،فطعنته فى عينه،فمات.فأخبرت أن الزبير قال:لقد وضعت رجلي عليه،فكان الجهد أن نزعتها –يعنى الحربة،فلقد انثنى طرفها. رواه البخاري
وثبت مع رسول الله يوم أحـد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قَالَتْ لِعُرْوَةَ يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا قَالَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ.البخاري
وفي يوم قريظـة: جمع له رسول الله بين أبويه.:
عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الزُّبَيْرِ قَالَ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حواريه ( في الحديث الذي تقدم ذكـره )
وكان ـ رضي الله عنه ـ حامل راية المسلمين في فتح مكة، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل في بعض الناس من كـدى ففعل، وكان على المجنبة اليسرى من الجيش...
الزبير يوم حنين
ولما انهزمت هوازن في حنين وقف ملكهم مالك بن عوف النصري على ثنية مع طائفة من اصحابه فقال قفوا حتى تجوز ضعفاؤكم وتلحق أخراكم قال ابن إسحاق فبلغني أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية فقال لأصحابه ماذا ترون قالوا نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم فقال هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي ثم طلعت خيل أخرى تتبعها فقال لأصحابه ماذا ترون قالوا نرى قوما عارضي رماحهم إغفالا على خيلهم فقال هؤلاء الأوس والخزرج ولا بأس عليكم منهم فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بني سليم ثم طلع فارس فقال لأصحابه ماذا ترون فقالوا نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء قال هذا الزبير بن العوام وأقسم باللات ليخالطنكم فأثبتوا له فلما انتهى الزبير الى اصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم فجمعت من الإبل والغنم والرقيق وأمر أن تساق إلى الجعرانة فتحبس هناك قال ابن إسحاق وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري (1)
من أخلاقـه رضي الله عنه
كان وقافًا عند أوامر رسول الله:
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.(1)
كان توكله على الله منطلق جوده وشجاعته وفدائيته، وحين كان يجود بروحه أوصى ولده عبد الله بقضاء ديونه قائلا:( إذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي )...وسأله عبد الله:( أي مولى تعني؟)... فأجابه:( الله، نعم المولى ونعم النصير )...يقول عبدا لله فيما بعد:( فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه )...
ومما روى عن رسول الله:
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ.(أحمد
موقعة الجمل... واستشهاده:
بعد استشهاد عثمان بن عفان أتم المبايعة الزبير و طلحة لعلي -رضي الله عنهم جميعا- وخرجوا الى مكة معتمرين، ومن هناك خرجوا الى البصرة للأخذ بثأر عثمان، وكانت ( وقعة الجمل ) عام 36 هجري... طلحة والزبير في فريق وعلي في الفريق الآخر، وانهمرت دموع علي -رضي الله عنه- عندما رأى أم المؤمنين ( عائشة ) في هودجها بأرض المعركة، وصاح بطلحة:( يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت؟)0ثم قال للزبير:( يا زبير: نشدتك الله، أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكان كذا، فقال لك: يا زبير، الا تحب عليا؟؟0فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني؟؟...فقال لك: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم )... فقال الزبير:( نعم أذكر الآن، وكنت قد نسيته، والله لا أقاتلك )...
وأقلع طلحة و الزبير -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في هذه الحرب، ولكن دفعا حياتهما ثمنا لانسحابهما، و لقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا فالزبير تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرا وهو يصلي، وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته...
الشهادة
لمّا كان الزبير بوادي السباع نزل يصلي فأتاه ابن جرموز من خلفه فقتله و سارع قاتل الزبير إلى علي يبشره بعدوانه على الزبير ويضع سيفه الذي استلبه بين يديه، لكن عليا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن وأمر بطرده قائلا:( بشر قاتل ابن صفية بالنار )...وحين أدخلوا عليه سيف الزبير قبله الإمام وأمعن في البكاء وهو يقول:( سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله )...
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنهما ودعهما بكلمات أنهاها قائلا:( إني لأرجو أن أكون أنا وطلحـة والزبيـر وعثمان من الذين قال الله فيهم:( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين )...ثم نظر إلى قبريهما وقال:( سمعت أذناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:( طلحة و الزبير، جاراي في الجنة )...0
قتل الزبير بن العوام في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة،وله ست أو سبع وستون سنة
طالب عفو ربي
20-05-2009, 10:37 PM
السائب بن الأقرع
مقدمة
هو السائب بن الأقرع بن عوف بن جابر بن سفيان بن سالم بن مالك الثقفي.(1)
كان السائب بن الأقرع صغيرا عندما رأي الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) فلذلك لم يدرك الجاهلية.
وقد تمتع بصفات عذبه وخلال كريمة منها:
1- الأمانة فكان مسئولا عن الغنائم في فتح نهاوند مع حذيفة بن اليمان.
2- الشجاعة والإقدام فقد اشترك مع النعمان بن مقرن في فتح نهاوند.
من مواقفه مع الرسول دخلت أمه مليكة تبيع العطر مع النبي( صلى الله عليه وسلم) فقال لها: " يا مليكة ألك حاجة " قالت: نعم قال: " فكلميني فيها أقضها لك ". فقالت: لا والله إلا أن تدعو لابني وهو معها وهو غلام فأتاه فمسح برأسه ودعا له.(2) وبذلك نال السائب شرف وضع يد النبي ( صلي الله عليه وسلم ) علي رأسه.
من مواقفه مع الصحابة:
له موقف مع مسروق عندما تزوج ابنته فقد حدثنا أبو إسحاق أن مسروقا زوج ابنته للسائب بن الأقرع على عشرة آلاف اشترطها لنفسه وقال جهز امرأتك من عندك قال وجعلها مسروق في المجاهدين والمساكين والمكاتبين.(3)
وله موقف آخر مع عمر بن الخطاب " بعث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) السائب بن الأقرع مولى ثقيف وكان رجلا كاتبا حاسبا فقال الحق بهذا الجيش فكن فيهم فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ خمس الله وخمس رسوله وإن هذا الجيش أصيب فاذهب في سواد الأرض فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب فلما فتح الله على المسلمين نهاوند أصابوا غنائم عظاما فوالله إني لأقسم بين الناس إذ جاءني علج من أهلها فقال أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي على أن أدلك على كنوز النخيرجان وهي كنوز آل كسرى تكون لك ولصاحبك لا يشركك فيها أحد قال قلت نعم قال فابعث معي من أدله عليها فبعثت معه فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا اللؤلؤ والزبرجد والياقوت فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي ثم قدمت على عمر بن الخطاب فقال ما وراءك يا سائب فقلت خير يا أمير المؤمنين فتح الله عليك بأعظم الفتح واستشهد النعمان بن مقرن رحمه الله فقال عمر إنا لله وإنا إليه راجعون قال ثم بكى فنشج حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده قال فلما رأيت ما لقي قلت والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه فقال المستضعفون من المسلمين لكن أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر ثم قام ليدخل فقلت إن معي مالا عظيما قد جئت به ثم أخبرته خبر السفطين قال أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك قال فأدخلتهما بيت المال وخرجت سريعا إلى الكوفة قال وبات تلك الليلة التي خرجت فيها فلما أصبح بعث في أثري رسولا فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال الحق بأمير المؤمنين فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن قال قلت ويلك ماذا ولماذا قال لا أدري والله قال فركبت معه حتى قدمت عليه فلما رآني قال مالي ولابن أم السائب بل ما لابن أم السائب ومالي قال قلت وما ذاك يا أمير المؤمنين قال ويحك والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا يقولون لنكوينك بهما فأقول إني سأقسمهما بين المسلمين فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما فبعتهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم قال فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد".(4)
الوفاة قال ابن منده ولي أصبهان ومات بها وعقبه بها منهم مصعب بن الفضيل بن السائب.(5)
والظاهر أنه مات بعيد مقتل عثمان إذ لم يرد له ذكر فى حروب الفتنة الكبرى بين على بن أبى طالب ومعاوية ولو كان عاش بعد عثمان طويلا لما تخلى عنه على بن أبى طالب.
طالب عفو ربي
20-05-2009, 10:41 PM
الضحاك بن قيس
مقدمة
هو الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب الفهري، قال الطبري: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو - أي الضحاك - غلام يافع. واستبعد بعضهم أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بعد فيه فإن أقل ما قيل في سنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ابن ثمان سنين.
من مواقفه مع النبي في حياته
عن جرير بن حازم قال: جلس إلينا شيخ في دكان أيوب فسمع القوم يتحدثون فقال: حدثني مولاي عن رسول الله( صلى الله عليه وسلم) فقلت له: ما اسمه؟ قال: قرة بن دعموص النميري قال: قدمت المدينة فأتيت النبي( صلى الله عليه وسلم) وحوله الناس فجعلت أريد أن أدنو منه فلم أستطع فناديته: يا رسول الله استغفر للغلام النميري قال: " غفر الله لك " قال: وبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الضحاك بن قيس ساعيا فلما رجع رجع بإبل جلة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ):
أتيت هلال بن عامر ونمير بن عامر وعامر ربيعة فأخذت حلة أموالهم؟
فقال: يا رسول الله إني سمعتك تذكر الغزو فأحببت أن أتيك بإبل جلة تركبها وتحمل عليها. فقال: " والله الذي تركت أحب إلي من الذي أخذت ارددها وخذ من حواشي أموالهم وصدقاتهم ". قال: فسمعت المسلمين يسمون تلك الإبل المسان المجاهدات.(1)
من مواقفه مع النبي في حياته عن جرير بن حازم قال: جلس إلينا شيخ في دكان أيوب فسمع القوم يتحدثون فقال: حدثني مولاي عن رسول الله( صلى الله عليه وسلم) فقلت له: ما اسمه؟ قال: قرة بن دعموص النميري قال: قدمت المدينة فأتيت النبي( صلى الله عليه وسلم) وحوله الناس فجعلت أريد أن أدنو منه فلم أستطع فناديته: يا رسول الله استغفر للغلام النميري قال: " غفر الله لك " قال: وبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الضحاك بن قيس ساعيا فلما رجع رجع بإبل جلة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ):
أتيت هلال بن عامر ونمير بن عامر وعامر ربيعة فأخذت حلة أموالهم؟
فقال: يا رسول الله إني سمعتك تذكر الغزو فأحببت أن أتيك بإبل جلة تركبها وتحمل عليها. فقال: " والله الذي تركت أحب إلي من الذي أخذت ارددها وخذ من حواشي أموالهم وصدقاتهم ". قال: فسمعت المسلمين يسمون تلك الإبل المسان المجاهدات.(1)
من مواقفه مع الصحابة
له موقف مع معاوية ( رضي الله عنه ) فعن معاوية بن أبي سفيان أنه قال على المنبر حدثني الضحاك بن قيس وهو عدل أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لا يزال وآل من قريش قال الزبير كان الضحاك بن قيس مع معاوية بدمشق وكان ولاه الكوفة ثم عزله ثم ولاه دمشق وحضرموت معاوية.
ولما مات أخذ الضحاك بن قيس أكفانه وصعد المنبر وخطب الناس وقال: إن أمير المؤمنين معاوية كان حد العرب وعود العرب قطع الله به الفتنة وملكه على العباد وسير جنوده في البر والبحر وكان عبدا من عبيد الله دعاه فأجابه وقد قضى نحبه وهذه أكفانه فنحن مدرجوه ومدخلوه قبره ومخلوه وعمله فيما بينه وبين ربه إن شاء رحمه وإن شاء عذبه.(2) وصلى عليه الضحاك.
وموقف آخر مع مع مروان بن الحكم وابن الزبير.
لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان اختلف الناس بالشام. فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير بحمص. دعا إلى ابن الزبير ودعا زفر بن الحارث بقنسرين لابن الزبير ودعا الضحاك بن قيس الفهري بدمشق إلى ابن الزبير سرا لمكان من بها من بني أمية وكلب. وبلغ حسان بن مالك بن بحدل ذلك وهو بفلسطين. وكان هواه في خالد بن يزيد فأمسك وكتب إلى الضحاك بن قيس كتابا يعظم فيه حق بني أمية وبلاءهم عنده ويذم ابن الزبير ويذكر خلافه ومفارقته ***ة ويدعوا إلى أن يبايع إلى الرجل من بني حرب. وبعث بالكتاب إليه مع ناغضة بن كريب الطابخي وأعطاه نسخة الكتاب وقال: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا فاقرأه أنت وكتب إلى بني أمية يعلمهم ما كتب به إلى الضحاك وما أمر به ناغضة ويأمرهم أن يحضروا ذلك. فلم يقرأ الضحاك كتاب حسان فكان في ذلك اختلاف وكلام فسكتهم خالد بن يزيد ونزل الضحاك فدخل الدار. فمكثوا أياما ثم خرج الضحاك ذات " يوم " فصلى بالناس صلاة الصبح ثم ذكر يزيد بن معاوية فشتمه فقام إليه رجل من كلب فضربه بعصا واقتتل الناس بالسيوف ودخل الضحاك دار الإمارة فلم يخرج وافترق الناس ثلاث فرق: فرقة زبيرية وفرقة بحدلية - هواهم لبني حرب - والباقون لا يبالون لمن كان الأمر من بني أمية. وأرادوا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان على البيعة له. فأبى وهلك تلك الليالي. فأرسل الضحاك بن قيس إلى بني أمية فأتاه مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فاعتذر إليهم وذكر حسن بلائهم عنده وأنه لم يرد شيئا يكرهونه وقال: اكتبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل حتى ينزل الجابية ثم نسير إليه فنستخلف رجلا منكم فكتبوا إلى حسان فنزل الجابية وخرج الضحاك بن قيس وبنوا أمية يريدون الجابية. فلما استقلت الرايات موجهة قال معن بن ثور السلمي ومن معه من قيس دعوتنا إلى بيعة رجل أحزم الناس رأيا وفضلا وبأسا. فلما أجبناك خرجت إلى هذا الأعرابي من كلب تبايع لابن أخته ! قال: فتقولون ماذا؟ قالوا: نصرف الرايات وننزل فنظهر البيعة لابن الزبير ففعل. وبايعه الناس. وبلغ ابن الزبير فكتب إلى الضحاك بعهده على الشام وأخرج من كان بمكة من بني أمية. وكتب إلى من بالمدينة بإخراج من بها من بني أمية إلى الشام. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد ممن دعا إلى ابن الزبير
لما رأى ذلك مروان خرج يريد ابن الزبير ليبايع له ويأخذ منه أمانا لبني أمية وخرج معه عمرو بن سعيد فلقيهم عبيد الله بن زياد بأذرعات مقبلا من العراق فأخبروه بما أرادوا فقال لمروان: سبحان الله أرضيت لنفسك بهذا؟ تبايع لأبي خبيب وأنت سيد قريش وشيخ بني عبد مناف؟؟ والله لأنت أولى بها منه. فقال له مروان: فما الرأي؟ قال: الرأي أن ترجع وتدعو إلى نفسك وأنا أكفيك قريشا ومواليها فلا يخالفك منهم أحد. فرجع مروان وعمرو بن سعيد وقدم عبيد الله بن زياد دمشق فنزل بباب الفراديس فكان يركب إلى الضحاك كل يوم فيسلم عليه ثم يرجع إلى منزله. فعرض له يوما في مسيره رجل فطعنه بحربة في ظهره وعليه الدرع فأثبت الحربة فرجع عبيد الله إلى منزله. وأمام ولم يركب إلى الضحاك. فأتاه الضحاك إلى منزله فاعتذر إليه. وأتاه بالرجل الذي طعنه فعفا عنه عبيد الله وقبل من الضحاك وعاد عبيد الله يركب إلى الضحاك في كل يوم فقال له يوما: يا أبا أنيس العجب لك - وأنت شيخ قريش - تدعو لابن الزبير وتدع نفسك وأنت أرضى عند الناس منه لأنك لم تزل متمسكا بالطاعة و ***ة وابن الزبير مشاق مفارق مخالف. فادع إلى نفسك فدعا إلى نفسه ثلاثة أيام. فقالوا له: أخذت بيعتنا وعهودنا لرجل ثم دعوتنا إلى خلعه من غير حدث أحدثه والبيعة لك ! وامتنعوا عليه. فلما رأى ذلك الضحاك عاد إلى الدعاء إلى ابن الزبير فأفسده ذلك عند الناس وغير قلوبهم عليه فقال له عبيد الله بن زياد: من أراد ما تريد لم ينزل المدائن والحصون يتبرز ويجمع إليه الخيل فاخرج عن دمشق واضمم إليك الإجناد. وكان ذلك من عبيد الله بن زياد مكيدة له فخرج الضحاك فنزل المرج وبقي عبيد الله بدمشق ومروان وبنوا أمية بتدمر وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية بالجابية عند حسان بن مالك بن بحدل. فكتب عبيد الله إلى مروان أن ادع الناس إلى بيعتك ثم سر إلى الضحاك. فقد أصحر لك. فدعا مروان بني أمية فبايعوه وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية وهي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة واجتمع الناس على بيعة مروان فبايعوه. وخرج عبيد الله حتى نزل المرج وكتب إلى مروان فأقبل في خمسة آلاف وأقبل عبيد الله بن زياد من حوارين في ألفين من مواليه وغيرهم من كلب ويزيد بن أبي النمس بدمشق قد أخرج عامل الضحاك منها. وأمد مروان بسلاح ورجال. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد فقدم عليه زفر بن الحارث الكلابي من قنسرين وأمده النعمان بن بشير الأنصاري بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص فتوافوا عند الضحاك بالمرج. فكان الضحاك في ثلاثين ألفا ومروان في ثلاثة عشر ألفا أكثرهم رجالة. ولم يكن في عسكر مروان غير ثمانين عتيقا: أربعون منها لعباد بن زياد وأربعون لسائر الناس. فأقاموا بالمرج عشرين يوما يلتقون في كل يوم ويقتتلون. فقال عبيد الله بن زياد يوما لمروان: إنك على حق وابن الزبير ومن دعا إليه على باطل وهم أكثر منك عددا وعدة ومع الضحاك فرسان قيس فأنت لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة فكدهم فقد أحل الله ذلك لأهل الحق. والحرب خدعة فادعهم إلى الموادعة ووضع الحرب حتى تنظر. فإذا أمنوا وكفوا عن القتال فكر عليهم. فأرسل مروان إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ينظر فأصبح الضحاك والقيسية فأمسكوا عن القتال وهم يطمعون أن مروان يبايع لابن الزبير وقد اعد مروان اصحابه. فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا بالخيل قد شدت عليهم ففزع الناس إلى راياتهم وقد غشوهم وهم على غير عدة فنادى الناس: يا أبا أنيس أعجزا بعد كيس فقال الضحاك: نعم أنا أبو أنيس عجز لعمري بعد كيس فاقتتلوا ولزم الناس راياتهم وصبروا وصبر الضحاك فترجل مروان وقال: قبح الله من يوليهم اليوم ظهره حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين فقتل الضحاك بن قيس - قتله رجل من كلب يقال له زحمة بن عبيد الله - وصبرت قيس عند راياتها يقاتلون عندها. فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل فقال: اللهم العنها من رايات واعترضها بسفيه فجعل يقطعها فإذا سقطت الراية تفرق أهلها. ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا موليا. فأمسك عنهم.(3)
من مواقفه مع التابعين
عن عامر الشعبي قال: لما قاتل مروان الضحاك بن قيس أرسل إلى أيمن بن خريم الأسدي فقال: إنا نحب أن نقاتل معنا فقال: إن أبي وعمي شهدا بدرا فعهدا إلي أن لا أقاتل أحدا يشهد أن لا إله إلا الله فإن جئتني ببراءة من النار قاتلت معك فقال: اذهب ووقع فيه وسبه فأنشأ أيمن يقول:
ولست مقاتلا رجلا يصلي... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي... معاذ الله من جهل وطيش
أقاتل مسلما في غير شيء... فليس بنافعي ما عشت عيشي.(4)
بعض الأحاديث التي نقلها عن النبي
جاء في كنز العمال للمتقي الهندي عن الضحاك بن قيس قال: كان بالمدينة امرأة يقال لها أم عطية تخفض الجواري فقال لها رسول الله( صلى الله عليه وسلم): يا أم عطية إذا خفضت ( خفضت: الخفض للنساء كالختان للرجال. فلا تنهكي فإنه أحظى للزوج وأسرى للزوج
وأورد ابن كثير في البداية والنهاية "عن على بن زيد عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن معاوية السلام عليك أما بعد فأنى سمعت رسول الله ص يقول إن بين يدى الساعة فتنا كقطع الليل المظلم فتنا كقطع الدخان يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يصبح الرجل مؤمنا ويسمى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل"
وعن الضحاك بن قيس الفهري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إذا أتى الرجل القوم فقالوا: مرحبا فمرحبا به يوم يلقى ربه. وإذا أتى الرجل القوم فقالوا: قحطا فقحطا له يوم القيامة.(5)
وجاء في كنز العمال "أخلصوا أعمالكم لله فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له.
( قط ) عن الضحاك بن قيس"
"لا يزال على الناس وال من قريش" (6)
وفاته رضي الله عنه
خدعة عبيد الله بن زياد فقال أنت شيخ قريش وتبايع لغيرك، فدعا إلى نفسه، فقاتله مروان ثم دعا إلى ابن الزبير، فقاتله مروان فقُتل الضحاك بمرج راهط سنة أربع وستين، وقال الطبري: كانت الوقعة في نصف ذي الحجة سنة أربع وستين، وبه جزم ابن منده وذكر ابن زيد في وفياته من طريق يحيى بن بكير عن الليث أن وقعة مرج راهط كانت بعد عيد الأضحى بليلتين.(7)
طالب عفو ربي
22-05-2009, 10:01 PM
الطفيل بن عمرو بن طريف
مقدمة
هو الطفيل بن عمرو بن طريف الدوسي، قال البغوي: أحسبه سكن الشام..
حاله في الجاهلية:
كان سيدًا لقبيلة دوس في الجاهلية وشريف من أشراف العرب المرموقين وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، لا تنزل له قدر عن نار، ولا يوصد له باب أمام طارق، يطعم الجائع ويؤمن الخائف وويجير المستجير، وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب وشاعر مرهف الحس رقيق الشعور، بصير بحلو البيان ومره حيث تفعل فيه الكلمة فعل الساحر.
قصة إسلامه:
عن محمد بن إسحاق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذله لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب، وكان طفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً فقالوا له أبا الطفيل، إنك قدمت بلادنا فهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، فرق جماعتنا، وإما قوله كالسحرة يفرق بين المرء وبين أبيه وبين الرجل وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت على أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً من أن يبلغني من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة قال فقمت قريباً منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله: قال: فسمعت كلاماً حسناً. قال فقلت في نفسي واثكل أمي إني لرجل لبيب شاعر ما يخفي على الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا لي فوالله ما برحوا يخوفنني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولاً حسناً فاعرض علي أمرك فعرض علي الإسلام وتلا علي القرآن فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن ولا أمراً أعدل منه، وقال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق...
وكان إسلام الطفيل في مكة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد دعوة ثقيف إلى إسلامه ورفضهم الإيمان برسالته. وكان ذلك في السنة العاشرة من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم. وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى الإسلام، فقال يا رسول الله اجعل لي آية تكون لي عوناً، فدعا له رسول الله صلى لله عليه وسلم فجعل الله في وجهه نوراً فقال: يا رسول الله إني أخاف أن يجعلوها مثله، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار النور في سوطه وكان يضئ في الليلة المظلمة ولذا يُسمى ذو النور...
وقد ذُكر أيضًا أن الطفيل لما قدم مكة ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال وعاد إلى قومه...
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه الرفق في الدعوة:
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال قدم الطفيل بن عمرو الدوسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن دوساً قد عصت، فادع الله عليهم فقال: "اللهم اهد دوساً"...
وقال لي أخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم، فخرجت أدعوهم حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ومضت بدراً وأحد والخندق ثم قدمت بمن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلنا المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ولحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع الناس وقلنا يا رسول الله اجعلنا في ميمنتك واجعل شعارنا مبروراً، ففعل.
من مواقفه:
روى مسلم بسنده عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة قال حصن كان لدوس في الجاهلية فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له ما صنع بك ربك فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال ما لي أراك مغطيا يديك قال قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم وليديه فاغفر
وذكر ابن إسحاق أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل الطُّفَيْل بن عمرو ليُحْرِق صَنَم عمرو بن حثمة الذي كان يقال له ذُو الْكَفِينِ, فأحرقه.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً التي كانت في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية، وأراد المسير إلى الطائف، بعث الطفيل إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة، يهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فقال الطفيل : يا رسول الله أوصني قال: "افش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله، إذا "أسأت فأحسن، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين"
أثره في الأخرين "دعوته ـ تعليمه":
دعوة الطفيل لأبيه وزوجته وإسلامهما:
بعد أن أسلم رضي الله عنه وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه ذهب إليهم يقول رضي الله عنه: فلما نزلتُ أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً. قال فقلت: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك، قال: ولِمَ يا بني، قال: قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قال أبي ديني دينك، فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فاسلم، قال: ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني فلست منك ولست مني قالت: لِمَ بأبي أنت وأمي؟ قال: قلت: فرق بيني وبينك الإسلام، فأسلمت، ودعوت دوساً إلى الإسلام فأبطأوا عليّ.
وخرج الطفيل إلى قومه فلم يزل بأرض دوس يدعوهم إلى الله حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ومضى يوم بدر وأحد والخندق، والطفيل بأرض قومه يدعوهم إلى الإسلام حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من قومه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة خيبر، حتى نزل المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لهم مع المسلمين فقد قدم أبو هريرة والطفيل وأصحابهما الدوسيون فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشركهم في الغنيمة ففعلوا وهكذا هدى الله من هدى إلى الإسلام من دوس على يد الطفيل، وعلى يد جندب بن عمرو بن حممة الدوسي، وكان جندب هذا يقول في الجاهلية "إن للخلق خالقاً وولكن لا أدري من هو" فلما سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه خمسة وسبعون رجلاً من قومه فأسلم فأسلموا..
راوية الإسلام أبو هريرة يسلم علي يد الطفيل:
كان ممن أتى بهم الطفيل ضمن هؤلاء السبعين عائلة الذين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه
فكل ما جاء من الخير العظيم على يدِ أبي هريرة رضي الله عنه، يُكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه...
وتخيل كل الأحاديث التي نقلها أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعة آلاف حديث، وبعض الأقاويل أنها أكثر من عشرة آلاف حديث نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
بعض كلماته:
قال الطفيل بن عمرو يخاطب قريشاً وكان قد هددوه لما أسلم:
ألا أبلغ لديك بني لؤي دليل هدى موضح كل رشد
أن اللـه جلله بهـاد وأعلى جـده على كل جد
أن بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الكفين صنم عرو بن حممة فأحرقه بالنار وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا إني حشوت النار في فؤدكا ميلادنا أكبر من ميلادكا
وفاته: عاد الطفيل مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف إلى المدينة المنورة فكان مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى قبض...
فلما ارتدت العرب خرج المسلمون المسلمون لقتالهم، فجاهد رضي الله عنه حتى فرغوا من طليحة الأسدي وأرض نجد كلها.
ثم بعثه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مسيلمة الكذاب، يقول رضي الله عنه: خرجت ومعي ابني مع المسلمين - عمرو بن الطفيل - حتى إذا كنا ببعض الطريق رأيت رؤيا فقلت لأصحابي إني رأيت رؤيا عبروها قالوا : وما رأيت قلت : رأيت رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني وأدخلتني في فرجها وكان ابني يطلبني طلبا حثيثا فحيل بيني وبينه . قالوا : خيرا فقال : أما أنا والله فقد أولتها . أما حلق رأسي فقطعه وأما الطائر فروحي وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأدفن فيها فقد رجوت أن أقتل شهيدا وأما طلب ابني إياي فلا راه إلا سيغدو في طلب الشهادة ولا أراه يلحق بسفرنا هذا . فقتل الطفيل شهيدا يوم اليمامة وجرح ابنه ثم قتل باليرموك بعد ذلك في زمن عمر بن الخطاب شهيدا
قال ابن حجر في الفتح:
وَذَكَرَ مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ الطُّفَيْل بْن عَمْرو اُسْتُشْهِدَ بَأَجْنَادِينَ فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر , وَكَذَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة , وَجَزَمَ اِبْن سَعْد بِأَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَة..
طالب عفو ربي
23-05-2009, 02:27 AM
العباس بن عبادة
هو العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري المهاجري الخزرجي .
إسلامه
كان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وشهد معه العقبتين وقيل بل كان في النفر الستة الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأسلموا قبل سائر الأنصار.
أثر الرسول في تربيته:
ويتضح ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت ( لنميلن ) غدا على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم...
من ملامح شخصيته
فهمه للإسلام ووضوح رؤيته
قال العباس بن عبادة بن نضلة الانصاري أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم
قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الاموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة
قال عاصم: فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد...
وقال عبد الله بن أبي بكر: ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك الليلة ليشهد عبد الله بن أبي أمرهم فيكون أقوى لهم...
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال: "الجنة" قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.....
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت ( لنميلن ) غدا على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم...
خرج العباس بن عبادة بن نضلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وقام معه حتى هاجر إلى المدينة فكان أنصاريا مهاجريا
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن مظعون رضي الله عنهما
طالب عفو ربي
23-05-2009, 02:33 AM
العباس بن عبد المطلب
هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا الفضل..
وأمه نتيلة بنت جناب بن كليب، وهي أول عربية كست البيت الحرير والديباج، وسببه أن العباس ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت فوجدته ففعلت. له أحد عشر أخاً وست أخوات. وقد ولد للعباس عشرة من الذكور ماعدا الإناث.
ولد في مكة قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين أو ثلاثة..
حاله في الجاهلية:
السقاية:
كانت السقاية لبني هاشم، وكان أبو طالب يتولاها، فلما اشتد الفقر بأبي طالب، أسند السقاية إلى أخيه العباس، وكان من أكثر قريش مالاً، فقام بها. وعليه كانت عمارة المسجد (وهي أن لا يدع أحداً يسب في المسجد الحرام). وكان نديمه في الجاهلية أبو سفيان بن حرب.
مواقفه قبل إعلان إسلامه:
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، وأخرج إلى بدر مكرهاً مثل غيره من بني هاشم، فأسر وشد وثاقه، وسهر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ولم ينم، فقالوا: مايسهرك يا نبي الله؟ قال: أسهر لأنين العباس، فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بالأسرى كلهم، وفدى نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفه عتبة بن عمرو، وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداءً، لأنه كان رجلاً موسراً فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب.
عمره عند الإسلام:
ولد في مكة قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين أو ثلاثة، وتوفي في المدينة المنورة قبيل مقتل عثمان، عام اثنين وثلاثين للهجرة، وعمره ثمان وثمانين، وصلى عليه عثمان رضي الله عنهما، ودفن في البقيع.
قصة إسلامه ومن الذي دعاه إلى الإسلام:
لم يعلن العباس -رضي الله عنه إسلامه - إلا عام الفتح ، مما جعل بعض المؤرخين يعدونه ممن تأخر إسلامهم ، بيد أن روايات أخرى من التاريخ توحي أنه كان من المسلمين الأوائل ولكن كتم إسلامه ، فيقول أبو رافع خادم الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أمُّ الفضل ، وأَسْلَمْتُ ، وكان العباس يكتم إسلامه )...
فكان العباس إذا مسلماً قبل غزوة بدر ، وكان مقامه بمكة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-وصحبه خُطَّة أدت غايتها على خير نسق، وكانت قريش دوما تشك في نوايا العباس ، ولكنها لم تجد عليه سبيلا وظاهره على مايرضون من منهج ودين ، كما ذُكِرَ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر العباس بالبقاء في مكة :(إن مُقامك مُجاهَدٌ حَسَنٌ )فأقام بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم
بيعة العقبة
وفي بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحج وفد الأنصار ، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان ، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم ، وليتفقوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة الى المدينة ، أنهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- نبأ هذا الوفد الى عمه العباس فقد كان يثق بعمه في رأيه كله ، فلما اجتمعوا كان العباس أول المتحدثين فقال :( يا معشر الخزرج ، إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده )000وكان العباس يلقـي بكلماتـه وعيناه تحدقـان في وجـوه الأنصار وترصـد ردود فعلهم000
كما تابع الحديث بذكاء فقال :(صفوا لي الحـرب،كيف تقاتلون عدوكم؟)فهو يعلم أن الحرب قادمة لا محالة بين الإسلام والشرك ، فأراد أن يعلم هل سيصمد الأنصار حين تقوم الحرب ، وأجابه على الفور عبد الله بن عمرو بن حرام :( نحن والله أهل الحرب ، غُذينا بها ومُرِنّا عليها ، وورِثناها عن آبائنا كابرا فكابرا ، نرمي بالنبل حتى تفنى ، ثم نطاعن بالرماح حتى تُكسَر ، ثم نمشي بالسيوف فنُضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا )00وأجاب العباس: ( أنتم أصحاب حرب إذن، فهل فيكم دروع ؟)000قالوا :( نعم ، لدينا دروع شاملة )000ثم دار الحديث الرائع مع رسول الله والأنصار كما نعلم من تفاصيل البيعة000
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول : ( أيِّدتُ تلك الليلة ، بعمّي العبّاس ، وكان يأخذ على القومِ ويُعطيهم )000
أهم ملامح شخصيته:
كان العباس جوّادا، مفرط الجود، حتى كأنه للمكرم عمّها أو خالها..!!
وكان وصولا للرحم والأهل، لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه، ولا بمال...
وكان الى هذه وتلك، فطنا الى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء..
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
لم تكن قريش تخفى شكوكها فى نوايا العباس ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادته حتى إذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة لكى تختبر بها حقيقة العباس. ويلتقى الجمعان فى غزوة بدر، وينادى الرسول(صلى الله عليه وسلم ) فى أصحابه قائلا:" إن رجالا من بنى هاشم ومن غير بنى هاشم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقى منكم أحدهم فلا يقتله، من لقى أبا البخترى بن هشام فلايقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فأنما أخرج مستكرها". وقد أسر العباس فيمن أسر يوم بدر،وكان أسره على يد أبو اليسر كعب بن عمرو وقد طلب منه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أن يفدى نفسه وذويه فرفض العباس وقال:"إنى كنت مسلما قبل ذلك وإنما استكرهونى " قال :"الله أعلم بشأنك، إن يك ما تدعى حقا فالله يجزيك بذلك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فأفد نفسك". وبعثت له أم الفضل من مكة بالفدية فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحه..
ـ ويجئ يوم حنين ليؤكد فدائية العباس، كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والإستبسال، فبينما كان المسلمون مجتمعين فى أحد أودية" تهامة" ينتظرون مجئ عدوهم، كان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي وكمنوا لهم فى شعابه شاحذين أسلحتهم، وعلى حين غفلة أنقضوا على المسلمين فى مفاجأة مذهلة جعلتهم يهرعون بعيدا وكان حول النبى ساعتئذ أبى بكر، وعمر، وعلى، والعباس وبعض الصحابة، ولم يكن العباس بجواره فقط بل كان بين قدميه آخذا بخطام بغلته،يتحدى الموت والخطر.. وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصرخ فى الناس، وكان جسيما جهورى الصوت،فراح ينادى:" يا معشر الأنصار، ياأصحاب البيعة" فردوا "لبيك لبيك" وانقلبوا راجعين جميعا بعد أن شتتهم هجوم المشركين المفاجئ وقاتلوا وثبتوا فنصرهم الله..
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
وقال الواقدي في روايته: لما كان عام الرمادة، وهو عام الجدب سنة ثماني عشرة، استسقى عمر بن الخطاب بالعباس وقال: اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا إذا قحطنا، وهذا عمه بين أظهرنا ونحن نستسقيك به، فلم ينصرف حتى أطبق السحاب، قال: وسقوا بعد ثلاثة أيام، وكان عام الرمادة الذي كان فيه طاعون عمواس بالشام.
ومع عمر: بعد وفاة أبا بكر بايع المسلمون والعباس عمر , ومن مواقف العباس مع عمر رضي الله عنهما، أنه لما كثر المسلمون فى عهد عمر ضاق بهم المسجد فاشتري عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس وحجر أمهات المؤمنين . فقال عمر للعباس : يا اباالفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع بها علي المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها و أما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين ،فقال العباس : ما كنت لأفعل، فقال له عمر : إختر مني إحدي ثلاث ،إما ان تبعنيها ، وإما ابني لك غيرها من بيت مال المسلمين ، وإما أن تصدق بها علي المسلمين . فقال العباس :لا ولاواحدة منها ، فقال عمر : اجعل بيني وبينك من شئت. فقال: أبي بن كعب . فانطلقا إلي أبي فقص عليه القصه ، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله أوحي إلي داود عليه السلام أن ابن لي بيتا أذكر فيه فخط له هذه الخطه خطه بيت المقدس فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل فسأله داود أن يبيعه إياها فأبي فحدث داود نفسه أن يأخذه منه فأوحي الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب وأن عقوبتك ألا تبنيه ، قال: يا رب فمن ولدي ؟ قال : من ولدك".قال فأخذ عمر بمجامع ثياب أبى بن كعب وقال: جئتك بشئ فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم أبو ذر فقال: إنى نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره.فقال أبوذر : أنا سمعته، وقال آخر:أنا سمعته يعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :فأرسل عمر أبيا،وأقبل أبى على عمر فقال: يا عمر أتتهمنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: يا أبا المنذر لا والله ما اتهمتك عليه ولكنى كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا. وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك فى دارك.فقال العباس: أما إذ فعلت فإنى قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم فى مسجدهم. فأما وأنت تخاصمنى فلا. وبنى عمر لهم بيتا جديدا من بيت مال المسلمين. ولما احتضر عمر بعد أن طعن أمر مهيبا أن يصلى بالناس ثلاثة أيام وأمره أن يجعل للناس طعاما فيطعموا(حتى يستخلفوا إنسانا) فلما رجعوا من الجنازة جئ بالطعام ووضعت الموائد فأمسك الناس عنها(حزنا على عمر) فقال العباس: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد مات فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر فأكلنا بعده وشربنا، وإنه لابد من الأجل فكلوا من هذا الطعام. ثم مد العباس يده فأكل، ومد الناس أيديهم فأكلوا..
ودخل عليه عثمان بن عفان على، وكان العباس خال أمه أروى بنت كريز فقال: يا خال أوصني، فقال: أوصيك بسلامة القلب، وترك مصانعة الرجال في الحق، وحفظ اللسان، فإنك متى تفعل ذلك ترضى ربك وتصلح لك رعيتك.
أثره في الأخرين (دعوته ـ تعليمه):
ويقول العباس لعبد الله بن العباس ناصحاً: يا بني إن الله قد بلغك شرف الدنيا فاطلب شرف الآخرة، واملك هواك واحرز لسانك إلا مما لك.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم : عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ..
بعض كلماته:
قيل للعباس أنت أكبر أم رسول الله، فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
قال العباس: أنا أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث، ولده عام الفيل وولدت قبل الفيل بثلاث سنين.
ـ قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله بن عباس حين اختصه عمر بن الخطاب وقربه: يا بني لا تكذبه فيطرحك، ولا تغتب عنده أحدا فيمقتك، ولا تقولن له شيئا حتى يسألك، ولا تفشين له سرا فيزدريك، ويقال أنه قال له: إن هذا الرجل قد أدناك وأكرمك فاحفظ عني ثلاثا: لا يجربن عليك كذبا، ولا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا.
ـ وفي يوم حنين يقول العباس
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعـوا
يعني بالسبعة: نفسه، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا رافع مولى رسول الله، وأيمن بن عبيد أخا أسامة لأمه أم أيمن، ويقال إن السابع مكان أيمن بعض ولد الحارث بن عبد المطلب، ويقال إنهم: العباس، وعلي، وأبو سفيان بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والزبير بن العوام، وأسامة بن زيد، وبنو الحارث يقولون: إن جعفر بن أبي سفيان شهد حنينا أيضا.
الوفاة:
عن نملة بن أبي نملة، عن أبيه، قال :لما مات العباس بعثت بنو هاشم من يؤذن أهل العوالي : رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب . فحشد الناس.
قال الواقدي : حدثنا ابن أبي سبرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية، قال : جاء مؤذن بموت العباس بقباء على حمار، ثم جاءنا آخر على حمار، فاستقبل قرى الأنصار، حتى انتهى إلى السافلة، فحشد الناس .
فلما أتي به إلى موضع الجنائز، تضايق، فقدموا به إلى البقيع . فما رأيت مثل ذلك الخروج قط، وما يقدر أحد يدنو إلى سريره . وازدحموا عند <101> اللحد، فبعث عثمان الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم، حتى خلص بنو هاشم، فنزلوا في حفرته .
ورأيت على سريره برد حبرة قد تقطع من زحامهم.قال الواقدي : حدثتني عبيدة بنت نابل، عن عائشة بنت سعد، قالت : جاءنا رسول عثمان ونحن بقصرنا على عشرة أميال من المدينة، أن العباس قد توفي، فنزل أبي وسعيد بن زيد ، ونزل أبو هريرة من السمرة ; فجاءنا أبي بعد يوم فقال : ما قدرنا أن ندنو من سريره من كثرة الناس، غلبنا عليه، ولقد كنت أحب حمله.
وعن عباس بن عبد الله بن معبد، قال : حضر غسله عثمان . وغسله علي وابن عباس وأخواه : قثم ، وعبيد الله . وحَدَّتْ نساء بني هاشم سنة زهير بن معاوية، عن ليث، عن مجاهد، عن علي بن عبد الله ابن عباس أن العباس أعتق سبعين مملوكا عند موته .
وفي " مستدرك " الحاكم، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجل العباس إجلال الوالد. ولعبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا : " العباس مني وأنا منه " عبد الأعلى الثعلبي، لين .
وكانت وفاته في يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين..
ودفن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في البقيع..
طالب عفو ربي
24-05-2009, 01:08 AM
الفضل بن العباس بن عبد المطلب
مقدمة
هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، يكنى أبا عبد الله وقيل: بل يكنى أبا محمد. أمه أم الفضل لبابة الصغرى بنت الحارث..أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم...وهو أكبر ولد العباس وبه كان العباس يكنى...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
وقد قيل إن الفضل بن العباس غسَّل إبراهيم - يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم - ونزل في قبره مع أسامة ابن زيد....
وكان رضي الله عنه ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين..
....وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وانحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم فانكفأ الناس منهزمين وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله أمر الناس ومعه رهط من أهل بيته ورهط من المهاجرين والعباس آخذ بحكمة البغلة البيضاء وقد شجرها. وثبت معه من أهل بيته: علي بن أبي طالب وأبو سفيان بن الحارث والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم. وثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر. فثبتوا حتى عاد الناس...
وفي سنن الدارمي...
وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا فَلَمَّا دَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالظُّعُنِ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ رَأْسَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ...{ حديث رقم 1778 }
روى الإمام أحمد بسنده...
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة وهو مردف أسامة بن زيد فقال: " هذا الموقف وكل عرفة موقف..." - وفي آخر الحديث -... قال العباس يا رسول الله إني رأيتك تصرف وجه ابن أخيك - يعني الفضل - قال: "إني رأيت غلاما شابا وجارية شابة فخشيت عليهما الشيطان." { مسند أحمد - حديث رقم 532 }
" كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة قال فجعل الفتى يلحظ النساء وينظر اليهن قال وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه مرارا قال وجعل الفتى يلاحظ اليهن قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له....
غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا وشهد معه حجة الوداع وشهد غسله صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان يصيب الماء على علي يومئذ....
وكان فيمن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي دفنه...
أثره في الآخرين ( دعوته - تعليمه ):
من تلاميذه رضي الله عنه والذين رووا عنه أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم:
1- ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
2- رفيع بن مهران
3- سليمان بن يسار
4- عامر بن واثلة
5- عباس بن عبيد الله بن عباس القرشي الهاشمي
6- أبو هريرة ( عبد الرحمن بن صخر ).
7- عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي.
8- عكرمة مولى ابن عباس.
9- كريب بن أبي مسلم مولى ابن عباس.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
وجدت للصحابي الجليل في موسوعة الحديث الشريف " حرف " أربعة وثمانين حديثا، منها ستة أحاديث في البخاري، وخمسة في مسلم، وثلاثة في الترمذي، وخمسة عشر حديثا في النسائي، وثلاثة أحاديث في سنن أبي داود، وحديثين في ابن ماجة، وخمسة وأربعين حديثا في مسند الإمام أحمد، وخمسة في سنن الدارمي
وهذا بعضها:
روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة.
وروى مسلم بسنده عن ابن عباس عن الفضل بن عباس وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى قال عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة وقال لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة و حدثنيه زهير بن حرب حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير بهذا الإسناد غير أنه لم يذكر في الحديث ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة وزاد في حديثه والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان
وفي النسائي عن الفضل بن العباس أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة إن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فحج عن أمك.
متى توفي؟
خرج إلى الشام - يعني خرج مجاهدا - فمات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب.
أين دفن؟
والفضل بن العباس بن عبد المطلب مدفون بالأردن...
لم يترك ولدا إلا أم كلثوم تزوجها الحسن بن علي رضي الله عنهما ثم فارقها فتزوجها أبو موسى الأشعري..
طالب عفو ربي
24-05-2009, 01:13 AM
الـعـلاء بن الحضرمي
هو العلاء بن عبد الله الحضرمي، كان أبوه قد سكن مكة، وحالف "حرب بن أمية " والد أبي سفيان، كان للعلاء عدة أخوة منهم "عمرو" الذي كان مشركًا وقتل في بدر، وبسببه كانت الغزوة..
أسلم " العلاء" مبكرًا، وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه رسول الله إلى أهل عمان ليعلمهم شرائع الإسلام ويصدق أموالهم، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين، وثبته عليها أبا بكر، ويقال أن عمر ولاه البصرة فتوفي قبل أن يصل إليها.
كان أول من غزا بلاد فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عام 17 هـ، خرج بجيوشه بحرًا وخرجوا بـ"اصطخر"، فقاتلهم قتالاً عنيفًا، وانجلى القتال عن هزيمة أهل اصطخر.
من كراماته رضي الله عنه:
كان " العلاء" من سادات الصحابة العلماء العباد، وكان مجاب الدعوة، فمن ذلك ما ذكره المزي ـ صاحب تهذيب الكمال ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم " العلاء بن الحضرمي " إلى البحرين، تبعته فرأيت منه عجبًا: انتهينا إلى شاطئ البحر فقال سموا الله وانقحموا فسمينا وانقحمنا فعبرنا فما بل الماء إلا أسافل خفاف إبلنا فلما قفلنا صرنا معه بفلاة من الأرض وليس معنا ماء فشكونا إليه فصلى ركعتين ثم دعا فإذا سحابة مثل الترس ثم أرخت عزاليها فسقينا واستقينا ومات فدفناه في الرمل فلما سرنا غير بعيد قلنا يجيء سبع فيأكله فرجعنا فلم نره.
ومن كراماته رضي الله عنه موقف وفاته:
فقد جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي قال أنس وكنت في غزاته فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مد يده إلى السماء وما نرى في السماء شيئا قال فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحا وأنشأ سحابا وأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجها في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ثم قال أجيزوا بسم الله قال فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا قال فلم نلبث إلا يسيرا حتى رمي في جنازته قال فحفرنا له وغسلناه ودفناه فأتى رجل بعد فراغنا من دفنه فقال من هذا فقلنا هذا خير البشر هذا ابن الحضرمي فقال إن هذه الأرض تلفظ الموتى فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى فقلنا ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله قال فاجتمعنا على نبشه فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه وإذا اللحد مد البصر نور يتلألأ قال فأعدنا التراب إلى اللحد ثم ارتحلنا قال البيهقي رحمه الله وقد روي عن أبي هريرة في قصة العلاء بن الحضرمي في استسقائه ومشيهم على الماء دون قصة الموت بنحو من هذا وذكر البخاري في التاريخ لهذه القصة إسنادا آخر وقد اسنده ابن أبي الدنيا عن أبي كريب عن محمد بن فضيل عن الصلت بن مطر العجلي عن عبد الملك بن سهم عن سهم بن منجاب قال غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره وقال في الدعاء يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ فاذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا وقال في البحر اجعل لنا سبيلا إلى عدوك وقال في الموت اخف جثتي ولا تطلع على عورتي أحدا فلم يقدر عليه والله أعلم.
أهم ملامح شخصيته:
من أوضح ملامح شخصيته الجانب القيادي حيث ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وقاد الكثير من الجيوش وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى قادة القبائل ليدعوهم إلى الإسلام
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي في رجب سنة تسع فأسلم المنذر ورجع العلاء فمر باليمامة فقال له ثمامة بن آثال أنت رسول محمد قال نعم قال لا تصل إليه أبدا فقال له عمه عامر مالك وللرجل قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اهد عامرا وأمكني من ثمامة فأسلم عامر وأسر ثمامة...
من مواقفه مع الصحابة:
أجمع أبو بكر بعثة العلاء بن الحضرمي فدعاه فقال إني وجدتك من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ولي فرأيت أن أوليك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك فعليك بتقوى الله فخرج العلاء بن الحضرمي من المدينة في ستة عشر راكبا معه فرات بن حيان العجلي دليلا وكتب أبو بكر كتابا للعلاء بن الحضرمي أن ينفر معه كل من مر به من المسلمين الى عدوهم فسار العلاء فيمن تبعه منهم حتى نزل بحصن جواثا فقاتلهم فلم يفلت منهم أحد ثم أتى القطيف وبها جمع من العجم فقاتلهم فأصاب منهم طرفا وانهزموا فانضمت الأعاجم الى الزارة فأتاهم العلاء فنزل الخط على ساحل البحر فقاتلهم وحاصرهم الى أن توفي أبو بكر رحمه الله وولي عمر بن الخطاب وطلب أهل الزارة الصلح فصالحهم العلاء ثم عبر العلاء الى أهل دارين فقاتهلم فقتل المقاتلة وحوى الذراري وبعث العلاء عرفجة بن هرثمة الى أسياف فارس فقطع في السفن فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس واتخذ فيها مسجدا
وعن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء بن الحضرمي فأوصاه بي خيرا فلما فصلنا قال لي: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصاني بك خيرا فانظر ماذا تحب؟ قال: قلت: تجعلني أؤذن لك ولا تسبقني بآمين.
تلاميذه
ابن العلاء بن الحضرمي، وهو من الطبقة الوسطى من التابعين.
حيان ولقبه: الأعرج وهو بصري، وهو من كبار الأتباع.
السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة ولقبه: ابن أخت نمر وهو كندي، وهو من الصحابة.
مما روى عن رسول الله: أنه قال ( يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا ) صحيح على شرط الشيخين
وفاته:
توفي سنة أربع عشرة ومنهم من يقول: إنه تأخر إلى سنة إحدى وعشرين... بنياس من أرض بني تميم.
طالب عفو ربي
24-05-2009, 10:12 PM
القعقاع بن عمرو التميمي
هو القعقاع بن عمرو التميمي..
وقد ظهرت ملامح شخصيته رضي الله عنه بوضوح شديد في الفتوحات فقد كان رضي الله عنه شجاعاً مقداماً ثابتاً في أرض المعارك وبجوار شجاعته وشدة باسه على أعداء الله كان من شديد الذكاء وذا عبقرية عسكرية في ادارة المعارك ويظهر ذلك في موقعة القادسية .
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
للقعقاع مواقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يخاطب من أمامه بما يحب أو مما يؤثر في نفسه ولما كان حديثه مع القعقاع وهو رجل يحب الجهاد يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإعداد للجهاد فيقول سيف عن عمرو بن تمام عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ما أعددت للجهاد؟ قلت: طاعة الله ورسوله والخيل قال: تلك الغاية .
آثره في الأخرين (دعوته ـ تعليمه):
لقد كان للقعقاع أثرأ كبيرأ في نفوس الأخرين ففي اليوم الثاني من معركة القادسية أصبح القوم وفي أثناء ذلك طلعت نواصي الخيل قادمة من الشام وكان في مقدمتها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص والقعقاع بن عمرو التميمي، وقسم القعقاع جيشه إلى أعشار وهم ألف فارس ، وانطلق أول عشرة ومعهم القعقاع ، فلما وصلوا تبعتهم العشرة الثانية ، وهكذا حتى تكامل وصولهم في المساء ، فألقى بهذا الرعب في قلوب الفرس ، فقد ظنوا أن مائة ألف قد وصلوا من الشام ، فهبطت هممهم ، ونازل القعقاع( بهمن جاذويه ) أول وصوله فقتله ، ، ولم يقاتل الفرس بالفيلة في هذا اليوم لأن توابيتها قد تكسرت بالأمس فاشتغلوا هذا اليوم بإصلاحها ، وألبس بعض المسلمين إبلهم فهي مجللة مبرقعة ، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتشبهون بها بالفيلة ، ففعلوا بهم هذا اليوم ، وبات القعقاع لاينام ، فجعل يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس ، وقال : إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة ، ففعلوا ذلك في الصباح ، فزاد ذلك في هبوط معنويات الفرس.
وابتدأ القتال في الصباح في هذا اليوم الثالث وسمي يوم عمواس ، والفرس قد أصلحوا التوابيت ، فأقبلت الفيلة يحميها الرجالة فنفرت الخيل ، ورأ ى سعد الفيلة عادت لفعلها يوم أرماث فقال لعاصم بن عمرو والقعقاع : اكفياني الفيل الأبيض ، وقال لحمال والربيل : اكفياني الفيل الأجرب ،فأخذ الأولان رمحين وتقدما نحو الفيل الأبيض فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض ، فنفض رأسه وطرح ساسته ، ودلى مشفره فضربه القعقاع فوقع لجنبه ، وفي هذه الليلة حمل القعقاع وأخوه عاصم والجيش على الفرس بعد صلاة العشاء ، فكان القتال حتى الصباح ، فلم ينم الناس تلك الليلة ، وكان القعقاع محور المعركة. فلما جاءت الظهيرة وأرسل الله ريحاً هوت بسرير رستم ، وعلاه الغبار، ووصل القعقاع إلى السرير فلم يجد رستم الذي هرب.
ما قيل عنه:
ـ لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف رجل " ..أبو بكر..
ـ كتب عمر بن الخطاب الي سعد :( أي فارس أيام القادسية كان أفرس ؟ وأي رجل كان أرجل ؟ وأي راكب كان أثبت ؟)000فكتب إليه :( لم أر فارساً مثل القعقاع بن عمرو ! حمل في يوم ثلاثين حملة ، ويقتل في كل حملة كمِيّاً ..
بعض كلماته:
شهد القعقاع -رضي الله عنه اليرموك ، فقد كان على كُرْدوسٍ من كراديس أهل العراق يوم اليرموك ، وكان للقعقاع في كل موقعة شعر فقد قال يوم اليرموك :000
ألَمْ تَرَنَا على اليرموك فُزنا00000كما فُزنـا بأيـام العـراق
فتحنا قبلها بُصـرى وكانتْ00000محرّمة الجناب لدَى البُعـاق
وعذراءُ المدائـن قد فتحنـا00000ومَرْجَ الصُّفَّرين على العِتَـاقِ
فضضنا جمعَهم لمّا استحالوا00000على الواقوص بالبتـر الرّقاقِ
قتلنا الروم حتـى ما تُساوي00000على اليرموك ثفْروق الوِراقِ ..
الوفاة: توفي بالكوفة.
طالب عفو ربي
25-05-2009, 08:14 PM
المثنى بن حارثة
المثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرة بن ذهل بن شيبان الربعي الشيباني..
حاله في الجاهلية
كان المشهور عن المثنى بن حارثة أنه من أشراف قبيلته وشيخ حربها ورجاحة عقله وإدارته المتميزة في المعارك.
وفي الجاهلية أغار المثنى بن حارثة الشيباني، وهو ابن أخت عمران ابن مرة، على بني تغلب، وهم عند الفرات، فظفر بهم فقتل من أخذ من مقاتلتهم وغرق منهم ناسٌ كثير في الفرات وأخذ أموالهم وقسمها بين أصحابه.
قصة إسلامه:
وفد المثنَى بن حارثة بن ضَمضَم الشّيبانيّ إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنة تسع مع وفد قومه، وكان شهماً شجاعاً ميمون النقيبة حسن الرأي..
أهم ملامح شخصيته:
ـ حسن إدارته الشديدة للمعارك: كانت أنباء هزيمة الجسر ثقيلة على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب ظل أشهرا طويلة لا يتكلم في شأن العراق؛ نظرا لما أصاب المسلمين هناك، ثم ما لبث أن أعلن النفير العام لقتال الفرس في العراق؛ فتثاقل الناس عليه، وعندما رأى ذلك قرر أن يسير هو بنفسه للقتال والغزو، فأشعل سلوكه ذلك الحماسة في قلوب المسلمين، فقدمت عليه بعض القبائل من الأزد تريد الجهاد في الشام، فرغبهم في الجهاد في العراق، ورغبهم في غنائم كسرى والفرس، وقدمت عليه قبيلة بجيلة، واشترطوا أن يقاتلوا في العراق على أن يأخذوا ربع الغنائم التي يحصلون عليها، فوافق عمر، وبدأت الجموع المجاهدة تتوافد على المثنى، الذي لم يكف عن ترغيب العرب في الجهاد.
واكتملت قوات المسلمين تحت قيادة المثنى بن حارثة، في مكان يسمى "البويب" (يقع حاليا قرب مدينة الكوفة)، وكان نهر الفرات بين الجيشين، وكان يقود الفرس "مهران الهمداني" الذي أرسل إلى المثنى يقول له: "إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم"، فرد عليه المثنى "أن اعبروا أنتم إلينا". وكان ذلك في (14 من رمضان 14هـ = 31 من أكتوبر 1635م). ويرى بعض المؤرخين أنها وقعت في رمضان سنة 13هـ، إلا أن تتبع ما وقع من أحداث في العراق يجعل الرأي الأقرب للصواب هو 14هـ. وقد أمر المثنى المسلمين بالفطر حتى يقووا على القتال، فأفطروا عن آخرهم، ورأى المثنى أن يجعل لكل قبيلة راية تقاتل تحتها؛ حتى يعرف من أين يخترق الفرس صفوف المسلمين، وفي هذا تحفيز للمسلمين للصمود والوقوف في وجه الفرس. وأوصى المثنى المسلمين بالصبر والصمت والجهاد؛ لأن الفرس عندما عبروا إلى المسلمين كانوا يرفعون أصواتهم بالأهازيج والأناشيد الحماسية، فرأى المثنى أن ذلك من الفشل وليس من الشجاعة. وخالط المثنى جيشه مخالطة كبيرة فيما يحبون وفيما يكرهون؛ حتى شعر الجنود أنه واحد منهم، وكانوا يقولون: "لقد أنصفتنا من نفسك في القول والفعل". ونظم المثنى جيشه، وأمرهم ألا يقاتلوا حتى يسمعوا تكبيرته الثالثة، ولكن الفرس لم يمهلوه إلا أن يكبر تكبيرة واحدة حتى أشعلوا القتال، وكان قتالا شديدا عنيفا، تأخر فيه النصر على المسلمين، فتوجه المثنى إلى الله تعالى وهو في قلب المعركة بالدعاء أن ينصر المسلمين، ثم انتخب جماعة من أبطال المسلمين وهجموا بصدق على الفرس فهزموهم، وعندما استشهد "مسعود بن حارثة" وكان من قادة المسلمين وشجعانهم وهو أخو المثنى قال المثنى: "يا معشر المسلمين لا يرعكم أخي؛ فإن مصارع خياركم هكذا"، فنشط المسلمون للقتال، حتى هزم الله الفرس. وقاتل مع المثنى في هذه المعركة أنس بن هلال النمري وكان نصرانيا، قاتل حمية للعرب، وكان صادقا في قتاله، وتمكن أحد المسلمين من قتل "مهران" قائد الفرس، فخارت صفوف الفرس، وولوا هاربين، فلحقهم المثنى على الجسر، وقتل منهم أعدادا ضخمة، قدرها البعض بمائة ألف، ولكن هذا الرقم لا يشير إلى العدد الفعلي، ولكنه كناية عن الكثرة فقط. وقد سميت معركة البويب بـ"يوم الأعشار"؛ لأنه وجد من المسلمين مائة رجل قتل كل منهم عشرة من الفرس، ورأى المسلمون أن البويب كانت أول وأهم معركة فاصلة بين المسلمين والفرس، وأنها لا تقل أهمية عن معركة اليرموك في الشام. ومن روعة المثنى أنه اعترف بخطأ ارتكبه أثناء المعركة رغم أنه حسم نتيجة المعركة، فقال: "عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم؛ فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها؛ فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع."
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
ذكر قاسم بن ثابت فيما رأيته عنه من حديث عبد الله ابن عباس عن علي بن أبي طالب في خروجهما هو وأبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك قال علي وكان أبو بكر في كل خير مقدماً فقال ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم وفيهم مفروق بن عمر وهانئ بن قبيصة ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمر قد غلبهم جمالاً ولساناً وكانت له غديرتان وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر رضي الله عنه فقال له أبو بكر رضي الله عنه كيف العدد فيكم فقال مفروق أنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة فقال أبو بكر كيف المنعة فيكم فقال مفروق علينا الجهد ولكل قوم جد فقال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق إنا لأشد ما نكون غضباً لحين نلقى وأنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش فقال أبو بكر أوقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلام تدعو يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد فقال مفروق وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" فقال مفروق وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" فقال مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال هذا هانئ ابن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنا إنما نزلنا بين صريي اليمامة والسمامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذان الصريان فقال أنهار كسرى ومياه العرب فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما يكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسأتم في الرد إذ فصحتم في الصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاط من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نسائهم أتسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا" ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتجاوزون فيما بينهم
بعض مواقفه مع الصحابة:
ـ عندما أسلم المثنى بن حارثة كان يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فسأل عن المثنى، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد".
ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهدا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أسلم قوم المثنى..
أثره في الآخرين ـ وعندما رأى المثنى البطء في الاستجابة للنفير قام خطيبا في الناس فقال ":أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه؛ فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعده".
بعض كلماته:
وقال المرزباني: كان مخضرما وهو الذي يقول:
سألوا البقية والرماح تنوشهم شرقي الأسنة والنحور من الدم
فتركت في نقع العجاجة منهم جزرا لساغبة ونسر قشعم
الوفاة:
لمّا ولي عمر بن الخطاب الخلافة سيّر أبا عبيد بن مسعود الثقفي في جيش الى المثنى، فاستقبله المثنى واجتمعوا ولقوا الفرس بـ( قس الناطف ) واقتتلوا فاستشهد أبو عبيد، وجُرِحَ المثنى فمات من جراحته قبل القادسية، رضي الله عنهما.
طالب عفو ربي
27-05-2009, 07:18 PM
المستورد بن شداد
هو المستورد بن شداد بن عمرو بن حسل بن الأحب بن فهر بن مالك، لما قبض النبي (صلى الله عليه وسلم) كان غلاما. قاله الواقدي، وقال غيره: إنه سمع من النبي سماعا وأتقنه. (1)
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن المستورد بن شداد قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا " قال قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق " .(2)
وجاء في سنن الترمذي عن المستورد بن شداد قال : كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على السخلة الميتة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها
وفي مسند الإمام أحمد عن المستورد بن شداد صاحب النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره.
وعن المستورد بن شداد أخي بني فهم أخبره قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : من أكل بمسلم أكلة أطعمه الله بها أكلة من نار جهنم يوم القيامة و من أقام بمسلم مقام سمعة أقامه الله يوم القيامة مقام سمعة و رياء و من اكتسى بمسلم ثوبا كساه الله ثوبا من النار يوم القيامة.(3)
وفي المعجم الكبير "عن المستورد بن شداد عن أبيه قال : أتيت رسول الله( صلى الله عليه وسلم )فأخذت بيده فإذا هي ألين من الحرير و أبرد من الثلج"
وعن المستورد بن شداد : قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) : يذهب الصالحون الأول فالأول حتى يبقى مثل حثالة التمر لا يبالي الله بها.(4)
الوفاة
مات بمصر في ولاية معاوية.(5)
وقال ابن حجر في الإصابة "توفي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين"
طالب عفو ربي
29-05-2009, 04:32 PM
المسور بن مخزمة
هو المسور بن مخزمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى القرشي الزهري وأمه عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف ممن أسلمن وهاجرن.
وكانت له مواقف مع رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن المسور بن مخرمة قال:
أقبلت بحجر أحمله ثقيل وعلي إزار خفيف قال فانحل إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة.(1)
وجاء في سنن أبي داود عن المسور بن مخرمة أنه قال:
قسم رسول الله( صلى الله عليه وسلم) أقبية ولم يعط مخرمة شيئا فقال مخرمة يا بني انطلق بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فانطلقت معه قال ادخل فادعه لي قال فدعوته فخرج إليه وعليه قباء منها فقال "خبأت هذا لك" قال فنظر إليه. زاد ابن موهب: مخرمة ثم اتفقا قال رضي مخرمة. قال قتيبة عن ابن أبي مليكة لم يسمه.
من مواقفه مع الصحابة:
مواقف كثيرة قد حدثت بين المسور بن مخرمة وبين الصحابة ( رضوان الله عليهم ) ومن هذه المواقف وقوفه مع عبدالله بن الزبير؛ حتي يتصالح مع خالته أم المؤمنبن السيدة عائشة ( رضي الله عنها )
جاء في الدر المنثور أن عائشة رضي الله عنها حدثت: أن عبد الله بن
الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها
فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا نعم
قالت عائشة: فهو لله نذر أن لا أكلم ابن الزبير كلمة أبدا
فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين حين طالت هجرتها إياه
فقالت: والله لا أشفع فيه أحدا أبدا ولا أحنث نذري الذي نذرت أبدا فلما طال على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة فقال لهما: أنشدكما الله إلا أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين عليه بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام على النبي ورحمة الله و بركاته أندخل؟ فقالت عائشة: ادخلوا
قالوا: أكلنا يا أم المؤمنين؟
قالت: نعم ادخلوا كلكم
ولا تعلم عائشة أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير في الحجاب و اعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدان عائشة إلا كلمته وقبلت منه ويقولان: " قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة و أنه لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال " فلما أكثروا التذكير والتحريج طفقت تذكرهم وتبكي وتقول: إني قد نذرت والنذر شديد فلم يزالوا بها حتى كلمت ابن الزبير ثم أعتقت بنذرها أربعين رقبة لله ثم كانت تذكر بعدما أعتقت أربعين رقبة فتبكي حتى تبل دموعها خمارها.
وموقف آخر مع عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) "عن المسور بن مخرمة أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب فقالا الصلاة يا أمير المؤمنين بعد ما أسفر فقال نعم لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دم".(2)
واجتمعت جماعة فيما حول مكة في الحج وحانت الصلاة فتقدم رجل من آل أبي السائب أعجمي اللسان قال فأخره المسور بن مخرمة وقدم غيره فبلغ عمر بن الخطاب فلم يعرفه بشيء حتى جاء المدينة فلما جاء المدينة عرفه بذلك فقال المسور أنظرني يا أمير المؤمنين أن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته فقال هنالك ذهبت بها فقال نعم فقال قد أصبت.(3)
وجاء في صحيح البخاري عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك فقال سعد والله ما أبتاعهما فقال المسور والله لتبتاعنهما فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة قال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول ( الجار أحق بسقبه ). ما أعطيتكها أربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاها إياهم.
وحدث أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور:
لا يغسل المحرم رأسه فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب( رضي الله عنه) يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته (صلى الله عليه وسلم ) يفعل.
عن أم بكر أن مروان دعا المسور بن مخرمة يشهده حين تصدق بداره على عبد الملك قال فقال المسور وترث فيها العبسية قال لا قال فلا أشهد قال ولم قال إنما أخذت من احدى يديك فجعلته في الأخرى فقال وما أنت وذاك احكم أنت إنما أنت شاهد فقال وكلما فجرتم فجرة شهدت عليها قال عبد الملك والعبسية كانت امراة مروان.(4)
دخل المسور بن مخرمة على مروان فجلس معه وحادثه فقال المسور لمروان في شيء سمعه: بئس ما قلت فركضه مروان برجله فخرج المسور. ثم إن مروان نام فأتي في المنام فقيل له: ما لك وللمسور كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا قال: فأرسل مروان إلى المسور فقال: إني زجرت عنك في المنام وأخبره بالذي رأى. فقال المسور: لقد نهيت عنه في اليقظة والنوم وما أراك تنتهي.(5)
من مواقفه مع التابعين:
له موقف مع علي بن الحسين ( رضي الله عنه ):
حينما قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي( رضي الله عنهما) لقي المسور بن مخرمة علي بن الحسين فقال له هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ قال فقلت له لا قال له هل أنت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه وايم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبدا حتى تبلغ نفسي إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها.
قال ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا.(6)
من الأحاديث التي نقلها عن الرسول:
عن المسور بن مخرمة أن: عمرو بن عوف وهو حليف بني عامر بن لؤي وكان شهد بدرا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخبره أن رسول الله( صلى الله عليه وسلم) بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين وسمعت الانصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم.(7)
وجاء في صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان قالا:
خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد النبي (صلى الله عليه وسلم) الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة.
عن المسور بن مخرمة: أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي (صلى الله عليه وسلم) فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت.(8)
وفاته:
توفي المسور بن مخرمة يوم جاء نعي يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير سنة أربع وستين وصلى عليه ابن الزبير بالحجون أصابه حجر المنجنيق وهو يصلي بالحجر فأقام خمسة أيام وتوفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وولد بعد الهجرة بسنتين وقدم به المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان وشهد عام الفتح وهو ابن ست سنين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين. (9)
طالب عفو ربي
30-05-2009, 10:42 PM
المغيرة بن شعبة
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي. أبو عبد الله. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة والدهاء..
كان ضخم القامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، أصهب الشعر جعده وكان لا يفرقه..
وعن الزهري قال: قالت عائشة: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام المغيرة بن شعبة ينظر إليها، فذهبت عينه.
حاله في الجاهلية ثم إسلامه:
عن المغيرة بن شعبة قال: إنّ أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّي أمشي أنا وأبو جهل، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم هلّم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله، فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سبّ آلهتنا، هل تريد إلاّ أن نشهد أن قد بلّغت، فوالله لو أنّي أعلم أن ما تقول حق ما اتّبعتك، فانصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم، وأقبل عليّ فقال: والله إنّ لأعلم أنّ ما يقول حق، ولكن بنو قصيّ قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: فينا النّدوة، قلنا، نعم، ثم قالوا: فينا اللّواء، فقلنا: نعم، وقالوا: فينا السّقاية، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منّا نبيّ، والله لا أفعل.
وروى الواقدي ; عن محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، وعن جماعة قالوا: قال المغيرة بن شعبة: كنا متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات، فأراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم. فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وإهداء هدايا له، فأجمعت الخروج معهم، فاستشرت عمي عروة بن مسعود ، فنهاني، وقال: ليس معك من بني أبيك أحد، فأبيت، وسرت معهم، وما معهم من الأحلاف غيري ; حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر، فركبت زورقا حتى حاذيت مجلسه، فأنكرني، وأمر من يسألني، فأخبرته بأمرنا وقدومنا، فأمر أن ننزل في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة، ثم أدخلنا عليه، فنظر إلى رأس بني مالك، فأدناه، وأجلسه معه، ثم سأله، أكلكم من بني مالك؟ قال نعم، سوى رجل واحد، فعرَّفه بي. فكنت أهون القوم عليه، وسُرَّ بهداياهم، وأعطاهم الجوائز، وأعطاني شيئا لا ذكر له. وخرجنا، فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم، ولم يعرض علي أحد منهم مواساة، وخرجوا، وحملوا معهم الخمر، فكنا نشرب، فأجمعت على قتلهم، فتمارضت، وعصبت رأسي، فوضعوا شرابهم، فقلت: رأسي يُصدع ولكني أسقيكم، فلم ينكروا، فجعلت أصرف لهم ، وأترع لهم الكأس، فيشربون ولا يدرون، حتى ناموا سكرا، فوثبت، وقتلتهم جميعا، وأخذت ما معهم. فقدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجده جالسا في المسجد مع أصحابه، وعلي ثياب سفري، فسلمت، فعرفني أبو بكر <25> فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الحمد لله الذي هداك للإسلام، قال أبو بكر: أمن مصر أقبلتم؟ قلت: نعم، قال: ما فعل المالكيون؟ قلت: قتلتهم، وأخذت أسلابهم، وجئت بها إلى رسول اللة ليخمسها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أما إسلامك فنقبله، ولا آخذ من أموالهم شيئا ؛ لأن هذا غدر، ولا خير في الغدر " فأخذني ما قرب وما بعد (أصابني خوف أو حزن)، وقلت: إنما قتلتهم وأنا على دين قومي، ثم أسلمت الساعة، قال: " فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله "
أثر الرسول في تربيته:
أقام المغيرة بن شعبة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى اعتمر عمرة الحديبية، فكانت أول سفرة خرجت معه فيها. وكنت أكون مع الصديق وألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن يلزمه.
أهم ملامح شخصيته:
ـ كان يقال له مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق. وقال الشعبي: كان من دهاة العرب؛ وكذا ذكره الزهري.
وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة؛ فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وولاه عمر البصرة، ففتح ميسان، وهمذان، وعدة بلاد إلى أن عزله لمَّا شهد عليه أبو بكرة ومن معه.
ومن دهاء المغيرة بن شعبة أنه لما شكا أهل الكوفة عماراً، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة، وقال له: لا تذكره لأحد. فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت، فقالت: نعم ما حييتني به. فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له: بارك الله لك فيمن وليت! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر.
ويقول المغيرة بن شعبة لم يخدعني غير غلام من بني الحرث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها فقال أيها الأمير لا خير لك فيها فقلت ولم؟ قال رأيت رجلا يقبلها فاعرض عنها فتزوجها الفتى فلمته وقلت ألم تخبرني أنك رأيت رجلا يقبلها؟ قال نعم رأيت أباها يقبلها
بعض المواقف من حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ يقول المغيرة بن شعبة بعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليكلمه، فأتاه، فكلمه، وجعل يمس لحيته، وأنا قائم على رأس رسول الله مقنع في الحديد، فقال المغيرة لعروة: كُفَّ يدك قبل أن لا تصل إليك، فقال: من ذا يا محمد؟ ما أَفَظَّه وأغلظه، قال: ابن أخيك، فقال: يا غدر، والله ما غسلت عني سوءتك إلا بالأمس.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
مع عمر رضي الله عنه:
حسين بن حفص، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه; أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين، فكرهوه، فعزله عمر فخافوا أن يرده. فقال دهقانهم: إن فعلتم ما آمركم لم يرده علينا. قالوا: مرنا. قال: تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر فأقول: إن المغيرة اختان هذا، فدفعه إلي. قال: فجمعوا له مائة ألف، وأتى عمر، فقال ذلك. فدعا المغيرة، فسأله، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، قال: فما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة. فقال عمر <27> للعِلْج: ما تقول؟ قال: لا والله لأصدقنك ما دفع إلي قليلا ولا كثيرا. فقال عمر للمغيرة: ما أردت إلى هذا؟ قال: الخبيث كذب علي، فأحببت أن أخزيه.
مع علي رضي الله عنه:
قال المغيرة بن شعبة لعلي حين قتل عثمان اقعد في بيتك ولا تدع إلى نفسك، فإنك لو كنت في جحر بمكة لم يبايعوا غيرك. وقال لعلي إن لم تطعني في هذه الرابعة،لأعتزلنك، ابعث إلى معاوية عهده، ثم اخلعه بعد. فلم يفعل، فاعتزله المغيرة باليمن. فلما شغل علي ومعاوية فلم يبعثوا إلى الموسم أحدا ; جاء المغيرة، فصلى بالناس، ودعا لمعاوية.
مع معاوية رضي الله عنه:
يقول الزهري: دعا معاوية عمرو بن العاص بالكوفة، فقال: أعني على الكوفة، قال: كيف بمصر؟ قال: أستعمل عليها ابنك عبد الله بن عمرو قال: فنِعْمَ. فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة - وكان معتزلا بالطائف - فناجاه معاوية. فقال المغيرة: تؤمر عَمْرا على الكوفة، وابنه على مصر، وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد. قال: ما ترى؟ قال: أنا أكفيك الكوفة. قال: فافعل. فقال <30> معاوية لعمرو حين أصبح: إني قد رأيت كذا، ففهم عمرو فقال: ألا أدلك على أمير الكوفة؟ قال: بلى، قال: المغيرة، واستغن برأيه وقوته عن المكيدة، واعزله عن المال، قد كان قبلك عمر وعثمان ففعلا ذلك، قال: نعم ما رأيت. فدخل عليه المغيرة، فقال: إني كنت أمرتك على الجند والأرض، ثم ذكرت سُنة عمر وعثمان قبلي، قال: قد قبلت.
موقفه مع رجل من الأنصار:
ـ كان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني، فقتل، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلي ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفاً لا تختتن. فقال له المغيرة بن شعبة: لا تقل هذا، إنما هو غلامٌ نصراني، وأراه قتلى ثقيف مختتنين.
موقفه مع أبي بكرة: كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي، فقال لهم: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم، وكانت من بني عامر بن صعصعة، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة، فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة، وهو أوجز كتاب وأبلغه: (أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم إليه ما في يدك والعجل). فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة. ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأما زياد فإنه قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. فقال المغيرة: اشفني من الأعبد. قال: اسكت أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك.
موقفه مع قومه ثقيف: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف وفداً، وأمر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة. فلما قدموا عمدوا اللات ليهدموها، واستكفت ثقيف كلها، حتى خرج العواتق، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المغيرة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم منهم. فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض. فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قد قتلته الربة. وفرحوا، وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها، فوالله لا يستطاع أبداً. فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله؛ إنما هي لكاع حجارة ومدر، فأقبلوا عافية الله واعبدوه. ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا على سورها، وعلا الرجال معه، فهدموها. وجعل صاحب المفتح يقول: ليغضبن الأساس، فليخسفن بهم. فقال المغيرة لخالد: دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا ترابها، وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها. فبهتت ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرضاع وتركوا المصاع.
وأقبل الوفد حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها، فقسمه.
ـ أثره في الآخرين: أرسل رستم إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص أن ابعث إلينا برجل نكلمه فكان فيمن بعثه المغيرة بن شعبة، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه، وقال: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ، وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم، علمت أنكم مغلبون وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربي. وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة! ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال: لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافاً في الأمم، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمراً منكم، كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئاً، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهي أن أقتلكم.
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله خالق كل شيء ورازقه، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره، والله ابتلانا به والدنيا دولٌ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاتتكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما باتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما بتلينا به مستجلباً من الله رحمةً يرفه بها عنا؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً. ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال، وقال له: وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه.
فقال رستم: إذاً تموتون دونها. فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم.
فاستشاط رستم غضباً ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصبح غداً حتى نقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرجال، صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما ارادوا منهم، ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء! فلجوا وتجلدوا. وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم، وإن هذا منكم رثاء. فازدادوا لجاجة.
فأرسل رستم رسولاً خلف المغيرة وقال له: إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غداً، فأعلمه الرسول ذلك، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت. فرجع إلى رستم فأخبره. فقال: أطيعوني يا أهل فارس، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم.
ـ وكان أول من وضع ديوان البصرة كما قال البغوي.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
ـ أخبر عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين..
ـ وعن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال أملى على المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ـ وعن المغيرة بن شعبة قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله.
ـ وعن الشعبي قال سمعت المغيرة بن شعبة يخبر به الناس على المنبر قال سفيان رفعه أحدهما أراه ابن أبجر قال سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية
بعض كلماته:
قال المغيرة بن شعبة من أخَّر حاجة رجلٍ فقد ضَمِنها إن المعرفةَ لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤل فكيف بالرجل
الكريم؟
خطب المغيرة بن شعبة في حضرة رستم
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله خالق كل شىء ورازقه فمن صنع شيئا فإنما هو يصنعه والذى له وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره فالله صنعة بكم ووضعه فيكم وهوله دونكم وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا ثم ذكر مثل الكلام الأول
قال المغيرة بن شعبة أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا بقاء للنعم إذا كفرت ولا زوال لها إذا شكرت.
موقف الوفاة:
توفي المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- بالكوفة سنة خمسين للهجرة وهو ابن سبعين سنة..
طالب عفو ربي
01-06-2009, 09:08 PM
المقداد بن الأسود
مقدمة
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، من قضاعة، وقيل من كندة. أبو معبد أو أبو عمرو. نسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري; لأنه تبناه في الجاهلية.
ـ قال ابن الكلبي: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دما في قومه، فلحق بحضرموت، فحالف كندة، فكان يقال له:الكندي، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد.
ـ فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي، فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة، فحالف الأسْود بن عبد يغوث الزهري، وكتب إلى أبيه، فقدم عليه، فتبنى الأسود المقداد، فصار يقال: المقداد بن الأسود، وغلبت عليه واشتهر بذلك؛ فلما نزلت: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ قيل له: المقداد بن عمرو، واشتهرت شهرته بابن الأسود.
ـ وكان المقداد يكنى أبا الأسود، وقيل: كنيته أبو عمر، وقيل: أبو سعيد. وأسلم قديما، وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا يوم بدر حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره.
ـ وكان فارساً شجاعاً « يقوم مقام ألف رجل » على حد تعبير عمرو بن العاص وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أول فارس في الإسلام وكان من الفضلاء النجباء، الكبار، الخيار من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم )سريع الإجابة إذا دعي إلى الجهاد حتى حينما تقدمت به سنه، وكان يقول في ذلك أبت علينا سورة البحوث انفروا خفافاً وثقالاً.
وكان إلى جانب ذلك رفيع الخلق، عالي الهمة، طويل الأناة، طيب..
قصة إسلامه
الذي يظهر من مجمل النصوص أن المقداد كان من المبادرين الأُول لاعتناق الإسلام، فقد ورد فيه:أنه أسلم قديماً، وذكر ابن مسعود أن أول من أظهر إسلامه سبعة، وعدّ المقداد واحداً منهم.
إلا أنه كان يكتم إسلامه عن سيده الأسود بن عبد يغوث خوفاً منه على دمه شأنه في ذلك شأن بقية المستضعفين من المسلمين الذين كانوا تحت قبضة قريش عامة، وحلفائهم وساداتهم خاصة، أمثال عمار وأبيه وبلالٍ وغيرهم ممن كانوا يتجرعون غصص المحنة ؛ فما الذي يمنع الأسود بن عبد يغوث من أن يُنزل أشد العقوبة بحليفه إن هو أحس منه أنه قد صبأ إلى دين محمد؟؟ سيما وأن الأسود هذا كان أحد طواغيت قريش وجباريهم، وأحد المعاندين لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمستهزئين به وبما جاء، إنه ـ ولا شك
ـ في هذا الحال لن يكون أقل عنفاً مع حليفه من مخزوم مع حلفائها. لأجل هذا كان المقداد يتحين الفرص لإنفلاته من ربقة « الحلف » الذي أصبح فيما بعد ضرباً من العبودية المقيتة، ولوناً من ألوان التسخير المطلق للمحالف يجرده عن كل قيمة، ويُحرم معه من أبسط الحقوق.
أهم ملامح شخصيته حبه للإسلام
حب المقداد -رضي الله عنه- للإسلام ملأ قلبه بمسئولياته عن حماية الإسلام، ليس فقط من كيد أعدائه، بل ومن خطأ أصدقائه، فقد خرج يوما في سريَّة تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرَّية أمره بألا يرعى أحد دابته، ولكن أحد المسلمين لم يحِط بالأمر خُبْرا فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أو لا يستحقها على الإطلاق، فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح فسأله فأنبأه ما حدث، فأخذ المقداد بيمينه ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:( والآن أقِدْهُ من نفسك، ومَكِّنْهُ من القصاص )000وأذعن الأمير، بيد أن الجندي عفا وصفح وانتشى المقداد بعظمة الموقف وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول:( لأموتَنَّ والإسلام عزيز )...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
يروي عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد بن الاسود قال قدمت المدينة أنا وصاحبان فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد فأتينا الى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا له فذهب بنا الى منزله وعنده أربعة أعنز فقال احلبهن يا مقداد وجزئهن أربعة أجزاء واعط كل انسان جزءا فكنت أفعل ذلك فرفعت للنبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فاحتبس واضطجعت على فراشي فقالت لي نفسي إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى أهل بيت من الأنصار فلو قمت فشربت هذه الشربة فلم تزل بي حتى قمت فشربت جزءا فلما دخل في بطني ومعائي أخذني ما قدم وما حدث فقلت يجيء الآن النبي صلى الله عليه وسلم جائعا ظمآنا فلا يرى في القدح شيئا فسجيت ثوبا على وجهي وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم تسليمة تسمع اليقظان ولا توقظ النائم فكشف عنه فلم ير شيئا فرفع رأسه الى السماء فقال اللهم اسق من سقاني وأطعم من أطعمني فاغتنمت دعوته وقمت فأخذت الشفرة فدنوت الى الأعنز فجعلت أجسهن أيتهن اسمن لأذبحها فوقعت يدي على ضرع إحداهن فاذا هي حافل ونظرت الى الأخرى فاذا هي حافل فنظرت فاذا هن كلهن حفل فحلبت في الاناء فأتيته به فقلت اشرب فقال ما الخبر يا مقداد فقلت اشرب ثم الخبر فقال بعض سوآتك يا مقداد فشرب ثم قال اشرب فقلت اشرب يا نبي الله فشرب حتى تضلع ثم أخذته فشربته ثم أخبرته الخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم هيه فقلت كان كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه بركة منزلة من السماء أفلا أخبرتني حتى اسقي صاحبيك فقلت إذا شربت البركة أنا وأنت فلا أبالي من أخطأت.
ـ ومن طريق يعقوب بن سليمان، عن ثابت البناني، قال:كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسَين فقال له مالك: ألا تتزوج؟ قال: زوجني ابنتك. فغضب عبد الرحمن وأغلظ <455> له، فشكا ذلك للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال: أنا أزوجك. فزوجه بنت عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرق الظبية دون بدر استشار الناس فقال: أشيروا علي أيها الناس! فقام أبو بكر فقال و أحسن ثم قام عمر فقال مثل ذلك ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله! أمض بنا لأمر الله فنحن معك و الله لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ههنا قعدون } و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون و الذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تنتهي إليه رسول الله! فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و دعا له بخير
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
ولاّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إحدى الإمارات يوما، فلما رجع سأله النبي:( كيف وجدت الإمارة؟)000فأجاب:( لقد جَعَلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني، والذي بعثك بالحق، لا أتأمرَّن على اثنين بعد اليوم أبداً )000
وروى ثابت البناني عن أنس بن مالك عن المقداد بن الأسود أنه قال والله لا أشهد لأحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم ما يموت عليه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا "
بعض المواقف من حياته مع التابعين
يقول صفوان بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد يوما، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، فاستمعت، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل عليه، فقال:ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه. والله لقد حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقوام كبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله، لا <389> تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم، وقد كفيتم البلاء بغيركم؟ والله لقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- على أشد حال بعث عليه نبي في فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان حتى إن الرجل ليرى والده، أو ولده، أو أخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه في النار، وأنها للتي قال الله تعالى رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ..
أثره في الآخرين (دعوته ـ تعليمه):
يحدث أبو بلال عن أبي راشد الحبراني أنه وافى المقداد بن الأسود ، وهو يجهز ، قال: فقلت: يا أبا الأسود قد أعذر الله إليك ، أو قال: قد عذرك الله ، يعني في القعود عن الغزو ; فقال: أتت علينا سورة براءة: { انفروا خفافا وثقالا }. بعض الأحاديث التي نقلها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن المقداد بن الأسود: أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي: ماذا عليه؟ فإن عندي ابنته وأنا أستحي أن أسأله! فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة.
ما قيل عنه:
ـ وقال أبو ربيعة الأيادي، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-:
إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، والمقداد وأبو ذر، وسلمان ؛ أخرجه التِّرمِذي وابن ماجه؛ وسنده حسن.
الوفاة:
ـ أخرج يعقوب بن سفيان، وابن شاهين، من طريقه بسنده إلى كريمة بنت المقداد قالت: كان المقداد عظيم البطن، وكان له غلام روميّ، فقال له: أشق بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف، فشق بطنه، ثم خاطه؛ فمات المقداد، وهرب الغلام..
ـ واتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان. قيل: وهوابن سبعين سنة.
ـ مات في سنة ثلاث وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان وقبره بالبقيع رضي الله عنه.
طالب عفو ربي
01-06-2009, 09:10 PM
المقدام بن معد يكرب
هو المقدام بن معد يكرب بن عمرو بن يزيد بن معد يكرب بن عبد الله بن وهب بن ربيعة بن الحارث.(1)
من مواقفه مع الصحابة:
أما عن مواقفه مع الصحابة ( رضوان الله عليهم ) فقد وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان فقال معاوية للمقدام أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فرجع ( أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون ) المقدام فقال له رجل أتراها مصيبة؟ قال له ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال " هذا مني وحسين من علي؟ " فقال الأسدي جمرة أطفأها الله عز وجل قال فقال المقدام أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره ثم قال يا معاوية إن أنا صدقت فصدقني وإن أنا كذبت فكذبني قال أفعل قال فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن لبس الذهب؟ قال نعم قال فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن لبس الحرير؟ قال نعم قال فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليه؟ قال نعم قال فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية فقال معاوية قد علمت أني لن أنجو منك يا مقدام قال خالد فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبيه وفرض لابنه في المائتين ففرقها المقدام على أصحابه قال ولم يعط الأسدي أحدا شيئا مما أخذ فبلغ ذلك معاوية فقال أما المقدام فرجل كريم بسط يده وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لشيئه.(2)
من الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
روي البخاري في صحيحه "أن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كيلوا طعامكم يبارك لكم )
شرح الحديث: ( كيلوا طعامكم )أي زنوه عند شرائه أو بيعه. ( يبارك لكم ) لامتثال أمر الشارع بكيله حتى لا يحصل شك أو منازعة وبفضل التسمية عند كيله ولدعائه صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة في مد المدينة وصاعها.
وعن المقداد بن معد يكرب قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توضأ فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي منه بدأ.
وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور [ العين ] ويشفع في سبعين من أقاربه.(3)
وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه"
وورد في سنن ابن ماجة "عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ( ثلاثا ). إن الله يوصيكم بآبائكم. إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وجاء في سنن الدارمي عن المقدام بن معد يكرب الكندي: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرم أشياء يوم خيبر الحمار وغيره ثم قال ليوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله.
الوفاة
مات بالشام سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة عاش إلى خلافة عبد الملك ويقال: إلى خلافة ابنه الوليد(4).
طالب عفو ربي
01-06-2009, 09:14 PM
المنذر بن ساوى
هو المنذر بن ساوى بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمى صاحب البحرين وينسب المنذر بن ساوى إلى الأسبذ قرية بهجر فيقال المنذر بن ساوى السبذى.(1)
أما عن جاهليته ( رضي الله عنه ) فقد كان المنذر بن ساوى نصرانيا إذ كان كان قومه من عبد شمس نصارى وتعتبر أخبار بن ساوى قبل إسلامه قليلة للغاية ويبدأ ذكره فى المصادر با ستقباله علاء الحضرمى يحمل رسالة النبى( صلى الله عليه وسلم). (2)
إسلامه:
بعث رسول الله( صلى الله عليه وسلم) العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى و كتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام فكتب المنذر إلى رسول الله (صلى الله عليه و سلم): أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام و أعجبه و دخل فيه و منهم من كرهه و بأرضي مجوس و يهود فأحدث إلي في ذلك أمرك فكتب إليه رسول الله (صلى الله عليه و سلم):
[ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله أما بعد: فإني أذكرك الله عز و جل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه و إنه من يطع رسلي و يتبع أمرهم فقد أطاعني و من نصح لهم فقد نصح لي و إن رسلي قد أثنوا عليك خيرا و إني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه و عفوت على أهل الذنوب فاقبل منهم و إنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك و من أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية ](3)
أما عن مواقفه مع الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) فإنه لم يقابل المنذر رسول الله ولم يكن فى الوفد الذى حضر من البحرين لمقابلة رسول الله وإنما كتب إليه معهم بإسلامه.
ولكن كان بينهما خطابات يسأل فيها المنذر ويستشير رسول الله فى بعض الأمور منها معاملته لليهود والمجوس الذين لم يسلموا بأرض البحرين.
من مواقفه مع الصحابة
وعن مواقفه مع الصحابة فقد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص فقال له يا عمرو هل كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجعل للمريض شيئا من ماله قال نعم الثلث قال ماذا أصنع به قال إن شئت تصدقت به على أقربائك وإن شئت على المحاويج وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبسا محرما فقال إني أكره ان أجعله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولكني أتصدق به ففعل ومات فكان عمرو بن العاص يتعجب منه.
ومن الأحاديث التي رواها عن النبي (صلي الله عليه وسلم ) "عن زيد بن أسلم عن المنذر بن ساوى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كتب إليه أن افرض على كل رجل ليس له أرض أربعة دراهم وعباءة".(4)
الوفاة:
توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) والمنذر بن ساوى في سنة احدي عشرة من الهجرة، فقد اشتكيا في شهر واحد ثم مات المنذر بعد النبي( صلى الله عليه وسلم) بقليل.(5)
طالب عفو ربي
01-06-2009, 09:18 PM
المهاجر بن أمية
هو المهاجر بن أمية بن المغيرة القرشي المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبيها وأمها وكان اسمه الوليد فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اسمه وقال لأم سلمة: "هو المهاجر". (1)
وشهد بدرا مع المشركين وقتل أخواه يومئذ هشام ومسعود وكان اسمه الوليد.(2)
وأخبار المهاجر في المصادر المعتمدة قليلة جدا فلا نعرف عن أيامه الأولى قبل إسلامه شيئا كما لا نعرف متى أسلم بالضبط.
أثر الرسول في تربيته:
تخلف عن رسول الله( صلى الله عليه وسلم) بتبوك فرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو عاتب عليه فشفعت فيه أخته أم سلمة فقبل شفاعتها فأحضرته فاعتذر إلى النبي فرضي عنه
ويبدو أنه كان لهذا العتاب - بالرغم من عفو النبي السريع- أثره فلم تذكر المراجع أن المهاجر تأخر عن رسول الله أو عن خليفته أبو بكر (رضي الله عنه) بعد ذلك بالرغم من صعوبة ما كلف به(سفارته لليمن على عهد رسول الله - حروب الردة في خلافة أبى بكر).
أهم ملامح شخصيته:
1- الشجاعة والكفاءة القتالية (فقد اختاره أبو بكر ليكون من قادة الجيوش في حروب الردة وكان على يديه الانتصار في معركة النجير.
2- الأمانة فقد استعمله رسول الله على صدقات كندة والصدف.
3- كان على جانب عظيم من الفصاحة وحسن الخلق وخير دليل على ذلك اختيار النبي له ليكون سفيرا من سفرائه.
وله مواقف مع النبي ( صلي الله عليه وسلم ) منها تغيير الرسول (صلي الله عليه وسلم ) اسمه من الوليد إلي المهاجر.
فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وعندها رجل فقال من هذا قالت أخي الوليد قدم مهاجرا فقال هذا المهاجر فقالت يا رسول الله هو الوليد فأعاد فأعادت فقال انكم تريدون أن تتخذوا الوليد حنانا انه يكون في أمتي فرعون يقال له الوليد.(3)
وفاته:
أما عن وفاته فإننا لا نعلم سنة وفاته فلم تذكرها المراجع وقد ورد ذكره في عمال أبى بكر ولم يرد ذكره بعد ذلك.(4)
واثق الخطوة
01-06-2009, 10:57 PM
الله يجزاك خير ( المشرف ) محمد صيام
تعبك راح بفائدة وهو.. تعلم سيرة الصحابة
طالب عفو ربي
04-06-2009, 05:41 PM
المهلب بن أبى صفرة
هو المهلب بن أبى صفرة الأزدي [8هـ/ 82هـ] وكنيته أبو سعيد.
وعن يحيى بن معين أنه قال المهلب بن أبى صفرة هو مهلب بن ظالم بن سارق.
وجاء في طبقات ابن سعد أن المهلب كان من التابعين
وقد ولد عام الفتح الذي كان سنة ثمان من الهجرة.
أهم ملامح شخصيته:
كان المهلب بن أبي صفرة يتمتع بكثير من الصفات الحميدة، والتي لا تتوفر في كثير من الرجال.
1- الشجاعة والقدرة الفائقة على القتال وإدارة المعارك بكفائة منقطعة النظير
فهو الذى مهد لفتح السند ومدينة خجندة على نهر سيحون بينها وبين سمرقند عشرة أيام وهو الذى استعاد منطقة الختل وقد ظل يحارب الخوارج طيلة تسعة عشر سنة ولم يقضى على شوكتهم غيره.
2- الكرم
فقد كان من أكرم أهل زمانه والأمثلة على ذلك كثيره منه، أنه أقبل يوما من احدى غزواته فتلقته ‘امرأة فقالت له:أيها الأمير إنى نذرت إن أنت أقبلت سالما أن أصوم شهرا وتهب لى جارية وألف درهم فضحك المهلب وقال:قد وفينا نذرك فلا تعودى لمثلها فليس كل أحد يفى لك به.
ووقف له رجل فقال:أريد منك حويجه -تصغير حاجة فقال المهلب اطلب لها رجيلا تصغير رجل يعنى أن مثلى لايسأل إلا حاجة عظيمة.
وكان المهلب يوصى خدمه أن يقللوا من الماء ويكثروا من الطعام عندما يكون ضيوفه على خوانه حتى لايملأالضيوف بطونهم بالماء وحتى يملأها من الطعام
3-الحلم
كان رضى الله عنه من أحلم الناس ومن أخبار حلمه،أنه مر يوما بالبصرة،فسمع يقول: هذا الأعور قد ساد الناس، ولو خرج ‘إلى السوق لايساوى أكثر من مائة درهم، فبعث ‘إليه المهلب بمائة درهم وقال: لو زدتنا فى الثمن زدناك فى العطية وكان قد فقئت عينه بسمرقند.
4- وكان بليغا حكيما فى آرائه له كلمات لطيفة وإشارات مليحة تدل على مكارمه.
ومن ذلك حين حضرته الوفاة،دعا إليه ابنه حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت ثم قال:أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا لا، قال فهكذا ***ة،فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسئ فى الأجل وتثرى المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم.
من كلماته:
كانت الحكمة تجري علي لسانه، كيف لا وهم الجيل الذي شاهد صحابة رسول الله ( رضوان الله عليهم ) ومن كلماته قوله " عجبت لمن يشترى العبيد بماله، ولا يشترى الأحرار بأفضاله".
وقال الحياة خير من الموت،والثناء خير من الحياة، ولو أعطيت مالم يعطه أحد لأحببت أن تكون لى أذن أسمع بها ما يقال فى غدا إذا مت.
وقد أثني عليه الصحابة ( رضوان الله عليهم)، لما وجدوا فيه من كريم الخلال
فقد قال عبد الله بن الزبير عن المهلب "هذا سيد أهل العراق"
وقال عنه قطري بن الفجاءة:المهلب من عرفتموه: إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر:يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه ولا يبدؤكم إلا أن تبدؤوه لا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر والثعلب الرواغ والبلاء المقيم.
وقال عنه أبو إسحاق السبيعي "لم أرى أميرا أبمن نقيبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب.
وأنشد فيه المغيرة بن حبناء:
أمسى العباد لعمرى لاغياث لهم إلا المهلب بعد الله والمطر
هذا يجود ويحمى عن ديارهم وذا يعيش به الأنعام والشجر
وفاته:
عزل الحجاج أمية بن عبد الله عن خراسان واستعمل عليها المهلب بن أبى صفرة وقد مات المهلب بها سنة اثنتين وثمانين وكانت ولايته عليها سنة سبع وسبعين.
طالب عفو ربي
06-06-2009, 02:33 AM
النضير بن الحارث
هو النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، أسلم بحنين وأعطاه رسول الله( صلى الله عليه وسلم) من غنائم حنين مائة من الإبل.
وقيل: كان من المهاجرين وقيل: كان من مسلمة الفتح.
وهاجر النضير بن الحارث إلى الحبشة ثم قدم مكة فارتد ثم أسلم يوم الفتح أو بعده.
أهم ملامح شخصيتة:
1- كثرة الشكر لله على هدايته له فقد كان النضير يكثر الشكر لله تعالى على ما من عليه من الإسلام ولم يمت على ما مات عليه أخوه النضر وآباؤه.
2- رجاحة العقل والحكمة ولقد كان يعد من حكماء قريش، وكان ( رضي الله عنه ) من أعلم الناس.
3- الحلم وكان النضير بن الحارث من أحلم الناس.
4- جمال الخلقة فقد كان ( رضي الله عنه ) من أجمل الناس.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكر(النضير بن الحارث) عداوته للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين وهم على دينهم بعد قال ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه فلم يمكنا ذلك فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال أنضير قلت لبيك قال هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه قال فأقبلت إليه سريعا فقال قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع قلت قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا وإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اللهم زده ثباتا قال النضير فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في الدين وتبصره بالحق فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحمد لله الذي هداه.
من كلماته:
كان يقول الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ومن علينا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولم نمت على ما مات عليه الآباء وقتل عليه الإخوة وبنو العم.
وفاته:
خرج إلى الشام غازيا فحضر اليرموك وقتل شهيدا يومئذ في رجب سنة خمس عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.
طالب عفو ربي
10-06-2009, 08:47 PM
النعمان بن بشير
هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس بن زيد الأنصارى الخزرجى ويكنى عبد الله.
ولم يدرك النعمان الجاهلية فقد كان أول مولود ولد في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة بأربعة عشر شهرا.
وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة رضي الله عنه. (1)
وكان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للأنصار في جمادى الأول سنة ثنتين من الهجرة فأتت به أمه تحمله إلى النبي (صلي الله عليه وسلم) فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميدا ويقتل شهيدا ويدخل الجنة.(2)
من مواقفة مع الصحابة:
كان النعمان ذا منزلة من معاوية( رضي الله عنه ) وكان معاوية يقول يا معشر الأنصار تستبطئونني وما صحبني منكم إلا النعمان بن بشير وقد رأيتم ما صنعت به وكان ولاه الكوفة وأكرمه.(3)
من مواقفه مع التابعين:
قيل إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض فقال له النعمان ما أقدمك قال لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضى ديني فقال والله ما عندي ولكني سائلهم لك شيئا ثم قام فصعد المنبر ثم قال يا أهل حمص إن هذا ابن عمكم من العراق وهو مسترفدكم شيئا فما ترون فقالوا احتكم في أموالنا فأبى عليهم فقالوا قد حكمنا من أموالنا كل رجل دينارين وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل فعجلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين.(4)
وقال أبو مخنف (وهو شيعي ) بعث يزيد بن معاوية إلي النعمان بن بشير الأنصاري فقال له ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ الناس على خلافي وبها من عشيرتي من لا أحب أن ينهض في هذه الفتنة فيهلك.
فأقبل النعمان بن بشير فأتى قومه ودعا الناس إليه عامة وأمرهم بالطاعة ولزوم ***ة وخوفهم الفتنة وقال لهم إنه لا طاقة لكم بأهل الشأم فقال عبد الله بن مطيع العدوي ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا فقال النعمان أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف ودارت رحا الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جنبيها إلى مكة وقد خلفت هؤلاء المساكين يعني الأنصار يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس.(5)
من الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم
عن النعمان بن بشير قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مسير له إذ خفق رجل على راحلته فأخذ رجل من كنانته سهما فانتبه الرجل مذعورا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلما "
عن النعمان بن بشير أن أباه نحله غلاما وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده فقال: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا قال: فاردده.(6)
وعن الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول وأومأ النعمان بإصبعيه إلى أذنيه إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى أوشك أن يقع فيه ألا إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه.
عن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.(7)
وعن النعمان بن بشير قال صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فقال" سووا صفوفكم ولا تختلفوا فيخالف الله عز وجل بينكم يوم القيامة ".
فلقد رأيتنا وإن الرجل منا ليلتمس بمنكبه منكب أخيه وبركبته ركبة أخيه وبقدمه قدم أخيه.(8)
كلماته.
عن سماك بن حرب قال سمعت النعمان بن بشير يقول ألستم في طعام وشراب ما شئتم لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
الوفاة:
وبعد موت يزيد بن معاوية بايع النعمان لإبن الزبير فتنكر له أهل حمص، فخرج هارباً فتبعه خالد بن خليّ الكلاعي فقتله سنة خمس وستين للهجرة.
طالب عفو ربي
12-06-2009, 11:30 PM
النعمان بن المقرن
هو النعمان بن عمرو بن مقرن بن عائذ بن مزينة.
قصة إسلامه:
كان يوم إسلامه يوما مشهودا إذ أسلم معه عشرة أخوة له ومعهم أربعمائة فارس بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال فيهم (ان للإيمان بيوتا و للنفاق بيوتا وان بيـت بني مقرن من بيوت الايمان)بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولقد شهد النعمان الغزوات كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان له ولقبيلته دور بارز في محاربة المرتدين000
وأخرج ابن شاهين من طريق يحيى بن عطية، عن أبيه، عن عمرو بن النعمان بن مقرن قال: قدم رجال من مزينة فاعتلوا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنهم لا أموال لهم يتصدقون منها، وقدم النعمان بن مقرن بغنم يسوقها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فنزلت فيه: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ الآية
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
وكان النعمان بطل معركة نهاوند يوم أن ندبه أمير المؤمنين عمر لهذه المهمة الجليلة اذ كتب اليه قائل:(فانه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فاذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم ولا تمنعهم حقا فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة فان رجلا من المسلمين أحب الي من مئة ألف دينار والسلام عليكم)000 فسار النعمان بالجيش والتقى الجمعان، ودارت المعركة حتى ألجـأ المسلمون الفـرس الى التحصـن فحاصروهم وطال الحصـار عدة أسابيع وفكر المسلمون في طريقة يستخرجون فيها الفرس من حصونهم لمناجزتهم، فبعثوا عليهم خيـلا تقاتلهم بقيـادة القعقاع حتى اذا خرجـوا من خنادقهم تراجـع القعقاع فطمعوا وظنوا أن المسلمين قد هزمو، وكان النعمان قد أمـر جيش المسلمين ألا يقاتلوا حتى يأذن لهم وخاطبهم قائل:(اني مكبر ثلاثا فاذا كبرت الثالثة فاني حامل فاحملو، وان قتلت فالأمر بعدي لحذيفة فان قتل ففلان )000حتى عد سبعة آخرهم المغيرة، ثم دعا ربه قائلا: (اللهم أعزز دينك وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم، اللهم اني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الاسلام واقبضني شهيدا )000فبكى الناس من شدة التأثر ودارت المعركة على مشارف نهاوند، وقاد النعمان المعركة بشجاعة نادرة وظفر بالشهادة التي كان يتمناه، وتحقق الفتح العظيم الذي طلبه من الله، فأخذ أخوه نعيم بن مقرن الراية وسلمها لحذيفة، فكتم أمر استشهاده حتى تنتهي المعركة000 وذهب البشير يخبر أمير المؤمنين عمر و يقول له:( فتح الله عليك، وأعظم الفتح، واستشهد الأمير )000فقال عمر:( انا لله وانا اليه راجعون )000واعتلى المنبر ونعى الى المسلمين النعمان بن المقرن أمير نهاوند وشهيدها000وبكى000وبكى000حتى علا صوته بالبكاء000رضي الله عن النعمان القائد المنتصر شهيد معركة فتح الفتوح
بعض الأحاديث التي نقلها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن النعمان بن عمرو بن مقرن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
وعن معقل بن يسار، عن النعمان بن مقرن أنه قال: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار، انتظر حتى تزول الشمس صححه الترمذي.
وعن أبي خالد الوالبي عن النعمان بن مقرن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب رجل رجلا عنده قال فجعل الرجل المسبوب يقول عليك السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن ملكا بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا قال له بل أنت وأنت أحق به وإذا قال له عليك السلام قال لا بل لك أنت أحق به..
وعن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع مائة من مزينة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره فقال بعض القوم يا رسول الله ما لنا طعام نتزوده فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر زودهم فقال ما عندي إلا فاضلة من تمر وما أراها تغني عنهم شيئا فقال انطلق فزودهم فانطلق بنا إلى علية له فإذا فيها تمر مثل البكر الأورق فقال خذوا فأخذ القوم حاجتهم قال وكنت أنا في آخر القوم قال فالتفت وما أفقد موضع تمرة وقد احتمل منه أربع مائة رجل..
موقف الوفاة:
عن معقل بن يسار: أن عمر شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وأذربيجان فقال: أصبهان: الرأس، وفارس وأذربيجان: الجناحان، فإذا قطعت جناحا فاء الرأس وجناح، وإن قطعت الرأس، وقع الجناحان. فقال عمر للنعمان بن مقرن: إني مستعملك، فقال: أما جابيا، فلا، وأما غازيا، فنعم، قال: فإنك غازٍ. فسرحه، وبعث إلى أهل الكوفة ليمدوه وفيهم حذيفة والزبير والمغيرة، والأشعث، وعمرو بن معدي كرب. فذكر الحديث بطوله. وهو في " مستدرك الحاكم " وفيه: فقال: اللهم ارزق النعمان الشهادة بنصر المسلمين، وافتح عليهم. فأمنوا، وهز لواءه ثلاث. ثم حمل، فكان أول صريع رضي الله عنه. ووقع ذو الحاجبين من بغلته الشهباء، فانشق بطنه، وفتح الله، ثم أتيت النعمان وبه رمق، فأتيته بماء، فصببت على وجهه أغسل التراب، فقال: من ذ؟ قلت: معقل قال ما فعل الناس؟ قلت: فتح الله. فقال: الحمد لله. اكتبوا إلى عمر بذلك، وفاضت نفسه رضي الله عنه.
طالب عفو ربي
12-06-2009, 11:33 PM
النعيمان بن عمرو الأنصارى
هو النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن النجار الأنصاري، وقد تمتع النعيمان بن عمرو بكثير من الصفات العذبة والشمائل الكريمة منها: الشجاعة والإقدام على مواطن الجهاد قال ابن سعد شهد بدرا وأحد والخندق والمشاهد كلها.
وكان من صفاته كذلك حب الفكاهة والطرفة وخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان الضحاك مضحاكا مزاحا)
بعض مواقفه مع النبي (صلى الله عليه وسلم):
كان لا يدخل المدينة إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول هذا أهديته لك فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم) وقال أعط هذا ثمن متاعه فيقول أوَ لم تهده لي فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
ودخل أعرابي على النبي (صلى الله عليه وسلم) وأناخ ناقته بفنائه فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري لو عقرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا اللحم ففعل فخرج وصاح وعقره يا محمد فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال من فعل هذا فقالوا هو النعيمان فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفي تحت سرب لها فوقة جريد فأشار إلى النبي حيث هو فأخرجه فقال ما حملك على ما صنعت قال الذين دلوك على يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ثم غمها للأعرابي.
وهنا تتجلي عظمة النبي ( صلي الله عليه وسلم ) فلم ينكر علي هذا الصحابي الذي عقر الناقة ما فعله لأنه يحب المزاح، فالرسول يعلم أن النفس البشرية تتفاوت من إنسان إلي آخر فهناك من هو جاد في كل شيء وهناك من يحب المزاح ؛ ولكنه ( صلي الله عليه وسلم ) قد حكم للأعرابي بثمن الناقة.
بعض مواقفه مع الصحابة
كان من السمات المميزة لهذا الصحابي الجليل، كثرة المزاح، وحب الضحك حتى قال عنه النبي (عليه الصلاة والسلام ) ( يدخل الجنة وهو يضحك)
وكثيرة هي المواقف الضاحكة من نعيمان، فعن أم سلمة (رضي الله عنها) أن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) خرج في تجارة له إلى بُصري (بلدة من بلاد الشام) ومعه نعيمان الأنصاري، وسليط بن حرملة - وكلاهما ممن شهد بدراً - وكان سليط هو المسئول عن الزاد وتدبيره في الرحلة، فبينما هم في استراحة من الاستراحات أثناء الطريق، إذا بنعيمان جاع جوعا شديدا، فطلب من سليط أن يطعمه فأبى عليه ذلك إلا في حضرة أبي بكر من الخارج - الذي يبدو أنه خرج لبعض شأنه - فاغتاظ منه نعيمان وقال له لأغيظنك.
وفي سفرهم ذاك مروا بقوم من العرب فاختلى بهم نعيمان وقال لهم: أتشترون مني عبد، قالو:نعم وفرحوا كثيراً بذلك، لأنه - على ما يبدو - من النادر أن يجدوا عرضاً كهذا والعرب، كانوا يحتاجون لمن يسترقونهم لخدمتهم، فأشار نعيمان للقوم على صاحبه سليط وقال لهم: إن هذا عبدي وله كلام، فسوف يقول لكم لست عبداً وأنني ابن عمه، فإذا كنتم ستصدقونه فلا داعي لهذه الصفقة ولا تفسدوا على عبدي، قالوا: لا... بل نشتريه ولا نكترث لقوله، فدفعوا إليه عشرة من الإبل لحرصهم على شراء العبد المزعوم ثم جاءوا معه ليستلموا الصفقة فامتنع سليط منهم وقال للقوم إنه يستهزئ بي فلم يصدقوه وقالوا له: لقد أخبرنا خبرك وأخذوه بالقوة ووضعوا فوق عنقه عمامة كعادة زي العبيد.
ولما حضر أبو بكر (رضي الله عنه) وأخبروه بالخبر لحق بالقوم وأكد لهم أن صاحبه يمزح ورد عليهم إبلهم قال ابن عبد البر: فلما قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقصوا عليه قصة نعيمان وبيعه لسليط ضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه حولا كاملا، أي أنهم كان يتملكهم الضحك كلما تذكروا القصة لحول بأكمله.
تقول بعض الروايات أن اسم ذلك الصحابي الذي باعه نعيمان - مزاحا - هو سويبط وليس سليطا.
ولقي نعيمان أبا سفيان بن الحارث فقال يا عدو الله أنت الذي تهجو سيد الأنصار نعيمان بن عمرو؟ فاعتذر له فلما ولى قيل لأبى سفيان إن نعيمان هو الذي قال لك ذلك فعجب منه.
الوفاة:
وقد بقى النعيمان حتى توفي في خلافة معاوية رضي الله عنهم جميعا.
طالب عفو ربي
16-06-2009, 07:30 PM
أبو الدحداح الأنصاري
هو أبو الدحداح، وقيل: أبو الدحداحة بن الدحداحة الأنصاري مذكور في الصحابة.
قال أبو عمر: لا أقف على اسمه ولا نسبه أكثر من أنه من الأنصار حليف لهم.
وقيل ثابت بن الدحداح؛ هو أبو الدحداح الأنصاري.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له قال أبو الدحداح الأنصاري وان الله ليريد منا القرض قال نعم يا أبا الدحداح قال أرني يدك يا رسول قال فناوله رسول الله يده قال فاني قد أقرضت ربي حائطي قال وحائطه له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال فجاء أبو الدحداح فنادى يا ام الدحداح قالت لبيك قال اخرجي من الحائط فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي. صلى الله عليه وسلم كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح.
وعن أنس أن رجلا أتي النبي. صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول إن لفلان نخلة وان قوام حائطي بها فأمره أن يعطيني إياها حتى أقيم بها حائطي فقال النبي. صلى الله عليه وسلم أعطها إياه بنخلة في الجنة فأبى فأتي أبو الدحداح الرجل فقال بعني نختلك بحائطي ففعل فأتي أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ابتعت النخلة بحائطي.فاجعلها له فقد أعطيتكها فقال النبي. صلى الله عليه وسلم كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة قالها مرارا فأتي أبو الدحداح امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فقد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، ربح البيع، أو كلمة تشبهها.
من كلماته
روى الواقدي عن عبد الله بن عامر قال قال ثابت بن الدحداح يوم أحد والمسلمون أوزاع يا معشر الأنصار إلي إلي إن كان محمد قد قتل فان اله حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه وقد وقفت له كتيبة خشناء فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فأنفذه فوقع ميتا وقتل من كان معه.
الوفاة:
شهد أحداً وقتل بها شهيداً طعنه خالد بن الوليد برمح فأنفذه وقيل إنه مات على فراشه مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية. ولما توفي رضي الله عنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي فقال: هل كان له فيكم نسب؟ قال: لا فأعطى ميراثه ابن أخته أبا لبابة بن المنذر
ـ وروى من طريق عقيل، عن ابن شهاب مرسلا بمعناه، وقد تقدم في ترجمة ثابت بن الدحداح أنه يكنى أبا الدحداح وأنه مات في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فبنى أبو عمر على أنه هذا، والحق أنه غيره.
ـ وهذا ينبغي أن يكون لثابت، فقد تقدم في ترجمته أنه جرح بأحد فقيل: مات بها وقيل: عاش ثم انتقضت فمات بعد ذلك بمدة، وهو الراجح..
طالب عفو ربي
16-06-2009, 07:32 PM
أبو الحكم رافع بن سنان
نسبه وقبيلته
هو رافع بن سنان الأنصاري الأوسي أبو الحكم المدني.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم
قال عبد الحميد بن جعفر أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال رافع ابنتي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اقعد ناحية " وقال لها " اقعدي ناحية " قال وأقعد الصبية بينهما ثم قال "ادعواها" فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اهدها " فمالت الصبية إلى أبيها فأخذها.
طالب عفو ربي
16-06-2009, 07:41 PM
أبو الدرداء
مقدمة
الفارس الحكيم عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه من آخر الأنصار إسلام، وكان يعبد صنمًا، فدخل ابن رواحة، ومحمد بن مسلمة بيته فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك! هلا امتنعت!
ألا دفعت عن نفسك، فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دفع عن نفسه ونفعها!..
فقال أبو الدرداء: أعدي لي ماء في المغتسل، فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه ابن رواحه مقبلاً، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا؟ فقال: (إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم)
منزلته وفضله
أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه له المكانة العالية والمنزلة المرموقة بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عنه الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "نعم الفارس عويمر" وقال عنه أيضًا: "هو حكيم أمتي"
وقد كان رضي الله عنه أحد أربعة جمعوا القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ
أثر الرسول في تربيته
كان للنبي صلى الله عليه وسلم الأثر الأكير في تربية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصيه كثيرًا بما يجلب عليه الخير في الدنيا والآخره، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر
وروي أن عمر بن الخطاب دخل على أبي الدرداء فدفع الباب فإذا ليس فيه غلق،فدخل في بيت مظلم فجعل يلمسه حتى وقع عليه فجس وسادة فإذا هي برذعة وجس دثاره فإذا كساء رقيق. قال عمر! ألم أوسع عليك؟! ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء أتذكر حديثا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أي حديث؟ قال ( ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب ) قال نعم! قال فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا0
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عويمر ازدد عقلا تزدد من ربك قربا، قال: قلت: بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك فقال: اجتنب محارم الله تعالى، وأد فرائض الله سبحانه تكن عاقلا واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل في آجل العقبى بها من ربك عز وجل القرب والعز
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا و لضحكمتم قليلا و لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز و جل لا تدرون تنجون أو لا تنجون.
من ملامح شخصيته رضي الله عنه
الزهد في الدنيا
قال أبو الدرداء: ما يسرني أن أقوم على الدرج من باب المسجد فأبيع وأشتري فأصيب كل يوم ثلاثمائة دينار أشهد الصلاة كلها في المسجد ما أقول إن الله عز وجل لم يحل البيع ويحرم الربا ولكن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وعن محمد بن كعب أن ناسا نزلوا على أبي الدرداء ليلة قرة (شديدة البرودة)
فأرسل إليهم بطعام سخن ولم يرسل إليهم بلحف، فقال بعضهم لقد أرسل إلينا بالطعام فما هنأنا مع القر لا أنتهي أو أبين له، قال الآخر: دعه، فأبى، فجاء حتى وقف على الباب رآه جالسا وامرأته ليس عليها من الثياب إلا مالا يذكر فرجع الرجل وقال ما أراك بت إلا بنحو ما بتنا به، قال: إن لنا دارا ننتقل إليها قدمنا فرشنا ولحفنا إليها، ولو ألفيت عندنا منه شيئا لأرسلنا إليك به، وإن بين أيدينا عقبة كؤودا المخف فيها خير من المثقل، أفهمت ما أقول لك قال: نعم.
علمه
قال الذهبي:
قد ولي أبو الدرداء قضاء دمشق وكان من العلماء الحلماء الألباء
وقال أبو حاتم الرازي:
عن عبد الله بن سعيد قال رأيت أبا الدرداء دخل المسجد (مسجد النبي صلى الله عليه وسلم) ومعه من الاتباع مثل ما يكون مع السلطان بين سائل عن فريضة وبين سائل عن حساب وبين سائل عن شعر وبين سائل عن حديث وبين سائل عن معضلة.
وجاء في البخاري عن أبي الدرداء قوله: من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ
وعن يزيد بن عميرة قال لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا فقال: التمسوا العلم عند عويمر (أبي الدرداء) فإنه من الذين أوتوا العلم
وقال الذهبي:
كان يقال هو حكيم هذه الأمة حفظ القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عالم أهل الشام ومقريء أهل دمشق وفقيههم وقاضيهم روى جملة أحاديث
وقال أيضًا:
قال سويد بن عبدالعزيز كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريفا ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك.
حاله مع ربه
عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه أنه كان يقوم من جوف الليل فيقول: نامَتِ العُيُونُ وَغارَتِ النُّجُومُ وأنْتَ حَيٌّ قَيُوم
وعن أم الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا قال: فإني صائم يومي هذا.
وعن أبي الدرداء قال لأن أقول: الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار.
وعن مالك عن عون قال: سألنا أم الدرداء قلنا: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء قالت التفكر والاعتبار.
خوفه وخشيته
عن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت علمت لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها الآمرة هل أئتمرت والزاجرة هل ازدجرت فأعوذ بالله من علم لا ينفع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع 0
قال أبو الدرداء أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث أضحكني مؤمل دنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه وضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع عند غمرات الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السريرة علانية ثم لا أدري إلى الجنة أم إلى النار.
وقال أبو الدرداء: لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما فيه عاقبته لكم لاتحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم تناصحون في أمر الدنيا لا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك بأموركم فإن قلتم حب العاجلة غالب؟ فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل منها تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراق في أمر لعلكم لا تدركونه فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فائتونا فلنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم لتبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أمركم ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم بما لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حال بكم، إني لأرى الله قد تبرأ منكم بلقاء بعضكم بعضا بالسرور فكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فأصبحتم على الغل ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل لوددت أن الله أراحني منكم وألحقني بما أحب رؤيته لو كان حيا لم يصابركم فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا والله أستعين على نفسي وعليكم0
كان أبو الدرداء يقول: اللهم أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لبعير له عند الموت: أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أك أحملك فوق طاقتك.
يقينه وثقته بالله
جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال يا أبا الدرداء احترق بيتك فقال ما احترق بيتي ثم جاء آخر فقال يا أبا الدرداء احترق بيتك فقال ما احترق بيتي ثم جاء آخر فقال يا أبا الدرداء أتبعت النار فلما انتهت إلى بيتك طفيت فقال قد علمت أن الله عز وجل لم يكن ليفعل فقال رجل يا أبا الدرداء ما ندري أي كلامك أعجب قولك ما احترق أو قولك قد علمت أن الله عز وجل لم يكن ليفعل قال ذاك لكلمات سمعتهن من رسول الله من قالهن حين يصبح لم تصبه مصيبة حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي لم تصبه مصيبة حتى يصبح اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش الكريم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
وعن يحيى بن سعيد قال استعمل أبو الدرداء على القضاء فأصبح يهنئونه فقال: أتهنئوني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواة مزلتها أبعد من عدن أبين، ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدول رغبة عنه وكراهية له، ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدول رغبة فيه وحرصا عليه.
حرصه على الأخوة في الله
كان أبو الدرداء يقول: أعوذ بالله أن يأتي علي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلا ضرب بين ثديي وإذا لقيني مدبرا ضرب بين كتفي ثم يقول: يا عويمر اجلس فلنؤمن ساعة. فنجلس فنذكر الله ما شاء ثم يقول: يا عويمر هذه مجالس الإيمان. وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: معاتبة الأخ خير لك من فقده ومن لك بأخيك كله...أعط أخاك ولِن له ولا تطع فيه حاسدا فتكون مثله، غدا يأتيك الموت فيكفيك فقده وكيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله...
وقد نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان فوقف أحدهما يحك جسمه فوقف الآخر، فبكى أبو الدرداء وقال: هكذا الإخوان في الله يعملان لله فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر
وبالموافقة يتم الإخلاص ومن لم يكن مخلصا في إخائه فهو منافق...
ولما قيل لأبي الدرداء ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ قال: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي و أخوة الدين أوكد من أخوة القرابة...
وكان أبو الدرداء يقول إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم
عن أم الدرداء قالت: كان لأبى الدرداء ستون وثلاث مائة خليل في الله، يدعو لهم في الصلاة: فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وكّل الله به ملكين يقولان: ولك بمثل أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة
دعوته حتى في مرض موته:
عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال أتيت أبا الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي قبض فيه فقال يا ابن أخي ما علمت إلى هذه البلدة أو ما جاء بك قال قلت لا إلا صلة ما كان بينك وبين والدي عبد الله بن سلام فقال: بئس ساعة الكذب هذه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا يشك سهل يحسن فيهن الركوع والخشوع ثم يستغفر الله غفر له.
وعن رجل من النخع قال سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك واعدد نفسك في الموتى وإياك ودعوة المظلوم فإنها تستجاب ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوا فليفعل
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض فلا ألفين ما نوزعت في أحدكم فأقول: هذا مني فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك ". فقلت: يا رسول الله ادع الله ألا تجعلني منهم. قال: " لست منهم "
عن أبي الدرداء قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أمشي أمام أبي بكر فقال أتمشي أمام أبي بكر ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر
من مواقفه مع الصحابة
موقفه مع سيدنا سلمان:
روي أن أبا الدرداء ذهب مع سلمان رضي الله عنهما يخطب له امرأة من بني ليث فدخل فذكر فضل سلمان وسابقته وإسلامه وذكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة فقالوا أما سلمان فلا نزوجه ولكنا نزوجك فتزوجها ثم خرج فقال إنه قد كان شيء وإني أستحي أن أذكره لك قال وما ذاك فأخبره أبو الدرداء بالخبر فقال سلمان أنا أحق أن أستحي منك أن أخطبها وكان الله تعالى قد قضاها لك0
وروى البخاري بسنده عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل قال فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق سلمان"
وعن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله وقد بلغني أنك جعلت طبيبا فان كنت تبرىء فنعمالك وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه نظر إليهما وقال متطبب والله ارجعا إلي أعيدا قصتكما.
موقفه مع أبي بن كعب
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على المنبر فخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له يا أبي ومتى أنزلت هذه الآية قال فأبى أن يكلمني ثم سألته فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبي: ما لك من جمعتك إلا ما لغيت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جئته فأخبرته فقلت أي رسول الله إنك تلوت آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له متى أنزلت هذه الآية فأبى أن يكلمني حتى إذا نزلت زعم أبي أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغيت فقال صدق أبي إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ.
من مواقفه مع التابعين
روى البخاري بسنده عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمْتُ الشَّأْمَ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَأَتَيْتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقُلْتُ إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَيَسَّرَكَ لِي قَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قُلْتُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَوَلَيْسَ عِنْدَكُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادِ وَالْمِطْهَرَةِ وَفِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ يَقْرَأُ عَبْدُ اللَّهِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ.
موقفه مع أهل الشام
وعن الضحاك قال قال أبو الدرداء يا أهل دمشق أنتم الإخوان في الدين والجيران في الدار والأنصار على الأعداء ما يمنعكم من مودتي وإنما مؤنتي على غيركم ما لي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به وتركتم ما أمرتم به ألا إن قوما بنوا شديدا وجمعوا كثيرا وأملوا بعيدا فأصبح بنيانهم قبورا وأملهم غرورا وجمعهم بورا ألا فتعلموا وعلّموا فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء ولا خير في الناس بعدهما
موقفه مع يزيد بن معاوية
وعن جابر قال خطب يزيد بن معاوية إلى أبي الدرداء ابنة أم الدرداء فقال رجل من جلساء يزيد أصلحك الله تأذن لي أن أتزوجها قال أعزب ويلك قال فأذن لي أصلحك الله فأذن له فأنكحها أبو الدرداء الرجل قال فسار ذلك في الناس أن يزيد خطب إلى أبي الدرداء فرده وخطب إليه رجل من ضعفاء المسلمين فأنكحه قال فقال أبو الدرداء إني نظرت للدرداء فما ظنكم بالدرداء إذا قامت على رأسها الخصيان ونظرت في بيوت يلتمع فيها بصرها أين دينها منها يومئذ
موقفه يوم فتح قبرص
وعن جبير بن نفير قال لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي فقلت يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله قال ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا تركوا أمره
موقفه مع جاريته قالت جارية لأبي الدرداء إني سمَمْتُك منذ سنة فما عمل فيك شيئا فقال لم فعلت ذلك فقالت أردت الراحة منك فقال اذهبي فأنت حرة لوجه الله
موقفه مع ابنه
كتب معاوية إلى أبي الدرداء اكتب لي فسّاق دمشق قال: ما لي ولفساق دمشق ومن أين أعرفهم فقال ابنه بلال: أنا أكتبهم فكتبهم، قال من أين علمت، ما عرفت أنهم فساق إلا وأنت منهم، ابدأ بنفسك، ولم يرسل بأسمائهم.
أثره في الأخرين (دعوته وتعليمه)
روي أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان يا أخي اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء مالا يستطيع العباد رده واغتنم دعوة المبتلى يا أخي ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المساجد بيت كل تقي وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله عز وجل ويا أخي ارحم اليتيم وأدنه وأطعمه من طعامك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأتاه رجل يشتكي قساوة قلبه فقال رسول الله أتحب أن يلين قلبك فقال نعم قال أدن اليتيم منك وامسح رأسه وأطعمه من طعامك فإن ذلك يلين قلبك وتقدر على حاجتك يا أخي لا تجمع ما لا تستطيع شكره فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يجاء بصاحب الدنيا يوم القيامة الذي أطاع الله عز وجل فيها وهو بين يدي ماله وماله خلفه وكلما تكفأ به الصراط قال له صاحبه امض فقد أديت الحق الذي كان عليك قال ويجاء بالذي لم يطع الله عز وجل فيه وماله بين كتفيه فيعثره ماله ويقول له ويلك هلا عملت بطاعة الله عز وجل فلا يزال كذلك حتى يدعو بالويل ويا أخي لا تغترن بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا عشنا بعده دهرا طويلا والله أعلم بالذي أصبنا بعده0
وعن عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال بلغني أن أبا الدرداء كتب إلى أخ له أما بعد فلست في شيء من أمر الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وهو صائر له أهل بعدك وليس لك منه إلا ما قدمت لنفسك فآثرها على المصلح من ولدك فإنك تقدم على من لا يعذرك وتجمع لمن لا يحمدك وإنما تجمع لواحد من اثنين إما عامل فيه بطاعة الله عز وجل فيسعد بما شقيت وإما عامل فيه بمعصية الله عز وجل فيشقى بما جمعت له وليس والله واحد منهما بأهل أن تبرد له على ظهرك وأن تؤثره على نفسك ارج لمن مضى منهم رحمة الله وثق لمن بقي منهم برزق الله عز وجل والسلام 0
وعن أبي الدرداء أنه كان إذا نزل به الضيف قال: أمقيم فنسرح أم ظاعن فنعلف؟ فإن قال ظاعن قال: لا أجد شيئا خيرا من شيء أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ جاء ناس من الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يجاهدون ولا نجاهد ويحجون ويفعلون ولا نفعل. فقال: ألا أدلكم على ما إذا أخذتم به أدركتم أو جئتم بأفضل مما يأتون به؟ تكبرون الله أربعا وثلاثين وتسبحون الله ثلاثا وثلاثين وتحمدون الله ثلاثا وثلاثين في دبر كل صلاة.
وأبصر أبو الدرداء رجلا في جنازة وهو يقول: جنازة من هذا؟ فقال أبوالدرداء: هذا أنت هذا أنت، يقول الله تعالى: "إنك ميت وإنهم ميتون".
وعن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك! قال وأبو الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة" فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي! فخلّى سبيل القرشي فقال معاوية: مُروا له بمال.
وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال قال لي أبو الدرداء أين مسكنك قلت بقرية دون حمص قال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك ب ***ة فإن الذئب يأكل القاصية"
وعن أبي قلابة أن أبا الدرداء مر على رجل قد أصاب ذنبا فكانوا يسبونه فقال أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه قالوا بلى قال فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله عز وجل الذي عافاكم قالوا أفلا تبغضه قال إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي
ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال يا أهل دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين0
وقيل كان في حلقة إقراء أبي الدرداء أزيد من ألف رجل ولكل عشرة منهم مُلِقِنٌ وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما فإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء يعني يعرض عليه
بعض ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
روى مسلم بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ
وروى مسلم بسنده أيضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالُوا وَكَيْفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وروى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ
وروى الترمذي بسنده أيضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ
من كلماته رضي الله عنه
كان أبو الدرداء رضي الله عنه حكيمًا وأي حكيم، نقتطف زهراتٍ من بستان حكمته...
يقول رضي الله عنه: لو أن رجلا هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت
ويقول: من كثر كلامه كثر كذبه ومن كثر حلفه كثر إثمه ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه
وقال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل عمله وحضر عذابه ومن لم يكن غنيا عن الدنيا فلا دنيا له
وعن أنس عن أبي الدرداء قال أغد عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تك الرابع فتهلك قلت للحسن ما الرابع قال المبتدع
وعن حبيب بن عبيد أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال له أوصني فقال له اذكر الله عز وجل في السراء يذكرك في الضراء فإذا أشرفت على شيء من الدنيا فانظر إلى ماذا يصير
عن أبي الدرداء أنه قال ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والإستسلام للرب عز وجل
وعن معاوية بن صالح عن أبي الدرداء قال إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان هواه تبعا لعمله فيومه يوم صالح
وقيل لأبي الدرداء: مالك لا تقول الشعر. وكل لبيب من الأنصار قال الشعر، فقال: وأنا قد قلت شعرا فقيل وما هو فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي... وتقوى الله أفضل ما استفادا
وقال رضي الله عنه:
ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك وأن تنادي الناس في عبادة الله فإذا أحسنت حمدت الله وإذا أسأت استغفرت الله
وقال أيضًا:
لا تتبع بصرك كل ما ترى في الناس فإنه من يتبع بصره كل ما يرى في الناس يطل حزنه ولا يشفى غيظه ومن لا يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه أو في مشربه فقد قل عمله وحضر عذابه ومن لم يكن غنيا في الدنيا فلا دنيا له
ومن أقواله: إني لآمركم بالأمر وما أفعله ولكني أرجو فيه الأجر وإن أبغض الناس إلي أن أظلمه من لا يستعين علي إلا بالله
وكتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري: أما بعد فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله فإذا أحبه الله حببه إلى خلقه وإذا عمل بمعصية الله أبغضه الله فإذا أبغضه الله بغضه إلى خلقه
وقال رضي الله عنه: أُحبُّ الموت اشتياقا إلى ربي عز وجل، وأحب الفقر تواضعا لربي عز وجل وأحب المرض تكفيرا لخطيئتي
وقال: استعيذوا بالله من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق؟ قال أن يرى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
وعن يحيى بن سعيد قال قال أبو الدرداء أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكا لا ورقة فيه إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لا يتركوك قالوا فكيف نصنع قال تقرضهم من عرضك ليوم فقرك.
وكان رضي الله عنه يقول اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل: وما تفرقة القلب؟ قال أن يوضع لي في كل واد مال...
وقال رضي الله عنه: إن العبد ليخلوا بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر
ومن أقواله أيضًا: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير
وقال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده
ومن حكمه رضي الله عنه قوله: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام
ومن أقواله أيضًا: من أتي فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى
وقال رضي الله عنه: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.
موقف الوفاة
عن معاوية بن قرة أن أبا الدرداء اشتكى فدخل عليه أصحابه فقالوا ما تشتكي قال أشتكي ذنوبي قالوا فما تشتهي قال أشتهي الجنة قالوا أفلا ندعو لك طبيبا قال هو الذي أضجعني
وعن لقمان بن عامر عن أم الدرداء أنها قالت اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا اللهم فأنا أخطبه إليك فأسألك أن تزوجنيه في الجنة فقال لها أبو الدرداء فإن أردت ذلك وكنت أنا الأول فلا تزوجي بعدي قال فمات أبو الدرداء وكان لها جمال وحسن فخطبها معاوية فقالت: لا والله لا أتزوج زوجا في الدنيا حتى أتزوج أبا الدرداء إن شاء الله عز وجل في الجنة...
وعن أم الدرداء أن أبا الدرداء لما احتضر جعل يقول من يعمل لمثل يومي هذا من يعمل لمثل ساعتي هذه من يعمل لمثل مضجعي هذا ثم يقول ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة
ودعا ابنه بلالًا فقال له: ويحك يا بلال! اعمل للساعة اعمل لمثل مصرع أبيك واذكر به مصرعك وساعتك فكأن قد ثم قبض، ولما نزل الموت بأبي الدرداء بكي فقالت له أم الدرداء: وأنت تبكي يا صاحب رسول الله قال: نعم وما لي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي
وقال شميط بن عجلان: لما نزل بأبي الدرداء الموت جزع جزعا شديدا فقالت له أم الدرداء: ألم تك تخبرنا أنك تحب الموت قال: بلى وعزة ربي ولكن نفسي لما استيقنت الموت كرهته ثم بكى وقال: هذه آخر ساعاتي من الدنيا لقنوني " لا إله إلا الله " فلم يزل يرددها حتى مات
مات أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه سنة اثنتين وثلاثين بدمشق. وقيل: سنة إحدى وثلاثين .
طالب عفو ربي
21-06-2009, 07:58 PM
أبو العاص بن الربيع
نسبه وقبيلته:
هو أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي صهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوج ابنته زينب أكبر بناته كان يعرف بجرو البطحاء هو وأخوه.(1)
أهم ملامح شخصيته:
1-الوفاء بالعهد قال الذهبي في تاريخ الإسلام: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أثنى على أبي العاص في مصاهرته وقال: "حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي"
2-الأمانة فلقد كان أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالا وأمانة وتجارة.(2)
إسلامه:
لم يزل أبو العاص مقيما على شركه حتى إذا كان قبيل فتح مكة خرج بتجارة إلى الشام بأموال من أموال قريش أبضعوها معه فلما فرغ من تجارته و أقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله (صلى الله عليه و سلم) و قيل إن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) كان هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص قافلة من الشام و كانوا سبعين و مائة راكب أميرهم زيد بن حارثة و ذلك في جمادى الأولى في سنة ست من الهجرة فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال و أسروا أناسا من العير فأعجزهم أبو العاص هربا فلما قدمت السرية بما أصابوا أقبل أبو العاص من الليل في طلب ماله حتى دخل على زينب ابنة رسول الله (صلى الله عليه و سلم) فاستجار بها فأجارته فلما خرج رسول الله( صلى الله عليه و سلم) إلى صلاة الصبح فكبر و كبر الناس معه.
فعن عائشة( رضي الله عنها) قالت: صرخت زينب (رضي الله عنها): أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع قال فلما سلم رسول الله( صلى الله عليه و سلم) من صلاته أقبل على الناس فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا: نعم قال: أما و الذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم ثم انصرف رسول الله (صلى الله عليه و سلم) فدخل على ابنته زينب فقال: أي بنية أكرمي مثواه و لا يخلص إليك فإنك لا تحلين له
وعن عائشة (رضي الله عنها): أن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص و قال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم و قد اصبتم له مالا فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك و إن أبيتم ذلك فهو فيىء الله الذي أفاءه عليكم فأنتم أحق به قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه قال: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل و يأتي الرجل بالشنة و الأداوة حتى أن أحدهم ليأتي بالشطاط حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع منه ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا: لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله و ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفا أن تظنوا اني إنما أردت أخذ أموالكم فلما أداها الله عز و جل إليكم و فرغت منها أسلمت ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم. (3)
من مواقفه مع الصحابة:
مع زينب بنت رسول الله قبل إسلامه فعن عائشة زوج النبي( صلى الله عليه وسلم* ) قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله( صلى الله عليه وسلم) في فداء أبي العاص وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رق لها رقة شديدة وقال: " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا ". فقالوا: نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذي لها. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه ووعده ذلك أن يخلي سبيل زينب إليه إذ كان فيما شرط عليه في إطلاقه ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله( صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال: " كونا ببطن ناجح حتى تمر بكما زينب فتصحبانها فتأتياني بها ". فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت جهرة.(4)
الوفاة:
قال إبراهيم بن المنذر مات أبو العاص بن الربيع في خلافة أبي بكر في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من الهجرة وفيها أرخه ابن سعد.(5)
طالب عفو ربي
21-06-2009, 08:06 PM
أبو الهيثم بن التيهان
هو أبو الهيثم مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن عمرو الأوسي الأنصاري.
وقيل هو أول صحابي ضرب على يد الرسول في بيعة العقبة الثانية، وقال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الأشهل يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان.
إسلامه:
قال محمد بن عمر وكان أبو الهيثم يكره الأصنام في الجاهلية ويؤفف بها ويقول بالتوحيد هو وأسعد بن زرارة وكانا من أول من أسلم من الأنصار بمكة ويجعل في الثمانية النفر الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من الأنصار فأسلموا قبل قومهم ويجعل أبو الهيثم أيضا في الستة النفر الذين يروى أنهم أول من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار بمكة فأسلموا قبل قومهم وقدموا المدينة بذلك وأفشوا بها الإسلام.
قال محمد بن عمر وأمر الستة أثبت الأقاويل عندنا إنهم أول من لقي رسول الله عليه السلام من الأنصار فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وقد شهد أبو الهيثم العقبة مع السبعين من الأنصار وهو أحد النقباء لاثني عشر أجمعوا على ذلك كلهم وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي الهيثم بن التيهان وعثمان بن مظعون وشهد أبو الهيثم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل إن أول من أسلم من الأنصار أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس خرجا إلى مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة فقال لهما قد شغلنا هذا المصلي عن كل شيء يزعم أنه رسول الله قال وكان أسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان يتكلمان بالتوحيد بيثرب فقال ذكوان بن عبد قيس لأسعد بن زرارة حين سمع كلام عتبة دونك هذا دينك فقاما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم رجعا إلى المدينة فلقي أسعد أبا الهيثم بن التيهان فأخبره بإسلامه وذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه فقال أبو الهيثم فأنا أشهد معك أنه رسول الله وأسلم.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ العهد على الأنصار في بيعة العقبة قام فتكلم وتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق (نبيا) لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا ( عن كابر) قال فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبال، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعن؟ قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم
قال ابن هشام: وقال الهدم الهدم: ( يعني الحرمة) أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم؟.
ومن مواقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: أما والذي نفسي بيده أخرجني الذي أخرجكما! قوموا فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني! قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إياك والحلوب! فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا وروا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم.
الرجل المكرم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه -رضي الله عنهما-: أبو الهيثم مالك بن التيهان.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
وعن محمد بن يحيى بن حبان أن أبا الهيثم بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارصا، ثم بعثه أبو بكر فأبى، وقال: إني كنت إذا خرصت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجعت، دعا لي فتركه بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن أبي الهيثم بن التيهان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المستشار مؤتمن)
الوفاة:
نقل أبو عمر عن الأصمعي، قال: سألت قوم أبي الهيثم، فقالوا: مات في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ قال: وهذا لم يتابع عليه قائله. وعن صالح بن كيسان قال توفي أبو الهيثم في خلافة عمر.وقال غيره توفي سنة عشرين. قال الواقدي هذا أثبت عندنا ممن روى أنه قتل بصفين مع علي.
وقيل: إنه توفى سنة إحدى وعشرين.
وقيل: شهد صفين مع علي، وهو الأكثر. وقال بذلك ابن الأثير.
وقيل: إنه قتل بها، وهذا ساقه أبو بشر الدولابي، من طريق صالح بن الوجيه، وقال: ممن قتل بصفين أبو الهيثم بن التيهان، وعبد الرحمن بن بديل، وآخرون.
لؤلؤة الغرب
22-06-2009, 06:23 PM
سلمان الفارسى ..ابن الاسلام
ابن الإسلام
سلمان الفارسي
إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي، أو سلمان الخير، أو الباحث عن الحقيقة، وكان -رضي الله عنه- إذا سئل مَنْ أنت؟ قال: أنا ابن الإسلام، من بني آدم، وقد اشتهر بكثرة العبادة، وكثرة مجالسته للنبي (، فلم يفارقه إلا لحاجة، وكان النبي ( يحبه حبًّا شديدًا، وسماه أبو هريرة صاحب الكتابين (يعني الإنجيل والفرقان)، وسمَّاه علي بن أبي طالب لقمان الحكيم، وقد آخى النبي ( بينه وبين أبي الدرداء.
يقول سلمان -رضي الله عنه- عن نفسه: (كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دُهْقانها (رئيسها)، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار (ملازمها) الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
وكان لأبي ضَيْعَة (أرض)، أرسلني إليها يومًا فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه فما برحتهم (تركتهم) حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري من يبحث عني، وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عُدت إليه: إني مررت على قوم يُصلّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديدًا وحبسني.
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها؛ لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم فقيل لي: هو الأسقف (رئيس من رؤساء النصارى) صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها على الفقراء، ولكنه كان يكتنـزها لنفسه.
فلما مات جاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيرًا منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة، فأحببته حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قدره (الموت)، قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى مَنْ توصى بي؟ قال: أي بني، ما أعرف من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل.
فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك (أتى عليك) زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفًا، يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، فإن استطعت أن تخلص (تذهب) إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
ومرَّ بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم. واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من يهود، وأقمت عنده حتى قدم عليه يومًا رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفَتْ لي.
وأقمت معه أعمل له في نخله، وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة (الأوس والخزرج)، إنهم ليقاصفون (يجتمعون) على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاءُ (ريح باردة)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعًا أقول ما هذا الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت على عملي.
ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله ( بقُباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول ( لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة.
ثم رجعت، وعدت إلى الرسول ( في الغداة أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يده، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان (الشملة: كساء من الصوف) مؤتزرًا بواحدة، ومرتديًا الأخرى، فسلّمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته كما أحدثكم الآن، ثم أسلمت، وحال الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول (: (كاتب سيدك حتى يعتقك)، فكاتبته، وأمر الرسول ( الصحابة كي يعاونوني وحرر الله رقبتي، وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول الله ( غزوة الخندق والمشاهد كلها. [أحمد والطبراني].
وكان سلمان هو الذي أشار بحفر الخندق حول المدينة عندما أرادت الأحزاب الهجوم على المدينة، وعندما وصل أهل مكة المدينة، ووجدوا الخندق، قال أبو سفيان: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. ووقف الأنصار يومها يقولون: سلمان منا، ووقف المهاجرون يقولون: بل سلمان منا، وعندها ناداهم الرسول ( قائلاً: (سلمان منا آل البيت) [ابن سعد].
ومما يحكى عن زهده أنه كان أميرًا على المدائن في خلافة الفاروق عمر، وكان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف دينار، لا ينال منه درهمًا واحدًا، ويتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويقول: (أشتري خوصًا بدرهم فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيتُ) [أبو نعيم].
ويروى أنه كان أميرًا على سرية، فمرَّ عليه فتية من الأعداء وهو يركب حمارًا، ورجلاه تتدليان من عليه، وعليه ثياب بسيطة مهلهلة، فسخروا منه، وقالوا للمسلمين في سخرية وازدراء: هذا أميركم؟ فقيل لسلمان: يا أبا عبد الله ألا ترى هؤلاء وما يقولون؟ فقال سلمان: دعهم فإن الخير والشر فيما بعد اليوم.
[ابن سعد].
ومما رُوي في تواضعه أنه كان سائرًا في طريق، فناداه رجل قادم من الشام ليحمل عن متاعه، فحمل سلمان متاع الرجل، وفي الطريق قابل جماعة من الناس فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام، وأسرع أحدهم نحوه ليحمل عنه قائلا: عنك أيها الأمير، فعلم الشامي أنه سلمان الفارسي أمير المدائن، فأَسْقَطَ ما كان في يديه، واقترب ينتزع الحمل، ولكن سلمان هزَّ رأسه رافضًا وهو يقول: لا، حتى أبلغك منزلك. [ابن سعد].
ودخل صاحب له بيته، فإذا هو يعجن فسأله: أين الخادم؟ فقال سلمان: لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.
وحين أراد سلمان بناء بيت له سأل البنَّاء: كيف ستبنيه؟ وكان البنَّاء ذكيًّا يعرف زهد سلمان وورعه، فأجابه قائلاً: لا تخف، إنها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت (نمت) فيها أصابت رجلك. فقال له سلمان: نعم، هكذا فاصنع. وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة عثمان بن عفان سنة (35هـ).
طالب عفو ربي
24-06-2009, 03:06 AM
أبو أمامة بن سهل
نسبه وقبيلته:
أبو أمامة بن سهل بن حنيف بن وهب الأنصاري من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس اسمه أسعد سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باسم جده أبي أمامة أسعد بن زرارة أبي أمه وكناه بكنيته ودعا له وبرك عليه.
من الأحاديث التي رواها عن رسول الله:
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بامرأة قد زنت فقال ممن قالت من المقعد الذي في حائط سعد فأرسل إليه فأتي به محمولا فوضع بين يديه فاعترف فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باثكال فضربه ورحمه لزمانته وخفف عنه.
وروي ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله . وليس له وارث إلا خال . فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر . فكتب إليه عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الله و رسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له).
الوفاة:
وتوفي أبو أمامة بن سهل بن حنيف سنة مائة وهو ابن نيف وتسعين سنة
طالب عفو ربي
24-06-2009, 03:07 AM
أبو بصير
هو أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة.
موقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن بها أقبل إليه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخنس بن شريق الثقفي ولأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجره ليرد عليهم صاحبهم أبا بصير فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعا إليه كتابهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير فقال له: " يا أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد عملت وإنا لا نغدر فالحق بقومك ". فقال يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصبر يا أبا بصير واحتسب فإن الله جاعلا لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجا ومخرجا". قال: فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك قال: نعم. قال: أنظر إليه قال: إن شئت فاستله. فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد وطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فلما رآه قال: هذا رجل قد رأى فزع. فلما انتهى إليه قال: قتل صاحبكم صاحبي. فما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وقد امتنعت بنفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل أمه "!
محش حرب لو كان معه رجال "!
فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص وكان طريق أهل مكة إلى الشام فسمع به من كان بمكة من المسلمين فلحقوا به حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من ستين أو سبعين وكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه ولم يمر بهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت فيهم قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم لما آواهم فلا حاجة لنا بهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا عليه المدينة. وقيل إن أبا جندل بن سهيل بن عمرو كان ممن لحق بأبي بصير وكان عنده 0
وفاته
قدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجدا، وذكر ابن إسحاق هذا الخبر بهذا المعنى وبعضهم يزيد فيه على بعض والمعنى متقارب إن شاء الله تعالى
طالب عفو ربي
24-06-2009, 03:10 AM
أبو جندل
هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري.
أسلم قديما بمكة فحبسه أبوه وأوثقه في الحديد ومنعه الهجرة.
من مواقفه مع الرسول:
في صلح الحديبية والصحيفة تكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد وكان أبوه حبسه فأفلت. فلما رآه أبوه سهيل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وقال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذ!
قال: صدقت. فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني!
وقد كانوا خرجوا مع رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) لا يشكون في الفتح فلما صنع أبو جندل ما صنع وقد كان دخل - لما رأوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمل على نفسه في الصلح ورجعته - أمر عظيم فلما صنع أبو جندل ما صنع زاد الناس شرا على ما بهم فقال رسول الله لأبي جندل: " أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرج. وإنا صالحنا القوم وإنا لا نغدر "
من مواقفه مع الصحابة:
له موقف مع أبي بصير فقد انفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده (صلى الله عليه وسلم ) يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين راكبا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله( صلى الله عليه وسلم) في مدة الهدنة خوفا من أن يردهم إلى أهلهم وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا أخذوها حتى كتبت قريش له صلى الله عليه وسلم تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم فكتب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه وإن من معهم من المسلمين يلحق ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش ولا لعيرهم فقدم كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عليهما وأبو بصير مشرف على الموت لمرض حصل له فمات وكتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا. (4)
من كلماته:
أورد ابن عبد البر في الاستيعاب " قال أبو جندل وهو مع أبي بصير:
أبلغ قريشا من أبي جندل... أني بذي المروة بالساحل
في معشر تخفق أيمانهم... بالبيض فيها والقنى الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرج... والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه... أو يقتل المرء ولم يأتل
الوفاة:
مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
طالب عفو ربي
24-06-2009, 03:15 AM
أبو ذر الغفاري
مقدمة
هو أبو ذَرّ، ويقال أبو الذَرّ جندب بن جنادة الغفاري وقد اختلف في اسمه فقيل: جندب بن عبد الله وقيل: جندب بن السكن والمشهور جندب بن جنادة، وأم أبي ذَرّ هي رملة بنت الوقيعة الغفارية، وقد أسلمت رضي الله عنها.
كان رضي الله عنه آدم طويلا أبيض الرأس واللحية، أسمر اللون نحيفا، قال أبو قلابة عن رجل من بني عامر: دخلت مسجد منى فإذا شيخ معروق آدم - أي أسمر اللون - عليه حلة قطرى فعرفت أنه أبو ذَرّ بالنعت...
حاله في الجاهلية:
ولد أبو ذَرّ ونشأ في قبيلة غفار بين مكة والمدينة، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالسطو، وقطع الطريق على المسافرين والتجار وأخذ أموالهم بالقوة، وكان أبو ذَرّ رجلا يصيب الطريق، وكان شجاعا يتفرد وحده يقطع الطريق، ويغير على الناس في عماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع فيطرق الحي ويأخذ ما يأخذ..
ومع هذا كان أبو ذَرّ ممن تأله في الجاهلية والتَّأَلُّهُ التَّنَسُّك والتَّعَبُّد والتأْليهُ التَّعْبيد، وكان يقول لا إله إلا الله ولا يعبد الأصنام، قال أبو ذَرّّ: أخذ أبو بكر بيدي فقال يا أبا ذَرّ فقلت: لبيك يا أبا بكر فقال هل كنت تأله في جاهليتك قلت: نعم لقد رأيتني أقوم عند الشمس - أي عند شروقها - فلا أزال مصليا - أي لله - حتى يؤذيني حرّها فأخرّ كأني خفاء فقال لي: فأين كنت توجه قلت لا أدري إلا حيث وجهني الله، حتى أدخل الله علي الإسلام...
النور يسري إلى قلب أبي ذَرّ وقبيلته
عن ابن عباس قال: قال أبو ذَرّ: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وائتني بخبره فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت ما عندك فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب قال قلت نعم قال فانطلق إلى المنزل قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال فمر بي علي فقال أما نال للرجل يعرف منزله بعد قال قلت لا قال انطلق معي قال فقال ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال قلت له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي يا أبا ذَرّ اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضُربت لأموت فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكبّ علي وقال مثل مقالته بالأمس قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذَرّ رحمه الله...
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتبسم قال لأبي ذَرّ: "يا أبا ذَرّ حدثني بيدء إسلامك" قال: كان لنا صنم يقال له: "نهم" فأتيته فصببت له لبنا ووليت فحانت مني التفاتة فإذا كلب يشرب ذلك اللبن فلما فرغ رفع رجله فبال على الصنم فأنشأت أقول:
ألا يا نهم إني قد بدا لـي مدى شرف يبعد منك قربا
رأيت الكلب سامك خط خسف فلم يمنع قفاك اليوم كلبا
فسمعتني أم ذَرّ فقالت:
لقد أتيت جرما وأصبت عظما
حين هجوت نهما
فخبرتها الخبر فقالت:
ألا فابنـنا ربـا كريمـا جوادا في الفضائل يا بن وهب
فما من سامه كلب حقير فلم يمنـع يداه لنـا برب
فما عبد الحجارة غير غاوٍ ركيك العقل ليس بذي لب
قال فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت أم ذَرّ فما عبد الحجارة غير غاو".
قال ابن عبد البر:
كان أبو ذرّ من كبار الصحابة، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة فكان خامسا ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة.
وكان أبو ذَرّ رضي الله عنه يقول:
كنت ربع الإسلام أسلم قبلى ثلاثة وأنا الرابع أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت له السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ فقلت: إني جندب رجل من بنى غفار قيل: قول أبي ذَرّ: كنت رابع الإسلام أراد من قومه لأن في ذلك الوقت أسلم الخلق من قريش وغيرهم...
وبعد أن أسلم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة وهو المعنق ليموت...
وقال عنه ابن الأثير:
هو أول من حيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، ولما أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه بالمدينة بعدما ذهبت بدر وأحد والخندق وصحبه إلى أن مات، وكان يعبد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين...
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
كان للنبي صلى الله عليه وسلم أثرًا كبيرًا وواضحًا في حياة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، نظرًا لقدم إسلامه، وطول المدة التي قضاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعن حاطب قال قال أبو ذَرّ ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما صبه جبريل وميكائيل عليهما السلام في صدره إلا قد صبه في صدري...
وعن أبي ذَرّ قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال: "انظر أرفع رجل في المسجد في عينيك" فنظرت فإذا رجل في حلة جالس يحدث قوما فقلت: هذا قال: "انظر أوضع رجل في المسجد في عينيك" قال: فنظرت فإذا رويجل مسكين في ثوب له خلق قلت: هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "هذا خير عند الله يوم القيامة من قرار الأرض مثل هذا"
وعن أبي هريرة قال: قال أبو ذَرّ: يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأخر يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضول أموال يتصدقون بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذَرّ ألا أعلمك كلمات تدرك بهن من سبقك ولا يلحقك من خلفك إلا من أخذ بمثل عملك قال بلى يا رسول الله قال تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتسبحه ثلاثا وثلاثين وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
عن أبى ذَرّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا ذَرّ كيف تفعل إذا جاع الناس حتى لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك" فقلت: الله ورسوله أعلم قال: "تعفف" ثم قال: "كيف تصنع إذا مات الناس حتى يكون البيت بالوصيف" قلت: الله ورسوله أعلم قال: "تصبر" ثم قال: "كيف تصنع إذا اقتتل الناس حتى يغرق حجر الزيت" قلت: الله ورسوله أعلم قال: "تأتي من أنت فيه" فقلت: أرأيت إن أتى علي قال: "تدخل بيتك" قلت: أرأيت إن أتى علي قال: "إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق طائفة ردائك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه" فقلت: أفلا أحمل السلاح؟ قال: "إذا تشركه"
أهم ملامح شخصيته
الزهد الشديد والتواضع:
كان رضي الله عنه من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول الحق سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذَرّ فقال ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئا منه... وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أبو ذَرّ في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده ". وبعضهم يرويه: "من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذَرّ"
ومرّ فتى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: نعم الفتى، فتبعه أبو ذَرّ فقال: يا فتى استغفر لي، فقال: يا أبا ذَرّ أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: استغفر لي، قال: لا أو تخبرني، فقال: إنك مررت على عمر رضي الله عنه فقال: نعم الفتى، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"
وقيل لأبي ذرٍّ ألا تتخذ أرضا كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: وما أصنع بأن أكون أميرا وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ أو لبن وفي الجمعة قفيز من قمح.
وعن أبي ذَرّ قال: "كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من التمر فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى".
صدق اللهجة:
قال أبو ذَرّ: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقلّ الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفي من أبي ذَرّ، شبيه عيسى بن مريم" قال: فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا نبي الله أفنعرف ذلك له قال: "نعم فاعرفوا له".
الحرص على الجهاد رغم الصعوبات:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذَرّ وأبطأ به بعيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه فتلوم أبو ذَرّ رضي الله عنه على بعيره فأبطأ عليه فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذَرّ فلما تأمله القوم قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذَرّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أبا ذَرّ يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده...
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن المعرور قال: لقيت أبا ذَرّ بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذَرّ أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم.
وعن إبراهيم التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذَرّ رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان قال فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد قال فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني فقال من هذا فقلت أبو ذر جعلني الله فداءك قال يا أبا ذر تعاله قال فمشيت معه ساعة فقال إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا قال فمشيت معه ساعة فقال اجلس ها هنا قال فأجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي اجلس ها هنا حتى أرجع إليك قال فانطلق في الحرة حتى لا أراه فلبث عني فأطال اللبث ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول وإن سرق وإن زنى قال فلما جاء لم أصبر فقلت يا نبي الله جعلني الله فداءك من تكلم في جانب الحرة ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا قال ذاك جبريل عرض لي في جانب الحرة فقال بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فقلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى قال نعم قال قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم قال قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم وإن شرب الخمر
وفي صحيح مسلم عن أبي ذَرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال "نور أنى أراه" قال النووي: أي حجابه نور فكيف أراه
وعن أبي ذَرّ قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها قال قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة.
وعن أبي ذَرّ قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، قال: فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال: "هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".
عن أبي ذَرّ قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذَرّ إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذَرّ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل يعمل لنفسه ويحبه الناس قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"
عن أبي عاصم عن أبيه قال لقينا أبا ذَرّ وهو عند الجمرة الوسطى فسألته عن ليلة القدر فقال ما كان أحد بأسأل لها رسول الله مني قلت يا رسول الله ليلة القدر أنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثم ترجع فقال بل هي إلى يوم القيامة فقلت يا رسول الله أيتهن هي قال لو أذن لي لأنبأتكم ولكن التمسوها في السبعين ولا تسألني بعدها قال ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فجعل يحدث فقلت يا رسول الله في أي السبعين هي فغضب علي غضبة لم يغضب علي قبلها ولا بعدها مثلها ثم قال ألم أنهك أن تسألني عنها لو أذن لي لأنبأتكم عنها لأنبأتكم بها ولكن لا آمن أن تكون في السبع الآخر
وعن أبي ذَرّ قال دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده قال يا أبا ذَرّ إن للمسجد تحية وإن تحيته ركعتان فقم فاركعهما قال فقمت فركعتهما ثم عدت فجلست إليه فقلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة قال خير موضوع استكثر أو استقل قال قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيل الله قال قلت يا رسول الله فأي المؤمنين أكمل إيمانا قال أحسنهم خلقا قلت يا رسول الله فأي المؤمنين أسلم قال من سلم الناس من لسانه ويده قال قلت يا رسول الله فأي الصلاة أفضل قال طول القنوت قال قلت يا رسول الله فأي الهجرة أفضل قال من هجر السيئات قال قلت يا رسول الله فما الصيام قال فرض مجزىء وعند الله أضعاف كثيرة قال قلت يا رسول الله فأي الجهاد أفضل قال من عقر جواده وأهريق دمه قال قلت يا رسول الله فأي الصدقة أفضل قال جهد المقل يسر إلى فقير قلت يا رسول الله فأي ما أنزل الله عليك أعظم قال آية الكرسي ثم قال يا أبا ذَرّ ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف وعشرون ألفا قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك قال ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا قال قلت يا رسول الله من كان أولهم قال آدم قلت يا رسول الله أنبي مرسل قال نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا ثم قال يا أبا ذَرّ أربعة سريانيون آدم وشيث وأخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله كم كتابا أنزله الله قال مائة كتاب وأربعة كتب أنزل على شيث خمسون صحيفة وأنزل على أخنوخ ثلاثون صحيفة وأنزل على إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والقرآن قال قلت يا رسول الله ما كانت صحيفة إبراهيم قال كانت أمثالا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح وعجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله قلت يا رسول الله زدني قال عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء قلت يا رسول الله زدني قال إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه قلت يا رسول الله زدني قال عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك قلت يا رسول الله زدني قال عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي قلت يا رسول الله زدني قال أحب المساكين وجالسهم قلت يا رسول الله زدني قال انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك قلت يا رسول الله زدني قال قل الحق وإن كان مرا قلت يا رسول الله زدني قال ليردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم فيما تأتي وكفي بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما تأتي ثم ضرب بيده على صدري فقال يا أبا ذَرّ لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق
عن أبي ذَرّ قال صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نقلنا بقية ليلتنا هذه قال إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر فقام بنا في الثالثة وجمع أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا أن يفوتنا الفلاح قلت وما الفلاح قال السحور
وعن أبي ذَرّ أنه قال: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم قال: "إنك يا أبا ذَرّ مع من أحببت" قال: فإني أحب الله ورسوله قال: "أنت يا أبا ذَرّ مع من أحببت"
بعض المواقف من حياته مع الصحابة مع معاوية:
عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذَرّ رضي الله عنه فقلت له ما أنزلك منزلك هذا قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في "الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذاك لعثمان فقال لي إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمّروا علي حبشيا لسمعت وأطعت
مع أبي بن كعب:
عن أبي ذَرّ أنه قال دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلست قريبا من أبي بن كعب فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة براءة فقلت لأبي متى نزلت هذه السورة قال فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قلت لأبي سألتك فتجهمتني ولم تكلمني قال أبي ما لك من صلاتك إلا ما لغوت فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة فتجهمني ولم يكلمني ثم قال مالك من صلاتك إلا ما لغوت قال النبي صلى الله عليه وسلم صدق أبي
مع صعصعة بن معاوية:
قال صعصعة بن معاوية عم الأحنف بن قيس أتيت أبا ذَرّ بالربذة فقلت يا أبا ذَرّ ما مالك؟ فقال: مالي عملي قلت حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا سمعته منه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم.
بعض المواقف من حياته مع التابعين مع الأحنف بن قيس:
روى البخاري بسنده أن الأحنف بن قيس حدثهم قال جلست إلى ملإ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل ثم ولى فجلس إلى سارية وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو فقلت له لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي قال قلت من خليلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أتبصر أحدا قال فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له قلت نعم قال ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون الدنيا لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله
مع عبد الله بن الصامت:
عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذَرّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" قلت: يا أبا ذَرّ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان.
مع مطرف بن عبد الله:
عن مطرف بن عبد الله قال: كان يبلغني عن أبي ذَرّ حديث فكنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت يا أبا ذَرّ كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك قال لله أبوك فقد لقيتني قال قلت حدثني بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك قال إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة قال فلا أخالني أكذب على خليلي قال قلت من هؤلاء الذين يحبهم الله قال رجل غزا في سبيل الله صابرا محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ هذه الآية إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص قلت ومن قال رجل له جار سوء يؤذيه فيصبر على إيذائه حتى يكفيه الله إياه أما بحياة أو موت قلت ومن قال رجل يسافر مع قوم فادلجوا حتى إذا كانوا من آخر الليل وقع عليهم الكرى والنعاس فضربوا رؤوسهم ثم قام فتطهر رهبة لله ورغبة لما عنده قلت فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله قال المختال الفخور وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل أن الله لا يحب كل مختال فخور قلت ومن قال البخيل المنان قال ومن قال التاجر الحلاف أو البائع الحلاف
مع صدقة بن أبي عمران:
عن صدقة بن أبي عمران بن حطان قال أتيت أبا ذَرّ فوجدته في المسجد مختبئا بكساء أسود وحده فقلت يا أبا ذَرّ ما هذه الوحدة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب أفضل قال أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها قلت فإن لم أفعل قال تعين ضايعا أو تصنع لأخرق قال فإن لم أفعل قال تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك
وفي البخاري بسنده أيضًا عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى قوما ليس له فيهم فليتبوأ مقعده من النار
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرارا قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"
وفي مسلم بسنده عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".
أثره في الآخرين
منذ أسلم رضي الله عنه أصبح من الدعاة إلى الله فدعا أباه وأمه وأهله وقبيلته، ولما أسلم أبو ذر قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف قال فكان ذلك أول طعام أكلته بها فلبثت ما لبثت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم قال فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا قال فقال لي ما صنعت قال قلت صنعت إني أسلمت وصدقت قال فما بي رغبة عن دينك فاني قد أسلمت وصدقت ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما فاني قد أسلمت وصدقت فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار قال فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ وقال بقيتهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا قال فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم قال وجاءت "أسلم" فقالوا يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله"
وعن المنذَرّ بن جهم قال قال حويطب بن عبد العزى لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح خفت خوفا شديدا فخرجت من بيتي وفرقت عيالي في مواضع يأمنون فيها فانتهيت إلى حائط عوف فكنت فيه فإذا أنا بأبي ذَرّ الغفاري وكانت بيني وبينه خلة والخلة أبدا مانعة فلما رأيته هربت منه فقال أبا محمد فقلت لبيك قال ما لك قلت الخوف قال لا خوف عليك أنت آمن بأمان الله عز وجل فرجعت إليه فسلمت عليه فقال اذهب إلى منزلك قلت هل لي سبيل إلى منزلي والله ما أراني أصل إلى بيتي حيا حتى ألفي فأقتل أو يدخل على منزلي فأقتل وأن عيالي لفي مواضع شتى قال فاجمع عيالك في موضع وأنا أبلغ معك إلى منزلك فبلغ معي وجعل ينادي على أن حويطبا آمن فلا يهج ثم انصرف أبو ذَرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال أو ليس قد أمن الناس كلهم إلا من أمرت بقتلهم قال فاطمأننت ورددت عيالي إلى منازلهم وعاد إلي أبو ذَرّ فقال لي يا أبا محمد حتى متى وإلى متى قد سبقت في المواطن كلها وفاتك خير كثير وبقي خير كثير فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم تسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الناس وأوصل الناس وأحلم الناس شرفه شرفك وعزه عزك قال قلت فأنا أخرج معك فآتيه فخرجت معه حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء وعنده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فوقفت على رأسه وسألت أبا ذَرّ كيف يقال إذا سلم عليه قال قل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقلتها فقال وعليك السلام حويطب فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداك قال وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي.
وقد روى عن أبي ذر الكثير من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة أنس بن مالك، وحذيفة بن أسيد، حميل بن بسرة بن وقاص، وصعصعة بن معاوية، وعدي بن حاتم، وغضيف بن الحارث، ومعاوية بن حديج، ونعيم بن قعنب وغيرهم، وروى عنه من التابعين أيضا العدد الكبير...
مواقف خالدة في حياة أبي ذرّ موقفه من الثروات:
ينتقل الزاهد الورع خليفة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى جوار ربه ورسوله، تاركا خلفه فراغا هائلا، ويبايع المسلمون عثمان بن عفان رضي الله عنه وتستمر الفتوحات وتتدفق الأموال من البلاد المفتوحة، فارس والروم ومصر، وظهرت بين العرب طبقات غنية كنزت الأموال وبنت القصور وعاشت عيشة الأمراء، كما ظهرت بجانبهم طبقات فقيرة لا تجد ما تقتات به. وخرج أبو ذر إلى معاقل السلطة والثروة، يغزوها بمعارضته معقلا معقلا وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون، وكان إذا نزل بأرض ردد قول الله تعالى "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، ولقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة، هناك بالشام حيث معاوية بن أبى سفيان يحكم أرضا من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيرا وفيئ، ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، ولكنه يعرف قدره، فلا يقربه بسوء، ويكتب من فوره للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويكتب عثمان لأبى ذر يستدعيه إلى المدينة، ويجرى بينهما حوارا طويل ينتهى بأن يقول له أبو ذر:" لا حاجة لى في دنياكم" وطلب أبو ذر من عثمان، رضي الله عنهما، أن يسمح له بالخروج إلى" الربذة " فأذن له.
قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها فلما بلغ البناء سلعا وجاوز خرج أبو ذر إلى الشام.
موقفه من الثورات:
أتى أبا ذر وفد من الكوفة وهو في الربذة، يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فزجرهم بكلمات حاسمة قائلا:" والله لو أن عثمان صلبنى على أطول خشبة، أو جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت ذلك خير لي ولو سيرنى ما بين الأفق إلى الأفق، لسمعت وأطعت وصبرت وأحتسبت ورأيت ذلك خير لي، ولو ردني إلى منزلي، لسمعت وأطعت وصبرت وأحتسبت ورأيت ذلك خير لي" وهكذا أدرك ما تنطوي، عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها...
بعض كلماته:
قال أبو ذَرّ: لو وضعتم الصمصامة - أي السيف القاطع - على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
عن أبي ذَرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى في الصلاة فقال واحدة أو دع
عن أبي ذَرّ قال أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبدا أوصاني بصلاة الضحى وبالوتر قبل النوم وبصوم ثلاثة أيام من كل شهر
عن أبي ذَرّ قال تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم قال أبو حاتم معنى عندنا منه يعني بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذَرّ قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني بأن لا أنظر إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة
ومن أقواله رضي الله عنه: حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوماً شديد الحر لطول يوم النشور وصلوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور.
موقف الوفاة
عن أم ذَرّ قالت لما حضرت أبا ذَرّ الوفاة بكيت فقال ما يبكيك فقلت مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا قال فلا تبكي وأبشري فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية جماعة وأنا الذي أموت بفلاة والله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق قالت وأنى وقد ذهب الحاج وانقطعت الطرق قال اذهبي فتبصري قالت فكنت أجيء إلى كثيب فأتبصر ثم أرجع إليه فأمرضه فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم فأقبلوا حتى وقفوا علي وقالوا ما لك أمة الله قلت لهم امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا من هو فقلت أبو ذَرّ قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم قالت ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه فدخلوا عليه فرحب بهم وقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا هلك في قرية وجماعة وأنا الذي أموت بفلاة أنتم تسمعون إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها أنتم تسمعون إني أشهدكم أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا فليس أحد من القوم إلا قارف بعض ذلك إلا فتى من الأنصار فقال يا عم أنا أكفنك لم أصب مما ذكرت شيئا أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي فكفنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه منهم حجر بن الأدبر ومالك بن الأشتر في نفر كلهم يمان
وقد توفي رضي الله عنه وأرضاه بالربذة سنة 32 هـ، 652 م، واختلفوا فيمن صلى عليه فقيل: عبد الله بن مسعود، وقيل جرير بن عبد الله البجلي.
طالب عفو ربي
27-06-2009, 08:18 PM
أبو سبرة بن أبى رهم
هو أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود القرشي العامري
إسلامه:
أسلم قديماَ فقد ذكر فيمن هاجر هجرة الحبشة الأولى هو وزوجته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو
من ملامح شخصيته:
الشجاعة والإقدام فقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
توفي أبو سبرة في خلافة عثمان بن عفان
هذا ماعرف عنه ولا يعرف عنه غير القليل
طالب عفو ربي
27-06-2009, 08:24 PM
أبو سعيد الخدري
هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري.. مشهور بكنيته..
كان ممن حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننا كثيرة، وروى عنه علما جما، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول أبو سعيد، قال: أتى علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ونحن أناس من ضعفة المسلمين ما أظن رسول الله يعرف أحدا منهم، وإن بعضهم ليتوارى من بعض من العري. فقال رسول الله بيده، فأدارها شبه الحلقة، قال: فاستدارت له الحلقة، فقال: "بما كنتم تراجعون"؟ قالو: هذا رجل يقرأ لنا القرآن، ويدعو لنا، قال: "فعودوا لما كنتم فيه"، ثم قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم" ثم قال: "ليبشر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام، هؤلاء في الجنة يتنعمون، وهؤلاء يحاسبون"
تابعه جعفر بن سليمان عن المعلى، أخرجه أبو داود وحده..
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
لما بايع الناس معاوية ليزيد كان الحسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إلى حسين يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى وجاء إلى الحسين فأخبره بما عرضوا عليه وقال: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بن، ويشيطوا دماءن. فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يجمع الإقامة. فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاء، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف.
بعض المواقف من حياته مع التابعين:
وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة، منهم جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام. قال: فلما رأيته انتضيت سيفي فقصدني، فلما رآني صمم على قتلي، فشمت سيفي، ثم قلت إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فلما رأى ذلك قال: من أنت؟ قلت: أنا أبو سعيد الخدري قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. فمضى وتركني.
ـ وعن عياض بن عبد الله قال: رأيت أبا سعيد الخدري جاء ومروان يخطب فقام فصلى ركعتين فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبي أن يجلس حتى صلى الركعتين فلما أقضينا الصلاة أتيناه فقلنا يا أبا سعيد: كاد هؤلاء أن يفعلوا بك ، فقال: ما كنت لأدعها لشيء بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء رجل وهو يخطب فدخل المسجد بهيئة بذة فقال " أصليت "؟ قال: لا ، قال: " فصل ركعتين " ثم حث الناس على الصدقة فألقوا ثيابا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل منها ثوبين فلما كانت الجمعة الأخرى جاء الرجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أصليت "؟ قال: لا قال: " فصل ركعتين " ، ثم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فطرح الرجل أحد ثوبيه فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " خذه " ، فأخذه ، ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة بهيئة بذة فأمرت الناس بالصدقة فطرحوا ثيابا فأعطيته منها ثوبين فلما جاءت الجمعة وأمرت الناس بالصدقة فجاء فألقى أحد ثوبيه " ـ وعن عاصم عن ابن سيرين قال: كان أبو سعيد الخدري <317> قائما يصلي فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه فمنعه وأبى إلا أن يمضي فدفعه أبو سعيد فطرحه فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن فقال: والله لو أبى إلا أن آخذه بشعره لأخذت.
آثره في الآخرين (دعوته ـ تعليمه):
عن إسماعيل بن رجاء بن ربيعة عن أبيه قال: كنا عند أبي سعيد الخدري في مرضه الذي توفي فيه قال: فأغمي عليه فلما أفاق قال قلنا له الصلاة يا أبا سعيد قال: كفان قال: أبو بكر يريد كفان يعني أومأ بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
ـ يحدث عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن..
ـ ويروي عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة شك مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية..
قال وهيب حدثنا عمرو الحياة وقال خردل من خير
ـ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين..
وعن صالح ذكوان عن أبي سعيد الخدري
قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنتين فقال واثنتين
ـ وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وعن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال سمعت أبا حازم عن أبي هريرة قال ثلاثة لم يبلغوا الحنث..
ما قيل فيه:
قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه كان من أفقه أحداث الصحابة
وقال الخطيب كان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا
الوفاة:
قيل: مات سنة أربع وسبعين. وقيل: أربع وستين. وقال المدائني: مات سنة ثلاث وستين. وقال العسكري:مات سنة خمس وستين
طالب عفو ربي
27-06-2009, 08:37 PM
أبو سفيان بن حرب
هو أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر،وقال ابن هشام: واسم أبي سفيان صخر
من مواقفه في الجاهلية:
كان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة ولكنهم لم يشخصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا كنحو قريش.
وفي غزوة بدر، أقبل أبو سفيان بن حرب بالعير وقد خافوا خوفا شديدا حين دنوا من المدينة واستبطؤوا ضمضما والنفير حتى ورد بدرا وهو خائف من الرصد فقال لمجدي بن عمرو هل أحسست أحدا من عيون محمد فإنه والله ما بمكة من قرشي ولا قرشية له نش فصاعدا إلا قد بعث به معنا فقال مجدي والله ما رأيت أحدا أنكره إلا راكبين أتيا إلى هذا المكان وأشار له إلى مناخ عدي وبسبس فجاء أبو سفيان فأخذ أبعارا من بعيريهما ففته فإذا فيه نوى فقال علائف يثرب هذه عيون محمد فضرب وجوه العير فساحل بها وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا وأقبلت قريش من مكة فأرسل إليهم أبو سفيان بن حرب قيس بن امرئ القيس يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع
وموقف آخر له يوم هجرة زينب بنت رسول الله:
لما فرغت زينب من جهازها ارتحلت، وخرج بها حموها يقود بها نهاراً كنانة بن الربيع، وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس الفهري، وكان أول من سبق إليها هبار، فروّعها بالرمح وهي في هودجه، وبرك كنانة ونثر نبله ثم أخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهم، وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش، فقال: أمسك عنا بنبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان، وقال: إنك لم تصنع شيئاً، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس، وقد عَرفْتَ مصيبتنا التي أصابتنا ببدر، فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف، خروجك إليه بابنته على رؤوس الناس من بين أظهرنا، ارجع بالمرأة فأقم أياماً ثم سُلّها سلاً رقيقاً في الليل، فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثؤرة فيما أصاب منا، ففعل، فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم أحد كان أبو سفيان بن حرب هو الذي قاد قريشا كلها يوم أحد ولم يكن بأعلم من رسول الله بقادة الجيش وتنظيمه. لكن أبا سفيان استطاع أن يجند عددا كبيرا من قريش فكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس.
وجاء في الطبقات الكبري لإبن سعد "لما أراد أبو سفيان بن حرب أن ينصرف يوم أحد نادى بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول نلتقي بها فنقتتل فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر بن الخطاب قل نعم إن شاء الله فافترق الناس على ذلك ثم رجعت قريش فخبروا من قبلهم بالموعد وتهيؤوا للخروج فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج وقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فقال له أبو سفيان إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي ببدر وقد جاء ذلك الوقت وهذا عام جدب وإنما يصلحنا عام خصب غيداق وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيجتريء علينا فنجعل لك عشرين فريضة يضمنها لك سهيل بن عمرو على أن تقدم المدينة فتخذل أصحاب محمد قال نعم ففعلوا وحملوه على بعير فأسرع السير فقدم المدينة فأخبرهم بجمع أبي سفيان لهم وما معه من العدة والسلاح فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد فنصر الله المسلمين وأذهب عنهم الرعب
وأورد ابن الأثير في أسد الغابة " لما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل ثم نادى بأعلى صوته: إن الحرب سجال يوم بيوم بدر اعل هبل - أي أظهر دينك - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: قم فأجبه. فقال: الله أعلى وأجل لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فلما أجاب عمر أبا سفيان قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ائته فانظر ما يقول ". فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا قال: لا وإنه ليسمع كلامك الآن. فقال أبو سفيان: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر - لقول ابن قمئة لهم: قد قتلت محمدا"
وموقف آخر مع زيد بن الدثنة فقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية "اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وانك في أهلك قال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه واني جالس في أهلي قال يقول أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحد كحب أصحاب محمد محمدا".
عمره عند الإسلام:
ولد أبو سفيان قبل عام الفيل بعشر سنين وأسلم عام الفتح.
فيكون عمره عند إسلامه71 عاما.
إسلامه:
لما نزل رسول الله( صلى الله عليه وسلم) بمر الظهران قال العباس: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش [ إلى ] آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت لعلي: ألقى بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه قبل أن يدخلها [ عليهم ] عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيرانا ولا عسكر. قال: يقول بديل: هذه والله نيران خزاعة حشتها الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكره. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم. فقال: ما لك فداك أبي وأمي؟ فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله( صلى الله عليه وسلم) في الناس واصباح قريش والله قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه وحركت به فكلم، مررت بنار من نيران المسلمين قالو: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله( صلى الله عليه وسلم) قالو: عم رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة قال: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن الله منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة الرجل البطيء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله( صلى الله عليه وسلم) ودخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إني أجرته ثم جلست إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [ فأخذت برأسه ] فقلت: لا والله لا يناجيه الليلة رجل دوني. قال: فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر أما والله أن لو كان من رجال بني عدي ين كعب ما قلت هذا ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف فقال: مهلا يا عباس والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلى من إسلام أبي لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من إسلام الخطاب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبحت فأتني به ". فذهبت به إلى رحلي فبات عندي فلما أصبح غدوت به على رسول الله( صلى الله عليه وسلم) فلما رآه رسول الله( صلى الله عليه وسلم) قال: " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ ". قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحلمك وأوصلك [ والله ] لقد ظننت أن لو كان مع الله غير لقد أغنى عني شيئ. قال: " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ ". قال: بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك هذه والله كان في النفس منها شيء حتى الآن. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن يضرب عنقك قال: فشهد شهادة الحق وأسلم.
وجاء في الاستيعاب لابن عبد البر "أسلم فحسن إسلامه فيقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله( صلى الله عليه وسلم) حياء منه"
أهم ملامح شخصيته:
تميز أبو سفيان بكثير من الصفات والتي قلما توجد في إنسان، وهذا ما جعله يتسلم زعامة قريش.
1- الدهاء والحكمة (موقفه يوم بدر وفراره بالقافلة)
2- الشجاعة والإقدام (موقفه يوم حنين وعدم فراره من المعركة )
3-حب الفخر وحب الزعامة(موقفه يوم فتح مكة) ولم يعب النبى عليه ذلك
4- البخل إلا أنه يتكلف الجود إذا اقتضى الأمر يدفعه ثمناً للزعامة (وقد شكته هند بنت عتبة زوجته إلي الرسول وقد قالت للرسول(صلي الله عليه وسلم ) " إن أبا سفيان رجل شحيح".
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن الأثير في أسد الغابة "كانت راية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيد سعد بن عبادة يوم الفتح فمر بها على أبي سفيان وكان أبو سفيان قد أسلم فقال له سعد: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا فلما مر رسول الله في كتيبة من الأنصار ناداه أبو سفيان: يا رسول الله أمرت بقتل قومك زعم سعد انه قاتلنا وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن سعدا أن تكون منه صولة في قريش فقال رسول الله: " يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله قريشا " فاخذ رسول الله اللواء من سعد وأعطاه ابنه قيسا.
فقد كان أخا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة أرضعتهما حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
وشهد أبو سفيان حنينا وأبلى فيها بلاء حسنا وكان ممن ثبت ولم يفر يومئذ ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى انصرف الناس إليه.(7)
وأورد ابن حجر في الإصابة "عن عكرمة أن النبي( صلى الله عليه وسلم) أهدى إلى أبي سفيان بن حرب تمر عجوة وكتب إليه يستهديه أدما مع عمرو بن أمية فنزل عمرو على احدى امرأتي أبي سفيان فقامت دونه وقبل أبو سفيان الهدية وأهدى إليه أدما"
وقال ابن حجر في الإصابة "عن سعيد بن عبيد الثقفي قال رميت أبا سفيان يوم الطائف فأصبت عينه فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم) فقال هذه عيني أصيبت في سبيل الله قال إن شئت دعوت فردت عليك وإن شئت فالجنة قال الجنة"
من مواقفه مع الصحابة رضي الله عنهم:
مع ابنته أم حبيبه قبل إسلامه
"لما جاء أبو سفيان إلى المدينة قبل الفتح لما أوقعت قريش بخزاعة ونقضوا عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخاف فجاء إلى المدينة ليجدد العهد فدخل على ابنته أم حبيبة فلم تتركه يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أنت مشرك".
من الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
روى عنه سماك بن حرب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " ما قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها حقه من قويها غير متعتع.
من كلماته:
أنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه واعتذر إليه مما كان مضى منه فقال:
لعمرك إني يوم أحمل راية... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله... فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني... مع الله من طردت كل مطرد
أصد وأنأى جاهدا عن محمد... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم... وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتاله... وقل لثقيف تلك: غيري أوعدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامر... وما كان عن جرا لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة... نزائع جاءت من سهام وسردد
ومن أقواله في يوم اليرموك:
وقام أبو سفيان بن حرب ( رضي الله عنه) في الناس فتكلم كلاما حسنا من ذلك قوله: ( والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ولا تبلغن رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة.
ولما حضرته الوفاة: قال لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت.
وفاته رضي الله عنه:
اختُلف في وفاة أبى سفيان:
قال ابن حجر " مات لست خلون من خلافة عثمان وقال الهيثم لتسع خلون وقال الزبير في آخر خلافة عثمان وقال المدائني مات سنة أربع وثلاثين وقيل مات أبو سفيان سنة إحدى وقيل اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان وقيل مات سنة أربع وثلاثين قيل عاش ثلاثا وتسعين سنة وقال الواقدي وهو ابن ثمان وثمانين وقيل غير ذلك.
وعن الهيثم بن عدي قال: هلك العباس بن عبد المطلب وابن مسعود وأبو سفيان بن حرب لتسع سنين مضت من إمارة عثمان وبعض الناس يقول: هلك سنة أربع وثلاثين وصلى عليه عثمان رضي الله عنهم.
طالب عفو ربي
28-06-2009, 08:35 PM
أبو سلمة بن عبد الأسد
هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي
وتزوج (رضي الله عنه ) من أم سلمة، وهي هند بنت أبي أمية، ثم صارت بعده للنبي ( صلي الله عليه وسلم ) وأمه هي برة بنت عبد المطلب
ابنة عمة النبي ( صلي الله عليه وسلم )، وقد اشتهر بكنيته أكثر من اسمه.(1)
وقال ابن حجر في الإصابة: وكان اسمه عبد مناف فغيره النبي صلى الله عليه وسلم فسماه عبد الله.
قصة إسلامه:
أورد ابن حجر في الإصابة:
قال ابن إسحاق أسلم بعد عشرة أنفس، وكان من السابقين الأولين، وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم. (2)
أهم ملامح شخصيته:
روي ابن أبي عاصم في الأوائل من حديث ابن عباس، أن أول من يأخذ كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، واول من يأخذ كتابه بشماله أخوه سفيان بن عبد الأسد.
وكان أول من هاجر إلى المدينة وزاد ابن منده وإلى الحبشة وذكره موسى بن عقبة وغيره من أصحاب المغازي، فيمن هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة وفيمن شهد بدرا...
وعن هجرة أبي سلمة إلي المدينة يقول ابن حجر:
عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة قال لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل بعيرا له وحملني وحمل معي ابني سلمة ثم خرج يقود بعيره فلما رآه رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد وأهووا إلى سلمة وقالوا والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد ورهط أبي سلمة وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة ففرق بيني وبين زوجي وابني فكنت أخرج كل غداة وأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سبعا أو قريبها حتى مر بن رجل من بني عمي فرأى ما في وجهي فقال لبني المغيرة ألا تخرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها فقالوا الحقي بزوجك إن شئت ورد على بنو عبد الأسد عند ذلك ابني فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله فكنت أبلغ من لقيت حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار فقال أين يا بنت أبي أمية قلت أريد زوجي بالمدينة فقال هل معك أحد فقلت لا والله إلا الله وابني هذا فقال والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم منه إذا نزل المنزل أناخ بن ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري قدمه ورحله.
ومما روى عن المصطفى( صلى الله عليه وسلم):
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني منها خيرا فلما احتضر أبو سلمة قال اللهم اخلف في أهلي خيرا مني فلما قبض قالت أم سلمة إنا لله وإنا إليه راجعون عند الله احتسبت مصيبتي فأجرني فيها"
وفاته رضي الله عنه:
قال البغوي: قال أبو بكر بن زنجويه: توفي أبو سلمة في سنة أربع من الهجرة بعد منصرفه من أحد، انتقض به جرح كان أصابه بأحد، فمات منه فشهده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذا قال ابن سعد، إنه شهد بدرا، وأحدا فجرح بها، ثم بعثه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على سرية إلى بني أسد في صفر سنة أربع، ثم رجع، فانتقض جرحه، فمات في جمادى الآخرة، وبهذا قال الجمهور: كابن أبي خيثمة ويعقوب بن سفيان وابن البرقي والطبري، وآخرون، وأرخه بن عبد البر في جمادى الآخرة، سنة ثلاث، والراجح الأول.
المساوى
29-06-2009, 05:32 PM
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
طالب عفو ربي
30-06-2009, 09:50 PM
أبو طلحة الأنصاري
هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو طلحة مشهور بكنيته.
ووهم من سماه سهل بن زيد وهو قول ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة في تسمية من شهد العقبة، وقد قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى أخبرنا أبو طلحة من ولد أبي طلحة قال اسم أبي طلحة زيد..
وأمه هي عبادة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي ابن عمرو بن مالك بن النجار وهو مشهور بكنيته. شهد بدرا.
قصة إسلامه:
بدأت قصة إسلام أبي طلحة يوم أراد أن يخطب أم سُليم، حيث ذهب إليها فلما بلغ منزله، واستأذن إليه، فعرض نفسه عليها.
ـ فقالت: إن مثلك يا أبا طلحة لا يُرد، ولكني لن أتزوجك فأنت رجل كافر.
ـ فقال: والله ما هذا الذي يمنعكِ مني يا أم سليم.
ـ قالت: فماذا إذ؟!
ـ قال: الذهب والفضة. يعني أنها آثرت غيره عليه أكثر غنىً منه.
ـ قالت: بل إني أشهِدك يا أبا طلحة، وأشهد الله ورسوله ؛ أنك إن أسلمت رضيت بك زوج، وجعلت إسلامك لي مهر.
فلما سمع أبو طلحة كلام أم سليم، انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من الخشب، يتوجه إليه بالعبادة.
ـ هنا قالت أم سليم: ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!
ـ فقال: بلى.
ـ قالت: ألا تشعر بالخجل وأنت تعبد جذع شجرة، جعلت بعضه لك إلهاً، بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً يخبز عليه عجينه؟!
ـ قال: ومَن لي الإسلام؟.
ـ قالت: أنا أعلمك كيف تدخل فيه: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم تذهب إلى بيتك فتحطم صنمك وترمي به.
ففعل أبو طلحة كل ذلك. ثم تزوَّج من أم سليم. فكان المسلمون يقولون:
" ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم، فقد جعلت مهرها الإسلام".
أحب أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فكان يديم النظر إليه ولا يرتوي من الاستماع إلى عذب حديثه.
أهم ملامح شخصيته:
هو صحابي من الشجعان والرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام. كان أحد النقباء الاثني عشر في بيعة العقبة. شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وكان من أكبر أنصار الإسلام.
ومن شجاعته ما يرويه أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم
وكما كان أبو طلحة جواداً بنفسه في ساعات البأس ، كان أيضاً جواداً بماله في مواقف البذل: *ومن ذلك أنه كان له بستان من نخيل وأعناب لم تعرف المدينة بستاناً أعظم منه شجر، ولا أطيب ثمر، ولا أعذب منه ماءً.
وبينما كان أبو طلحة يصلي في بستانه، أثار انتباهه طائر أخضر اللون، أحمر المنقار، فأعجبه منظره، وشرد عن صلاته بسببه، فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربع. فلما فرغ من صلاته ذهب إلى رسول الله، وشكا له نفسه التي شغلها البستان والطائر عن الصلاة، ثم قال: أشهد يا رسول الله أني جعلت هذا البستان صدقة لله تعالى، فضعه حيث يحب الله ورسوله.
*وفي الصحيحين عن أنس لما نزلت (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال أبو طلحة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة أرجو برها وذخرها. فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بخ بخ ذاك مال رابح الحديث.
* عاش أبو طلحة حياته صائماً مجاهد، فقد أثر عنه أنه بقي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نحواً من ثلاثين عاماً صائماً، لم يفطر إلا حيث يَحرم الصوم.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال البخاري:عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلك أبو طلحة؟" فقلت: نعم. قال: "بطعام؟" فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا" فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلم يا أم سليم، ما عندك؟" فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة". فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة". فأذن لهم. فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة". فأكل القوم كلهم والقوم سبعون أو ثمانون رجلا. وقد رواه البخاري في مواضع أخر من "صحيحه" ومسلم من غير وجه عن مالك.
ـ وروى عنه ربيبه أنس وابن عباس وأبو الحباب سعيد بن يسار وغيرهم وروى مسلم وغيره من طريق ابن سيرين عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما حلق شعره بمنى فرق شقه الأيمن على أصحابه الشعرة والشعرتين وأعطى أبا طلحة الشق الأيسر كله.
ـ ولما كان يوم أُحد ؛ وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فنفذ إليه المشركون من كل جانب، فكسروا رَباعيته، وشجوا جبينه، وجرحوا شفته، وأسالوا الدم على وجهه.
انتصب أبو طلحة أمام رسول الله كالجبل الراسخ، ووقف عليه الصلاة والسلام خلفه يتترس به، وأخذ أبو طلحة يرمي سهامه على جنود المشركين واحداً بعد واحد، وما زال أبو طلحة ينافح عن رسول الله حتى كسر ثلاث أقواس، وقتل كثيراً من جند المشركين...
ـ وعن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة يجثو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب ويقول:
نفسي لنفسك الفداء... ووجهي لوجهك الوفاء
ثم ينشر كنانته بين يديه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة رجل "
وروى حميد عن أنس. قال: كان أبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه من خلف أبي طلحة ليرى مواقع النبل. قال: وكان أبو طلحة يتطاول بصدره يقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: نحري دون نحرك.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
عن أنس بن مالك قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي فخرج في بعض حاجاته وقبض الصبي فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل الصبي فقالت أم سليم: هو أسكن مما كان. وقربت إليه العشاء فأكل ثم اصاب منها فلما فرغ قالت: واروا الصبي. قال: فلما اصبح أبو طلحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: " أعرستم الليلة قال: نعم. قال: بارك الله لكم ".
وفي غير هذا الحديث: فلما فرغ أبو طلحة قالت أم سليم: أرأيت أبا طلحة آل فلان فإنهم استعاروا عارية من آل فلان فلما طلبوا العارية أبوا أن يردوه. قال أبو طلحة: " ما ذلك لهم. قالت أم سليم: فإن ابنك كان عارية من الله تعالى متعك به إذ شاء وأخذه إذ شاء. ـ بعض الأحاديث التي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى في وجهه فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك فقال إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا..
ـ وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئ قومك السلام فإنهم ما علمت أعفة صبر.
ـ وروى أنس عن أبي طلحة قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قوله عز وجل ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ـ وأخبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده قال فوجدت عنده سهل بن حنيف قال فدعا أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته فقال له سهل لم تنزعه فقال لأن فيه تصاوير وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قد علمت قال سهل أولم يقل إلا ما كان رقما في ثوب فقال بلى ولكنه أطيب لنفسي..
ـ وعن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه قال قال أبو طلحة كنا قعودا بالأفنية نتحدث فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال ما لكم ولمجالس الصعدات اجتنبوا مجالس الصعدات فقلنا إنما قعدنا لغير ما باس قعدنا نتذاكر ونتحدث قال إما لا فأدوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن الكلام..
ـ وأخبر الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول سمعت أبا طلحة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل..
بعض كلماته:
لما عزم المسلمون على أن يغزوا في البحر في خلافة عثمان رضي الله عنه، أخذ أبو طلحة يجهز نفسه للخروج مع المسلمين، فقال له أبناؤه:
" يرحمك الله يا أبان، لقد صرت شيخاً كبير، وقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فهلا رَكَنتَ إلى الراحة، وتركتنا نغزوا عنك. "
ـ فقال: إن الله عزَّ وجل يقول: انفروا خفافاً وثقالاً
فهو قد استنفرنا جميعاً شيوخاً وشباب..ثم أبى إلا الخروج..
موقف الوفاة:
اختُلف في وفاته فقال الواقدي: وتبعه ابن نمير ويحيى بن بكير وغير واحد مات سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان وقيل: قبلها بسنتين، وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أربعين سنة، وكأنه أخذه من رواية شعبة عن ثابت عن أنس قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أجل الغزو فصام بعده أربعين سنة لا يفطر إلا يوم أضحى أو فطر.
قلت: فعلى هذا يكون موته سنة خمسين أو سنة إحدى وخمسين وبه جزم المدائني، ويؤيده ما أخرجه في الموطأ وصححه الترمذي من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة... فذكر الحديث في التصاوير وعبيد الله لم يدرك عثمان ولا عليا فدل على تأخر وفاة أبي طلحة.
وقال ثابت عن أنس أيضا مات أبو طلحة غازيا في البحر فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير أخرجه الفسوي في تاريخه وأبو يعلي وإسناده صحيح.
طالب عفو ربي
30-06-2009, 09:57 PM
أبو عبيدة ابن الجراح
مقدمة هو عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري، أبو عبيدة، مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، ومنهم من لم يذكر بين عامر والجراح (عبد الله)، وبذلك جزم مصعب الزبيري في نسب قريش، والأكثر على إثباته، وأمه: أميمة بنت غنم.
ولد سنة 40 قبل الهجرة، 584 ميلادية...
وكان رجلاً نحيفاً معروق الوجه خفيف اللحية طوالاً، أجنأ - في كاهله انْحِناء على صدره - أثرم - أي أنه قد كسرت بعض ثنيته...
قصة إسلامه:
هو أحد العشرة السابقين إلى الإسلام.
فعن يزيد بن رومان قال: انطلق ابن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم...قال الزبير بن بكار وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة، ولم يطل بها اللبث.
كان أبوعبيدة من السابقين الأولين إلى الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر،وكان إسلامه على يدي الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم...
عمره عند الإسلام:
أسلم رضي الله عنه وأرضاه في بداية الدعوة أي قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وعلى وجه التحديد يكون في السابعة والعشرين من عمره تقريباً، حيث إن مولده كان سنة أربعين قبل الهجرة، الموافق 584 ميلادية.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته: في مسند أحمد وعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"
كيف تكون حياة إنسانٍ بُشّر هذه البُشرى، وكيف يكون تعامله مع الناس أجمعين، كيف تكون عبادته وأخلاقه، وأي تربية هذه التي ينتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضي الله عنهم جميعًا...
وهذه بعض المواقف التي تدل على مدى تأثره بتربية النبي صلى الله عليه وسلم له:
في السنة الثامنة للهجرة وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادة "عمرو بن العاص" إلى أرض (بلى) و (عذرة) في غزوة ذات السلاسل، ووجد عمرو بن العاص أن قوة أعدائه كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس من المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مدداً لعمرو بن العاص.
فلما قدموا عليه قال: أنا أميركم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال: إنما أنتم مددي، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان حسن الخلق متبعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فقال:
"تعلم يا عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك، فصلى عمرو بالناس.
جاء وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين.
فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجر، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم ثم نظر يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يتلمس ببصره حتى رأى أبا عبييدة بن الجراح فدعاه فقال: "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.الصحابة...
في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح"
وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أميناً، عاش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أميناً، يحمل مسئولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعاً.
وروى الترمذي بسنده وقال حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح"
وعن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى رسول الله قالت أبو بكر قلت ثم من قالت عمر قلت ثم من قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت ثم من قال فسكتت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح...
ومن أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته هذا الموقف البارع، فعن عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجرَّاح قصده أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون"...
قال ابن كثير: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر.
وما كان لأبي عبيدة أن يعزم هذه العزمة إلا بروح من الله تنفض عن قلبه الطاهر السليم كل عرض من أعراض الدنيا الفانية، وتجرده من كل رابطة وآصرة إلا رابطة العقيدة..
هذه صورة أمين هذه الأمة، صورة وضيئة للذي فعل ما لم يفعله أي بشر، هذا مقام الأمين، هذا مقام عال رفيع.. انقطع عن كل شيء ووصل نفسه بالله فتقبله في كنفه،وكتب الإيمان في قلبه،وأفسح له في جنابه وأشعر برضاه فرضى.. رضيت نفسه بهذا القرب وأنست به واطمأنت إليه...
أهم ملامح شخصيته: الأمانة والقيادة:
كان رضي الله عنه قويًا أمينًا، ومن أجل هذا الملمح الأساسي في شخصية أبي عبيدة رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يوليه الإمارة، ويبعثه مع الوفود يعلمهم ويقودهم، في صحيح مسلم عن جابر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش...
وروى البخاري بسنده عن حذيفة قال جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة"
وفي البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم.
ولأنه الأمين كان رضي الله عنه لا ينسى أبدا معنى الوفاء فعن عبد الله بن وهب قال: كان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الوفاء عزيز...المستدرك للحاكم
الثبات في الميدان والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة قالت سمعت أبا بكر يقول لما كان يوم أُحد ورُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بدرني فقال أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنية إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية الأخرى فسقطت فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
الزهد:
عن هشام بن عروة قال: قدم عمر الشام فتلقاه أمراء الأجناد، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا: يأتي الآن، فجاء على ناقة محظومة بحبل فسلم عليه وساءله حتى أتى إلى منزله، فلم يَرَ فيه شيئاً إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعاً؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يبلغنا المقيل.
وأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف درهم وأربعمئة دينار وقال لرسوله: انظر ما يصنع؟ فقسمها أبو عبيدة، فلما أخبر عمر رسوله بما صنع أبو عبيدة بالمال قال:
"الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا".
مشاورة الجند:
كان رضي الله عنه من القادة الذين يستشيرون رجالهم في كل خطوة يخطونها، وعندما تحتشد الروم لاستعادة أرض الشام استشار أصحابه فأشار عليه الأكثرية بقبول الحصار في حمص، أما خالد فأشار عليه بالهجوم على جموع الروم،ولكن أبا عبيدة أخذ برأي الأكثرية...
يمتثل لما يعرف أنه يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أسلم قال: لما كان يوم عام الرمادات واجديت الأرض كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه فذكر الحديث وقال فيه: ثم دعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فخرج في ذلك، فلما رجع بعث إليه بألف دينار فقال أبو عبيدة: "إني لم أعمل لك يا بن الخطاب، إنما عملت لله!! ولست آخذ في ذلك شيئاً، فقال عمر: قد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياء بعثنا لها فكرهنا ذلك، فأبى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبلها أيها الرجل، فاستعن بها على دينك ودنياك، فقبلها أبو عبيدة...
وقَّاف عند حدود الله:
عن أنس بن مالك قال: كان أبو عبيدة بن الجراح و سهيل بن بيضاء و أبي بن كعب عند أبي طلحة و أنا أسقيهم من شراب حتى كاد يأخذ فيهم فمر بنا مار من المسلمين فنادى: ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت قال: فوالله ما انتظروا أن أمروني: أن اكفأ ما في آنيتك ففعلت فما عادوا في شيء منها حتى لقوا الله وإنها البسر والتمر وإنها لخمرنا يومئذ.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم: وكان رضي الله عنه ممن ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقد أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزع الحلقتين من المغفر اللتين دخلتا في وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي جمعة حبيب بن سباع قال تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح قال: فقال: يا رسول الله هل أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: "نعم قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني".
سرية ذي القصة:
سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم: كانت في شهر الربيع الآخر سنة ست من مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أحدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار ووقعت سحابة بالمراض إلى تغلمين، والمراض على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة وأجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا ـ موضع على سبعة اميال من المدينة..
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً من المسلمين حين صلوا المغرب فمشوا إليهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصاب رجلاً واحداً فأسلم وتركه، فأخذ نعماً من نعمهم فاستاقه ورثة من متاعهم وقدم بذلك المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقى عليهم...
بعض المواقف من حياته مع الصحابة: مع أبي بكر رضي الله عنه:
في كنز العمال: بعث أبو بكر إلى أبي عبيدة هلم حتى أستخلفك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة أمينا وأنت أمين هذه الأمة فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم رجلا أمره رسول الله أن يؤمنا...
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة...
مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
كان عمر رضي الله عنه يقول: "لم أكن مغيرا أمرًا قضاه أبو عبيدة"
وفي البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم قال ابن عباس فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني ثم قال ادعوا لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه قال أبو عبيدة بن الجراح أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأول كتاب كتبه عمر حين ولى كان إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد حيث قال له: "أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وابلاني بك، فغمض بصرك عن الدنيا وألهِ قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم...
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: بلغ عمر أن أبا عبيدة حُصر بالشام حصر بالشام وتألب عليه العدو، فكتب إليه عمر:
أما بعد فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة إلا جعل الله بعدها فرج، وإنه لا يغلب عسر يسرين، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
قال فكتب إليه أبو عبيدة:
أما بعد، فإ، الله يقول: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " قال: فخرج عمر بكتابه فقرأه على المنبر فقال: يا أهل المدينة، إنما يعرض بكم أبو عبيدة أو بي...ارغبوا في الجهاد...
عن طارق بن شهاب قال لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع خفيه فأمسكها بيده وخاض الماء ومعه بعيره فقال له أبو عبيدة قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض صنعت كذا وكذا فصك عمر في صدره وقال أوه لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبون العز بغيره يذلكم الله عز وجل.
وقال عمر إذ دخل عليه الشام وهو أميرها: كلنا غيرته الدنيا غيرك يا أبا عبيدة.
مع خالد بن الوليد:
لما عزل عمر خالدًا وولّى أبا عبيدة قام خالد وقال للناس: "بعث عليكم أمين هذه الأمة" وقال أبو عبيدة للناس عن خالد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة..."
مع عمرو بن العاص رضي الله عنه:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر الأعراب إلى الشام وذلك أن أم العاص بن وائل امرأة من بلي فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم بذلك حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل وبذلك سمت تلك الغزاة ذات السلاسل فلما كان عليه خاف فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم: أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيدة: " لا تختلفا ". فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لي. فقال أبو عبيدة: لا ولكني أنا على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه - وكان أبو عبيدة رجلا سهلا لينا هينا عليه أمر الدنيا - فقال له عمرو: بل أنت مدد لي. فقال أبو عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي " لا تختلفا " وإنك إن عصيتني أطعتك. فقال له عمرو: فإني أمير عليك. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس.
أمير الأمراء في اليرموك:
روى الإمام أحمد بسنده عن عياض الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض وليس عياض هذا بالذي حدث سماكا قال وقال عمر رضي الله عنه إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت واستمددناه فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا وأحضر جندا الله عز وجل فاستنصروه فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني قال فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ قال وأصبنا أموالا فتشاوروا فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل رأس عشرة قال وقال أبو عبيدة من يراهني فقال شاب أنا إن لم تغضب قال فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة - العقيصة هي الشعر المضفور - تنقزان وهو خلفه على فرس عربي.
بعض المواقف من حياته مع التابعين:
روى الإمام أحمد بسنده عن عياض بن غطيف - وهو من كبار التابعين - قال دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح نعوده من شكوى أصابه وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه قلت كيف بات أبو عبيدة قالت والله لقد بات بأجر فقال أبو عبيدة ما بت بأجر وكان مقبلا بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه فقال ألا تسألونني عما قلت قالوا ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا أو ماز أذى فالحسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو له حطة.
وعن سليمان بن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: خذ من خيلنا صدقة فأبى، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى، فكلموه أيضاً فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر بن الخطاب إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم، وارزق رقيقهم، قال مالك: أي ارددها على فقرائهم..
أثره في الآخرين: روى عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أبو ثعلبة جرثوم الخشني، وسمرة بن جندب، وصدي بن عجلان، ومن التابعين عبد الرحمن بن غنم وعبد الله بن سراقة، وعبد الملك بن عمير، وعياض بن غطيف...
وقد كان أبو عبيدة رضي الله عنه معدوداً فيمن جمع القرآن العظيم
عن أنس رضي الله عنه: أن أهل اليمن قد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن، فأخذ بيد أبي عبيدة، فأرسله معهم، وقال: هذا أمين هذه الأمة... المستدرك... للحاكم
في تعليمه الفقه وغيره:
عن أزهر بن سعيد أنه سمع أبا عامر الهوزني يقول: سمعت أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه سئل عن قضاء رمضان فقال:
"إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه؛ فأحص العدة واصنع ما شئت" سنن البيهقي
عند الإمام أحمد بسنده عن أبي أمامة قال أجار رجل من المسلمين رجلا، وعلى الجيش أبو عبيدة بن الجراح، فقال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص: لا نجيره وقال أبو عبيدة: نجيره، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجير على المسلمين أحدهم"
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
في سنن الدارمي بسنده عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك أعفر ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير".
وفي سنن الدارمي أيضًا عن سمرة عن أبي عبيدة بن الجراح قال: كان في آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".
عن عياض بن غطيف قال أتينا أبا عبيدة بن الجراح نعوده فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسنة بعشر أمثالها".
بعض كلماته: من كلماته يوم السقيفة:
"يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير"..
ومن أهم كلماته في إثارة حماسة جنده للحرب وتحريضهم على الجهاد مقولته تلك:
(عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، عباد الله اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، لا تتركوا مصافكم، ولا تحظوا إليهم خطوة ولا تبدأوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالأرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله عز وجل في أنفسكم حتى يتم أمركم إن شاء الله...
وروي أن أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول ألا رب مبيض لثيابه وهو مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين غدا، ادفعوا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات.
من كراماته:
روى مسلم بسنده عن جابر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة قال فقلت كيف كنتم تصنعون بها قال نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبط - ورق الشجر - ثم نبله بالماء فنأكله قال وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر قال قال أبو عبيدة ميتة ثم قال لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا قال فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاث مائة حتى سَمِنَّا قال ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه - أي تجويفها - بالقلال - القلة: الجرة الكبيرة - الدهن ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رَحَلَ أعظم بعير معنا - أي جعل عليها رحلا - فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق - اللحم يؤخذ فيغلي ولا ينضج ويحمل في السفر - فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا" قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله.
قال النووي في شرح مسلم:
مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - قَالَ أَوَّلًا بِاجْتِهَادِهِ:إِنَّ هَذَا مَيْتَة وَالْمَيْتَة حَرَام ، فَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَكْلهَا ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده فَقَالَ: بَلْ هُوَ حَلَال لَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَيْتَة ; لِأَنَّكُمْ فِي سَبِيل اللَّه ، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى الْمَيْتَة لِمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَكُلُوا فَأَكَلُوا مِنْهُ. وَأَمَّا طَلَب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمه وَأَكْله ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَة فِي تَطْيِيب نُفُوسهمْ فِي حِلّه ، وَأَنَّهُ لَا شَكّ فِي إِبَاحَته ، وَأَنَّهُ يَرْتَضِيه لِنَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ قَصَدَ التَّبَرُّك بِهِ لِكَوْنِهِ طُعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى ، خَارِقَة لِلْعَادَةِ أَكْرَمهمْ اللَّه بِهَا.
ما قيل عنه:
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: (تمنوا) فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجداًَ وجوهراً فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: (تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين
فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان......المستدرك للحاكم
ولما طعن أبو عبيدة - أي أصابه الطاعون - خطب معاذ فقال في خطبته:
"إنكم فُجعتم برجل ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط أقل حقداً ولا أبَرَّ صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حياءً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه"...
موقف الوفاة: عن طارق بن شهاب قال: أتانا كتاب عمر لما وقع الوباء بالشام فكتب عمر إلى أبي عبيدة أنه قد عرضت لي إليك حاجة لا غنى لي بك عنها فقال أبو عبيدة يرحم الله أمير المؤمنين يريد بقاء قوم ليسوا بباقين قال: ثم كتب إليه أبو عبيدة: إني في جيش من جيوش المسلمين لست أرغب بنفسي عن الذي أصابهم فلما قرأ الكتاب استرجع فقال الناس: مات أبو عبيدة؟ قال: لا. وكان كتب إليه بالعزيمة فأظهر من أرض الأردن فإنها عميقة وبية إلى أرض الجابية فإنها نزهة ندية فلما أتاه الكتاب بالعزيمة أمر مناديه أذن في الناس بالرحيل فلما قدم إليه ليركبه وضع رجله في الغرز ثنى رجله فقال: ما أرى داءكم إلا قد أصابني قال: و مات أبو عبيدة و رجع الوباء عن الناس... المستدرك للحاكم
ولما حضرت أبا عبيدة بن الجراح الوفاة استخلف عياضا على ما كان يليه و كان عياض رجلا صالحا فلما نعي إلى عمر أبو عبيدة أكثر الاسترجاع و الترحم عليه و قال: لا يشد مشدك أحد و سأل من استخلف على عمله فقالو: عياض بن غنم فأقره و كتب إليه أني قد وليتك ما كان أبو عبيدة بن الجراح عليه فاعمل بالذي يحق لله عليك فمات عياض يوم مات و ما له مال ولا لأحد عليه دين...
وقد توفى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في طاعون عمواس - وهي قرية بين الرملة وبيت المقدس - سنة ثماني عشرة، عن ثمان وخمسين سنة، وقيل مات بـ"فحل" من الأردن، وصلى عليه معاذ بن جبل رضي الله عنهما...
طالب عفو ربي
01-07-2009, 10:36 PM
أبو عزيز بن عمير
هو زرارة بن عمير أخو مصعب بن عمير وهو أبو عزيز وهو بكنيته أشهر، له صحبة وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم. روى عنه نبيه بن وهب وكان ممن شهد بدرا كافرا وأسر يومئذ.
مواقفه مع الصحابة:
لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر فرقهم على المسلمين وقال: "أستوصوا بالأسارى خيرا " قال نبيه: فسمعت من يذكر عن أبي عزيز قال: كنت في الأسارى يوم بدر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " استوصوا بالأسارى خيرا " فإن كان ليقدم إليهم الطعام فما يقع بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها إلي ويأكلون التمر يؤثروني فكنت أستحي فآخذ الكسرة فأرمي بها إليه فيرمي بها إلي.
مواقفه مع مصعب:
قال أبو سليمان في حديث مصعب أنه لما أسلم قالت له أمه والله لا ألبس خمارا ولا أستظل أبدا ولا آكل ولا أشرب حتى تدع ما أنت عليه وكانت امرأة ميلة فقال أخوه أبو عزيز بن عمير يا أمه دعيني وإياه فإنه غلام عاف ولو أصابه بعض الجوع لترك ما هو عليه فحبسه
ويقول أبو عزيز مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال شد يديك به فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.
لما قال أخوه مصعب لابي اليسر وهو الذي أسره ما قال قال له أبو عزيز يا أخي هذه وصاتك بي فقال له مصعب إنه أخي دونك فسالت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي فقيل لها أربعة آلاف درهم فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.
وقال ابن الكلبي والزبير: قتل أبو عزيز يوم أحد كافرا. قال أبو عمر: وذلك غلط ولعل المقتول بأحد كافرا أخ لهم قتل كافرا
وقال الزبير بن بكار وابن الكلبي وأبو عبيد والبلاذري والدارقطني إن أبا عزيز قتل يوم أحد كافرا ورد ذلك أبو عمر بأن بن إسحاق عد من قتل من الكفار من بني عبد الدار أحد عشر رجلا ليس فيهم أبو عزيز وإنما فيهم أبو يزيد بن عمير
طالب عفو ربي
01-07-2009, 10:40 PM
أبو مالك الأشعري
هو كعب بن عاصم أبو مالك الأشعري قدم في السفينة مع الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وغزا معه وروى عنه
ويقول أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لأبي مالك الأشعري على خيل الطلب وأمره أن يطلب هوازن حين انهزمت.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه وكان صلى الله عليه وسلم يجيب على كل سؤال بما يناسب صاحبه وسأل أبو مالك الأشعري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما تمام البر؟ قال: أن تعمل في السر عمل العلانية.
مواقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم:
يقول أبو مالك الأشعري أنه قدم هو وأصحابه في سفينة ومعه فرس أبلق فلما أرسلوا وجدوا إبلا كثيرة من إبل المشركين فأخذوها فأمرهم أبو مالك أن ينحروا منها بعيرا فيستعينوا بها ثم مضى على قدميه حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بسفره وأصحابه والإبل الذي أصابوا ثم رجع إلى أصحابه فقال الذين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: إعطنا يا رسول الله من هذه الإبل فقال: اذهبوا إلى أبي مالك فلما أتوه قسمها أخماسا خمسا بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ثلث الباقي بعدالخمس فقسمه بين أصحابه والثلثين الباقيين بين المسلمين فقسم بينهم فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صنع أبو مالك بهذا المغنم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت أنا ما صنعت إلا كما صنع
بعض ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ روى أبو مالك الأشعري أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى له الأربعة مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ـ روى أبو مالك الأشعري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ". قال الشيخ الألباني: صحيح
ـ ويروي أبو سلام أن: أبا مالك الأشعري قال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن في أمتي أربع من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن: الفخر في الأحساب ـ و الطعن في الأنساب ـ و الاستسقاء بالنجوم ـ والنياحة على الميت ـ فإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تقوم فإنها تقوم يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يغلي عليهن دروع من لهب النار
ـ وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله عز وجل لمن أطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام
الله وجوههم نورا و يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس، ولا يفزعون، ويخاف الناس و لا يخافون "
ـ وعن عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إسباغ الوضوء شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض والصلاة نور والزكاة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك
ـ ويقول عبد الرحمن بن غنم الأشعري أن أبا مالك الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عزوجل قال من انتدب خارجا في سبيلي غازيا ابتغاء وجهي وتصديق وعدي وإيمانا برسلي فهو ضامن على الله عزوجل إما يتوفاه في الجيش بأي حتف شاء فيدخله الجنة وإما يسيح في ضمان الله عزوجل وإن طالت غيبته حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر وغنيمة وقال: من فصل في سبيل الله فمات أو قتل أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد.
ـ وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها
وفاته:
لقد كان أبو مالك الأ شعري رضي الله عنه ناصحاً لله ورسوله حتى في لحظة مماته فعن شريح بن عبيد: أن أبا مالك الأشعري لما حضرته الوفاة قال: يا معشر الأشعريين ليبلغ الشاهد منكم الغائب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: حلوة الدنيا مرة الآخرة و مرة الدنيا حلوة الآخرة
وتوفي أبو مالك الأشعري في خلافة عمر بن الخطاب
وقال شهر بن حوشب عن ابن غنم: طعن معاذ وأبو عبيدة وأبو مالك في يوم واحد
وكانت وفاته سنة ثمان عشرة للهجرة
طالب عفو ربي
03-07-2009, 09:29 PM
أبو مريم الحنفي
أبو مريم الحنفي واسمه إياس بن ضبيح بن المحرش بن عبد عمرو، وكان من أهل اليمامة وكان من أصحاب مسيلمة ثم تاب وأسلم وحسن إسلامه وولي قضاء البصرة بعد عمران بن الحصين في زمن عمر بن الخطاب.
من مواقفه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن محمد بن سيرين قال: كانوا يرون أن أبا مريم الحنفي قتل زيد بن الخطاب يوم اليمامة قال: وقال أبو مريم لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زيدا بيدي ولم يهني بيده...
وفاته
توفي أبو مريم بسنبيل ناحية الأهواز وكان قليل الحديث
طالب عفو ربي
03-07-2009, 09:30 PM
أبو مسعود البدري
هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبو مسعود البدري وهو مشهور بكنيته
لم يشهد بدرا وإنما سكن بدرا. وشهد العقبة الثانية وكان أحدث من شهدها سنا قاله ابن إسحاق.وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وقال البخاري وغيره: إنه شهد بدرا ولا يصح.
ويحدث عمر بن عبد العزيز في أمارته: أن المغيرة بن شعبة أخر العصر وهو أمير الكوفة فدخل أبو مسعود عقبة ابن عمرو الأنصاري جد زيد بن حسن شهد بدرا فقال لقد علمت نزل جبريل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات ثم قال هكذا أمرت.
وبذلك عده البخاري في البدريين وقال مسلم بن الحجاج في الكنى شهد بدرا وقال أبو أحمد الحاكم يقال أنه شهد بدرا.
وسكن الكوفة وكان من أصحاب علي واستخلفه علي على الكوفة لما سار إلى صفين.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
قال أبو مسعود البدري كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب قال فلما دنا مني إذ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود قال فألقيت السوط من يدي فقال اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام قال فقلت لا أضرب مملوكا بعده أبدا
مواقفه مع الصحابة:
يقول أبو وائل: دخل أبو موسى الأشعري و أبو مسعود البدري على عمار وهو يستنفر الناس فقالا له: ما رأينا منك أمرا منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر قال فكساهما عمار حلة حلة وخرج إلى الصلاة يوم الجمعة.
وعن همام بن الحرث قال صلى بنا حذيفة على دكان مرتفع فسجد عليه فجبذه أبو مسعود البدري فتابعه حذيفة فلما قضى الصلاة قال أبو مسعود: أليس قد نهى عن هذا فقال له حذيفة ألم ترني قد تابعتك.
دخل أبو مسعود الأنصاري على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فاعتنقه فقال الفراق فقال نعم حبيب جاء على فاقة ألا أفلح من ندم أليس بعد ما أعلم من اليقين.
وحدث أن المغيرة بن شعبة آخر الصلاة يوما فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بهذا أمرت.
مواقفه مع التابعين
مع أهل الكوفة:
يقول خيثمة بن عبد الرحمن: لما خرج علي استخلف أبا مسعود على الكوفة وتخبأ رجال لم يخرجوا مع علي فقال أبو مسعود على المنبر أيها الناس من كان تخبأ فليظهر فلعمري لئن كان إلى الكثرة إن أصحابنا لكثير وما نعده قبحاً أن يلتقي هذان الجبلان غداً من المسلمين فيقتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء. حتى إذا لم يبق إلا رجرجة من هؤلاء وهؤلاء ظهرت إحدى الطائفتين. ولكن نعد قبحاً أن يأتي الله بأمر من عنده يحقن به دماءهم ويصلح به ذات بينهم.
أثره في الآخرين:
يقول سعيد بن جبير رآني أبو مسعود البدري في يوم عيد ولي ذؤابة فقال يا غلام أو يا غليِّم إنه لا صلاة في مثل هذا اليوم قبل صلاة الإمام فصل بعدها ركعتين وأطل القراءة.
وعن عطاء بن السائب حدثني سالم البراد وكان أوثق عندي من نفسي قال: قال لنا أبو مسعود البدري: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ركع وضع كفيه على ركبتيه وفرق بين أصابعه وجافى عن إبطيه حتى استقر كل شيء منه ثم كبر ثم سجد وجافى عن إبطيه حتى استقر كل شيء منه ثم كبر فاستوى قاعدا حتى استقر كل شيء منه فصلى بنا أربع ركعات هكذا ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أو هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال بشير بن عمرو: قلنا لأبي مسعود: أوصنا. قال: عليكم ب ***ة فإن الله لن يجمع الأمة على ضلالة حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.
بعض ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
روى أبو مسعود البدري مرفوعا إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)
وحدث أبو مسعود البدري [ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا - أو قال – سلما
يقول أبو مسعود الأنصاري كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فقال إن هذا الأمر لا يزال فيكم وأنتم ولاته ما لم تحدثوا عملا فينزعه الله منكم فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرارا من خلقه فالتحوكم كما يلتحي القضيب.
وروى أبو مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل فقال يا رسول الله! إنه أبدع بي فاحملني فقال له ائت فلانا فاستحمله فأتاه فحمله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدال على الخير كفاعله)
وفاته:
قال خليفة مات قبل سنة أربعين وقال المدائني مات سنة أربعين قلت والصحيح أنه مات بعدها فقد ثبت أنه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة وذلك بعد سنة أربعين قطعا قيل مات بالكوفة وقيل مات بالمدينة.
طالب عفو ربي
03-07-2009, 09:32 PM
أبو مطرف سليمان بن صرد
هو سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون أبو المطرف الخزاعي يقال كان اسمه يسار فغيره النبي ( صلى الله عليه وسلم).(1)
وسماه (صلى الله عليه وسلم) سليمان وكانت له سن عالية وشرف في قومه.
أهم ملامح شخصيته:
اتصف سليمان بن صرد بكثير من الصفات الحميدة، والتي جعلت له مكانة بين الصحابة ( رضوان الله عليهم )
1-الشجاعة وظهرت في حضوره صفين مع علي بن أبي طالب ويوم خرج ليطالب بدم الحسين.
2-كثرة الشك والوقوف وهذا سبب ندمه على ما كان من خذلانه للحسين
فقد كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة فلما قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه كان كثير الشك والوقوف فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع من خذل الحسين ولم يقاتل معه.(2) وخرج سليمان بن صرد في نحو أربعة آلاف مقاتل في عام 65هـ وذلك بعد مقتل الحسين بأربعة سنوات، حتي يكفروا عن تخاذلهم عن الحسين بن علي في معركة كربلاء والتقوا مع جيش الامويين في معركة عين الوردة وكانوا في نحو أربعة آلاف مقاتل، واستطاع الجيش الأموي هزيمتهم، ومات سليمان بن صرد.
3- ومن صفاته الرائعة كذلك أنه كان نبيلا عابدا زاهدا (3)
من مواقفة مع الصحابة:
كان من أنصار علي بن أبي طالب فعن سليمان بن صرد قال:
أتيت عليا حين فرغ من الجمل فلما رآني قال يا ابن صرد تنأنأت وتزحزحت وتربصت كيف ترى الله صنع.
قلت يا أمير المؤمنين إن الشوط بطين وقد أبقى الله من الأمور ما تعرف فيها عدوك من صديقك فلما قام.
قلت للحسن بن علي ما أراك أغنيت عني شيئا وقد كنت حريصا أن أشهد معه
فقال هذا يقول لك ما تقول وقد قال لي يوم الجمل حين مشى الناس بعضهم إلى بعض
يا حسن ثكلتك أمك أو هبلتك أمك والله ما أرى بعد هذا من خير.(4)
من الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم
عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ). فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله من الشيطان. فقال وهل بي جنون؟
وفي سنن الترمذي قال سليمان بن صرد لخالد بن عرطفة ( أو خالد لسليمان ) أما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول من قتله بطنه لم يعذب في قبره؟ فقال أحدهما لصاحبه نعم.
وعن سليمان بن صرد: أن أعرابيا صلى مع النبي( صلى الله عليه وسلم) ومعه قرن فأخذها بعض القوم فلما سلم النبي (صلى الله عليه وسلم) قال الأعرابي: فأين القرن؟ فكأن بعض القوم ضحك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يروعنَّ مسلما.(5)
وعن سليمان بن صرد قال قال النبي (صلى الله عليه وسلم) استاكوا وتنظفوا وأوتروا فإن الله وتر يحب الوتر.
الوفاة:
وكان ممن كاتب الحسين ثم تخلف عنه ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف فالتقاهم عبيد الله بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان فقتل سليمان ومن معه وذلك في سنة خمس وستين في شهر ربيع الآخر وكان لسليمان يوم قتل ثلاث وتسعون سنة وكان الذي قتل سليمان يزيد بن الحصين بن نمير رماه بسهم فمات وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان.(6)
طالب عفو ربي
03-07-2009, 09:37 PM
أبو نائلة الأنصاري
اسمه سلكان بن سلامة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي أخو سلمة بن سلامة بن وقش وقيل اسمه سعد وقيل سعد أخوه وقيل سلكان لقب واسمه سعد وهو مشهور بكنيته ثبت ذكره في الصحيح في قصة قتل كعب بن الأشرف.(1)
أهم ملامح شخصيته:
1 - الفروسية:
حيث أنه - رضي الله عنه من الرماة المعدودين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذن فهو محارب جيد وفارس بارع.
2 - المفاصلة مع أعداء الله:
فقد كان - رضي الله عنه - ممن شارك في قتل عدو الله كعب بن الأشرف الذي هو أخوه من الرضاعة.
3 - التضحية بكل غال ورخيص في سبيا الحفاظ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أبو نائلة من أكثر الصحابة ثباتا ودفاعا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان - رضي الله عنه - ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك ابن حبان في كتابه " الثقات ". (2)
وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شاعرا (3)
وسيدنا أبو نائلة كان ممن بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم لقتل عدو الله كعب بن الأشرف، ويظهر ذلك من أحداث االسرية التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لقتل اليهودي كعب بن الأشرف والذي كان أخا لأبي نائلة - رضي الله عنه - من الرضاعة:
سرية قتل كعب بن الأشرف اليهودي
وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سبب قتله أنه كان رجلا شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم ويؤذيهم فلما كانت وقعة بدر كبت وذل وقال بطن الأرض خير من ظهرها اليوم فخرج حتى قدم مكة فبكى قتلى قريش وحرضهم بالشعر ثم قدم المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اكفني بن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار... (4)
وفي البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال فأذن لي أن أقول شيئا قال قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنانا وإني قد أتيتك أستسلفك قال وأيضا والله لتملنه قال إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين و حدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقا أو وسقين أو فقلت له فيه وسقا أو وسقين فقال أرى فيه وسقا أو وسقين فقال نعم ارهنوني قالوا أي شيء تريد قال ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب قال فارهنوني أبناءكم قالوا كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللأمة قال سفيان يعني السلاح فواعده أن يأتيه فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم فقالت له امرأته أين تخرج هذه الساعة فقال إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة وقال غير عمرو قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم قال إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب قال ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين قيل لسفيان سماهم عمرو قال سمى بعضهم قال عمرو جاء معه برجلين وقال غير عمرو أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر قال عمرو جاء معه برجلين فقال إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه وقال مرة ثم أشمكم فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب فقال ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب وقال غير عمرو قال عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب قال عمرو: فقال أتأذن لي أن أشم رأسك. قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. (5)
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
كان - رضي الله عنه - ممن شهد دفن سعد بن معاذ بل ونزل معه في القبر
عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال لما انتهوا إلى قبر سعد نزل فيه أربعة نفر الحارث بن أوس بن معاذ وأسيد بن الحضير وأبو نائلة سلكان بن سلامة وسلمة بن سلامة بن وقش ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على قدميه فلما وضع في قبره تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح ثلاثا فسبح المسلمون ثلاثا حتى ارتج البقيع ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وكبر أصحابه ثلاثا حتى ارتج البقيع بتكبيره فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل يا رسول الله رأينا بوجهك تغيرا وسبحت ثلاثا قال تضايق على صاحبكم قبره وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا سعد منها ثم فرج الله عنه.(6)
سلسبيل الخير
04-07-2009, 02:59 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سلسلة متميزة اخى محمد
ان شاء الله بتابعها معاك
تحياتى وتقديرى لجهودك الطيبة
طالب عفو ربي
04-07-2009, 05:31 PM
جزاك الله خير اخت الكريمة سلسبيل علي المتابعة
طالب عفو ربي
07-07-2009, 03:41 AM
أبوأمامة الباهلي
هو صدي بن عجلان بن وهب أبو أمامة الباهلي غلبت عليه كنيته ولم يعلم في اسمه اختلافا وكان يسكن حمص.
أثر الرسول في تربيته
يقول أبو أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه فقال ماذا تقول يا أبا أمامة قال أذكر ربي تعالى قال أفلا أخبرك بأكبر وأفضل من ذكر الليل مع النهار والنهار مع الليل تقول سبحان الله عدد ما خلق وسبحان الله ملء ما خلق وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه وسبحان الله عدد كل شيء وسبحان الله ملء كل شيء وتقول الحمد لله مثل ذلك
بعض ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
يقول أبو أمامة الباهلي: شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال قولا كثيرا حسنا جميلا وكان فيها [ من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا وسمع أبو أمامة الباهلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة.
ويروي أبو أمامة الباهلي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل رجل خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما ننال من أجر وغنيمة ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل"
وعن أبي أمامة الباهلي قال قلت: يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به قال عليك بالصيام فإنه لا مثل له.
ويحدث أبو أمامة الباهلي فيقول جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه.
وعن أبي أمامة الباهلي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم.
موقفه مع هرقل
عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال بعثت أنا ورجل من قريش الى هرقل ندعوه إلى الإسلام فنزلنا على جبلة فدعوناه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سواد فسأله عن ذلك قال حلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام قال فقلنا له والله لنأخذن مجلسك هذا ولنأخذن منك الملك الأعظم أخبرنا بهذا نبينا قال لستم بهم ثم ذكر قصة دخولهم على هرقل واستخلائهم فأخرج لهم ربعة فيها صفات الأنبياء إلى أن أخرج لهم صورة محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هي بيضاء فقال أتعرفون هذا قال فبكينا وقلنا نعم فقام قائما ثم جلس فقال والله انه لهذا قلنا نعم قال فأمسك ثم قال أما انه كان آخر البيوت ولكني عجلته لأنظر ما عندكم ثم قال لو طابت نفسي بالخروج من ملكي لوددت أني كنت عبدا لأسدكم في ملكه حتى أموت قال فلما رجعنا حدثنا أبا بكر فبكى ثم قال لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يعرفون نعت النبي صلى الله عليه وسلم
موقفه مع التابعين:
عن سليم بن عامر قال جاء رجل إلى أبي أمامة فقال يا أبا أمامة إني رأيت في منامي الملائكة تصلي عليك كلما دخلت وكلما خرجت وكلما قمت وكلما جلست قال أبو أمامة اللهم غفرا دعونا عنكم وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة ثم قرأ [يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما]
أثره في الآخرين(دعوته وتعليمه)
يقول محمد بن زياد الألهاني كنت آخذا بيد أبي أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرفت معه إلى بيته فلا يمر بمسلم ولا صغير ولا أحد إلا قال سلام عليكم سلام عليكم فإذا انتهى إلى باب داره التفت إلينا ثم قال أي بن أخي أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفشي السلام
عن محمد بن زياد رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو ربه فقال أبو أمامة أنت أنت لو كان هذا في بيتك عن سليمان بن حبيب المحاربي دخلت على أبي أمامة مع مكحول وبن أبي زكريا فنظر إلى أسيافنا فرأى فيها شيئا من وضح فقال إن المدائن والأمصار فتحت بسيوف ما فيها الذهب ولا الفضة فقلنا إنه أقل من ذلك فقال هو ذاك أما إن أهل الجاهلية كانوا أسمح منكم وكانوا لا يرجون على الحسنة عشر أمثالها وأنتم ترجون ذلك ولا تفعلونه قال فقال مكحول لما خرجنا من عنده لقد دخلنا على شيخ مجتمع العقل
يقول سليمان بن حبيب المحاربي قال: دخلت مسجد حمص فإذا مكحول وابن أبي زكرياء جالسان فقال مكحول: لو قمنا إلى أبي أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأدينا من حقه وسمعنا منه قال: فقمنا جميعا حتى أتيناه فسلمنا عليه فرد السلام ثم قال: إن دخولكم علي رحمة لكم وحجة عليكم ولم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء أشد خوفا على هذه الأمة من الكذب والعصبية ألا وإياكم والكذب والعصبية ألا وإنه أمرنا أن نبلغكم ذلك عنه ألا وقد فعلنا فأبلغوا عنا ما بلغناكم
وفاته
توفي سنة إحدى وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة ويقال مات سنة ست وثمانين.
طالب عفو ربي
10-07-2009, 09:31 PM
أسامة بن زيد
مقدمة هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كان أبوه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أسامة: أبا محمد وقيل: أبو زيد وقيل: أبو يزيد وقيل: أبو خارجة وهو مولى رسول الله من أبويه وكان يسمى: حب رسول الله.
ولد رضي الله عنه بمكة سنة 7 قبل الهجرة ونشأ حتى أدرك ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى ولم يدن بغيره، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان رسول الله يحبه حبا شديدا وكان عنده كبعض أهله.
وأمه هي أم أيمن واسمها بركة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوّجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة بن زيد.
زواجه رضي الله عنه:
عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لكِ علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدّى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنينى، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال انكحي أسامة فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطتُّ - والغبطة هي الفرَح والسُّرُور وحُسْن الحال -.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته: في العام السادس من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وُلد لأمّ أيمن أسامة بن زيد، فنشأ وتربى رضي الله عنه وأرضاه في أحضان الإسلام ولم تنل منه الجاهلية بوثنيتها ورجسها شيئًا، وكان رضي الله عنه قريبًا جدًا من بيت النبوة، وملازمًا دئمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي كان يركب خلفه - بعرفات فرفع يديه يدعو فمالت به ناقته فسقط خطامها قال فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى، ومن ثَم كان تأثره شديدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبًا شديدًا ففي البخاري بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"
بل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحبِّ أسامة بن زيد رضي الله عنه فعن عائشة قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة"، كان نقش خاتم أسامة بن زيد: (حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وقد زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وفي هذا الأمر ما فيه من العفة والطهارة وراحة النفس، والتفرغ لنصرة الإسلام، فهي تربية عالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يوصي به الصحابة رضي الله عنهم:
عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي أو من أحب الناس إلي وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيرا".
أتشفع في حد من حدود الله؟!
روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه قال عروة فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتكلمني في حد من حدود الله قال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت قالت عائشة فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذا الموقف العظيم يعلّمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بل والأمة كلها درسًا عمليا في غاية الأهمية والخطورة وهو عدم المحاباة أو الكيل بمكيالين فكل الناس سواء القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، الجميع يُطبّق عليهم شرع الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!!
في البخاري بسنده عن أبي ظبيان قال سمعت أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وفي رواية فقلت: " أُعطِى الله عهدًا أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله".
وقد انعكس أثرهذا الموقف على أسامةَ رضي الله عنه بطول حياته وعرضها وتأثر به تأثرًا شديدًا وظل وفيًا بهذا العهد إلى أن لقي الله سبحانه وتعالى.
ولم يبايع أسامة رضي الله عنه عليًا ولا شهد معه شيئا من حروبه؛ وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إلا الله.
وفي البخاري بسنده عن حرملة - مولى أسامة بن زيد - قال: أرسلني أسامة إلى علي وقال: إنه سيسألك الآن فيقول ما خلف صاحبك فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه ولكن هذا أمر لم أره - أي لم يكن لي فيه رأي -...
وينصح أميره دون أن يفتح بابًا لفتنة:
روى مسلم بسنده عن أسامة بن زيد قال قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه فقال أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ولا أقول لأحد يكون عليّ أميرا إنه خير الناس بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر.
دور أم أيمن في تربية أسامة بن زيد:
أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها هي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهى إحدى المؤمنات المجاهدات اللاتى شاركن فى المعارك الإسلامية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدت أُحدًا، وكانت تسقى المسلمين، وتداوى الجَرْحَي، وشهدت غزوة خيبر، وقد روت أم أيمن -رضى الله عنها - بعضًا من أحاديث رسول الله، قال ابن حجر في الإصابة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنها: "هذه بقية أهل بيتي"؛ هذه المرأة المؤمنة التقية الورعة المجاهدة كانت أحد المحاضن التربوية التي تخرج منها أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه.
وقد استشهد زيد بن حارثة زوج أم أيمن ووالد أسامة في مؤتة، واستشهد أيمن ابنها وأخو أسامة من أمه في حنين، ففي هذه الأسرة المؤمنة المجاهدة نشأ هذا القائد الفارس الفذُّ وتربى على معاني الجهاد والدفاع عن الإسلام مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه إمارة الجيش الإسلامي وهو في الثامنة عشرة من عمره وفي الجيش كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وأصحاب السبق في الإسلام.
وقد شهد أسامة رضي الله عنه لأمه بالفضل وكان شديد البر بها، فعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ألف درهم فعمد أسامة بن زيد إلى نخلة فنقرها وأخرج جمّارها فأطعمها أمه فقيل له: ما حملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألفًا، فقال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها.
قائد جيش المسلمين جميعًا في غزو الروم ولّاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، قال الواقدي في المغازي: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه ووجد عليهم وجدا شديدا; فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم. فتفرق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مجدون في الجهاد فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر دعا أسامة بن زيد فقال يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أبنى وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون أمامك والطلائع فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فصدع وحم. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لواء ثم قال يا أسامة اغز بسم الله في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ولكن قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنا فإن لقوكم قد أجلبوا وصيحوا. فعليكم بالسكينة والصمت ولا تنازعوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم. وقولوا: اللهم نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة امض على اسم الله فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فعسكر بالجرف وضرب عسكره في سقاية سليمان اليوم. وجعل الناس يجدون بالخروج إلى العسكر فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ; وفي رجال من المهاجرين والأنصار عدة قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش. فقال رجال من المهاجرين وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول فرده على من تكلم به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول من قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديد، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر ليال خلون من ربيع الأول. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنفذوا بعث أسامة ودخلت أم أيمن فقالت أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذوا بعث أسامة فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان وعنده العباس والنساء حوله فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يصبها على أسامة. قال فأعرف أنه كان يدعو لي. قال أسامة فرجعت إلى معسكري. فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره وأصبح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق، فجاءه أسامة فقال اغد على بركة الله فودعه أسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق مريح وجعل نساءه يتماشطن سرورا براحته. فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فائذن لي فأذن له فذهب إلى السنح، وركب أسامة إلى معسكره وصاح في الناس أصحابه باللحوق بالعسكر فانتهى إلى معسكره ونزل وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار. فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن - وهي أمه - تخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده فلما بويع لأبي بكر رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة وألا يحله أبدا حتى يغزوهم أسامة. قال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت به إلى بيت أسامة ثم خرجت به إلى الشام معقودا مع أسامة ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال في بيت أسامة حتى توفي أسامة. فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد عن الإسلام قال أبو بكر رضي الله عنه لأسامة رحمة الله عليه انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول وخرج بريدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول فشق على كبار المهاجرين الأولين ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد، فقالوا: يا خليفة رسول الله إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئًا، اجعلهم عدة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه وتعود الردة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف ثم تبعث أسامة حينئذ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا فلما استوعب أبو بكر رضي الله عنه منهم كلامهم قال هل منكم أحد يريد أن يقول شيئ؟ قالوا: ل، قد سمعت مقالتنا. فقال والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث ولا بدأت بأول منه ورسول الله ينزل عليه الوحي من السماء يقول أنفذوا جيش أسامة ولكن خصلة أكلم أسامة في عمر يخلفه يقيم عندن، فإنه لا غناء بنا عنه. والله ما أدري يفعل أسامة أم ل، والله إن رأى لا أكرهه فعرف القوم أن أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أسامة ومشى أبو بكر رضي الله عنه إلى أسامة في بيته وكلمه أن يترك عمر ففعل أسامة وجعل يقول له أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة نعم وخرج وأمر مناديه ينادي: عزمة مني ألا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد.
وخرج أبو بكر رضي الله عنه يشيع أسامة والمسلمين فلما ركب أسامة من الجرف في أصحابه - وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس - فسار أبو بكر رضي الله عنه إلى جنب أسامة ساعة ثم قال أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك ; إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه وإنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج سريعا فوطئ بلادا هادئة لم يرجعوا عن الإسلام - جهينة وغيرها من قضاعة - فلما نزل وادي القرى قدم عينا له من بني عذرة يقال له حريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مغذا حتى انتهى إلى أبنى ; فنطر إلى ما هناك وارتاد الطريق ثم رجع سريعا حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع وأن يشنها غارة.
وحدث هشام بن عاصم عن المنذر بن جهم قال قال بريدة لأسامة يا أبا محمد إني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أباك أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أطاعوه خيرهم وإن أحبوا أن يقيموا في دارهم ويكونوا كأعراب المسلمين ولا شيء لهم في الفيء ولا الغنيمة إلا أن يجاهدوا مع المسلمين وإن تحولوا إلى دار الإسلام كان لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. قال أسامة هكذا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني، وهو آخر عهده إلي أن أسرع السير وأسبق الأخبار وأن أشن الغارة عليهم بغير دعاء فأحرق وأخرب. فقال بريدة: سمعا وطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى إلى أبنى فنظر إليها منظر العين عبأ أصحابه وقال اجعلوها غارة ولا تمنعوا في الطلب ولا تفترقو، واجتمعوا وأخفوا الصوت واذكروا الله في أنفسكم وجردوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم. ثم دفع عليهم الغارة فما نبح كلب ولا تحرك أحد، وما شعروا إلا بالقوم قد شنوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم يا منصور أمت فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه وحرق في طوائفهم بالنار وحرق منازلهم وحرثهم ونخلهم فصارت أعاصير من الدخاخين. وأجال الخيل في عرصاتهم ولم يمعنوا في الطلب أصابوا ما قرب منهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة خرج على فرس أبيه التي قتل عليها أبوه يوم مؤتة كانت تدعى سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة خبره به بعض من سبى ; وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهم، وأخذ لنفسه مثل ذلك. فلما أمسوا أمر الناس بالرحيل ومضى الدليل أمامه حريث العذري، فأخذوا الطريق التي جاءوا منه، ودانوا ليلتهم حتى انتهوا بأرض بعيدة ثم طوى البلاد حتى انتهى إلى
وادي القرى في تسع ليال ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة، وما أصيب من المسلمين أحد. فبلغ ذلك هرقل وهو بحمص فدعا بطارقته فقال هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني. قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر تغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم. قال أخوه سأقوم فأبعث رابطة تكون بالبلقاء فبعث رابطة واستعمل عليهم رجلا من أصحابه فلم يزل مقيما حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
واعترض لأسامة في منصرفه قوم من أهل كثكث - قرية هناك - قد كانوا اعترضوا لأبيه في بدأته فأصابوا من أطرافه فناهضهم أسامة بمن معه وظفر بهم وحرق عليهم وساق نعما من نعمهم وأسر منهم أسيرين فأوثقهم، وهرب من بقي فقدم بهما المدينة فضرب أعناقهما.
وبعث أسامة بن زيد بشيره من وادي القرى بسلامة المسلمين وأنهم قد أغاروا على العدو فأصابوهم فلما سمع المسلمون بقدومهم خرج أبو بكر رضي الله عنه في المهاجرين وخرج أهل المدينة حتى العواتق سرورا بسلامة أسامة ومن معه من المسلمين ودخل يومئذ على فرسه سبحة كأنما خرجت من ذي خشب عليه الدرع. واللواء أمامه يحمله بريدة، حتى انتهى به إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين وانصرف إلى بيته معه اللواء. وكان مخرجه من الجرف لهلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة فغاب خمسة وثلاثين يوم، عشرون في بدأته وخمسة عشر في رجعته.
أهم ملامح شخصيته: الجانب القيادي:
لكونه تربّى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربّاه النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون قائدًا واكتشف عناصر هذه القيادة في شخصيته، وقد كان رضي الله عنه دقيقًا في تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك من مواقفه المتعددة ومنها موقفه أثناء جمعه للزكاة، وبعد ذلك يظهر موقفه عندما كان قائدا للجيش الذي غزا الروم في الشام، ومدى الدقة التي التزم بها في تنفيذ تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن ذلك فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خليق بالولاية وأنه أهل لها، وقد نجح رضي الله عنه في مهمته التي انتدب لها أعظم نجاح وأدى دوره على أفضل ما يكون الأداء.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده".
وعن الزهري قال كان أسامة بن زيد يخاطَب بالأمير حتى مات يقولون: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأميرورحمة الله وبركاته، أمير أمره رسول الله، ثم لم ينزعه حتى مات.
ولقد أثبت أسامة رضي الله عنه في قيادة جيشه إلى الشام أنه ذو جَلَدٍ على تحمل المشاق، وذو شجاعة فائقة، وعقيدة راسخة، وعقلية راجحة متبصرة بالأحداث والنتائج، مما أكسبه سمعة عالية، وصيتًا وشهرة كبيرة بين الصحابة، فقدروه وأحبوه، ولمسوا بأنفسهم مدى إصابة الحق في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له في للإمارة.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم روى الإمام أحمد بسنده عن عَائِشَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَثَرَ بِأُسْكُفَّةِ أَوْ عَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيطِي عَنْهُ أَوْ نَحِّي عَنْهُ الْأَذَى قَالَتْ فَتَقَذَّرْتُهُ قَالَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّهُ ثُمَّ يَمُجُّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَكَسَوْتُهُ وَحَلَّيْتُهُ حَتَّى أُنْفِقَهُ.
بعثتها إليك لتشققها خمرًا بين نسائك:
روى مسلم بسنده عن ابن عمر قال رأى عمر عطاردا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك وأظنه قال ولبستها يوم الجمعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال شققها خمرا بين نسائك قال فجاء عمر بحلته يحملها فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت فقال إني لم ابعث بها إليك لتلبسها ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها، وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرًا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بهان فقال: "إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك".
وعن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك لا تلبس القبطيه قلت كسوتها امرأتي فقال مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف عظامها.
رديفه في أسفاره:
عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ومعه بلال ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت ففتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيها نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس وكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال عبد الله فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة...
وعن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم
وعنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما قال: "أي يومين" قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".
وعنه رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له فقال لم يأتني جبريل منذ ثلاث قال فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل عليه السلام فبهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه فقال لم تأتني فقال انا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير.
وعن يزيد بن أبي حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن الربيع وهو بالموت فناداه فلم يجبه فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لو سمعني لأجاب ما فيه عرق ولا هو يجد ألم الموت على جدته وبكى النساء فنهاهن أسامة بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعهن يبكين ما دام بين أظهرهن فإذا وجب فلا أسمعن صوت باكية.
ألاقي منك اليوم...
عن قيس بن أبي حازم قال قام أسامة بن زيد بعد مقتل أبيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه ثم جاء من الغد فقام مقامه بالأمس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألاقي منك اليوم ما لاقيت منك أمس.
ويدعو له صلى الله عليه وسلم:
عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطتُ وهبط الناس المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُصمت فلم يتكلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يديه علي ويرفعهما فأعرف أنه يدعو لي.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة: مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن هشام بن عروة عن أبيه... لما فرض عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس فرض لأسامة بن زيد خمسة آلاف ولابن عمر ألفين فقال ابن عمر فضلت عليّ أسامة وقد شهدت ما لم يشهد فقال إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وأبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك.
مع عثمان بن عفان رضي الله عنه:
عن هشام بن عروة عن أبيه قال تخلف عثمان وأسامة بن زيد عن بدر فبينا هم يدفنون رقية سمع عثمان تكبيرا فقال يا أسامة ما هذا فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء بشيرا بقتل المشركين يوم بدر.
مع حكيم بن حزام رضي الله عنه:
عن عراك بن مالك أن حكيم بن حزام قال كان محمد النبي أحب الناس إلي في الجاهلية فلما تنبأ وخرج إلى المدينة خرج حكيم بن حزام الموسم فوجد حلة لذي يزن تُباع بخمسين درهما فاشتراها ليهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم بها عليه وأراده على قبضها فأبى عليه قال عبيد الله حسبت أنه قال إنا لا نقبل من المشركين شيئا ولكن أخذناها بالثمن فأعطيتها إياه حتى أتى المدينة فلبسها فرأيتها عليه على المنبر فلم أر شيئا قط أحسن منه فيها يومئذ ثم أعطاها أسامة بن زيد فرآها حكيم على أسامة فقال يا أسامة أنت تلبس حلة ذي يزن قال نعم لأنا خير من ذي يزن ولأبي خير من أبيه ولأمي خير من أمه قال حكيم فانطلقت إلى مكة أعجبهم بقول أسامة المستدرك للحاكم.
مع خلاد بن السائب رضي الله عنه:
عن خلاد بن السائب قال دخلت على أسامة بن زيد فمدحني في وجهي فقال إنه حملني أن أمدحك في وجهك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه"
من مواقفه مع التابعين:
مع مروان بن الحكم
عن عبيد الله بن عبد الله قال رأيت أسامة بن زيد يصلى عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مروان بن الحكم فقال تصلى إلى قبره فقال انى أحبه فقال له قولا قبيحا ثم ادبر فانصرف أسامة فقال يا مروان انك آذيتنى واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله يبغض الفاحش المتفحش وانك فاحش متفحش.
أثره في الآخرين: روى عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وممن روى عنه من التابعين سعيد بن المسيب، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن شرحبيل، وشقيق بن سلمة وغيرهم....
ويعلم مولاه عمليًا:
عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فقال له مولاه: لم تصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير، فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وسئل عن ذلك فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس".
الأثر العالمي لبعث أسامة رضي الله عنه:
كان لهذا البعث أثرًا كبيرًا في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكانوا يقولون: لو لم يكن للمسلمين قوة تحمى المدينة وما حولها ما بعثوا جيشًا إلى هذه المسافات البعيدة حتى وصل إلى تخوم الروم؛ ومن أجل ذلك كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها بكثير في أي المناطق الأخرى.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
وفي البخاري بسنده أيضًا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء".
روى مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم".
وأحاديث أخرى كثيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وفاته رضي الله عنه اعتزل أسامة بن زيد رضي الله عنه الفتن بعد مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة غرب دمشق ثم رجع فسكن وادي القرى ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجرف وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة 54 هـ، فيكون رضي الله عنه قد توفي عن 61 سنة.
طالب عفو ربي
10-07-2009, 09:31 PM
أسامة بن زيد
مقدمة
هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كان أبوه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أسامة: أبا محمد وقيل: أبو زيد وقيل: أبو يزيد وقيل: أبو خارجة وهو مولى رسول الله من أبويه وكان يسمى: حب رسول الله.
ولد رضي الله عنه بمكة سنة 7 قبل الهجرة ونشأ حتى أدرك ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى ولم يدن بغيره، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان رسول الله يحبه حبا شديدا وكان عنده كبعض أهله.
وأمه هي أم أيمن واسمها بركة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوّجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة بن زيد.
زواجه رضي الله عنه:
عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لكِ علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدّى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنينى، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال انكحي أسامة فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطتُّ - والغبطة هي الفرَح والسُّرُور وحُسْن الحال -.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
في العام السادس من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وُلد لأمّ أيمن أسامة بن زيد، فنشأ وتربى رضي الله عنه وأرضاه في أحضان الإسلام ولم تنل منه الجاهلية بوثنيتها ورجسها شيئًا، وكان رضي الله عنه قريبًا جدًا من بيت النبوة، وملازمًا دئمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي كان يركب خلفه - بعرفات فرفع يديه يدعو فمالت به ناقته فسقط خطامها قال فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى، ومن ثَم كان تأثره شديدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبًا شديدًا ففي البخاري بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"
بل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحبِّ أسامة بن زيد رضي الله عنه فعن عائشة قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة"، كان نقش خاتم أسامة بن زيد: (حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وقد زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وفي هذا الأمر ما فيه من العفة والطهارة وراحة النفس، والتفرغ لنصرة الإسلام، فهي تربية عالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يوصي به الصحابة رضي الله عنهم:
عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي أو من أحب الناس إلي وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيرا".
أتشفع في حد من حدود الله؟!
روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه قال عروة فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتكلمني في حد من حدود الله قال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت قالت عائشة فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذا الموقف العظيم يعلّمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بل والأمة كلها درسًا عمليا في غاية الأهمية والخطورة وهو عدم المحاباة أو الكيل بمكيالين فكل الناس سواء القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، الجميع يُطبّق عليهم شرع الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!!
في البخاري بسنده عن أبي ظبيان قال سمعت أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وفي رواية فقلت: " أُعطِى الله عهدًا أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله".
وقد انعكس أثرهذا الموقف على أسامةَ رضي الله عنه بطول حياته وعرضها وتأثر به تأثرًا شديدًا وظل وفيًا بهذا العهد إلى أن لقي الله سبحانه وتعالى.
ولم يبايع أسامة رضي الله عنه عليًا ولا شهد معه شيئا من حروبه؛ وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إلا الله.
وفي البخاري بسنده عن حرملة - مولى أسامة بن زيد - قال: أرسلني أسامة إلى علي وقال: إنه سيسألك الآن فيقول ما خلف صاحبك فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه ولكن هذا أمر لم أره - أي لم يكن لي فيه رأي -...
وينصح أميره دون أن يفتح بابًا لفتنة:
روى مسلم بسنده عن أسامة بن زيد قال قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه فقال أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ولا أقول لأحد يكون عليّ أميرا إنه خير الناس بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر.
دور أم أيمن في تربية أسامة بن زيد:
أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها هي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهى إحدى المؤمنات المجاهدات اللاتى شاركن فى المعارك الإسلامية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدت أُحدًا، وكانت تسقى المسلمين، وتداوى الجَرْحَي، وشهدت غزوة خيبر، وقد روت أم أيمن -رضى الله عنها - بعضًا من أحاديث رسول الله، قال ابن حجر في الإصابة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنها: "هذه بقية أهل بيتي"؛ هذه المرأة المؤمنة التقية الورعة المجاهدة كانت أحد المحاضن التربوية التي تخرج منها أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه.
وقد استشهد زيد بن حارثة زوج أم أيمن ووالد أسامة في مؤتة، واستشهد أيمن ابنها وأخو أسامة من أمه في حنين، ففي هذه الأسرة المؤمنة المجاهدة نشأ هذا القائد الفارس الفذُّ وتربى على معاني الجهاد والدفاع عن الإسلام مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه إمارة الجيش الإسلامي وهو في الثامنة عشرة من عمره وفي الجيش كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وأصحاب السبق في الإسلام.
وقد شهد أسامة رضي الله عنه لأمه بالفضل وكان شديد البر بها، فعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ألف درهم فعمد أسامة بن زيد إلى نخلة فنقرها وأخرج جمّارها فأطعمها أمه فقيل له: ما حملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألفًا، فقال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها.
قائد جيش المسلمين جميعًا في غزو الروم
ولّاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، قال الواقدي في المغازي: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه ووجد عليهم وجدا شديدا; فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم. فتفرق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مجدون في الجهاد فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر دعا أسامة بن زيد فقال يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أبنى وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون أمامك والطلائع فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فصدع وحم. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لواء ثم قال يا أسامة اغز بسم الله في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ولكن قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنا فإن لقوكم قد أجلبوا وصيحوا. فعليكم بالسكينة والصمت ولا تنازعوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم. وقولوا: اللهم نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة امض على اسم الله فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فعسكر بالجرف وضرب عسكره في سقاية سليمان اليوم. وجعل الناس يجدون بالخروج إلى العسكر فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ; وفي رجال من المهاجرين والأنصار عدة قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش. فقال رجال من المهاجرين وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول فرده على من تكلم به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول من قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديد، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر ليال خلون من ربيع الأول. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنفذوا بعث أسامة ودخلت أم أيمن فقالت أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذوا بعث أسامة فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان وعنده العباس والنساء حوله فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يصبها على أسامة. قال فأعرف أنه كان يدعو لي. قال أسامة فرجعت إلى معسكري. فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره وأصبح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق، فجاءه أسامة فقال اغد على بركة الله فودعه أسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق مريح وجعل نساءه يتماشطن سرورا براحته. فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فائذن لي فأذن له فذهب إلى السنح، وركب أسامة إلى معسكره وصاح في الناس أصحابه باللحوق بالعسكر فانتهى إلى معسكره ونزل وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار. فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن - وهي أمه - تخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده فلما بويع لأبي بكر رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة وألا يحله أبدا حتى يغزوهم أسامة. قال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت به إلى بيت أسامة ثم خرجت به إلى الشام معقودا مع أسامة ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال في بيت أسامة حتى توفي أسامة. فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد عن الإسلام قال أبو بكر رضي الله عنه لأسامة رحمة الله عليه انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول وخرج بريدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول فشق على كبار المهاجرين الأولين ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد، فقالوا: يا خليفة رسول الله إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئًا، اجعلهم عدة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه وتعود الردة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف ثم تبعث أسامة حينئذ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا فلما استوعب أبو بكر رضي الله عنه منهم كلامهم قال هل منكم أحد يريد أن يقول شيئ؟ قالوا: ل، قد سمعت مقالتنا. فقال والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث ولا بدأت بأول منه ورسول الله ينزل عليه الوحي من السماء يقول أنفذوا جيش أسامة ولكن خصلة أكلم أسامة في عمر يخلفه يقيم عندن، فإنه لا غناء بنا عنه. والله ما أدري يفعل أسامة أم ل، والله إن رأى لا أكرهه فعرف القوم أن أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أسامة ومشى أبو بكر رضي الله عنه إلى أسامة في بيته وكلمه أن يترك عمر ففعل أسامة وجعل يقول له أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة نعم وخرج وأمر مناديه ينادي: عزمة مني ألا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد.
وخرج أبو بكر رضي الله عنه يشيع أسامة والمسلمين فلما ركب أسامة من الجرف في أصحابه - وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس - فسار أبو بكر رضي الله عنه إلى جنب أسامة ساعة ثم قال أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك ; إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه وإنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج سريعا فوطئ بلادا هادئة لم يرجعوا عن الإسلام - جهينة وغيرها من قضاعة - فلما نزل وادي القرى قدم عينا له من بني عذرة يقال له حريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مغذا حتى انتهى إلى أبنى ; فنطر إلى ما هناك وارتاد الطريق ثم رجع سريعا حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع وأن يشنها غارة.
وحدث هشام بن عاصم عن المنذر بن جهم قال قال بريدة لأسامة يا أبا محمد إني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أباك أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أطاعوه خيرهم وإن أحبوا أن يقيموا في دارهم ويكونوا كأعراب المسلمين ولا شيء لهم في الفيء ولا الغنيمة إلا أن يجاهدوا مع المسلمين وإن تحولوا إلى دار الإسلام كان لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. قال أسامة هكذا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني، وهو آخر عهده إلي أن أسرع السير وأسبق الأخبار وأن أشن الغارة عليهم بغير دعاء فأحرق وأخرب. فقال بريدة: سمعا وطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى إلى أبنى فنظر إليها منظر العين عبأ أصحابه وقال اجعلوها غارة ولا تمنعوا في الطلب ولا تفترقو، واجتمعوا وأخفوا الصوت واذكروا الله في أنفسكم وجردوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم. ثم دفع عليهم الغارة فما نبح كلب ولا تحرك أحد، وما شعروا إلا بالقوم قد شنوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم يا منصور أمت فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه وحرق في طوائفهم بالنار وحرق منازلهم وحرثهم ونخلهم فصارت أعاصير من الدخاخين. وأجال الخيل في عرصاتهم ولم يمعنوا في الطلب أصابوا ما قرب منهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة خرج على فرس أبيه التي قتل عليها أبوه يوم مؤتة كانت تدعى سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة خبره به بعض من سبى ; وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهم، وأخذ لنفسه مثل ذلك. فلما أمسوا أمر الناس بالرحيل ومضى الدليل أمامه حريث العذري، فأخذوا الطريق التي جاءوا منه، ودانوا ليلتهم حتى انتهوا بأرض بعيدة ثم طوى البلاد حتى انتهى إلى
وادي القرى في تسع ليال ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة، وما أصيب من المسلمين أحد. فبلغ ذلك هرقل وهو بحمص فدعا بطارقته فقال هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني. قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر تغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم. قال أخوه سأقوم فأبعث رابطة تكون بالبلقاء فبعث رابطة واستعمل عليهم رجلا من أصحابه فلم يزل مقيما حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
واعترض لأسامة في منصرفه قوم من أهل كثكث - قرية هناك - قد كانوا اعترضوا لأبيه في بدأته فأصابوا من أطرافه فناهضهم أسامة بمن معه وظفر بهم وحرق عليهم وساق نعما من نعمهم وأسر منهم أسيرين فأوثقهم، وهرب من بقي فقدم بهما المدينة فضرب أعناقهما.
وبعث أسامة بن زيد بشيره من وادي القرى بسلامة المسلمين وأنهم قد أغاروا على العدو فأصابوهم فلما سمع المسلمون بقدومهم خرج أبو بكر رضي الله عنه في المهاجرين وخرج أهل المدينة حتى العواتق سرورا بسلامة أسامة ومن معه من المسلمين ودخل يومئذ على فرسه سبحة كأنما خرجت من ذي خشب عليه الدرع. واللواء أمامه يحمله بريدة، حتى انتهى به إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين وانصرف إلى بيته معه اللواء. وكان مخرجه من الجرف لهلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة فغاب خمسة وثلاثين يوم، عشرون في بدأته وخمسة عشر في رجعته.
أهم ملامح شخصيته:
الجانب القيادي:
لكونه تربّى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربّاه النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون قائدًا واكتشف عناصر هذه القيادة في شخصيته، وقد كان رضي الله عنه دقيقًا في تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك من مواقفه المتعددة ومنها موقفه أثناء جمعه للزكاة، وبعد ذلك يظهر موقفه عندما كان قائدا للجيش الذي غزا الروم في الشام، ومدى الدقة التي التزم بها في تنفيذ تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن ذلك فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خليق بالولاية وأنه أهل لها، وقد نجح رضي الله عنه في مهمته التي انتدب لها أعظم نجاح وأدى دوره على أفضل ما يكون الأداء.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده".
وعن الزهري قال كان أسامة بن زيد يخاطَب بالأمير حتى مات يقولون: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأميرورحمة الله وبركاته، أمير أمره رسول الله، ثم لم ينزعه حتى مات.
ولقد أثبت أسامة رضي الله عنه في قيادة جيشه إلى الشام أنه ذو جَلَدٍ على تحمل المشاق، وذو شجاعة فائقة، وعقيدة راسخة، وعقلية راجحة متبصرة بالأحداث والنتائج، مما أكسبه سمعة عالية، وصيتًا وشهرة كبيرة بين الصحابة، فقدروه وأحبوه، ولمسوا بأنفسهم مدى إصابة الحق في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له في للإمارة.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد بسنده عن عَائِشَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَثَرَ بِأُسْكُفَّةِ أَوْ عَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيطِي عَنْهُ أَوْ نَحِّي عَنْهُ الْأَذَى قَالَتْ فَتَقَذَّرْتُهُ قَالَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّهُ ثُمَّ يَمُجُّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَكَسَوْتُهُ وَحَلَّيْتُهُ حَتَّى أُنْفِقَهُ.
بعثتها إليك لتشققها خمرًا بين نسائك:
روى مسلم بسنده عن ابن عمر قال رأى عمر عطاردا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك وأظنه قال ولبستها يوم الجمعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال شققها خمرا بين نسائك قال فجاء عمر بحلته يحملها فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت فقال إني لم ابعث بها إليك لتلبسها ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها، وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرًا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بهان فقال: "إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك".
وعن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك لا تلبس القبطيه قلت كسوتها امرأتي فقال مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف عظامها.
رديفه في أسفاره:
عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ومعه بلال ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت ففتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيها نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس وكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال عبد الله فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة...
وعن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم
وعنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما قال: "أي يومين" قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".
وعنه رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له فقال لم يأتني جبريل منذ ثلاث قال فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل عليه السلام فبهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه فقال لم تأتني فقال انا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير.
وعن يزيد بن أبي حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن الربيع وهو بالموت فناداه فلم يجبه فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لو سمعني لأجاب ما فيه عرق ولا هو يجد ألم الموت على جدته وبكى النساء فنهاهن أسامة بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعهن يبكين ما دام بين أظهرهن فإذا وجب فلا أسمعن صوت باكية.
ألاقي منك اليوم...
عن قيس بن أبي حازم قال قام أسامة بن زيد بعد مقتل أبيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه ثم جاء من الغد فقام مقامه بالأمس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألاقي منك اليوم ما لاقيت منك أمس.
ويدعو له صلى الله عليه وسلم:
عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطتُ وهبط الناس المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُصمت فلم يتكلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يديه علي ويرفعهما فأعرف أنه يدعو لي.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن هشام بن عروة عن أبيه... لما فرض عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس فرض لأسامة بن زيد خمسة آلاف ولابن عمر ألفين فقال ابن عمر فضلت عليّ أسامة وقد شهدت ما لم يشهد فقال إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وأبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك.
مع عثمان بن عفان رضي الله عنه:
عن هشام بن عروة عن أبيه قال تخلف عثمان وأسامة بن زيد عن بدر فبينا هم يدفنون رقية سمع عثمان تكبيرا فقال يا أسامة ما هذا فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء بشيرا بقتل المشركين يوم بدر.
مع حكيم بن حزام رضي الله عنه:
عن عراك بن مالك أن حكيم بن حزام قال كان محمد النبي أحب الناس إلي في الجاهلية فلما تنبأ وخرج إلى المدينة خرج حكيم بن حزام الموسم فوجد حلة لذي يزن تُباع بخمسين درهما فاشتراها ليهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم بها عليه وأراده على قبضها فأبى عليه قال عبيد الله حسبت أنه قال إنا لا نقبل من المشركين شيئا ولكن أخذناها بالثمن فأعطيتها إياه حتى أتى المدينة فلبسها فرأيتها عليه على المنبر فلم أر شيئا قط أحسن منه فيها يومئذ ثم أعطاها أسامة بن زيد فرآها حكيم على أسامة فقال يا أسامة أنت تلبس حلة ذي يزن قال نعم لأنا خير من ذي يزن ولأبي خير من أبيه ولأمي خير من أمه قال حكيم فانطلقت إلى مكة أعجبهم بقول أسامة المستدرك للحاكم.
مع خلاد بن السائب رضي الله عنه:
عن خلاد بن السائب قال دخلت على أسامة بن زيد فمدحني في وجهي فقال إنه حملني أن أمدحك في وجهك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه"
من مواقفه مع التابعين:
مع مروان بن الحكم
عن عبيد الله بن عبد الله قال رأيت أسامة بن زيد يصلى عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مروان بن الحكم فقال تصلى إلى قبره فقال انى أحبه فقال له قولا قبيحا ثم ادبر فانصرف أسامة فقال يا مروان انك آذيتنى واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله يبغض الفاحش المتفحش وانك فاحش متفحش.
أثره في الآخرين:
روى عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وممن روى عنه من التابعين سعيد بن المسيب، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن شرحبيل، وشقيق بن سلمة وغيرهم....
ويعلم مولاه عمليًا:
عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فقال له مولاه: لم تصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير، فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وسئل عن ذلك فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس".
الأثر العالمي لبعث أسامة رضي الله عنه:
كان لهذا البعث أثرًا كبيرًا في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكانوا يقولون: لو لم يكن للمسلمين قوة تحمى المدينة وما حولها ما بعثوا جيشًا إلى هذه المسافات البعيدة حتى وصل إلى تخوم الروم؛ ومن أجل ذلك كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها بكثير في أي المناطق الأخرى.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
وفي البخاري بسنده أيضًا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء".
روى مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم".
وأحاديث أخرى كثيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وفاته رضي الله عنه
اعتزل أسامة بن زيد رضي الله عنه الفتن بعد مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة غرب دمشق ثم رجع فسكن وادي القرى ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجرف وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة 54 هـ، فيكون رضي الله عنه قد توفي عن 61 سنة.
طالب عفو ربي
16-07-2009, 02:18 AM
أسعد بن زرارة
هو أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي النجاري، قديم الإسلام، شهد العقبتين وكان نقيباً على قبيلته ولم يكن في النقباء أصغر سناً منه، ويقال أنه أول من بايع ليلة العقبة.
إسلامه:
خرج أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس إلى مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة، فسمعا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتياه فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن، فأسلما ولم يقربا عتبة بن ربيعة، ورجعا الى المدينة فكانا أول من قدم بالإسلام بالمدينة...
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعوده له، خرج رسول الله صلى الله عليه سلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقى رهطاً من الخزرج أراد لله بهم خيراً.
قال:"أمن موالي يهود؟" قالوا: نعم قال:" أفلا تجلسون أكلمكم؟" قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا: إن نبياً مبعوثاً الآن قد اظل زمانه تتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسم أولئك النفر ودعاهم إلى الله. قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك وتقرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعنهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا...
قال أبو نعيم أنه - أي أسعد بن زرارة - أول من أسلم من الأنصار من الخزرج...
أهم ملامح الشخصية:
1- سرعة استجابته للحق:
ويتضح ذلك عندما عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على النفر الذين جاءوا إلى عتبة فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم لإسلام وتلا عليهم القرآن فأسلموا وقيل أن أول من قدم بالإسلام إلى المدينة كان أسعد بن زرارة وقد ذكرنا ذلك في قصة إسلامه.
وسبق القول بأنه ربما يكون أول من بايع بيعة العقبة الثانية...
2- إيجابيته في الدعوة:
فقد كان يسعى مع سيدنا مصعب بالمدينة ويتضح ذلك في قصة إسلام سيدنا أسيد بن حضير وسيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنهما وعنه وعن صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم جميعًا...
3- عمق فهمه مع حداثة سنه وتقديره للبيعة:
ويظهر ذلك من موقفه في بيعة العقبة الثانية، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فقمنا نبايعه - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله عز وجل وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر عند الله قالوا يا أسعد بن زرارة أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها فقمنا إليه رجلا رجلا يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنة.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى الإمام احمد بسنده عن جابر قال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر كذا قال فيأتيه قومه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ثم ائتمروا جميعا فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة قال فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم فقال رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله قالوا أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا ولا نسلبها أبدا قال فقمنا إليه فبايعناه فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
ذهب أسعد بن زرارة يوماً ومعه مصعب بن عمير إلى بستان من بساتين بني عبد الأشهل - أحد بطون الأوس - فجلسا فيه، واجتمع حولهما عدد من الذين أسلموا، فرآهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وهما يومئذ سيدا بني عبد الأشهل، ومن سادة الأوس أيضاً، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازحجرهما واتهمها عن أن دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهم، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير هذا سيد قومك قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشمتاً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع: فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لقد عرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقة وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين. قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً، قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه لذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي، قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك فقام سعد مغضباً مبادراً، تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليها فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتاًَ، ثم قال لأسعد بن زرارة يا أبا أمامة! والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت امراً أو رغبت فيه قبلته، إن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، جلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقة وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصل ركعتين...
أثره في الآخرين:
قال ابن إسحاق: عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت أقود أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الآذان بها صلى على أبي إمامة أسعد بن زرارة قال: فمكثت حيناً على ذلك لا يسمع لآذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت في نفسي والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله؟ فقلت: يا أبتِ ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي إمامة؟ فقال: أي بني إنه كان أول من جمع بنا بالمدينة، في هرم البيت من حرة بني بياض في بقيع يقال له بقيع الخضمات قال: قلت وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلًا...
وفاته:
قال محمد بن إسحاق: وتوفي في تلك الأشهر - أي بعد الهجرة مباشرة - أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبني - أي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، أخذته الزبحة أو الشهقة، رحمه الله ورضي عنه.
وذكر الواقدي أنه مات على رأس أشهر من الهجرة رواة الحاكم في المستدرك من طريق الواقدي عن أبي الرجال، وفيه جاء بنو النجار فقالوا يا رسول الله مات نقيبنا فنقب علينا فقال:"أنا نقيبكم" وقال البغوي أنه أول من مات من الصحابة بعد الهجرة وأنه أول ميت صلّى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وروى الواقدي من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: أول من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة وهذا قول الأنصار.
وأما المهاجرون فقالو: أول من دفن به عثمان بن مظعون.
طالب عفو ربي
16-07-2009, 02:26 AM
أسيد بن حضير
مقدمة
هو أسيد بن الحضير بن سماك الأنصاري الأشهلي يكنى أبا يحيى وأبا عتيك وكان أبوه حضير فارس الأوس ورئيسهم يوم بُعاث.
حاله في الجاهلية:
كان يكتب بالعربية ويحسن السباحة والرمي، وكانوا في الجاهلية يسمون من كانت فيه هذه الخصال بالكامل...
إسلامه:
وكان أسيد من السابقين إلى الإسلام وهو أحد النقباء ليلة العقبة وكان إسلامه على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ
قصة إسلامه:
فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب: إن يجلس أكلمه قال: فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ماتكره قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لقد عرفنا في وجهة الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ( ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ) ثم قام وركع ركعتين.
واختلف في شهوده بدرًا قال ابن سعد: كان شريفا كاملا، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، وكان ممن ثبت يوم أحد، وجرح حينئذ سبع جراحات، وقال ابن السكن: شهد بدرًا والعقبة وكان من النقباء.
من ملامح شخصيته
ولعه بالقرآن:
عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ـ وفرسه مربوطة عنده ـ إذ جالت الفرس فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها ـ فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقرأ يا ابن حضير قال: قد أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال وتدري ما ذاك؟ قال لا قال تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم
عن أبي سعيد الخدري وابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ يا أسيد فقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود عليه السلام.
شعوره بالمسلمين وعطفه وحرصه عليهم:
عن أنس قال: جاء أسيد بن حضير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قسم طعاما فذكر له أهل بيت من الأنصار من بني ظفر فيهم حاجة وجل أهل ذلك البيت نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تركتنا يا أسيد حتى ذهب ما في أيدينا فإذا سمعت بشيء قد جاءنا فاذكر لي أهل ذلك البيت فجاءه بعد ذلك طعام من خيبر شعير أو تمر فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقسم في الأنصار فأجزل وقسم في أهل البيت فأجزل فقال أسيد بن حضير متشكرا: جزاك الله أي نبي الله أطيب الجزاء - أو قال: خيرا - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنتم معشر الأنصار فجزاكم الله أطيب الجزاء - أو قال خيرا - فإنكم ما علمت أعفة صبر وسترون بعدي أثرة في الأمر والقسم فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
موقفه في غزوة بدر:
عن عبد الله بن أبي سفيان قال ولقيه أسيد بن حضير فقال يا رسول الله الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا ولكني ظننت أنها العير ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقت.
مزاحه مع النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بينا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني فقال "اصطبر" قال إن عليك قميصا وليس علي قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ( الكشح وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي ) قال إنما أردت هذا يا رسول الله.
موقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مقالة لليهود:
روى الإمام مسلم بسنده عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض" إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما
(موقفه مع الرسول من الرجل الغادر):
كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرن؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له: إن أنت وفيتني خرجت إليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق، خريت، معي خنجر مثل خافية النسر قال: أنت صاحبنا وأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد، قال: قال الأعرابي: لا يعلمه أحد
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحي يوم سادسه ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل، فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجده في جماعة في أصحابه يحدث في مسجده فلما دخل و رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل إزاره فإذا الخنجر فقال: يا رسول الله هذا غادر
فأسقط في يد الأعرابي وقال: دمي دمي يا محمد وأخذه أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: اصدقني ما أنت وما أقدمك فإن صدقتني نفعك الصدق وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به قال العربي: فأنا آمن؟ قال: وأنت آمن فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك؟ قال: وما هو؟ فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر...
موقفه مع الرسول لما بلغه مقالة عبد الله بن أبي حين إقفاله من غزوة بني المصطلق:
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم(بالجيش) وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله والله لقد رحت في ساعة منكرة(وقت الظهيرة) ما كنت تروح في مثلها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: و أي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت وهو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
مواقف من حياته مع الصحابة:
موقفه رضي الله عنه مع سيدنا سعد بن عبادة في حادث الإفك:
قالت السيدة عائشة في حديثها الطويل: فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال رسول الله: ( من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي فوالله فوالله فوالله - ثلاث مرات - ما علمت على أهلي إلا خيرا وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك
موقفه رضي الله عنه مع قومه لما اشتكى من مرضه:
عن عبد الله بن هبيرة أن أسيد بن حضير كان يؤم بني عبد الأشهل وانه اشتكى فخرج إليهم بعد شكواه فقالوا له تقدم قال لا أستطيع أن أصلي قالوا لا يؤمنا أحد غيرك ما دمت فقال اجلسوا فصلى بهم جلوسا.
موقفه مع سيدنا عمر رضي الله عنه:
عن أسيد بن حضير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم ستلقون بعدي أثرة فلما كان زمان عمر قسم حللا فبعث إلي منها بحلة فاستصغرتها فأعطيتها ابني فبينا أنا أصلي إذ مر بي شاب من قريش عليه حلة من تلك الحلل يجرها فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستلقون أثرة بعدي فقلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق رجل إلى عمر فأخبره فجاء وأنا أصلي فقال: صل يا أسيد فلما قضيت صلاتي قال: كيف قلت؟ فأخبرته قال: تلك حلة بعثت بها إلى فلان وهو بدري أحدي عقبي فأتاه هذا الفتى فابتاعها منه فلبسها فظننت أن ذلك يكون في زماني قلت: قد والله يا أمير المؤمنين ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك.
موقفه رضي الله عنه مع آل أبي بكر:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون إلى المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري راقد أقبل أبي فلكزني لكزة ثم قال: حبست الناس! ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ونزلت: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة.
موقفه رضي الله عنه عند وفاة امرأته:
عن عائشة قالت قدمنا من حج أو عمرة فتلقينا بذي الحليفة وكان غلمان من الأنصار تلقوا أهليهم فلقوا أسيد بن حضير فنعوا له امرأته فتقنع وجعل يبكي قالت فقلت له غفر الله لك أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولك من السابقة والقدم ما لك تبكي على امرأة فكشف عن رأسه وقال صدقت لعمري حقي أن لا أبكي على أحد بعد سعد بن معاذ وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال قالت قلت له ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ قالت وهو يسير بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أثره في الآخرين:
في لحظات إسلامه الأولى رضي الله عنه أصبح داعية إلى الله تعالى، وكان هو وسعد بن معاذ سيدا قومهما وبمجرد أن أسلم أسيد رضي الله عنه قال لسيدنا مصعب: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: فافعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد ( مغضبا ) مبادرا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا مابيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن: قالا: فعرفنا والله في وجهة الإسلام: قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ثم تشهد شهادة الحق ثم صلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين.
وممن روى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسيد رضي الله عنه أم المؤمنين السيدة عائشة وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعكرمة بن خالد بن العاص...
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن أسيد بن حضير رضي الله عنهم أن رجلا من الأنصار قال يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا قال: "ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"
مناقبه وما قيل فيه:
في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح"
وعن عائشة قالت ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل كلهم من بني عبد الأشهل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر
وقال عنه أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس (شديدة الظلمة) فتحدثا عنده حتى إذا خرجا أضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوئها فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد منهما عصاه فمشى في ضوئها انفرد بإخراجه البخاري.
روى الإمام أحمد بسنده عن عائشة أنها كانت تقول كان أسيد بن حضير من أفاضل الناس وكان يقول لو أني أكون كما أكون على أحوال ثلاث من أحوالي لكنت حين أقرأ القرآن وحين أسمعه يقرأ وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا شهدت جنازة وما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي بسوى ما هو مفعول بها وما هي صائرة إليه.
وفاته:
عن عروة أن أسيد بن حضير مات وعليه دين أربعة آلاف درهم فبيعت أرضه فقال عمر لا أترك بني أخي عالة فرد الأرض وباع ثمرها من الغرماء أربع سنين بأربعة آلاف كل سنة ألف درهم، وقد توقي رضي الله عنه سنة 20 من الهجرة ودفن بالبقيع.
طالب عفو ربي
18-07-2009, 03:12 PM
أنس بن النضر
نسبه وقبيلته:
هو أبو عمرو أنس بن النضر بن ضخم النجاري الخزرجي الأنصاري عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
إسلامه:
أسلم رضي الله عنه بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا...
أهم ملامح شخصيته:
الشوق الشديد إلى الجنة:
عن أنس قال:عمي أنس بن النضر سميت به لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر علي فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع قال فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية فقالت: عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه.
في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر، "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ".
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فقال أنس بن النضر أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم وعفوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" زاد الفزاري عن حميد عن أنس فرضي القوم وقبلوا الأرش.
مواقف من حياته مع الصحابة:
لما جال المسلمون يوم أحد جولاتهم، وأُشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل استمر أنس بن النضر يقاتل فرأى عمر ومعه رهط فقال: ما يقعدكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم جال بسيفه حتى قتل.
وفاته:
استشهد رضي الله عنه وأرضاه في غزوة أحد، ووجد به بضع وثمانون مابين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ومثل به المشركون انتقاماً مما صنع بهم حتى لم يعرفه أحد إلا أخته الرُّبَيّع عرفته ببنانه.
طالب عفو ربي
18-07-2009, 03:19 PM
أنس بن مالك
مقدمة
هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري من بني عدي بن النجار، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتسمّى به ويفتخر بذلك، وقد وُلد رضي الله عنه قبل الهجرة بعشر سنوات، وكنيته أبو حمزة...
وأم أنس هي أم سليم بنت ملحان اختُلف في اسمها فقيل: سهلة، وقيل رميلة، وقيل رميثة، وقيل مليكة، ويقال الغميصاء أو الرميصاء، كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها وعرضت الإسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري خطبها مشركًا...
عن أنس بن مالك قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: يا أبا طلحة ما مثلك يُرد ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة لا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة كانت أكرم مهرا من أم سليم...
وروى عن أم سليم رضي الله عنها أنها قالت: لقد دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما أريد زيادة، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت أني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة".
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
تربى أنس بن مالك على يد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم تربية خاصة، فمنذ بلغ العاشرة من عمره أتت به أمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ليخدمه ويتربى على يديه، وصح عنه أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين وأن أمه أم سليم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم فقالت له: هذا أنس غلامٌ يخدمك فقبله.
وروى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف ولا لم صنعت ولا ألّا صنعت.
وروى الترمذي بسنده عن أنس قال خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته ولا لشيء تركته لِمَ تركته وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا ولا مسست خزًا قطّ ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكًا قطّ ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت هذه الأخلاق العالية الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيلة بتنشئة أنس رضي الله عنه هذه التنشئة العظيمة في مدرسة النبوة، فلقد قضى رضي الله عنه أهم وأخطر فترات حياته وبداية اكتمال بنيانه التربوي والجسمي في بيت النبوة وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما كان انس رضي الله عنه وأرضاه متأثرًا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان كذلك متأثرًا بأقواله، وإذا نظرنا في الأحاديث التي رواها أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه نجد أنها قد تناولت جميع الجوانب في حياة المسلم، عبادة ومعاملات وأخلاقًا ولا شك أن أنسًا رضي الله عنه وهو من يروي هذه الأحاديث كان من أكثرالناس تأثرًا بها...
وقد انعكس هذا التأثر العظيم برسول الله صلى الله عليه وسلم على حياة أنس رضي الله عنها كلها حتى لقي الله عز وجل.
أهم ملامح شخصيته:
كثرة علمه ودوام صحبتة للرسول صلى الله عليه وسلم:
عندما أتت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه أخبرته صلى الله عليه وسلم أنه كاتب وهذه الميزة العظيمة لم تكن متوفرة إلا في النفر القليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على فطنة أنس رضي الله عنه وذكائه منذ الصغر فقد كان حينها لم يتجاوز العاشرة من عمره، وقد كان هذا الذكاء وهذه الفطنة من الأهمية بمكان حيث حفظ رضي الله عنه وفقِه وتعلّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إنه في المرتبة الثالثة بعد ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم جميعًا في كثرة الأحاديث التي رواها وحفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسنده ألفان ومائتان وستة وثمانون حديثًا، اتفق له البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثا، وانفرد البخاري بثمانين حديثا، ومسلم بتسعين.
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
شهد أنس رضي الله غزوة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخدمه حيث كان عمره حينها اثني عشرعامًا...
قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من أحسن الناس خلق، وأرحبهم صدراً، وأوفرهم حنانًا فقد أرسلني يوماً لحاجة فخرجت، وقصدت صبياناً كانوا يلعبون في السوق لألعب معهم ولم أذهب إلى ما أمرني به، فلما صرت إليهم شعرت بإنسانٍ يقف خلفي، ويأخذ بثوبي، فالتفت فإذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتبسم ويقول: يا أنيس أذهبت إلى حيث أمرتك؟ فارتبكت وقلت: نعم إني ذاهب الآن يا رسول الله، والله لقد خدمته عشر سنين، فما قال لشيءٍ صنعته:لم صنعته؟! ولا لشيءٍ تركته: لم تركته؟
وكثيراً ما كان يقول: لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا ، ورأيته يوم قُبض من، فلم أرَ يومين يشبهانهما، ففي يوم دخوله المدينة أضاء فيها كل شيء وفي اليوم الذي أوشك فيه أن يمضي إلى جوار ربه أظلم فيها كل شيء وكان آخر نظرة نظرتها إليه يوم الاثنين حين كشفت الستارة عن حجرته، فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف، وكان الناس يومئذٍ وقوفاً خلف أبي بكر ينظرون إليه، وقد كادوا أن يضطربو، فأشار إليهم أبو بكر أن اثبتوا.
ثم توفي الرسول عليه الصلاة والسلام فما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجهه - (صلى الله عليه وسلم) - حين واريناه ترابه، وكان رضي الله عنه يقول: إني لأرجوا أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة فأقول له: يا رسول الله هذا خويدمك أُنَيْس.
وعن أنس بن مالك قال: أتاني معاذ بن جبل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة. فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله حدثني معاذ أنك قلت: من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة. قال: "صدق معاذ، صدق معاذ، صدق معاذ".
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
مع أخيه البراء بن مالك
عن أنس بن مالك قال دخلت على البراء بن مالك وهو يتغنى بالشعر فقلت له يا أخي تتغنى بالشعر وقد أبدلك الله به ما هو خير منه؛ القرآن.
قال: أتخاف علي أن أموت على فراشي وقد تفردت بقتل مائة سوى من شاركت فيه إني لأرجو ألا يفعل الله ذلك بي.
مع ثابت بن قيس
قال أنس بن مالك لما انكشف الناس يوم اليمامة قلت لثابت بن قيس ابن شماس: ألا ترى يا عم ووجدته قد حسر عن فخذيه وهو يتحنط فقال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما عودتم أقرانكم وبئس ما عودتم أنفسكم اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه.
مع زيد بن مالك
عن أنس بن مالك قال: خرجت وأنا أريد المسجد فإذا بزيد بن مالك فوضع يده على منكبي يتكئ على فذهبت وأنا شاب أخطو خطا الشباب فقال لي زيد: قارب الخطى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مشى إلى المسجد كان له بكل خطوة عشر حسنات".
بعض المواقف من حياته مع التابعين:
روى أبو داود بسنده عن نافع أبي غالب قال: كنت في سكة المربد فمرت جنازة معها ناس كثير قالوا: جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على بريذينته وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس فقلت: من هذا الدهقان؟ قالوا: هذا أنس بن مالك فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد فقالوا: يا أبا حمزة المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال: نعم قال: يا أبا حمزة غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم غزوت معه حنينا فخرج المشركون فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا وفي القوم رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا فهزمهم الله وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن علي نذرا إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بالرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله تبت إلى الله فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبايعه ليفي الآخر بنذره قال: فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئا بايعه فقال الرجل: يا رسول الله نذري، فقال: "إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك" فقال: يا رسول الله ألا أومضت إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبي أن يومض".
مع الزهري:
قال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك فقال لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت
مع غيلان بن جرير:
قال غيلان بن جرير: قلت لأنس بن مالك يا أبا حمزة: أرأيت اسم الأنصار اسم سماكم الله به أم أنتم كنتم تسمون به من قبل قال: بل اسم سمانا به الله.
مع قهرمانه وهو القائم بأموره:
عن ثابت قال: كنت مع أنس فجاء قهرمانه فقال: يا أبا حمزة عطشت أرضنا قال فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية وصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب تلتئم قال ثم مطرت حتى ملأت كل شيء فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال انظر أين بلغت السماء فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيرا وذلك في الصيف.
مع سيرين والد محمد:
عن أنس بن سيرين عن أبيه قال كاتبني أنس بن مالك على عشرين ألفا فكنت فيمن فتح تستر فاشتريت رثة فربحت فيها فأتيت أنس بن مالك بكتابته فأبى أن يقبلها مني.
مع ثابت البناني
عن ثابت البناني قال قلت لأنس بن مالك كم خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عشر سنين فلم يغير علي في شيء أسأت ولا أحسنت قلت فأخبرني بأعجب شيء رأيت منه في هذه العشر سنين ما هو قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت مولاه زيد بن حارثة قالت أم سليم يا أنس إن رسول الله أصبح اليوم عروسا وما أرى عنده من غداء فهلم تلك العكة فناولتها فعملت له حيسا من عجوة في تور من فخار قدر ما يكفيه وصاحبته وقالت اذهب به إليه فدخلت عليه وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب فقال ضعه فوضعته بينه وبين الجدار فقال لي ادع أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وذكر ناسا من أصحابه سماهم فجعلت أعجب من كثرة من أمرني أن أدعوه وقلة الطعام إنما هو طعام يسير وكرهت أن أعصيه فدعوتهم فقال انظر من كان في المسجد فادعه فجعلت آتي الرجل وهو يصلي أو هو نائم فأقول أجب رسول الله فإنه أصبح اليوم عروسا حتى امتلأ البيت فقال لي هل بقي في المسجد أحد قلت لا قال فانظر من كان في الطريق فادعهم قال فدعوت حتى امتلأت الحجرة فقال هل بقي من أحد قلت لا يا رسول الله قال هلم التور فوضعته بين يديه فوضع أصابعه الثلاث فيه وغمزه وقال للناس كلوا بسم الله فجعلت أنظر إلى التمر يربو أو إلى السمن كأنه عيون تنبع حتى أكل كل من في البيت ومن في الحجرة وبقي في التور قدر ما جئت به فوضعته عند زوجته ثم خرجت إلى أمي لأعجبها مما رأيت فقالت لا تعجب لو شاء الله أن يأكل منه أهل المدينة كلهم لأكلوا فقلت لأنس كم تراهم بلغوا قال أحدا وسبعين رجلا وأنا أشك في اثنين وسبعين
مع مكحول:
قال مكحول: رأيت أنس بن مالك في مسجد دمشق فقلت رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا أسلم عليه ولا أسأله فسلمت عليه وسألته عن الوضوء من حمل الجنازة أو من شهود الجنازة فقال كنا في صلاة ورجعنا إلى صلاة فما بال الوضوء فيما بين ذلك.
بعض الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنس بن مالك رضي الله عنه من أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه لازَم الرسول الكريمَ صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، مرافقًا له وخادمًا ومتعلمًا منه...
وهذه بعض الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى البخاري بسنده عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم أيّكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك" فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال: "سل عما بدا" لك فقال: أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة قال: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
وفي البخاري بسنده أيضًا عن قتادة عن أنس بن مالك قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده فقلت لقتادة من قال: نقشه محمد رسول الله قال: أنس
عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال يا معاذ بن جبل قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال يا معاذ قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا وأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
وعن أنس بن مالك أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤوا منه قال فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤوا من عند آخرهم.
أثره في الآخرين:
لأنس بن مالك رضي الله عنه الأثر الكبير في غيره من الناس، ذلك أنه كان رضي الله عنه يحمل الكثير من الكنوز من السنة النبوية العطرة، من خلال هذه الصحبة الطويلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن رضي الله عنه ليحتفظ بهذا العلم لنفسه أو يكتمه عن غيره ممن لاقاهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أن بارك الله له في عمره ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستفادت منه أجيال التابعين، ورووا عنه وحفظوا ما رواه هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى عنه ما يزيد على مائتين وخمسة وثمانين من الصحابة والتابعين، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد على 2200من الأحاديث، مما يدل على عظيم أثره، وعلو همته، في تبليغ العلم الذي حصّله من الرسول صلى الله عليه وسلم...
وكان رضي الله عنه يُسأل فيجيب فعن سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه قال: نعم
وعن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت قلت: قبل الركوع أو بعده قال: قبله قال: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع فقال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا أراه كان بعث قوما يقال لهم القرّاء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم.
وعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك قال: قلت: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كانت مدا ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم.
بعض كلماته:
عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء إمام قطّ أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه.
وقيل لأنس بن مالك: إن حب علي وعثمان رضي الله عنهما لا يجتمعان في قلب واحد،فقال أنس رضي الله عنه: كذبوا والله لقد اجتمع حبهما في قلوبنا.
وعن أنس بن مالك قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا كان يقول لأحدنا عند المعاتبة ما له ترب جبينه
وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس قال فزع أهل المدينة ليلة فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم وهو يقول لن تراعوا وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف قال فجعل يقول للناس: "لن تراعوا"
لمحات من حياته:
قال ابن حجر في الإصابة:
عن أنس قال قالت أم سليم يا رسول الله أدع الله لأنس فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين. وقال جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام فقالت يا رسول الله أنس أدع الله له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة" قال: قد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة...
كان أنس رضي الله عنه يخضب بالصفرة، وقيل: بالحناء وقيل: بالورس وكان يخلق ذراعيه بخلوق للمعة بياض، كانت به وكانت له ذؤابة فأراد أن يجزها فنهته أمه وقالت: كان النبي يمدها ويأخذ بها، وداعبه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "يا ذا الأذنين".
وكان نقش خاتمه رضي الله عنه صورة أسد رابض وكان يشد أسنانه بالذهب، وكان أحد الرماة المصيبين، ويأمر ولده أن يرموا بين يديه، وربما رمى معهم فيغلبهم بكثرة إصابته، وكان يلبس الخز ويتعمم به...
وقد بارك الله له في ماله وولده وعمره، ويقال إن أنس بن مالك قد رأى من صلبه من ولده وولدِ ولدِه نحوًا من مائة قبل موته وذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: " اللهم ارزقه مالًا وولدًا وبارك له "، قال أنس: فإني لمن أكثر الأنصار مالًا وولدًا ويقال إنه وُلد لأنس بن مالك ثمانون ولداً منهم ثمانية وسبعون ذكرًا والبنتان الواحدة تسمى حفصة والثانية تكنى أم عمرو، وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.
عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم خارجا من جبال مكة إذ أقبل شيخ متكىء على عكازة...
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مشية جني ونغمته!
قال: أجل.
قال: من أي الجن أنت؟
قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس.
قال: لا أرى بينك وبينه إلا أبوين!
قال: أجل.
قال: كم أتى عليك؟
قال: أكلت عمر الدنيا إلا أقلها؛ كنت ليالي قتل قابيل هابيل ابن أعوام - وذكر أنه تاب على يد نوح عليه السلام وآمن معه وأنه لقي شعيبا عليه السلام وإبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام - ولقي عيسى عليه السلام فقال له عيسى: إن لقيت محمدا فأقرئه مني السلام وقد بلغت وآمنت بك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على عيسى السلام وعليك يا هامة، وعلمه رسو ل الله صلى الله عليه وسلم عشر سور من القرآن.
فقال عمر بن الخطاب: فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينعه لنا ولا أراه إلا حيا.
وفاته:
عن صفوان بن هبيرة عن أبيه قال: قال لي ثابت البناني: قال لي أنس بن مالك: هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعها تحت لساني قال فوضعتها تحت لسانه فدفن وهي تحت لسانه.
وكان عنده عصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات أمر أن تدفن معه فدفنت معه بين جنبه وقميصه.
وقد اختلف في وقت وفاته رضي الله عنه، فقيل سنة إحدى وتسعين، وقيل أيضا سنة اثنتين وتسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين قاله خليفة ابن خياط وغيره، وقال خليفة مات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين وهو ابن مائة سنة وثلاث سنين وقيل: كانت سنّه إذ مات مائة سنة وعشر سنين.
ويقال: إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعلم أحدا مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا الطفيل عامر بن وائلة، وكان موته بقصره بالطف ودفن هناك على فرسخين من البصرة وصلى عليه قطن بن مدرك الكلابي.
ريناد
19-07-2009, 09:44 AM
جزاك الله خير
طالب عفو ربي
24-07-2009, 03:42 PM
بريدة بن الحصيب
مقدمة
هو بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ بن عبد الله بن الحارث أبو عبد الله الأسلمي.(1)
وكان إسلامه حين اجتاز به رسول الله [صلي الله عليه وسلم ] وهو مهاجر إلى المدينة عند كراع الغميم فلما كان هناك تلقاه بريدة في ثمانين نفسا من أهله فأسلموا وصلى بهم صلاة العشاء وعلمه ليلتئذ صدرًا من سورة مريم.(2)
أهم ملامح شخصيته:
1- الشجاعة والإقدام:
عن ابن بريدة عن أبيه أنه قال: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.(3)
2- حب النبي [صلى الله عليه وسلم]، فكان يحبه أكثر من نفسه.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن بريدة بن الحصيب قال: مررت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكرت عليا فتنقصته فجعل وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتغير فقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.(4)
وقال له نبي الله (صلى الله عليه وسلم): "من أنت". قال أنا بريدة فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: "يا أبا بكر برد أمرنا وصلح". ثم قال لي: "ممن أنت": فقلت من أسلم، قال لأبي بكر: "سلمنا". قال: ثم قال: من بني من؟ قلت: من بني سهم قال: " خرج سهمك".(5)
من مواقفه مع الصحابة
قال عبد الله بن بريدة حدثني أبي بريدة قال أبغضت عليا لم أبغضه أحدا قال خيل قال فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا فأصبنا سبيا فكتبنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن ابعث إلينا من يخمسه فبعث إلينا عليا قال وفي السبي وصيفة هي من أفضل السبي فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر فقلنا يا أبا الحسن ما هذا قال الم ترو إلى الوصيفة التي كانت في السبي فاني قسمت وخمست فصارت في الخمس ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت في آل علي فوقعت بها قال وكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ابعثني فبعثني مصدقا قال فجعلت اقرأ الكتاب وأقول صدق قال فامسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدي والكتاب قال أتبغض عليًّا قال قلت نعم قال فلا تبغضه وان كنت تحبه فازدد له حبا فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة قال فما كان من الناس أحد بعد قول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أحب إلى من علي قال عبد الله فوالذي لا اله غيره ما بيني وبين النبي [صلى الله عليه وسلم] في هذا الحديث غير أبي بريدة.(6)
وله موقف مع سلمة بن الأكوع فعندما قدم سلمة المدينة فلقيه بريدة بن الحصيب فقال ارتددت عن هجرتك يا سلمة فقال معاذ الله إني في إذن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ابدوا يا أسلم فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب فقالوا إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا قال أنتم مهاجرون حيث كنتم.
من مواقفه مع التابعين:
قال عبد الملك كنت أجالس بريدة بن الحصيب فقال لي يوما يا عبد الملك إن فيك خصالا وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله ( ص ) يقول إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق.(7)
بعض ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم
عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]: لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له.(8)
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله طهرني فقال: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه) قال فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه) قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيم أطهرك؟) فقال من الزنا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبه جنون؟) فأخبر أنه ليس بمجنون فقال: (أشرب خمرًا؟) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أزنيت؟) فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: (استغفروا لماعز بن مالك) قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم).
قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ( ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه ) فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال ( وما ذاك؟ ) قالت إنها حبلى من الزنا فقال (آنت؟) قالت نعم فقال لها (حتى تضعي ما في بطنك) قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال: (إذا لا نرجمها وندع لها ولدها صغيرا ليس له من يرضعه) فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها.(9)
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء فما ظنكم؟(10)
وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنك لك الأولى وليست لك الآخرة.(11)
وجاء في سنن أبي داود عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتها [ ما ] أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله تعالى فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم.
وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة فليس منا".
وجاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر لا يخرج حتى يطعم ويوم النحر لا يطعم حتى يرجع.
وعن بريدة بن الحصيب قال حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ثم أخذه من الغد عمر فخرج فرجع ولم يفتح له وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له وبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا قال فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى الغداة ثم قام قائما فدعا باللواء والناس على مصافهم فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء ففتح له قال بريدة وأنا فيمن تطاول لها.
من كلماته:
لا عيش إلا طراد الخيل بالخيل.(12)
الوفاة:
قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: توفي بريدة بن الحصين بخراسان سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد بن معاوية.
وجاء في مجمع الزوائد "مات بريدة بن الحصيب الأسلمي بخراسان في خلافة يزيد بن معاوية سنة اثنتين وستين وبريدة يكنى أبا عبد الله.
طالب عفو ربي
30-07-2009, 07:33 PM
تميم الداري
هو تميم بن أوس بن خارجة ينسب إلى الدار وهو بطن من لخم يكنى أبا رقية بابنة له تسمى رقية لم يولد له غيرها.
ولد رضي اله عنه بفلسطين وكان راهبها وعابدها ثم قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ليسلم...
إسلامه:
كان نصرانيا وكان إسلامه في سنة تسع من الهجرة وقد صحب تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا معه وروى عنه، وكان يسكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.
من ملامح شخصيته:
كثرة العبادة:
تميم رضي الله عنه ممن اشتهروا بكثرة العبادة وقيام الليل وتلاوة القرآن...
عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي: "أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ"
وفي شعب الإيمان أن تميمًا الداري كان يختم القرآن في كل سبع...
وعن صفوان بن سليم قال قام تميم الداري في المسجد بعد ان صلى العشاء فمر بهذه الاية: "تلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ" فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح.
ورعه:
عن تميم الداري في هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني هاشم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا و عدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه فحلف فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } إلى قوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.
إيجابيته:
تظهر إيجابيته رضي الله عنه من خلال مقترحاته على النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري ألا أتخذ لك منبرا يارسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال " بلى " فاتخذ له منبرا.
وكان رضي الله عنه أيضًا صاحب اقتراح إضاءة المسجد بالقنديل والزيت وكانوا لا يسرجون قبل ذلك إلا بسعف النخل وقد بعث رضب الله عنه خمسةً من غلمانه لهذا الغرض وكان اسم أحدهم " فتحًا" فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سراجًا...
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أول من أسرج في المسجد تميم الداري.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال عكرمة لما أسلم تميم قال يا رسول الله إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من بيت لحم قال هي لك وكتب له بها قال فجاء تميم بالكتاب إلى عمر فقال أنا شاهد ذلك فأمضاه
وعن زيد بن عامر قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لتميم الداري: " سلني ". فسأله بيت عينون ومسجد إبراهيم فأعطاهن إياه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا زيد سلني " قلت: أسألك الأمن والإيمان لي ولولدي فأعطاني ذلك.
موقفه رضي الله عنه وغلامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قدم سراج مولى تميم الداري على النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة غلمان لتميم وأسرج في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالقنديل والزيت وكانوا لا يسرجون قبل ذلك إلا بسعف النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسرج مسجدنا " فقال تميم الداري: غلامي هذا. فقال: ما اسمه فقال: فتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل اسمه سراج" قال: فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سراجا.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري:
عن فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم مسرعا فصعد المنبر ونودي في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فقال يا أيها الناس إني لم أدعكم لرغبة ولا لرهبة ولكن تميم الداري أخبرني أن نفرا من أهل فلسطين ركبوا البحر فقذف بهم الريح إلى جزيرة من جزائر البحر فإذا هم بدابة أشعر لا يدري ذكر هو أو أنثى لكثرة شعره فقالوا من أنت فقالت أنا الجساسة فقالوا فأخبرينا فقالت ما أنا بمخبرتكم ولا مستخبرتكم ولكن في هذا الدير رجل فقير إلى أن يخبركم وإلى أن يستخبركم فدخلوا الدير فإذا هو رجل أعور مصفد في الحديد فقال من أنتم قالوا نحن العرب فقال هل بعث فيكم النبي قالوا نعم قال فهل اتبعه العرب قالوا نعم قال ذاك خير لهم قال فما فعلت فارس هل ظهر عليها قالوا لا قال أما أنه سيظهر عليها ثم قال ما فعلت عين زغر قالوا هي تدفق ملأى قال فما فعل نخل بيسان هل أطعم قالوا نعم أوائله قال فوثب وثبة حتى ظننا أنه سيفلت فقلنا من أنت فقال أنا الدجال أما أني سأطأ الأرض كلها غير مكة وطيبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا معاشر المسلمين هذه طيبة لا يدخلها.
من مواقفه مع الصحابة:
موقفه مع سيدنا عمر:
عن حميد بن عبد الرحمن أن تميما استأذن عمر في القصص سنين ويأبى عليه فلما أكثر عليه قال ما تقول قال أقرأ عليهم القرآن وآمرهم بالخير وأنهاهم عن الشر قال عمر ذاك الربح ثم قال عظ قبل أن أخرج للجمعة، فكان يفعل ذلك فلما كان عثمان استزاده فزاده يوما...
من مواقفه مع التابعين:
عن محمد بن عقبة القاضي عن أبيه عن جده قال أتينا تميما الداري وهو يعالج عليق فرسه بيده فقلنا له يا أبا رقية أما لك من يكفيك قال بلى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ارتبط فرسا في سبيل الله يعالج عليقة بيده كان له بكل حبة حسنة"
بعض ما رواه عن االنبي صلى الله عليه وسلم:
روى مسلم بسنده عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن أكملها كتبت له نافلة فإن لم يكن أكملها قال الله سبحانه لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فأكملوا بها ما ضيع من فريضته ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك"
وعنه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.
من كلماته:
قال تميم الداري رضي الله عنه: خذ من ذنبك لنفسك و من نفسك لدينك حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها
ومن أقواله رضي الله عنه: والله لركعة أصليها في جوف الليل في سر أحب إلي من أن اصلي الليل كله ثم أقصه على الناس
أثره في الآخرين:
روى عنه أربعة عشر من الصحابة والتابعين منهم عبد الله بن عباس وقبيصة بن ذؤيب وعطاء بن يزيد وغيرهم...
وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد...
وعن يزيد بن عبد الله قال قال رجل لتميم الداري ما صلاتك بالليل فغضب غضبا شديدا ثم قال والله لركعة أصليها في جوف الليل في سر أحب إلي من أن اصلي الليل كله ثم أقصه على الناس، فغضب الرجل فقال الله أعلم بكم يا أصحاب رسول الله.
صلى الله عليه وسلم ان سألناكم عنفتمونا وان نسألكم حفيتمونا فأقبل عليه تميم فقال أرأيتك لو كنتَ مؤمنا قويا وأنا مؤمن ضعيف سأعطيك أنا على ما أعطاك الله، ولكن خذ من دينك لنفسك ومن نفسك لدينك حتى تستقيم على عبادة تطيقها.
وفاته:
توفي رضي الله عنه وأرضاه سنة أربعين من الهجرة.
طالب عفو ربي
05-08-2009, 06:36 PM
عمير بن الحمام
نسبه وقبيلته:
هو عمير بن الحمام بن الجموح بن كعب الإنصارى , من بنى سلمة من الأنصار..
قصة إسلامه:
من السابقين للإسلام قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة وبعد وصول الرسول إلى يثرب ظل محبا لرسول الله وزادت عقيدته تأصيلا وقوة فكان على استعداد لفداء الاسلام بحياته..
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
كان للرسول صلى الله عليه وسلم كثير الأثر فهو بمجرد سماعه لحديث الرسول : والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة، فقال عمير بن الحمام -أحد بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن- : بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمر من يده، وأخذ سيفه، فقاتل حتى قتل..
اهم ملامح شخصيته:
الشجاعة والإقدام
وبعد أن سمع عمير حديث النبي هلى الله عليه وسلم وتقدم بشجاعة وظل يقاتل محتسبا لوجه الله تعالى .. مقبلا على مواقع الإستشهاد .. بكل جرأة وقوة وشجاعة حتى لقى ربه .. فكان أول شهداء النزال والإلتحام فى المعركة ..
وفاز بنعمة الشهادة ... رضى الله عنه..
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
ـ حدثنا أبو بكر بن النضر بن أبي النضر وهارون بن عبد الله ومحمد بن رافع وعبد بن حميد وألفاظهم متقاربة قالوا حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان وهو ابن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا أدري ما استثنى بعض نسائه قال فحدثه الحديث قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة فقال لا إلا من كان ظهره حاضرا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال نعم قال بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء
أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل . رواه مسلم..
ـ وأخرج سعيد بن يعقوب في الصحابة من طريق حماد، عن ثابت البناني قال: قتل عمير بن الحمام، خالد بن الأعلم يوم بدر، ووقع لعبد الغني بن سعيد الحافظ في المبهمات وهم، وذلك في حديث جابر قال رجل: يا رسول الله، إن قتلت أين أنا؟ قال في الجنة، فألقى تمرات كن في يده، فقاتل حتى قتل .
اثره في الأخرين:
لقد آثر عمير بن الحمام في جميع المسلمين المشتركين في غزوة بدر من أجل تحريضه لهم على الشهادة وطلبه لها بكل ما أوتي من قوة ونظرته لطول عمره إلى أن يفرغ من اكل التمرات التي في يده فيرميها.. (انظر الحديث المذكور في مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم..)
الـوفاة:
قال الواقدي : ومن قتل من بني سلمة بن حرام عمير بن الحمام بن الجموح ، قتله خالد بن الأعلم . حدثني محمد بن صالح قال أول قتيل قتل من الأنصار في الإسلام عمير بن الحمام ، قتله خالد بن الأعلم ويقال حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة
طالب عفو ربي
05-08-2009, 06:40 PM
يزيد بن أبي سفيان
هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أخو معاوية من أبيه، وقال أبو عمر: كان أفضل أولاد أبي سفيان وكان يقال له: يزيد الخير، وأمه أم الحكم زينب بنت نوفل بن خلف من بني كنانة، يكنى أبا خالد..
حاله في الجاهلية:
كان من العقلاء الألباء، والشجعان المذكورين..
قصة إسلامه:
أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشهد حنين..
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه سلم:
ـ شهد حنينا، فقيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ; أعطاه من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة.
بعض المواقف من حياته مع الصحابة:
وصية أبي بكر له:
كان مما قاله أبو بكر ليزيد:
(إني وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك وإن أسأت عزلتك فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك وإن أولى الناس بالله أشدهم توليا له وأقرب الناس من الله أشدهم تقربا إليه بعمله وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا وأصلح نفسك يصلح لك الناس وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خيلك ويعلموا علمك وأنزلهم في ثروة عسكرك وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم ولا تجعل سرك لعلانيتك فيختلط أمرك وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك فمن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنهما أيسرهما لقربهما من النهار ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدفعا ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسدهم ولا تتجسس عليهم فتفضحهم ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم. ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس. واجتنب الغلول (الخيانة في المغنم) فإنه يقر بالفقر ويدفع النصر وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له
ـ وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، عقد له أبو بكر ومشى معه تحت ركابه يسايره، ويودعه، ويوصيه، وما ذاك إلا لشرفه وكمال دينه، ولما فتحت دمشق، أمره عمر عليه.
وقال إبراهيم بن سعد: كان يزيد بن أبي سفيان على ربع، وأبو عبيدة على ربع، وعمرو بن العاص على ربع، وشرحبيل بن حسنة على ربع، يعني يوم اليرموك. ولم يكن يومئذ عليهم أمير، وأمَّره أبو بكر الصديق لما قفل من الحج سنة اثنتي عشرة أحد أمراء الأجناد، وأمَّره عمر على فلسطين، ثم على دمشق لما مات معاذ بن جبل، وكان استخلفه فأقره عمر.
الوفاة:
(موقف الوفاة والمكان):
توفي يزيد في الطاعون سنة ثماني عشرة، ولما احتضر، استعمل أخاه معاوية على عمله، فأقره عمر على ذلك احتراما ليزيد، وتنفيذا لتوليته.
ومات هذه السنة في الطاعون أبو عبيدة أمين الأمة، ومعاذ بن جبل سيد العلماء، والأمير المجاهد شرحبيل بن حسنة حليف بني زهرة، وابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس وله بضع وعشرون سنة، والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي أبو عبد الرحمن من الصحابة الأشراف، وهو أخو أبي جهل، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري، رضي الله عنهم.
طالب عفو ربي
06-08-2009, 07:11 PM
وبرة بن سنان
هو وبرة بن سنان الجهني
من مواقفه مع جعال أجير عمر بن الخطاب:
كان مع عمر بن الخطاب أجيرا له من غفار يقال له: جعال، وكان معه فرس يقوده فحوض لعمر حوضا فبينما هو قائم على الحوض إذ أقبل رجل من الأنصار يقال له وبرة بن سنان الجهني وسماه أبو عمر: سنان بن تميم وكان حليفا لعبد الله بن أبي فقاتله فتداعيا بقبائلهما فقال عبد الله بن أبي: أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل...
ونزل فيهما "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى......"
طالب عفو ربي
06-08-2009, 07:14 PM
وحشى
هو وحشى بن حرب الحنشى مولى بنى نوفل قيل كان مولى طعيمة بن عدى يكنى أبا سلمة وقيل أبا حرب.
حاله في الجاهلية:
كان وحشي عبدا حبشيا من الموالى عند العرب يقول وحشى عن نفسه كنت غلاما رقيقا لجبير بن مطعم ثم أصبح حرا بعد قتله لحمزة بن عبد المطلب.
يقول وحشي:
كنت غلاما لجبير بن مطعم وكان عمه طعيمة بن عدي قد قتل يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. فخرجت مع الناس حين خرجوا إلى أحد فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته مثل الجمل الأورق في عرض الناس يهز الناس بسيفه هذا ما يقوم له شيء فوالله إني لأريده واستترت منه بشجرة - أو: بحجر - ليدنو مني وتقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة قال: إلي يا ابن مقطعة البظور. وكانت أمه ختانة بمكة فوالله لكأن ما أخطأ رأسه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه. وخليت بينه وبينها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر ولم يكن لي بغيره حاجة. فلما قدمت مكة عتقتى.
قصة إسلامه:
يروى وحشى قصة إسلامه فيقول: فلما افتتح رسول الله مكة هربت إلى الطائف فلما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت على الأرض بما رحبت وقلت بالشام أو اليمن أو بعض البلاد فولله إني لفي ذلك من همي إذ قال رجل: والله إن يقتل - أي لا يقتل - محمدا أحدا يدخل في دينه، فخرجت حتى قدمت المدينة على رسول الله فدخلت عليه في خفة وحذر، ومضيت نحوه حتى صرت فوق رأسه، وقلت أشهد أن لا إله إلا الله، فلما سمع الشهادتين رفع رأسه إلي، فلما عرفني ردَّ بصره عنى، وقال: "أوحشى أنت" قلت: نعم يا رسول الله فقال: "اقعد وحدثني كيف قتلت حمزة؟" فقعدت فحدثته خبره، فلما فرغت من حديثى أشاح بوجهه وقال: "ويحك يا وحشى، غيِّب عنى وجهك، فلا أرينك بعد اليوم".
فما أجمل الإسلام وأعظمه، لا يغلق باب التوبة أمام الإنسان مهما فعل وصدر منه طالما أن ما صدر منه كان قبل أن يدخل الإسلام قلبه.
وقد روي وحشي عن النبي صلي الله عليه وسلم أن أصحابه قالوا: يا رسول إنا نأكل ولا نشبع، قال: "فلعلكم تفترقون" قالوا: نعم قال: "فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه، يبارك لكم فيه".
بعض كلماته:
كان يقول: قتلت بحربتي هذه خيرَ الناس - يقصد حمزة - وشر الناس - يقصد مسيلمة الكذاب - .
وكان يقول أكرم الله حمزة بن عبد المطلب والطفيل بن النعمان بيدي ولم يهني بأيديهما يعني لم يقتل كافرا.
متى توفي؟ أين دفن؟
شهد وحشى اليرموك ثم سكن حمص ومات بها، وكان وحشى قد عاش إلى خلافة عثمان
طالب عفو ربي
06-08-2009, 07:16 PM
وبر بن يحنس
هو وبر بن يحنس الكلبي قال ابن حبان يقال له صحبة.
إسلامه:
كان من الأبناء الذين كانوا باليمن فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
وبعد أن دخل الإيمان قلبه بدأ يدعو إلي الله عز وجل فقدم وبر بن يحنس على الأبناء باليمن يدعوهم إلى الإسلام فنزل على بنات النعمان بن بزرج فأسلمن وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم وإلى مركبود وعطاء ابنه ووهب بن منبه فأسلموا. فرضي الله عن الصحابي الجليل (وبرة بن يحنس).
طالب عفو ربي
10-08-2009, 10:13 PM
هلال بن أمية
هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس واسمه مالك الأنصاري الواقفي.
وكان قديم الإسلام كان يكسر أصنام بني واقف وكانت معه رايتهم يوم الفتح.
وشهد هلال بن أمية بدرا وأحد.
من مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
تخلف هلال بن أمية عن رسول الله في غزوة تبوك فقد ذكر ابن كثير أن قوله تعالي "وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم"
أنهم هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجي هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } الآية { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت }.
وقد ذكر البخاري قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك:
يقول كعب بن مالك "حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربه. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك (يقصد هلال بن أمية ومرارة بن الربيع) فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال ( لا ولكن لا يقربك ). قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه
فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميه أن تخدمه؟ فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله{ صلى الله عليه وسلم} إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون ".
قصة اللعان:
وفي أحد الأيام لاعن هلال بن أمية زوجته، وأقسم لرسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) إنه لصادق.
عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم (البينة أو حد في ظهرك) . فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا، ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك) . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه "والذين يرمون أزواجهم" - فقرأ حتى بلغ - "إن كان من الصادقين". فانصرف النبي (صلى الله عليه وسلم) فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب. ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة. قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
طالب عفو ربي
13-08-2009, 09:59 PM
هاشم بن عتبة
هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بن عبد مناف الزهري الشجاع المشهور المعروف بالمرقال ابن أخي سعد بن أبي وقاص..
قال الدولابي: لقب بالمرقال؛ لأنه كان يرقل في الحرب أي يسرع، من الإرقال وهو ضرب من العدو.
وكان صالحا زاهدا وهو أخو مصعب بن عمير لأمه أسلم يوم الفتح وذهبت عينه يوم اليرموك.
وهو الذي افتتح جلولاء فعقد له سعد لواء ووجهه وفتح الله عليه جلولاء.
إسلامه:
قال الخطيب:أنه أسلم يوم فتح مكة..
بعض مواقف من حياته مع الصحابة:
ـ لما جاء قتل عثمان إلى أهل الكوفة قال هاشم لأبي موسى الأشعري تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الأمة: (علي) فقال: لا تعجل.! فوضع هاشم يده على الأخرى فقال: هذه لعليّ وهذه لي..
ـ عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا صفين مع علي وقد وكلنا بفرسه رجلين فإذا كان من القوم غفلة حمل عليهم فلا يرجع حتى يخضب سيفه دما، قال: ورأيت هاشم بن عتبة وعمار بن ياسر يقول له: يا هاشم
أعور يبغي أهله محل... قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن جابر بن سمرة عن هاشم بن عتبة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: يظهر المسلمون على جزيرة العرب وعلى فارس والروم وعلى الأعور الدجال.
الوفاة:
وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق الزهري قال: قتل عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة يوم صفين.
حــ العندليب ــوده
15-11-2009, 05:27 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
باركـــ الله فيكم وأثابكـــم الفردوس الأعلى بفضله تعالى وكرمه
جعلكم الله زخراا وأفادكــم ووفقكم لما فيه الخير والرشااد
دمتم بخير وسلااام
فى رعاية الله
vBulletin® v3.8.4, Copyright ©2000-2025, Jelsoft Enterprises Ltd.