مأدبة الله
لقد فتح القرآن للعقول أبوابا من العلوم ، وسلك بها سُبُلا من المعارف لم يكن لها عهد بها من قبل ، فكانت نورا وهدى للناس فى سائر العصور ، وكان القرآن ـ كما ورد ـ مأدبة الله لخلقه ، فكانت نورا وهدى للناس فى سائر العصور ، يطعم من يشاء بما يشاء ، ويفيد منها كل إنسان بقدر استطاعته وتهيؤ فطرته لقبول فيضه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه التابعين : حث المسلمين فى كل العصور ، على أن يتخذوا إمامهم القرآن ، يهتدون بهديه ، ويخضعون لحكمه ، ويجتهدون فى تعلمه وتفهم أسراره ، وتدبر معانيه ، كما يرشد إليه قوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدًّبَّروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) ، وقوله تعالى ( ألا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها ) وما رواه أبو هريرة مرفوعا : " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " ، وإعرابه : معرفة ألفاظه ، لا الإعراب المصطلح عليه عند النُّحاة المقابل للحن ، لأن القراءة مع فقده ليست قراءة ولا ثواب لها ، والتماس غرائبه : طلب معرفة هذه المعانى من مصدرها ، وهى الرواية واللغة الفصحى .
وفى القرطبى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فلم يُعْربه وُكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات ، فإن أعرب بعضه وُكِّل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة ، فإن أعربه وُكل به أربعة ملائكة يكتبون له بكل حرف سبعون حسنة ) ، وعن إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون الفرآن وهم لايعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما فلى الكتاب ، ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا في الكتاب .
فقارئ القرآن وسامعه ينبغى له أن يعرف تفسير ما يحتاج إلى التفسير من آياته ، إذ كانت هى الصراط المستقيم ، وهى النور والهدى ، وهى الحجة والبرهان ، وهى أصل كل علم ومنبع كل خير ، وأن يلتمس حقائق مفرداته ومعانيها المستعملة فيها ، التى يتوقف على معرفتها فهم آياته ، بل الفهم فى كل علم ، إذ أن ألفاظ القرآن كما قال الراغب : " لُبُّ كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء ، فى أحكامهم ، والحكماء فى حِكَمهم ، وإليها يفزع حُذَّاق الشعراء والبلغاء فى نظمهم ونثرهم وكلها فى الفصاحة بالمحل الأرفع ، واها الصدارة التى لاتُدفع ، ومنها ألفاظ لايقف على معانيها إلا الراسخون فى اللغة ، المتمرسون بأساليب العرب ولهجاتهم ؛ مثل : حنانا وأبَّا والبَحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامى وغِسْلين وسِجِّين وكنود وفاكهين ونحو ذلك ، وتسمى غرائب القرآن .
مسائل ينبغى معرفتها
الأولى ـ فى المكى والمدنى : أشهر الأقوال فى تعريف المكى والمدنى : أن المكى مانزل قبل الهجرة فى مكة أو ضواحيها ، كمِنى وعرفات والحديبية ، ومنه ما نزل فى طريق المدينة قبل أن يبلغها النبى صلى الله عليه وسلم .
والمدنى ما نزل بعد الهجرة فى المدينة أوفى ضواحيها كبدر وأحُد وسَلْع ، ومنه ما نزل بمكة عام الفتح ، أو حجة الوداع ، وما نزل فى سفر من أسفار بعد الهجرة . والمرجح فى معرفة المكى والمدنى إلى حفظ الصحابة والتابعين ، ومعرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ .
الثانية ـ فى معنى السورة : السورة طائفة من القرآن ، لهل إبتداء وانتهاء ، وترجمة باسم خاص بها أو بعدة أسماء ، عُرف المشهور منها بالتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم ، مأخوذة من سُور المدينة ؛ لاحتوائها على فنون من العلوم ، احتواء سور المدينة ما فيها ، أولارتفاع رتبتها كارتفاعه ، أو من السورة ، وهى المنزلة الرفيعة ، أو من التسوُّر، وهو العلو والإرتفاع ، لارتفاعها بكونها من كلامه تعالى . وأجمعوا على أن عدد سور القرآن مائة وأربع وعشرة سورة ، ومنهم مَن عدَّها مائة وثلاث عشرة سورة جعل الأنفال والتوبة سورة واحدة .
والحكمة فى تسوير الٌقرآن سوَرا أن يكون أنشط للقارئ ، وأبعث على التحصيل ، وأن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن من أن يكون بابا واحدا ، وفى التسوير إشارة إلى أن كلَّ سورة نمط مستقل .
الثالثة ـ فى تريتيب الآيات والسور وتسميتها : ترتيب الآيات فى السور بتقيف منه صلى الله عليه وسلم ، وبأمره إجماعا وترتيب السور توقيفى عند الجمهور ، فترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحى ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ضعوا آية كذا فى موضع كذا ، وقد حصل اليقين من النقل بالتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا فى المصحف .
الرابعة ـ فى المحكم والمتشابه فى القرآن : من آيات القرآن محكمات هن أم الكتاب وأصله ، وأخرُ متشابهات والمحكم : ما عُرف المعنى المراد منه والمتشابه : ما اثتأثر الله تعالى بعلمه ، كقيام الساعة والحروف المقطعة فى فواتح السور ، وقيل المحكم ما لايحتمل التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجها واحدا ، والمتشابه : مااحتمل أوجها عديدة واحتاج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق ، ومن المتشابه ( الرحمن على العرش استوى .. كل شئ هالك إلا وجهه .. ولتضع على عينى .. يد الله فوق أيديهم .. والسماوات مطويات بيمينه ) ومذهب اهل السنة أنه يجب الإيمان بها وتفويض معناها إلى الله تعالى ، وترك تأويلها مع تنزيهه تعالى عن حقيقتها باستحالة مشابهته للحوادث ، قال تعالى : ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )
عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ فى تفسير قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) : الكيف غيرمعقول ، والإستدراك غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر . واتفق العلماء كلهم على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه وعن الحروف المقطعة أنها من الأسرار التى لايعلمها إلا الله تعالى وعن ابى بكر الصديق : فى كل كتاب سر ، وسرُّه فى القرآن أوائل السور .